III
مر فصل الخريف ثم بعده الشتاء.الزقاق مبلل بالأمطار على الدوام وتغمره بريكات ينيرها ضوء جد باهت. قد يحدث لي أحيانا أن ألتقي بالزبناء الآخرين وهم يحثون الخطى، شادين على أطراف ستراتهم، محتمين من الأمطار بجدران الزقاق. قد يحدث أن نتبادل نظرات خاطفة وكأننا مارة لا نعرف بعضنا البعض، إلا أننا كلنا على وعي بأننا مرضى نستشير نفس الدكتور ونقتسم نفس أريكة التحليل. كلنا ننتمي الى فصيلة الضالين والهائمين. وكلنا نمشي بين الرغبة في الإنتحار والخوف من الخوف وكأننا نمشي مكتوفي الأيدي بين رَجُليّْ دَرَك.
كنت أدرك أيضا بأن الكلمات التي أقذف بها هنا ثلاث مرات في الأسبوع وكانها سيل جارف، لا تشبه كلماتهم. فهم أيضا عاشوا في حياتهم أشياء صعبة لا تطاق وليس من السهل أن يتفهمها غيرهم.
خلال الثلاثة أشهر الأولى من التحليل، كنت أشعر وكأني تحت طائلة حكم مؤجل.كنت أعتقدني مجرمة قد يحصل إيقافي في أي لحظة ويتم القبض علي من جديد، رغم أن دمي أصبح لا يسيل إلا بطريقة شبه عادية وفي فترة الحيض. وحتي القلق الذي كان لا يفارقني، فإن قبضته أصبحت تخف شيئا فشيئا. إلا أنني لم أفاتح المحلل بعد عن الهلوسة التي كانت ومازالت تنتابني لأنني ظننت إن أنا فاتحته بها فإن ذلك سيحكم علي لا محالة بالقبوع في مستشفى المجانين.
وحتى ذلك الحين كنت دائما في حالة دفاع ومقاومة: رأسي منغرسة بين كتفي؛ ظهري معكوف؛ قبضتي مشدودتين وكُلِّي أُهبة خلف عينيّ وأذنيّ وأنفي وجلدي. كل شيء يفزعني ويرعبني لأنني أتوقع الخطر في كل رحب. إن حدث ورأيت شيئا أو سمعت صوتا أو شممت رائحة، يلزمني أن أسلك وكأني لم أر ولم أسمع ولم أشم. كل ما يهمني هو صراعي مع "الشيء" المتمركز في قلب وجداني، صراعي مع هذه المرأة العجوز المنتصبة داخل جمجمتي والتي تشكل مؤخرتها المترهلة صنفي دماغي المتصدع. في بعض الأحيان أحس بها وقد أرست دُبُرها في رأسي ثم مالت برأسها الى أسفل وأخذت تعالج بيديها الأعصاب التي تقبض على حنجرتي وتوعك بطني فتطلق فيضان عَرَقي. إنها هكذا تنفث ريحا قارسا يجعل الحمقاء تنطلق جريا، مرهوبة، مهلوسة، غير قادرة على الصياح أو الكلام، غير قادرة على أي تعبير كيفما كان. فهاهي تغرق في عرقها القارس وجسدها يرتعد بكل جوارحه، الى أن تجد مقبعا تنكمش فيه حول نفسها كالجنين.
إلا أنني منذ بداية التحليل، أقدمت، الى حد ما، على انتزاع نفسي من قبضة "الشيء". أصبحت قادرة على مراقبته. ولم يكن "الشيء" يستحسن مراقبتي له، فيضطر، بعد برهة، الى إخلاء سبيلي. إلا أنه يبقى هاهنا قابعا، حزينا، تعبانا وكأنه في حنين الى تلك الأيام التي كان يسعد فيها بضجيجه الصاخب.
