٦
هكذا حصلتُ على موعد من محلل نفساني. وإن كان القلق يقبض علي نفسي باستمرار، فلقد تملكني إحساس جديد يغلب عليه حب الاستطلاع: كيف سيتم هذا اللقاء وما قد يكون مضمونه.
مدت مُودْ يدها نحوي وهي تفتح الباب في وجهي. وقع نظري على محياها وأخذتُ أتفرسه بكل عناية وانتباه. فعندما لا نكون على أحسن حال، يصبح محيا الأخر كمثل عوامة نعْلق بها أو بوصلة نقتاد بها. شيء ما ذا دلالة نتثبت به في بحر يعج باللامعنى. ذلك لأن الشخص الذي كان ينحني علينا باستمرار أثناء مرحلة الرضاعة والذي نحاول مذاك أن نقرأ مكتوبنا في محاياه هو أُمُّنا. نحاول أن نعرف من خلال هذا المحيا ومن ابتسامته، إن كان طقس حياتنا سيكون مكفهرا أم لطيفا.
ولهذا أيضا عندما نفقد توازننا النفسي، فإننا نخاف من النظر للآخر قبالتنا، بالخصوص الى عينيه إذ نظن آنذاك بأن نظراته ستثقب ما تبقى من ذاتنا الخفية. نراها وكانها مجهار يتغلل في أعماق الذات فيعلم كل ما بها وعليها، وبالخصوص كل ما ينفلت من زمامها ويكون على أهبة لغمرها وطمرها، كل ما هو خطير ورهيب ولم يبق لها مقدرة للتحكم فيه. فإن كان هذا هو حال نظرة الآخر صوبنا فما بالك من صوته. إن صوته يكتسب رنات تصم الآذان وكأنه فرقعات داخل كاتدرائية. وكأنه صوت الرب من أعلى هضبة سيناء.
نعم إن الآخر هو الشيء الوحيد الذي نتثبت به عندما نحس بأنفسنا تنزلق خارج حدود الإنسانية، وهو في نفس الوقت ما يخيفنا ويرعبنا أكثر. ولحسن حظي، استقبلني آنذاك وجه مُودْ البشوش مع ابتسامتها اللطيفة التي صاحبت صوتها الممازح قليلا:
- تفضلي، كيف حالك؟
فلو قالت لي مود عندما استقبلتني: "أنك في حالة سيئة"، فلربما تسابقت الدموع في االانهمار من عيني مما يجعلنا نقضي وقتا طويلا قبل التمكن من الحديث. وحتي لو قالت لي: "مالذي حصل؟" فإنني قد أجد سؤالها هذا كارثيا مما يجعلني أرتبك أكثر، و يجعلني أظن أن شيئاما مؤسفا حل بي يفوق توقعها، وإلا لما سألتني بهذا الشكل. ويجعلني أيضا أعتقد بأن ما حل بي يفوق قدرتها فلم يبق لي من به أستعين.
إلا أن طبعها الهادئ ومحياها البشوش وطريقة استقبالها لي التي اعتدت عليها كلما زرتها سابقا لمشاركتها أطراف الحديث أو لاستفسارها عن عملها، هو ما جعلني أبقى في حالة ارتياح وطمأنينة عندما التقيتها في بداية موعدنا. وها نحن الآن، أنا وهي، عازمين، بكل ترو، على الحديث في هذه المسألة العويصة التي قد تعترض طريق أي واحد على هذه البسيطة كما اعترضت طريقي، الا وهي الرغبة في الانتحار.
آنذاك تبين لي بكل تأكيد بأن المحللة النفسانية كانت تعيرني كامل انتباهها. كانت على اهبة لإحاطتي بكل ما تمتلكه من معرفة وبالأفضل لديها.
في نفس الوقت، أحسست أن تغيرات مباشرة طرأت على حالتي وأنا أرتخي جالسة على كرسي قبالتها. فبمجرد ما استرخيت على الكرسي، حتى أطلقتُ زفرة تفريج فسيحة إذ أدركتُ بأنني أصبحتُ قاب قوسين أو أدنى مما كنت انتظره منذ الأبد، وهو أن يتم الإنصات فعلا لما أود قوله حقا. سيتم الانصات إلي وإلى ما يخصني انا بالذات وما يميزني، الانصات إلى كلماتي وأقوالي، تلك التي ستحضرني من دون أن استدعيها، تلك التي كفنتها أو لم أَكُنها، تلك التي كنت أود أن أكونها أو تلك التي أرتجي كونها، طبقا لفصيلة جنسي وحتي خارجا عنها. وبالاجمال، الانصاتُ الي ذاتي بكاملها وبكل ابعادها التي تكَون هذا الكائن الذي يعرف بأنه لا محالة يموت غدا لكنه يتصرف كما لو كان باقيا الى الأبد.
