سيرج اندريه
(محلل نفساني فرنسي ١٩٤٨ – ٢٠٠٣)
الفـيــــــــــتيـــــــــــشيـــــــــــة
ترجمة: عبد الهادي الفقير
في يوم من الايام، جاءني شاب في مقتبل العمر، يعاني من عرض ينغص عليه حياته ويرجو التخلص منه بواسطة التحليل النفسي. فمنذ سنوات، وبالتحديد منذ زواجه، أصبح يعاني من حساسية جد مؤلمة ومزمنة في النصف الايسر من وجهه. ولقد خضع لكل التحاليل الطبية الممكنة في أرقى الأقسام المتخصصة. الا أن الاطباء كانوا يقفون مكتوفي الايدي أمام حالته ولم يبق أمامه إلا تناول المسكنات قصد تخفيف حدة الألم.
المؤسف هو أن ألمه اضطره لتناول مستمر للمسكنات إذا أصبح يتناول جرعة أو جرعتين من تلك المسكنات يوميا، وذلك منذ خمسة سنوات على الأقل، عندما زارني لأول مرة. منذ ذلك الحين انتابه شعور بأنه أصبح مدمنا للأدوية وبدأ يتساءل فيما إذا كان إدمانه هذا هو مسبب آلام الوجه التي لا تبارحه.
من باب الحيطة والحذر، لم أقم بإبلاغه بأن عرضه هذا قد يكون من النمط الهستيري أو السيكوسوماتي. فهذه ظواهر ما زالت موضوعا غامضا في مجال الطب، إذ قد تكون لها مسببات مختلفة ومن غير الممكن تحديدها حتى الآن. لكني ألمحت له أن بإمكان التحليل النفسي أن يستجلي عرضا كهذا إن كان بالفعل عبارة عن تشكيلة لاشعورية.
وبما أن هذا الشخص كان يتميز ببعض السمات الغريبة، إذ كان يقضي كل ليليه مستيقظا وينام نهارا، ارتأيت أن أتقبله في تحليل نفسي. أما طابع عرضه وبنيته النفسية كشاب فيتيشي، فلم يتجليا لي إلا بعد سنة من التحليل أو أكثر بقليل.
أما قبل ذلك فلقد اتسمت العملية التحليلية بتحويل كاسح لديه جعله يعيش أحاسيس ملؤها الرعب من طرف المحلل. فخلال الشهور الأولى من التحليل كان كل يوم تقريبا يكتب إلي رسائل ممتلئة بكل ما يشعر به نحوي من أحاسيس الرعب وبكل ما يلمحه بخصوص تفاصيل جسدي أو ملبسي. فقد كان ينعتني مرة ب «المكنسة الكهربائية» وأخرى ب «آلة طحن» وثالثة بثقب لا نهاية له، وغيرها من تعابير الذعر. وكان عادة ما يختم انتاجاته الأدبية بريم لمقعد مرحاض.
كانت جلسات التحليل تمر عادة في صخب يتقلب فيه المتحلل بين ذعره الشديد من اقترابي منه وإلحاحه القوي بأن أعامله بلطف وأن أصرح له بحبي تجاهه. مع دلك تمكنت من معرفة أن طفولته اتسمت بغياب الأب. و بالفارق العمري الكبير الذي يفصله عن إخوته. لقرد ازداد في فترة متأخرة من عمر والديه، الذي تجاوزوا الأربعين، بعد أن ربوا أبناء عدة كلهم تجاوزوا فترة المراهقة. لم يبق له أي ذكرى عن أبيه الذي توفي وهو في الخامسة من عمره.
أما التحليل فلقد اضطره لاستكشاف الحادثة المأساوية التي تم إخفاؤها عنه حتى الآن والتي تتمثل في وفات أبيه منتحرا. ولهذا السبب قضى طفولته وشبابه مع أمه وكأنهما زوجان بحيث أن إخوته غادروا منزل الاسرة بالتتابع مباشرة بعد وفات الاب.
ولقد أثر وفات الاب على الام وابنها تأثيرا بالغا خصوصا وأن هذه الوفاة ضاعفت من التقارب بينهما نظرا لانهيار سبل معيشتهما بين عشية وضحاها.
في البداية كانت آلام أعصاب الوجه تتركز لدى المتحلل في الجانب الايسر من الوجه انطلاقا من الجبهة الى عظم الفك الأسفل، لكن بعد سنة من تواصل التحليل، أخذ نطاق هذه الآلام يتسع ليسري على طول العنق مرورا بالكتف ليكتسح كلا من ذراعه وساعده. وهذا ما دفع بي الى اعتبار آلام الوجه العصبية هذه، ظاهرة سيكوسوماتية إذا لا وجود بالفعل لعصب يسري على طول خط الآلام التي ستوجع منها ويعرضها على مسامعي.