الإثنين والأربعاء والجمعة هي أيام التحليل التي أوقف فيها تبعثري اللاهث كي آتي بحصيلتي وأقتسمها مع شخص آخر. إنها اللحظات الوحيدة التي بقيت في ملكي لتجديد اللقاء مع حياة الآخرين المعيشية. وهكذا كل أسبوع، تبدو لي المسافة الفاصلة بين الجمعة والأثنين، مسافة شاسعة يستحيل اجتيازها. وطوال يوم الأحد أقعد أنتظر مُدَّخرة قواي وأحمي نفسي من كل مُقلق مُجهد. وفي يوم الإثنين، أجدد لقائي ببهجة لا حد لها وبتمني عميق، مع زقاقي المبلل مطرا.
في البداية حدثت المحلل عن لقاءاتي الأولى مع "الشيء" الذي حل بداخلي، أي مع القلق الذي سكنني. وبعد ذلك تحثت عن اللحظات الأساسية والمقامات التي أعتبرها أساسية في مسار حياتي.
اندلعت أول نوبة قلق لدي خلال حفل موسيقي قام به آرمسترونگ. كنت بين التاسعة عشرة والعشرين من عمري. كنت أبحث عن أستاذ في المنطق يشرف على بحث أعده حول أرسطو للحصول على دبلوم الإجازة في الفلسفة. كنا نحن الفتيات على يقين بأن إمكانية الحصول على شهادة التبرز ضعيفة جدا. معدل النجاح بهذه الشهادة أدنى من إثنين بالمائة، ولهذا يبدو اندراجنا في دراسة طويلة المدى كهاته وكأننا ننحبس أنفسنا في دير عبادة أو كأننا أصبحنا الفلسفة بعينها وبحذافرها.
كنت أحب الرياضيات، لكن أهلي يقولون بأن الرياضيات ليست من نصيب الإناث. فالفتاة التي تختار نهج الرياضيات تبقى عانسا إلا إذا ما تزوجها أستاذ للرياضيات. فإذا ما اخترتُ هذا النهج فإنني سوف أعد لنفسي مستقبلا صعبا. لكن باختياري لنهج الفلسفة، يصبح من الممكن التوجه نحو تخصص دراسة المنطق.
-"هاكذا ستدرسين الرياضيات بأساوب أدبي".
وهكذا على الأقل، سيتم جلب انتباه موظف كبير أو ضابط سامي في البحرية أو مدير بنك، كل ما هو، على كل حال، أفضل وأفيد من مدرس رياضيات. وهكذا فإني انطلقت في إعداد إجازة فلسفة حتي يتسنى لي التخصص في المنطق أو على الأقل، أتأهل للزواج بموظف سامي. إلا أن دراسة المنطق لم تكن موضة آنذاك. فكل الإهتمام في ذلك الحين كان مسلطا على السيكلوجيا وعلى العلوم الإجتماعية. لذا كنت ألتهم كل هذه المواد التهاما حتى أتمكن فيما بعد من الحصول على الإجازة ثم شهادة دكترراه في المنطق. كنت أحلم باقتحام عالم الأرقام لما يتضمنه من دقة. وكنت أعلم أيضا بأنني سأكون حرة طليقة في اكتشاف ما يتضمنه هذا العالم من كنوز ومضامين. فممن أمتثل بهم في هذا الميدان، أذكر بادئ ذي بدء، رييمان ولوباتشيفسكي وكذلك آينشتاين فيما بعد. ومن أجل الرياضيات كذلك أحببت موسيقى باك وموسيقى الجاز.