بهذا التقديم الوجيز، يظهر جليا بأنه يصعب الحديث عن التحليل النفسي، لأن ما أوردتُه الآن بخصوص بداية هذه الجلسة الوحيدة وما قد يترتب عنها وعن لاحقاتها من آثار وتبعات على شخصي، قد يتطلب صفحات بل قد يطلب كتابا بأكمله.
٧
لأعترف منذ الآن بأن ما حدد مصيري بالفعل، حيث تشكلت عقدته منذ نعومة أظافري، لا علم لي به حتى اللحظة رغم سنوات عديدة من التحليل النفسي.
إن مجيء فرد ما الى الحياة مع ما يتبعه من نموه هو مسألة معقدة جدا يصعب على دماغنا الإلمام بها بالكامل وكذا تسجيلها والتحكم بها كلية. لذا لا يبقى لنا إلا تحديد بعض معالمها وتثبيت بعض نقط التقاطع والالتقاء لمكوناتها، وكذلك إضفاء معنى مقبولا لمغزاها وسيرورتها قد يساعد على وتفهمها وتقبلها. وهذا بالضبط هو ما يصبو إليه التحليل النفسي.
لطفل كان يعاني من قبوع أبيه في السجن، لم تتوان فرانسواز دولتو لتقول له أن أباه وإن كان مسجونا فإنه مع ذلك ذو قيمة. وما إن تفوه دولتو بتلك الكلمات حتى ترى الطفل ينمو ويترعرع بطريقة فجائية. لقد كان للسيدة دولتو من العبقرية ما يجعلها تفطن لكون فرد ما مذنبا وفي نفس الوقت أبا مقتدرا حنونا. لكن مثل هذه الكلمات التي نحن في آمس الحاجة اليها في طفولتنا كي ننمو ونكبر، لا يمكن لنا أن نبتدعها ونحن أطفالا، وإلا فيما ندر، بل يجب أن تقال لنا من طرف الكبار في الوقت الأنسب وبالطريقة الأنجع. فهل حصل أن تمت محادثني في صغري كما استحق؟
لقد ازددتُ في وسط يغلفه الصمت، كما هو الحال حتى اليوم في أغلب نواحي فرنسا وبالخصوص في المناطق البعيدة عن باريس، وهو ماكنتُ أدركه إذ أدركت أن حريتي في التعبير كثيرا ما كانت تصدم مخاطبي. كان أغلب أفراد أسرتي من النساء اللواتي كثيرا ما كن يثرثرن في كل شيء ماعدا بخصوص الأمور المهمة والأساسية. وهو ما أكده لي في فترة متأخرة ابن عمي الذي عانى الأمرين هو كذلك من ذلك السلوك.
كذلك لم يكن من الممكن أن نتحادث بخصوص الحِداد الذي يسكن قلب كل فرد من أفراد بني آدم. جدتي فقدت صغيرتها بجلطة مخية وهي في الثانية عشرة من عمرها وفي نفس الوقت فقدت إبنها الوحيد من جراء حرب ١٤. فما كان بالإمكان مواساتها إلا أنها من دون وعي منها حولت حدادها نحونا ووضعت وزره على أعتاقنا. فكانت تقودنا، أنا وأختي، لزيارة قبري طفليها كل يوم. في ظروف كهاته كان يلزمني مزيد من الجهد والمثابرة كي "ألج المستقبل". زد علي ذلك أنني كنت من أطفال حرب ٤٠. إنها حرب خسرتها فرنسا ثم ربحتها فيما بعد. لهذا السبب نسي الكبار أو تناسوا كل ما تخللها من موتى ومن دمار ومن مهانة ثم انصرفوا بكل تؤدة فيما تمت تسميته "إعادة البناء والترميم".
أما نحن الشباب فلم نكونوا على هذا الرأي. "عشرينياتنا مبتورة الرأس" هي العبارة التي أطلقها روبير ساباتييه في روايته "الفأر الأخضر" التي تدور حول واقع الشبان إبان الاحتلال الالماني. فعندما بلغتُ العشرين من عمري، بعد الحرب بقليل، أحسست بأن جانبا مني قد تم بتر رأسه، ذلك الجاني الذي كان من المفروض أن يعقد إيمانه في المستقبل وفي حقه في الحياة وفي الحب وفي بناء أسرة وانجاب أطفال ورعايتهم.