وبما أنه كان يعود الحديث عن هذا المسار مرات ومرات، أطلعته أن تفصيل آلامه على هذا المنوال يجعلني أفهم أنه يحدثني عن مسار خطي. عندها باح لي بكثير من الحزن والأسى حدثا سيصبح المفتاح في فهم عرضه واستبيان بنيته النفسية.
فما باح به أولا يتعلق بذكرى من أولى ذكرياته على الإطلاق. عندما كان في السادسة من عمره، سنحت له الفرصة بمراقبة طفلة إفريقية وهي تتبول. بما أنها كانت في سن الثانية عشرة ولم تتجاوز بعد سن البلوغ بعد، فإنه تمكن من رؤية فرجها ولم يكن قد غطاه صوف العانة. آنذاك أصبح مشدوها من رؤية الخط المستقيم الذي ترسمه شفتي فرج الصبية وكذلك السائل اللماع الذي كان يسيل بينهما.
ومنذ ذلك الحين، كما قال لي، بقي مشدوها بمنظر ذلك الفرج العاري وما يتخلله من خط مستقيم وأصبح يثابر على ملاحظة ما يشابهه في كل شيء. فيكفي مثلا أن يسقط نظره على حبة قهوة كي يحصل له انتعاظ قضيبه يضطره للقيام بعملية استمناء. نفس الشيء يحصل له رذا ما نظرت إليه امرأة تزم على شفتيها. الأنكى من ذلك أن هذا الشاب الذي يهوى الكتابة والرسم لم يعد قادرا على متابعة هوايته هاته الا بواسطة الحاسوب، لأن مجرد روية خط مستقيم يسيل من قلمه يوقعه في أقصى حالات الارتباك.
حدثني أيضا أنه كان يجوب بعض البلدان المجاورة بصفة منتظمة قصد اقتنائه مجلات إباحية تمكنه من رؤية فروج خالية من صوف العانة ولم تتم استثارتها حيث لم يحصل بعد انفتاحها. كذلك كان يجد نفسه مضطرا، ولو مرة في الشهر، دور الدعارة حتى يحصل على عاهرة يلائمه شكل فرجها. حينها لا يقوم بأية علاقة جنسية معها وإنما يلقي بنفسه في حضنها ويكتفي بمداعبة ثدييها.
حتى علاقته بزوجته فقد أصابها خلل بسبب متطلباته الفيتيشية. فلقد قبلت زوجته بالفعل حلاقة فرجها ووضعه مربوط الشفتين تحت ناظريه. أما إن حصلت لها إثارة جنسية، آنذاك يجب إطفاء الضوء حتى لا يصطدم نظره بفرجها وهو آخذ في الانفتاح. لكن منذ أن ولدت طفلا فإن فرجها لم يعد ينسد كما في السابق إذ يبقى في حالة انفراج طفيف على الدوام وخط إغلاق الشفتين ليس بنفس الاستقامة، وهو ما يحدث له اشمئزازا لا يوصف.
كل هذه العناصر مكنتني من تحديد حالة هذا الشاب بكونه شاذا فيتيشيا. فيتيشه انطلق فعلا من فتحة الفرج التي لمحها لدى الطفلة الإفريقية وتمادى تدريجيا ليغطي عددا آخر من الخطوط والسمات.
الجدير بالذكر أنه لم يكن يتوان قط من تحدي معرفتي التحليلنفسية التي كان يتوفر على قدر منها. وهكذا فقد أثار انتباهي إلى أن لاكان ما كان ليرمز الى المتعة الجنسية بالحرف «في» إلا اعتبارا للشكل الكتابي لهذا الحرف. لكنني سأرجع فيما بعد الى وظيفة التحدي هاته لدى الشخص الشاذ جنسيا.
أما عرَض ألم الوجه العصبي لديه فلم يتم فكه حتى اللحظة ولم يتحصل حله إلا عندما طلبت منه أن يصف لي الوضعية التي كان يتخذها حتى يتمكن من رؤية الطفلة الإفريقية وهي تتبول. شرح لي آنذاك كيف أن أبواب المرحاض كانت منصوبة بشكل يترك فجوة كبيرة من الأسفل. أما هو فقد تمدد على الأرض مغتنما الفرصة كي يختلس من تلك الفتحة نظرات لفرج الصبية.