إذن، كانت أعصابي هائجة عندما وصلت الى حفل موسيقى آرمسترونگ، خصوصا وأن المنظمين قالوا بأن الحفل سيكون على شاكلة عرض موسيقي حر. آرمسترونگ سيعزف على آلته المفضلة بطريقة مرتجلة، وسيقوم تدريجيا بإنشاء بنية موسيقية تكون كل فاصلة فيها ذات أهمية، وتكون لها قيمة ضرورية ووظيفة محددة في البناء المتكامل لهذه السهرة الموسيقية. والبطبع لم يخيب أملي. كان الحفل حارا منذ انطلاقته. تركيبة موسيقية شيقة بدأت تتبلور منذ البداية. كل الآلات الموسيقية المرافقة كانت تدعم موسيقى آلة آرومسترونگ وتهيء لها المجال اللازم كي تنطلق وترسو ثم تخفت لترتفع من جديد. كانت الأصوات الصادرة عن آلة الموسيقار تتراكم ثم تتلاطم ثم تتزاحم لتُكون أرضية موسيقية تنجم عنها فاصلة موسيقية محددة وفريدة من نوعها.
آنذاك بدأتْ دقات قلبي تتزاحم وترتفع لدرجة أصبحتْ فيها أقوى وأعلى من الأصوات الموسيقية. بدأت تهز قضبان القفص الصدري هزا. وأنشأت تنفخ ثم تعصر رئتيَّ حتى لم يعد بإمكان الهواء دخولهما. أثناءها تملكني إحساس بالفزع لكوني ربما سألقى حتفي هاهنا بعد كل هذه الإختلاجات والإنقباضات، وسط هذه الجموع الهائجة والمائجة. ولم يكن من ودي إلا الفرار. أخذت أجري في الشارع وكأني حمقاء. كانت ليلة جميلة من ليالي الشتاء، ليلة قارسة احتمى الناس فيها بمآويهم بحثا عن الدفء. كنت أجري ثم أجري وصوت خطاي، وكأنه ركض حصان، يتردد صداه على أبواق الشوارع والأزقة الفارغة.
- "سوف أقى حتفي، سوف ألقى حتفي، سوف ألقى حتفي...".
كانت ضربات قلبي أكثر سرعة وقوة. أتذكر زهور الكاميليا التي كانت يانعة ولامعة وسط حوض إسمنتي. صادفتها في طريقي وأنا أجري في أحد الشوارع نحو النفق المؤدي للكليات الجامعية. تركت زهور الكاميليا خلفي بكثير، إلا أن صورة قلب إحداها لم تفارقني. بقيت تتبعني وترافقني أثناء ركضي. كانت هادئة بقدر ما كنت مختلجة، كانت ملساء بقدر ما كنت ممزقة. أما النفق فكان مهدئا نظرا لشدة إنارته ونظرا لكونه يسهل اختراق وسط المدينة. تجوبه السيارات برفق ويتسابق الراجلون لإقتناء أرصفته. في منتهاهه بانت علامة ضوئية تلمع بنوع من الدلال، لكن ما من شيء بإمكانه أن يهدئ أعصابي، فطفقت أجري وأجري.
وعندما وصلتُ العمارة التي أقطنها لم أتوجه توا الى المصعد بل صعدت السلاليم أربعا أربعا حتى وصلت الطابق الخامس. وهناك تبينت ما بذلتُه من مجهود عضلي وقلت في نفسي: "لو كنتُ مريضة بالقلب لكنتُ قد هَلكت وما كان بإمكاني أن أنجز حتى العشر مما فعلت". لكن هذه الفكرة التي راودتني لم تفلح في تهدئتي.
قصدت غرفة النوم واستلقيت على السرير كي أخفف من ضيق تنفسي. كنت وحيدة. عينيَّ مقفلتان ولا شيء أصبحت له قيمة سوى قلبي الذي اشتدت حدة ضرباته: "إني مريضة بالقلب ولقد أتى أجلي". وهكذا، فإن القلق الذي لاقيته هنا لأول مرة، أخذ يستحوذ علي. إنه أغرقني في عرقِه القارس وهز عضلاتي بارتعاشات مضطربة. إنها كانت تداعبني وكأني كلب صغير.