لقد فصلتني الحرب عن أهلي. أختي اجتازت ضفة المراهقة من دوني. أبي الذي تزوج من جديد أصبح مشغولا بأسرته الجديدة وبوظيفته، فلم يبق له من الوقت ما يشغل باله بي. أما أمي فكانت في سباق ضد الإفلاس، سباق خسرتْه في آخر المطاف.
لا أحد في هذا العالم كان يهتم بمشاكلي. ولذا قد تكون لدي مشاكل. إن فتياة وسَطي الاجتماعي اللواتي تللقين تربية جيدة مثلي لا يمكن أن يكون لهن مشاكل. لقد كان يتم الاعتناء فعلا بصحتي، وكنت حقا أنعم بعافية صحية. لكن مصيري، ما كان أحد يهتم به. ولم يكن وجود في تلك الحقبة من ترتيبات "علاج" في صالح المراهقين.
مع ذلك، لست أنوي هنا سرد سيرة حياتي. فذلك يتطلب مجلدات عديدة كما هو الحال بخصوص أية سيرة حياة. ولست أنوي عرض مغانمي العِشقية، إذ أن كل تلك التجارب الحُبية ما هي في الواقع إلا تكرار لتجربة الحب الأولى. أما ما يتعلق به الأمر هنا هو جرد لعلاقاتي بالتحليل النفسي. عرضٌ لما جئت أبحث عنه من خلاله و لما لاقيته بفضله ولما أنا ممتنة به له أو بما أعتقد أنني مدينه له به.
بالنسبة للغالبية العظمى من الناس فإن التحليل النفسي مازال من قبيل الغريب العجيب، ومن قبيل ما يثير التخوف والتهرب.
وربما بسبب ألفتي بهذا المراس ونظرا لأنني أفصح علانية باستعانتي به، عادة ما يصارحني البعض ويشتكي إلي بما ينتابهم من كدر ومعاناة فيطلبون رأيي ونصحي. فيكون ردي بدون لف ولا دوران: "أليس من الأفضل أن تذهب وتبوح بكلامك بين يدي من هو أهل بالإنصات، بين يدي محلل نفساني؟
- ليست لدي معلومات بهذا المراس، ولست أدري لمن أتوجه بطلبي؟
إنها بالفعل معضلة. كيف يطلب مني من هو في معاناة نفسية مثلي، تحليلا نفسيا بكل ثقة؟ آنذاك أعطي الطالب عنوانين أو ثلاثة لمحللين أثق بهم. فإذا ما كان من غير الممكن لهؤلاء المحترفين، نظرا لكثرة مرتديهم، أن يرتبوا تحليلا نفسيا لمريد جديد، فإنهم على الاقل يستقبلونه ويوجهونه أحسن استقبال وتوجيه.
لكن في أغلب الأحوال، قد يتوقف هذا الطلب في مبتداه. فهل لأن هذا المريد ينعم ببعض من التحسن لمجرد إدخال عنوان المحلل في جيبه أو بالعكس، يكون قد وقع في هلع وارتباك كامل لمجرد تصور إمكانية خوضه تحليلا نفسيا؟
لكنني أظن أن محدثي في هذه الأمور لا يبغون أكثر من أن أكلمهم بخصوص التحليل النفسي. إنهم فقد يريدون تخويف ذلك الصنف من ذواتهم الذي ينادي بطلب التحليل، تماما كما يحدث لطفل يريد أن يرى الأسد عن قرب، فنقول له: "إن كانت هذه رغبتك حقا، فسأفتح لك باب القفص. أنظر، إن المفتاح بيدي". في الواقع، إنهم يريدون مني أن أثبت لهم بأن تحليلا نفسيا قد يشكل خطرا على ذواتهم مما قد يبرر لديهم إحباط هذا الميل نحو تقصي حقائقهم عبر التحليل.
فكأن الخوض في تحليل نفسي لا يحصل بدون مجازفة، بالفعل.
٨
بخصوص هذا الموعد الأول عند مود، لم أحصل الا على فوائد وعلى طمأنة وراحة. وجدت فيها شخصا لا يذعر من رؤيتي على حالي وإنما بالعكس يدفعبي إلى الأمام.