سألته حيناه: «ألم تكن متمددا على جانبك الأيسر، ووجهك يلامس الأرض؟» رد علي بنعم وقد أصابه ذهول من سؤالي. بعد يوم وليلة، توقفت آلام وجهه وأقلع بعد فترة وجيزة عن إدمانه للمسكنات.
يا لها من نهاية سعيدة، قد يتبادر الى ذهنكم، لكن هيهات. إذ قبالة الشاذ جنسيا يجب ألن نظن أن كلمتنا هي العليا. لقد تخفف مريضنا من عرضه حقا لكن هذا التحسن سيُخلف كلفة من الجانب الآخر. ذلك أن توقف آلام الوجه أصبح عنده بمثابة نصر جديد للفيتيش. بمعنى أنه أصبح يعتقد أن بإمكانه الانصراف مجددا الى تحقيق هواماته الاستمنائية بدون خوف من العقاب وبدون أن يقتضي ذلك كلفة الاعراض.
وهكذا، ما إن سهُل عليه بفضل التحليل النفسي تحققه من تملكه لهوام الزم الفالوسية، فإن ذلك سيُترجم من الجانب الآخر من عملية الانكار لديه - وهو جانب الاعتراف بخصاء الأم – بسلسلة جديدة من التصرفات الاحترازية. وهذا ما أبانه لي في الأسابيع التالية عندما أطلعني على مجموعة من الهوامات قام بكتمانها حتى الآن وترتبط بعمليات الوشم.
لم يكن بمقدوري منعه من تحقيق هذه الهوامات التي عمد من خلالها رسم أوشام مختلفة على جسده معتبرا إياها أنها مؤشرا سعيدا على الانتهاء من عملية التحليل. أما أنا فلم أقاسمه هذا الرأي وصارحته بذلك. لكنه انصرف عني بدون رجعة، كثير الانزعاج، شديد الغضب.
ماذا كان يريد أن يُنقش على جلده؟ لم يدفع بالسخرية إلى حدّ أن يُريني على جسده العلامة الصارخة التي كان يُريد بها درء الرعب، لكنه حدثني بذلك وأعطاني بطاقة رسام الوشم التي تُعيد رسم الشكل الذي كان يقصده محفورًا على ظهره. كان الأمر يتعلق بجسد امرأة تنين، عارضة ساقيها بشكل متباعد، وكان عليه أن يحمله أسفل ظهره بحيث يتطابق عرض فرج المرأة والذي لم يكن ممثلا على الرسم، مع الخط الفاصل بين ردفيه. هكذا كان يُحقق على جسده ذاته الإنكار الذي يحدد الانحراف: شاب من الأمام وامرأة من الخلف. لكن من يدري، لعلّ الخلف ليس إلا امتدادًا بسيطًا للأمام، والعكس صحيح.
من جهة أخرى، حين جعل من نفسه حاملاً للفيتيش، كان يقدّم لنفسه حماية إضافية ضد الأب المتخيَّل، الأب الرهيب، الخاصي والذي، بسبب غيابه المفرط، لم يكن إلا أكثر قوة في مخيلته. كان يكفي، في الواقع، أنه بعد أن يُوشم، يدير له ظهره ليُريه أنه امرأة، وبالتالي مخصيٌّ سلفًا، مستمتعًا في الآن ذاته بما ينطوي عليه هذا الخصاء المموه من قيمة. وأنا أيضًا، محلله النفسي، كان يدير لي ظهره بطريقة ما. ولهذا السبب رأيت من المناسب أن أحذّره من أن هذا الوشم ليس سوى تمويه. فأجابني آنذاك أنني لا أعرف شيئًا، وبالإضافة إلى ذلك، أنني لا آخذ بعين الاعتبار الألم الذي سيضطر لتحمّله شهورًا، بل ربما سنوات، تحت إبرة رسام الوشم.
قد تكون خلاصة هذا المسار، الذي لا يخلو من طرافة ولا من دروس، هي التالية: أن التحليل النفسي، حين خلّص هذا الفرد من آلامه العصبية، ربما ساقه إلى الأسوأ؛ إذ لم يكن المحلِّل هنا سوى حلقة وصل نحو رسام الوشم. لا شك في ذلك، لكن هذا لا يُعد عزاءً، بل هو مجرد سؤال إضافي. تفاني هذا التحليل مرهون بطبيعة التحويل الخاصة بالمنحرف، وهي طبيعة أقترح عليكم أن نصغها على النحو التالي: إن تحويل المنحرف لا يتم نحو "ذات-مفترَض-عارفة”، إذ إن المنحرف، في الواقع، هو من يأتي إلينا حاملًا معه معرفة. إنه يتحدث إلينا باسم هذه المعرفة، وذلك ليقنعنا بأننا لا نستطيع إلا الاعتراف بهذا المعرفة كما لو كنّا نحن أيضًا ملزمين للاهتداء بها. بعبارة أخرى، إنه يأتي إلينا كمفوَّض عن قانون يريد منا أن نعترف بأننا نحن أنفسنا موضوعه.