ناديتُ أمي التي كانت تنام في الغرفة المجاورة. مرة ثم مرات. لست أدري كم مرة ناديتها بصوت يعلو أكثر فأكثر: "ماما، ماما، ماما!". دخلت أمي غرفة نومي وآثار النعاس تبدو على محياها وهيئتها. شعرها، وقد فُكت عقدته خلف الرأس، كان يختلط حول جمجمتها ويتدلى على كتفيها خصلات غير مرتبة. ظننت أن المشهد الذي أعرضه على مرآها قد يؤدي الى انفجار وجهها وعينيها، وأنها ستنصهر ثم تذوب في قالب الخوف الذي ينتابني فتعمل على مرافقتي بداخله: فهاهي إبنتها تحتضر. هاهي عزيزتها الشابة تذوق عذاب الموت. رغم كل هذا، فإنها انشغلت في تعديل ثيابها وتقويم هيئتها. رمت نحوي نظرة شفقة.
إقتربت مني وجلست على حافة الفراش، ماسكة يدي بين يديها. كان يعلو على محياها نفس التعبير الذي تفتعله أثناء زيارتها للمقابر: مزيج من الحزن الحنون والرضى الخسيء: - "إن ما بك هو نوبة قلق. فلا تخافي. ليس هناك خطر. ماهي إلا مسألة أعصاب".
لم أكن أحب هدوءها ولا كفاءتها ولا خنوعها. "فكيف ما أعانيه يمكن أن يكون لا شئ؟ وكيف هذه الموجة الدسمة والمحملة بمواد عفنة يمكن أن تكون لا شيء؟ فهذا اللاشيء في نظرها هو بالعكس شيء أساسي في نظري. إني على يقين من ذلك. وكوني أراها تعامله كما تعامل الأموات يزيد من حدة قلقي، فتنقبض أنفاسي. توقف الهواء عن الولوج الى رئتيَّ:
- "إنني أختنق، إنني أموت".
- "كلا، كلا، إنها الأعصاب. نبضات قلبك تتسارع. لكن لا بأس. صدقيني، إنك لن تموتين."
لم أكن أحب هذا التقارب فيما بيننا. لشد ما بحثت عن حنوها علي واهتمامها بي، ولشدما انتظرتُ هذه النظرة الحنونة التي لم تأتِ أبدا وحتى الأن. فهاهي هذه النظرة تنزلق فوق وجهي، وفوق عينيَّ الداكنتين وفوق شعري الأجعد وفوق أنفي الأفطس وفوق ذقني وكتفيَّ العريضتين وجسدي القوي. إن أمي تفعل وكأنها تتعرف علي وفي نفس الوقت كأنها تلتقي بي لأول مرة. لقد تمنيت نظراتها الحنونة بكل قواي عندما كنت أزاول رياضتي السباق والسباحة وعندما كنت أحصل، مفتخرة ضاحكة، على جوائز. بكل ذلك كنت أتمنى أن تكون فخورة ومعتزة. أما من خلال هذا الإهتمام الدافئ وهذا التواطؤ وهذه الإقتراب الحميمي الذين خصتني به هذه الليلة فإني فهمت بأنها منحتني الموت منذ لحظة ولادتي، وبأن ما تَود أن أرده اليها الآن هو هذا الموت الذي منحتني إياه، وبأن الرابط الذي بقي يربط فيما بيننا هو هذا الموت. وهذا ما يرعبني جدا.