اكتشفت أيضا بأن التفوه بكلام ما قبالة محلل نفسي ليس بالأمر الهين. فبما سأبدأ الحديث؟ بعض الناس يحسمون الأمر بسد أفواههم خلال جلسات عدة. إلا أن صمتهم هذا يدلي بالكثير. إنهم بذلك يدلون على أن ليس لهم الحق في الكلام أو بأنهم غير راغبين في الخوض فيه لأنهم لا يتوخون فائدة من ذلك. فمنذ طفولتهم إما تم تجنيبهم الانخراط في القول الحق وإما لم يتم الإنصات أبدا الى ما كانوا يبغون قوله حقا وهم صغارا.
خلال تحليلي النفسي، اكتشفت رويدا رويدا بأن أمي تفعل كل ما في وسعها كي لا أنطق بكلام ما إلا بعد أن أزن كل كلمة كي لا أضيف قدْرا إضافيا الى القلق الذي كان يستحوذ عادة عليها. وكذلك كان حال جدتي وخالتي. وأبي كذلك لم يكن ليختلف عنهما. كان صدره يضيق بي رغم ما كان يبديه ظاهريا نحوي ورغم أنني لم أكن لأنعم بلقياه إلا فيما ندر.
فكل هؤلاء الناس الوديعون الطيبون بقوا أطفالا رغم تقدمهم في العمر. صعوبة العيش إبان وبعد حرب ١٤ المروعة، وضرورة كسب لقمة العيش في مجتمع يلفظك بعد كل زلة قدم، وافتقار كل تلك النساء القادمات من البوادي لأدنى مقومات التربية المستحدثة، جعلتهن يَرتَبن من كل شيء، حتي من الهواد الذي تتنشقنه. لقد أحسستُ بهذا الخوف لديهن منذ ولادتي وطيلة طفولتي. فقد أصبحنا منغمسين في حب الآخر والاعتناء به على الدوام. تربينا على الاهتمام بالآخرين بدل الاهتمام بأنفسنا: "إن كنت ترغب في ما تملكه يميني، فهو حِلٌّ لك"، "إذا كنت على غير ما يرام، فما بإمكاني فعله من أجلك!"، "أأنت في حاجة لدراهم؟"، "ماذا تحب أن أهديك في عيد ميلادك؟ من فضلك، اعمل معروفا، قل ما تشتهي؟". وهكذا فقد كان الآخر أكثر أهمية من ذاتنا، فكنا نرتعش من أجله: "أتدرين كم أنا قلق على خالتك، إنها في حالة غير جيدة"، "إن أمك المسكينة في حالة يرثى لها، كيف لا وهي تقضي نحبها من أجل إطعامكن وتربيتكن"، "ماذا حصل بأختك؟ إنها توقفت عن الكلام ،إني أتحسر من أجلها".
جل نشاط أهلي الذهني كان يتلخص في التحسر بصورة واضحة على الآخرين وذلك طبعا كي يطمئنوا أنفسهم. ففي وضعيتهن كنساء بدون رجال، توجب على كل منهكن أن تُفرغ كربها على حساب أخرى أو أخريات وهكذا تتوصل الى اكتساب قدر من الطمأنينة النفسية. لقد كنت أرى الامور عل هذه الشاكلة وربما هكذا أعدتُ تركيبها في ذهني أثناء طفولتي.
هناك حقيقة لا مراء فيها: لقد كان من غير المستحب في عائلتنا، بل ومن الخطير الإفشاء بمرض قد نتعرض له، أو فقط بحالة تعب أو كدر قد تحصل لنا. فبمجرد أن نفشي بذلك حتى نصبح عرضة للتشكي والتباكي من طرف نساء العائلة. وبعدها للتو تتم مناداة الطبيب والإسعاف وما شابه. فما كان في البداية مجرد عُسر هضم أو حالة زكام فقط، يصبح في إطار السيرك الذي تختلقه أمي، مرضا من أعصى الأمراض. نفس الشيئ بخصوص مشاكل المعاملات. فبمجرد أن نبوح لأمنا بسوء تفاهم قد يحصل مع المربية أو مع أحد الأساتذة أو مع أحد معارفي من الذكور فيما بعد، حتى يقع الخبر فيها موقع زلزال، وتنقلب الأرض ومن عليها. أنذاك يكون من الصعب جدا طمأنتها. فهذا ما جعلني أواظب منذ صغري على الإدعاء بأنني أنعم بصحة جيدة وبمعافاة دائمة.
- كيف حالك يابنيتي العزيزة؟
- على أحسن ما يرام.
خلال بضع سنوات، كان هذا هو ردي الوحيد على كل من يواجهني بهذا السؤال. لقد تعلمت كيف أكون واثقة في ردي حتى لا يتسنى لأحد وضعه موضع شك. وحتى عندما أخبرت أهلي بأنني كنت على وشك الطلاق، بل إنني قمت به فعلا، انقلبت الدنيا عليهم لأنهم لم يسمعوا أبدا بأدنى خلاف وقع بيني وبين زوجي...