المعرفة هنا هي معرفة حول المتعة، وهذا القانون هو ذاك الذي يجعل من الألمتعة معرفةً تُلزم الجميع. ومن ذلك ينتج أن التحويل عند المنحرف لا يتجه نحو «ذات-مفترض-عارفة»، بل نحو “ذات-مفترَض-مستمتعة”. ولهذا السبب، في آخر المطاف، يتوجه الشاب الذي أروي حالته نحو رسام الوشم، تاركًا المحلّل في بؤس ألمتعته.
السؤال الذي يطرحه الفيتيشي هو في النهاية السؤال الجوهري حول العلاقة التي يقيمها الإنسان من جهة مع الواقعي من جهة، ومع الواقع المعاش من جهة أخرى: لماذا الحجاب أثمن لدى الإنسان من الواقعي؟ لماذا تُنظَّم العلاقة مع الموضوع وفق علاقة تنتمي إلى عالم الوهم؟ هذا ما يستفهم عنه الفيتيشي، لكن على نمط التحدي. بهذا المعنى، فإن التحدي من طرف المنحرف هو في جوهره تحدٍّ للواقعي. الفيتيش، الذي يشكّل به المنحرف واقعًا هواميا للجنس الأنثوي، هو نقطة ارتكازه وسلاحه لتحدي واقع هذا الجنس، وأيضا لتحدي ذاتية الآخر الذي يخدمه بوصفه شريكًا. تشير الفيتيشية، إذن، إلى سمة مميّزة لكل انحراف، وهي السمة التي يظهر بها المنحرف دائمًا بصفته من يجلب الفضيحة إلى انكشاف الرغبة. الفيتيشية تُظهر لنا أن في نهاية الرغبة لا وجود لذاتية الغير، أي أن الرغبة تنطوي في ذاتها على إلغاء الأخر، وأن هدفها مميت في جوهره، من حيث إن الهوام الذي يسندها لا يُمثّل بُعد الآخر إلا بوصفه موضوعًا أبكم أو دمية يحرّكها ذات الفرد حسب أهوائها.
ما يهمّ المنحرف ليس هو الأخر، بل ما يُرسَم على الفراغ الذي يكون هو دعامته، كما يُمكن للعلاقة أن تكون شماعة يُعلَّق عليها ثوب. هذا ما يُحقّقه المنحرف، وهذا ما يأتي ليكشفه لنا بوصفه الواقع الفاضح للرغبة. وفي هذا المسار من الكشف، يُقدّم نفسه إلينا على أنه صاحب معرفة نحن أنفسنا خَدَمة لها من دون أن نعلم. من هنا صعوبة التحليل مع المنحرف ونمط التحويل الخاص لديه. المنحرف يأتي إلى التحليل، وهو أمر ليس شائعًا كثيرًا، لكنه لا يأتي لاكتشاف شيء ما، بل ليُدخل محلّله في حتميّة معرفته المنحرفة حول الرغبة.
وكيف لي، في الواقع، أن أُقنع متحلَّل آخر، مهنته خياط، أن فيتيشيّته للثوب المنصهر ليست سوى متراس يجب إعادة تشييده باستمرار ضد المثلية التي انجذب إليها في قلق كبير؟ كيف لي أن أُشير له إلى أن خطابه حول الرغبة والنساء يدور حول نقطة من المجهول الجذري، بينما هو، بعد أن التقى على السلم المرأة التي تشاركني حياتي، استطاع أن يلاحظ عليها نفس العلامات التي يتخذها هو بنفسه ذريعةً لدرء خصاء الآخر؟ إنه هو من يشعر بأنه مكلّف بأن يعرّفني على واقع رغبتي، بأن يُثبت لي أنني فيتيشيّ رغمًا عني، أو على الأقل أن رغبتي في امرأة لا يمكن أن تمرّ إلا عبر استعراض علاماته هو، سواء أردتُ ذلك أم لا.