أما الأيام التي تلت هذه النوبة، وإن كانت هادئة الى حد ما، فإنها كانت مشحونة قلقا ومشحونة أيضا بذكرى هذا القلق وبالخوف الشديد من عودة هذا القلق. برفقتي أمي، ذهبت لزيارة طبيب أكد هو الأخر على تشخيصها السابق: "لا بأس، إنها الأعصاب. لقد خضعت لارتفاع قليل في دقات القلب ولقد حدث لك انتفاخ غازي لاباس به، بالأمعاء". "قليل"، "لابأس به"! يالها من كلمات بسيطة! لكن ماذا بإمكانه أن يحدث لي أجَلَّ مما أصابني؟ هل يمكن أن أصاب بأكثر من ذلك؟ وهل يوجد ارتباك إنساني أعتى مما يحدث لي؟ ثم انصرف الطبيب وأمي يتجاذبان أطراف الحديث حول الحالات الحادة لإنتفاخ البطن وارتفاع ضربات القلب التي لقياها خلال مهنتها الطبية. كانا، بين الفينة والأخرى ينظران ألي بنوع من العطف المتهكم. وكيف لا وحالتي أخف بكثير مما قد صادفوه من حالات لدى مرضى حقيقيين تعساء:"لابأس، إنك في أوج الشباب وتحظين بصحة جيدة". بعد ذلك اعترف لي الطبيب نفسه بأنه يعاني أحيانا من انتفاخ أمعائه وعرض على طريقته الخاصة لتخلصه بسرعة من هذا الإنتفاخ. كان ينحني، واضعا ساقيه وكفيه على الأرض، ثم يرفع قليلا إحدى رجليه تباعاً للجهة المنتفخة، تماما كما يفعل الكلب وهو يتبول خلف عمود إنارة.
كانت تعليقاتهم الحنونة مزينة بابتسامات وبكلمات من قبيل "شباب" و"حب" و"زواج"، فتبين لي ما كانا يقصدانه فخفضت نظري وتركتهما يتحدثان لوحدهما. لقد ظننت أن كل ما حصلت عليه في الجامعة من علمنفس ومن تحليلنفسي بالخصوص، ومن فيزيولوجيا الدماغ، سيمككني من فهم نفسي وتحديد ذاتي.لقد كنت أعي بأني عانيت الكثير من طلاق أبوي اللذين ما فتئى يتخاصمان بحضرتي حتى لحظة وفاة أبي. كنت أعي أيضا بأن أمي كانت لا شعوريا تؤاخذني على مجيئ الى الحياة. وبالفعل، لقد ولدتُ في فترة الطلاق ولهذا لم يحصل لي الشرف للتعرف على أبي. كنت أعي كذلك بأن خصاماتهما المتواصلة قد خلفت لدي تعقيدات تركت آثارها السيئة على حياتي الجنسية. وكنت أعتقد بأنني أعلم أيضا لماذا وكيف تم إتلاف حياتي الجنسية. لكني حتى الآن فضلت أن أكتفي ببكارتي وأتحمل ما تُخَلفه لدي من إحباط.
فمنذ بضعة شهور، أصبح القلق الذي تَملكني منذ الوهلة الأولى، موضع همي الوحيد. ثم انتابتي نوبة ثانية، أقل حدة، في الليلة التي فقدت فيها بكارتي. فعندما وقع نظري عل الشاب العاري وقضيبه منتصب، ولما أحسست بقضيبه الأملس ملئ كفي وكأنه قطعة من حرير أو كسرة خبز دافئة تخرج للتو من الفرن، بلغتْ بي النشوة أوجها. أحسست بالفخر والسعادة لما يحدث. كان لجسد هذا الشاب من الحسن والرشاقة ما جعله ينتشل دموع الرضى من جفنيَّ. وكأن كل جزء من جسمه يشارك في الدفع وفي إبراز قضيبه المنتصب. وعندما أبعد فخذي وانحنى بينهما، بدأ يفض بكارتي بهدوء، لكن بنوع من الإصرار والتعنت جعلني أعي بأن لاشيء قد يصده عما هو فاعله وليس بإمكاني إلا الرضى والإستسلام. فوجدت ما هو فاعله ضروري ولازم ويتوافق مع إحساسس الداخلي وتطلعي. بل وجدتني، في لحظة من اللحظات أآخذ على نفسي كوني عطلت لمدة طويلة حركاتي الدافعة التي كان يستجديها بكل قواه، وكوني أجلت كل التموجات التي كانت تختلجني من قفاي الى قدماي. أثناء كل الوصال، لاشيء صدمني ولا شيء فاجأني، حتى عندما اشتدت حدة الإيقاع ووحشيته، وحتى عندما أحسست بأن ما يشبه سدا حريريا بداخلي قد تم هتكه. بالعكس، إن أكثر ما أثار انتباهي بكثير حصل فيما بعد: لاحظت رقت الشاب وحنانه وكأنه أعطاني كل قوته ولم يحتفظ بشيء. فما كان لي بد من أن أعترف له بالجميل.