هاكم مثالا آخر: أراني جالسة على مقعد عمومي بشارع هونري مارتان، كما كان يسمى سابقا والمتاخم لمقبرة باسي. توقفت هناك لأنني لم أعد قادرة على المشي وحتى أستريح من ألم حل بي من جراء انقباض جانبي. فالاحتقان الرئوي الذي انقلب لدي إلى داء سل مازال يسري بين ضلوعي. إن هذه "الذبحة الجانبية" التي يألفها كل من رافقته صعوبات صدرية، كانت ترعبني. ليس لأنني كنت أخاف المرض أو الموت من جرائها (وهي فكرة لم تراودني قط) وإنما لأنني كنت أخشى كل الخشية أن تعلم أمي بذلك.
نعم، لقد كنت أخاف من خوف أمي ومن كدرها أكثر مما كنت أخاف من المرض أو من الموت. وعندما رجعت إلى المنزل فأنني لم أشتكِ من شيء حتى أمام الطبيب إلى أن يحصل الشفاء من تلقاء نفسه. مرض السل الذي تمكن مني هو أيضا فهم أنه من الأفضل لي وله كذلك ألا ننبس بخصوصه لأمي ببنت شفة. إلا أنه اصطفى مرقده بين أحشائى. المهم بالنسبة لي هو أن لا تحصل لأمي ريبة بحالي والا تعلم شيئا بخصوص حالتي الصحية. وذاك ما حصل بالفعل لدرجة أنني، بعد بضع سنوات، أُصبت بنوبة من الغضب الشديد ومن اليأس الحاد عندما سمعتها تقرر بصوت مرتفع: "مادلين؟ لم تكن أبدا مصابة بداء السل. إنه مجرد افتراء! لم يحصل ذلك أبدا...".
وما السبب في كوني كذلك عاقر؟ ألا يرجع ذلك أيضا الى إصابتي بداء السل؟ لكني فهمت من نظرة أمي أنه يلزمني البحث عن سبب ذلك من جانب الرجال وليس من جانبي أنا إذ من غير الممكن ألا أكون أنا ابنت أمي في صحة جيدة للغاية. إنني لم أكن أبدا مريضة. الدليل على ذلك أنها لم تسمع أبدا بمرض حل بي.
لا. لم يكن وسطي العائلي لينصت الى ما كنت أود قوله والبوح به. وكيف لا وقد اعتدت تجنب البوح مخافة مغباته. كنت أسكت عن كل شيء ما عدا الأشياء عديمة القيمة والترهات.
كعادتي وكذلك بنوع من الحذر، بدأت مباشرة بطمأنة مود. فعلت ذلك كي لا تنفعل هي الأخرى فتفقد أعصابها وتنفجر في وجهي. فذاك ما قد يصعب علي تحمله. إنها تقطن وتعمل في الطابق السابع من عمارتها، وقد يكون من الميسور الرمي بي من نافذة مكتبها لو لاح لي بصيص من القلق والتوتر في عينيها قد يوحي لي بانفعال أمي المعتاد وعدم قدرتها على تحمل ألمي وعلى تحملي أنا شخصيا، كما أنا. أخذت أتضرع إلى مود بكلمات متسارعة ألا تبالي بحالي أكثر من اللازم، إذ ليس هناك ما يثير الانتباه لدي حقا. في بعض الأحيان يتملكني الدوار وينتابني القلق وتستحوذ علي الرغبة في القذف بنفسي لكنني مع ذلك أجدني أحسن مما كنت عليه وأفضل من البارحة على كل حال.
لم تكن مود لتنخدع بأقوالي هاته. لقد كانت تعرف حق المعرفة بأنني كنت في حالة يرثى لها. كانت ترى بأم عينيها بأنني، رغم كلماتي الخافتة، كنت أصرخ طلب النجدة. لكن وفي نفس الوقت، من خلال تصرفاتها وسلوكاتها معي، فإنها جعلتني أدرك بإنها بعيدة عن أن تنفعل وتتكدر بما أتيت إليها به من حالتي.
٩
حالة جد مأسوية، كتلك التي لا يتحملها غالبية الناس، يستقبلها المحلل النفسي ليس فقط بدم بارد كما يفعل جل الأطباء وإنما بهدوء تام. إنه يمتلك القدرة العاطفية على المواجهة، حتى لو كان الأمر يتعلق بالجنون أو بالموت.
إن ما وجدتُه بين يدي مود من تخفيف مأساوية وضعيتي يختتلف تماما عما كنت ألاقيه من ردود فعل من الأهل وحتى من طرف الطبيب العادي. وهو ما ساعد على طمأنتي واعتدادي بنفسي.
في أحد الأيام السالفة، أخبرتي مود عن إسعافها الأولي لمريضة مصابة بفقدان الشهية المرضي. كانت أول مريضة تتكفل بها في حياتها المهنية فقالت لها للتو: "إنني أحبك وإن كنتِ تبغين الموت، وحتى لو مت، لا قدر الله". بعد ذلك بقليل استعادت الفتاة رغبتها في الأكل. إن تصرف مود هذا يدلنا عن الكيفية التي يعمل بها المحلل وعن المنحى الذي يتوخاه، وإن كان هذا العمل التحليلي معقدا في سيرورته وملزما للاحتكام بكل حالة على حدة. إن المحلل في عمله لا يبتعد ولا ينفصل عن مريد التحليل سواء في فترات الألم المفرط الذي قد يراوده أو حتى في لحظة الموت التي قد تتمكن منه.
أحد أقوال فرانسواز دولتو لازال يرافقني أينما حللت وارتحللت. في مواجهة أحد تلك الأحداث المرعبة التي يتمنى المرأ الا يبق على قيد الحياة أحد ممن تسبب في حدوثها، فقط كي تتوقف آلامنا بصفتنا شهود لما حدث، كان يحصل لفرانسواز أن تقول في بعض المرات: "ما بالك، بما أنهم أحياءا يرزقون، فلأن هناك رغبة في الحياة".
في ذلك الوقت لم أكن أعرف فرانسواز دولتو ولم أكن أعرف كذلك بأن مود قد شاركتها عملها واهتماماتها. في الواقع كنت أجهل الكثير عن التحليل النفسي آنذاك إلا أن اتصالي بمود في تلك اللحظة حرك نفسي من الداخل وبلغ عمقها. نعم. لقد غمرني انذاك إحساس مبهم انبعث من أعماق ذاتي لكن ما كان يجب أن نفعل من الحبة قبة بل يتوجب أن نعتني بما حصل فنفحصه ونعمل على تعمقه.
إن هذا الاهتمام البالغ والمتأني بما يعج بالنفس هو ما يجعل الجلسة الأولى مع محلل نفسي تختلف تماما عن تبادل أطراف الحديث بين معارف. فتحتَ ذريعة طمأنتنا والتخفيف عنا يعمل الأهل والأصدقاء على ابتداع السبل الواهية: "لا تهتم بذلك واتركه جانبا، سيجد حلا من تلقاء نفسه". وكذلك : "لا بأس في ذلك، أنا أيضا عانيت نفس الشيء، سترين، سوف يسقط في طي النسيان." لكن سرعان ما ينجلي ما يصرون على نكراه، فتراهم ينساقون في السرد الدقيق لما يزعمون أنه قد سقط في طي النسيان.
لذلك لو قال لي أحدهم في تلك اللحظة: "لا تفكر فيما حدث، إنه سيمشي من حيث أتى"، لقمتُ بإطلاق رصاصة على رأسي، فقط لأبين لمخاطبي كم هو على خطإ وكي أوبخه لعدم اكتراثه بي والإنصات إلي. (من بين مغبات النوبات العُصابية هو أننا نجدنا في أغلب الأحوال ننطلق بتصرفات عدوانية مفاجئة نظرا لانعدام امكانية استعمال الكلام لدينا، وهو ما يمكن ملاحظته لدى المراهقين بصفة جلية).
لم يُصِب مود الهلع بخصوص ميولي الغريبة للانتحار، إلا أنها لم تقلل أبدا من حدة وصدق آلامي. كانت تستمع إلي بكل انصات وانتباه من دون أن توقفني ولو مرة واحدة كي تحكي لي همومها الخاصة. كانت تنصت إلي باهتمام بالغ وأنا أحدثها عن وضعيتي كامرأة أقبلتْ مؤخرا على الطلاق، وعن عدم قدرتي على الانجاب وعن علاقاتي المتتالية وعن علاقتي الحبية الحالية التي لا تمشي على ما يرام.
وكما نصحتني منذ البداية، أخذت أصرح قبالتها بكل ما يحضر في ذهني، ابتداءا بما ثبت لدي بأنني منعدمة القيمة وغير كفأة لتحقيق أي شيئ ذي بال. الدليل. خير دليل على ذلك هو أنني لم أتمكن من الحصول على مقام لي في هذا المجتمع ولا أن ألاقي رجلا أقتسم معه حياتي.