لم أتوفق في الحصول على متعة الجماع لكني لم أنفر أو أقرف مما حصل، بل بالعكس. وعندما اختليت بنفسي، قمت بغسل الأغطية التي نشَفتْ بسرعة نظرا لجفاف الجو وسخونة الطقس. وأثناء الليل، تمددت فوق الفراش لكن النوم لم يزورني قط.
لقد اخترت هذا الشاب لمهارته إذ هو معروف بحذقه في سلب قلوب الفتيات وفي جلبهن كعاشق ماهر. كنت أعلم بأنه كان عشيقا لإمراة أكبر مني سنا، لكني أحسست بميل نحوه لأنني كنت متأكدة بأنه سيعرف كيف يتصرف معي في هذا الظرف. وهاهو قد قبل بكل جد أن يلعب نحوي دور المرشد. ولقد نجح فعلا في مهمته لأنني كنت فرحة وعلى يقين بأنني سأعيد الكرة معه غدا، وسأكون كلي رغبة في ذلك.
إلا أن قلبي أخذ يقفز من تحت أضلعي، فضاقت أنفاسي. كنت على وعي بقيمة ما فعلته. وكنت أعي بأن قيامي بذلك سيؤدي حتما الى هيجان بحري الداخلي، بل وبإحداث عاصفة. كان عمري يتجاوز العشرين سنة. وحتى ذلك الحين لم أبق عذراء فقط، لكني لم أتذوق بعد ولو بعض من لمسات الحب. (ما عدا القبلة التي أحرزت عليها وعمري لا يتجاوز الرابعة عشر. كنت مستلقية على قفاي، أتذوق حرارة الشمس ورأسي منغرسة في الرمل. كانت لحظة خاطفة أحسست خلالها بِرِيق رطب ممزوج برائحة سيجارة الگولواز قد وضع على شفتيَّ. إنه تذكار مخفي كأوراق زهرة يابسة دٌسَّت بين صفحات كتاب ضخم.) فإن أنا تصرفت بهذه الطريقة فما ذلك إلا امتثالا لقواعد أمي. وقد ذهب بي الحال حتى الى إبعاد الإستمناء. فغالبا ماكان يشتعل فيَّ حريق الرغبة، فكنت أقضي فترات القيلولة وليال طوالا مستلقية ومتمددة على بطني العاري فوق زليج غرفتي البارد، تهربا من نعومة فراشي وتهربا من روائح الزعتر والياسمين وغبار أراضي البحر المتوسط، وتهربا من الصخب المهيج لحشرات زيز الحصاد ومن رنة الناي العربي الحنونة.
وهكذا فجأة أراني قد قررت لوحدي أن أتجاوز ثوابت فئتي الإجتماعية وأحكام أسرتي المسبقة وكذلك أوامر ونواهي أمي. قررت أيضا زعزعة أسس الديانة الجبروتية فأقدمت على النكاح مع شاب لم تكن لي به علاقة حب وليس من الممكن التقوُّل بأسباب الهوى أو بأسباب معقولة. كل ما هناكلك أنني أردت ففعلت. نكحت لأنه كانت لي رغبة في ذلك.