في الحقيقة، لقد نسيت ما قلته بالتحديد بين يديها. وها أنذا الأن أعيد تركيب حديثنا معتمدة على الذاكرة. مود أيضا لم تعد تتذكر ما دار بيننا من حديث، وهو ما تأكدتُ منه فيما بعد. كل ما أتذكره بدقة في هذه اللحظة بالذات هو ما قالته لي مود فجأة، في أحد مفترقات حديثنا: "إنها مشكلة بينك وبين أختك".
أختي؟ ما حصلت لي مدى الحياة أبدا مشكلة مع أختي. إن حدث أن أقحمتُ أختي في حديثي مع مود، فذلك فقط لأذْكرها كواحدة من بين أفراد أسرتي لا أكثر. أختي المسكينة، ما دخلها في كا هذه الأمور؟ وأثناءها راودتني فكرة بأن مود قد جازفت كثيرا بقولها هذا. لكن المسألة تطلبت مني أكثر من عشرين سنة كي أدرك حقيقة تشخيص مود آنذاك. إذ كانت لي بالفعل مشكلة مع أختي التي وظفتها كتوأم لي ولمدة طويلة. وحتى ولو لم تستمر على ذلك الحال، فإن علاقتنا الحميمية بقيت مركز صعوبتي في الحياة.
إن هذا لمثال حي على ما يمكن أن يستشفه انصات المحلل الجيد. إلا أن تقبل المريض لما أدركه المحلل مباشرة أحيانا، قد يتأخر طويلا. أصدقائي المحللين أكدوا لي ذلك: بمجرد ما يدخل المريض قاعة التحليل وبعد بضع أقوال منه، يتمكنون الى حد ما من استشفاف سبب معاناة المريض ومن وضع أصبعهم على عقدة تركيبته النفسية وعلى ما بقي غير مكتمل منها وما تسبب في كل هذا الوجع.
إلا أنه يلزم تفكيك خيوط كل هذا القماش النفسي وإعادة نسجه من جديد وبشكل مستقيم. وذاك ما يتطلب وقتا طويلا. إلا أن المريض، وإن كان يتردد بشكل منتظم على جلسات التحليل، فإنه غالبا ما لا يساعد على ذلك. بل إنه "يقاوم". إنه هكذا يتهرب من مواجهة حقيقة تؤلمه وتعذبه. فهذه الحقيقة المكبوتة أقوى منه وأعتى. بعد تحليلي النفسي بكثير، سألت أحد المحللين المشهورين إن كان وهميا الاعتقاد بتقدم ما في عملية التحليل، لأننا بطريقة أو بأخرى، لا نفتأ في تكرار هواماتنا وسلوكاتنا. "كنت أظن ذلك أنا أيضا، أجابني المحلل، لكن فطنت في الاخر إلى أن التحليل التحليل النفسي هو بمثابة نقطة ما تتساقط باستمرار لا ينقطع على صخرة ينتهي به المطاف الى تفتيتها مع مرور الوقت.
إلا إنني في هذه اللحظة وأنا في حضرة مود أثناء الموعد الأول، لم تكن مسألة الثمن مطروحة بالنسبة لي. لقد كنت آنذاك تحت تأثير اكتشاف جميل مفاده أن ما حصل وما يحصل لي من معاناة من الممكن أن يكون له معنى ودلالة عند شخص آخر.
إلا أن مود، في تلك اللحظة بالذات، قالت لي:
- لن يكون بإمكانىي أن آخذك في تحليل نفسي.
- لماذا؟
أحسست باستغراب، لكني لم أكن قلقة. إنها في كل الاحوال تهتم وتعتني بي.
- لأنك صديقتي. سأوجهك نحو محلل آخر، من أقرباء لاكان. انت موافقة؟
أجبتها مباشرة بأنني لا أريد تحليلا من لاكان نفسه ولا أريده أن يعلم بحالي. لقد كانت لنا علاقة وثيقة. كنت أحس، وربما على خطإ، بأن هذا المحلل المشهور كان فقط مهتما بمكانتي الاجتماعية كصحفية، وليس بشخصي.
كنت أود الشروع بتحليل نفسي مع محلل لم يلتق بي أبدا وأنا أتقمص شخصيتي المهنية والاجتماعية. أود الالتقاء بمحلل لا يصله مني إلا حالة امرأة تعاني وتريد التخلص من معاناتها.
أعطتني عنوان المحلل كريستيان الذي لم أسمع به قط. هي نفسها كلمته بالتلفون وحصلت منه على موعد لي. عندما انصرفتُ من مكتبها لم أكن في حالة اطمئنان. فكان لابد من مرور بعض من الوقت كي أستعيد نوعا من الطمأنينه خصوصا عندما خطى التحليل مرحلة بدايته. وكأنني، منذ الأبد، كنت أنتظر ما يحصل الآن وأنا أنخرط في تحليل نفسي شخصي.
١٠
تعلمت القراءة وأنا في الثالثة من عمري. كنت أجلس على ركبتَي جدتي من أمي وأهُم بالقراءة بدون مجهود ولا عناء. حصل ذلك في فترة حمْل أمي. ومذاك وأنا ألاحظ وأسجل في ذاكرتي كل ما يدور حولي، كما يفعل كل الأطفال طبعا.
- بابا، في أي فترة غادرْنا منزلنا بفسحة روبياك.
- كنت في الرابعة من عمرك.
- ألم يكن للمنزل أبواب من مربعات زجاجية مزينة بأسترة من حرير؟
- بلا.
- وشرفات تطل من أمام؟
- أي والله.
هكذا بعد خمسين سنة وحتى يتم توكيد وضبط ذكرياتي من طرف أبي. أراني أخرج من هذه الباب الزجاجية مندفعة نحو أباوي وهما يقدمان الى المنزل وبين يداي كتابا مفتوحا: "إني أقرأ، إني أقرأ"! لكن واخيبتاه، إذ لم ينتبها إلي ولم يعيرا اتباها لما قلته. مع الأسف، لقد كانا في تلك الفترة في خصام مستمر وانتهى بمهما الامر للطلاق أربع سنوات فيما بعد.
أراني كذلك مع جدتي من على الشرفة المطلة على الشارع وعمري في الثالثة وشهرين. كنا نرقب امرأة ذات طربوش جميل، تنزل من سيارة وبيديها رزمة من القماش المطرز: "انظري، هاهي أمك تقدم من العيادة ومعها أختكي الرضيعة".
انطلاقا من هذه اللحظة، تملكتني رغبة عارمة في فهم الأمور، وفي فهم ذاتي. أنشأت أحاول فك هذه العقدة التي انعقدت وتصلبت بداخلي دفعة واحدة، هذه العقدة متشابكة الخيوط من حب وكراهية، من خوف ورغبة. ففي أسرتي، هذا العش الناعم والمفعم حبا الذي كنت في حاجة ماسة إليه من أجل نموي، كنت أعرف أنني أنا الأولى من حيث العمر، لكنني في تلك اللحظة بالذات أصبحت أتحسس خطرا يهدد موقعي وينقص من قيمتي في قلوب أهلي وذوي بسبب المولودة الجديدة. من جراء ذلك أصبحت مضطرة لاقتسام كل ما أملك. وهو ما فُرض علي فرضا وبدون تبرير.
أما إن بقيت أحظى بالمرتبة الأولي في المنزل من حيث تمكني من القراءة فإن أختي أصبحت تنعم بقوة عضلية تفوق قوتي بكثير. لقد كانت تربح المعركة في كل خصام يشب بيننا. لم يكن لي ثقل أمامها إذ كانت، زيادة علي قوتها العصلية، مثابرة ومتعنتة الى أقصي حد. فلم يبق لي لكسب أي معركة ضدها إلا الكلام الذي كنت متفوقة في استعماله.
- حقا، إنكِ لست في حاجة لهذه الأخت، قالت لي فرانسواز دولتو يوما ما.
إنه قول كانت تردده بصفة شبه-أوطوماتيكية أمام كل طفل يختلط عليه الأمر من جراء مولود يلحقه. ويكون لهذا التعبير في غالبية الأحيان، أثر في تهدئة الأمور. فعندما يتم الاعتراف بمشكلتك التي قد يفوق وزنها وزن جسمك وانت في الثانية من عمرك، على سبيل المثال، فلا يبقي لك إلا تقبلها ومحاولة حلها. وفي المقابل، لو حصل أن دولتو وجدت نفسها أمام أختي فإنها قد تقول لها نفس الكلام، لأن أختي أيضا، وهو ما فهِمْته من على أريكة التحليل، لم يكن من السهل عليها أن تجيء إلي الحياة بعدي. فبعد ولادتها، ربما قد تملكها إحساس مُر بأن المقام الذي تنتظره كان مشغولا بآخر قبلها؟