عندما حضرتْ نوبة القلق هذه المرة تعرفت عليها للتو. إلا أن حضورها هذه المرة بدا لي عاديا. فهي لم تخفني كثيرا. كنت أعرف أنني دخلت عالم الجنس من الطريق الغير المستحسن، إقتفيت سبيل النساء اللواتي كان أبي يضاجعهن وهكذا أكون قد التحقت بوفدهن. كانت أمي تطلق عليهن إسم "الكلبات". فكنت ارتعد كلما حضرتني وقاحة هذه الكلمة وهي تتفوه بها. لقد حدث لي أن صادفت بعضهن في المنزل. كن يخرجن من المنزل لحظة حضوري. كان أبي يقتادهن الى الباب وكأنه برفقة زيارة عادية. كان يصطنع ابتسامة وهيئة مفتعلتين. كان يعرف كيف يتحكم في نفسه. أما هن فكن يتمايلن في مشيتهن نحو الباب. وفي كل مرة كنت أحس بعلاقة حميمية بينهم وبتفاهم خبيث وبنفحات إشباع لا مراء فيه. كل هذا كان يهيج أعصابي. كانت عشيقات أبي يسخرن من أمي التي تقضي جل وقتها منحنية على محراب الصلاة. فضيلتها... رذيلتهن... عيبي...مَلَك، إبليسات. كل هذا شغل بالي هذه الليلة فقلب نومي سهادا. وكان هنلك شيء آخر، لست أدري ماذا، كان يعصر قلبي ويرفع من ضرباته.
كنت آنذاك أسكن غرفة لقضاء العطلة لم يتم بعد تهويتها بما فيه الكفاية، فكان يغلفها الظل وتطغى فيها رائحة الرطوبة. كانت الغرفة تطل على زنقة بها محل لكراء عربات يجرها خيل. وفي الصباح الباكر يأتي رجل يقوم بتصفيف الخيول على طول الرصيف. ثم يعمل على ربط كل واحد منها بالعربات المتهالكة التي ستقل السياح تحت نخيل الممر البحري.
أتذكر الفجر ومطلع النهار الليذين بقدومهما نقلا شبابيك النافذة من خيوط رمادية وسوداء الى خيوط صفراء وسوداء. كانت الخيول آنذاك تضرب الرصيف بحوافرها ضربا يشتد ويتسارع تكراره كلما اشتدت الحرارة التي تدعو الذباب الى مزاولة عملها اليومي. رائحة الروث تتصاعد فتملأ أنفي. هكذا يكون سهادي قد انتهى. غلفت فراشي بأغطية نظيفة وانتهى الأمر. لم أبحث في معرفة السبب الذي أدى بي الى غسلها. غادرتُ غرفتي متجهة نحو رمال الشاطئ التي بدأ دفأها يتصاعد. ويكفي غرس الأرجل قليلا فيها حتى نحس ببرودة ورطوبة الليلة التي رحلت منذ هنيهة.
كل السنوات الماضية(ما يناهز العشرة)، قد تم قضمها من طرف الحمق خلال تكونه المتباطئ. إلا أنني لم أكن على بَيِّنة من ذلك. فقط رغبتي في الحركة وفي التعبير أصبحت تضمحل شيئا فشيئا. وقلَّت أيضا رغبتي في مقاسمة فكرة أو الإنخراط في فعل. وكلما حاولت أن أشق طريقي، كلما يئست من العثور عليه في المجال الذي حددته لي ظروف نشأتي. أصبحتُ ثقيلة بطيئة غليظة، يطغى على سلوكي فترات من التبعثر اعتبَرَها البعض حماسة. ولقد اعتبروني فعلا إنسانة عاقلة ومتزنة. خلال هذه الفترة إجتزت عدة امتحانات وسبحت في الحياة الجنسية كما نسبح في مياه نظنها باردة. أما أنا فلم أجدها باردة إلا أنني لم أتمتع بالسباحة فيها حسب رغبتي. تزوجت فيما بعد ودرَّست في ثنويات مختلفة. أنجبت ثلاثة أطفال وكنت أمل في إحاطتهم بأب وأم متحابين يوفران لهم سعادةً ودفأً لم يسبق لي أن حظيت بهما أبدا. إلا أن ما حصل لي من ترهُّل ومن لزوجة ومن سخافة من جراء المرض حال وهذا التمني وأخذ يتثاقل يوما بعد يوما الى أن أصبح "الشيء" نفسه.