عليّ أن أعود هنا لأُخفّف من حدّة نقطة كنت قد طرحتها سابقًا، وهي القول بأنه لا وجود لهوام خاص بالمنحرف. هذه الملاحظة صحيحة، لكن لا بد من إضافة ما يميّز مع ذلك المنحرف بالنسبة إلى الواقع الذي يُستحضر في الهوام. لا أظن أنه يكفي أن نقول إن ما يُعرّف المنحرف هو مروره إلى الفعل، أي تحقيق هوامه على مسرح العالم. فليس كل المنحرفين يمرّون بالضرورة إلى الفعل. إذًا، إذا لم يكن محتوى الهوام بذاته ما يمكن أن يُمكّننا من القبض على البنية المنحرفة لمن يُفصح عنه، فلا بد من الانتباه إلى أنه يوجد، مع ذلك، أسلوب منحرف في التلفّظ بالهوام. ثمة نمط منحرف في التعبير عن الهوام. ويمكنني أن أقول إن المنحرف يقوم بالمرور الى الفعل من خلال الكلام.
سأوضح مقصدي. هناك أسلوب خاص في مقاربة الهوام عند المنحرف، يختلف تمامًا عن أسلوب العصابي. نعلم أن العصابي يصمت عن هوامه، أو لا يعترف به إلا بصعوبة بالغة، محاطًا بشتى أنواع الاحتياطات. ذلك أن نقل الهوام من المشهد الخاص إلى المشهد العلني، أو حتى مجرد عرضه على مستمع، يعني بالنسبة له أن يضع نفسه تلقائيًا في موقع المذنب، وأن يعرّض نفسه لصاعقة الآخر. أما المنحرف، فالوضع مختلف تمامًا، إذ نلاحظ لديه، على العكس، ميلاً إلى التلفظ بهوامه أمام الآخر، وخصوصا أمام المحلل، وذلك على نمط التحدي والاستفزاز. ما يعني أنه، حين يصرّح بهوامه، لا يسعى إلى الاعتراف بذنبه، بل يسعى إلى جعل الآخر هو من يشعر بالذنب، وإلى إخضاعه. والسبب في هذا الاختلاف في الأسلوب يعود، من دون شك، إلى بنية الهوام نفسها، وإلى الموقع المختلف لكل من العصابي والمنحرف إزاء هذه البنية. فالهوام، في جوهره، ينطوي على اختزال الآخر إلى مجرد موضوعٍ مسبب للرغبة، وإلغاء لذاتيته، بدءًا من كلامه.
إذا كان لاكان قد كتب صيغة الهوام على شاكلة S̸ ◊ a، فذلك لأن الآخر في الهوام، لم يعد موجودًا، بل لم يبقَ سوى دمية بلا حياة، لا تُبثّ فيها الروح إلا على هوى القدرة الكلية لرغبة ذات الفرد. بعبارة أخرى، صيغة الهوام تستند دومًا إلى نزوة الموت التي تتجه نحو الآخر. هذه الوجهة المميتة هي ما يفسر شعور الذنب والخوف لدى العصابي حين يبوح بهوامه. لأنه، في اعترافه هذا، لا يمكنه إلا أن يقول لنا، بشكل أو بآخر: «أنا أقتلكم، أنا أختزلكم إلى مجرد موضوع أخرس لمتعتي». وبما أننا نعرف اعتقاد العصابي في القدرة الكلية للفكر، وهو من أسس العملية الأولية، فمن الواضح أن العصابي لا يمكنه إلا أن يخشى من أن مجرد التلفظ بالهوام قد يكفي لتحقيق التدمير الذي تنطوي عليه بنيته.
أما المنحرف، فلا يُظهر هذا الذنب ولا هذا الخوف، أو إذا اختبرهما، فإنه يًطف بجانبهما لكي يحمّلهما لمستمعه. فالكلام الذي يصدر عن المنحرف بخصوص هوامه يؤدي دائمًا وظيفة الإدخال في الطقس، بل حتى وظيفة الإفساد، تجاه من يصغي إليه. بهذا المعنى، فإن كلام المنحرف يبدو وكأنه يعيد قلب العلاقة البينذاتية كما كان لاكان يُعرّفها من خلال الخطاطة «L»، أي أن الذات تتلقى من الآخر رسالتها في صورة معكوسة.
المنحرف يقلب هذه البنية من حيث إنه يقدّم نفسه إلينا بصفته مكلّفًا بكشف حقيقتنا نحن. إنه يقدم لنا كلامه كصدى مقلوب لرسالتنا نحن. بعبارة أخرى، يضع نفسه منذ البداية في مكان الآخر. حين يتحدث المنحرف عن هوامه، فهو لا يفعل ذلك ليكتشف كيف هو خاضع له، بل ليبرهن لنا أننا نحن من نخضع له، سواء رضينا أم كرهنا، بل بالأحرى رغماً عن إرادتنا وحرّيتنا الهزيلة. فمن خلال محاولته إدماج المستمع بصفته كائناً مستمتعا داخل شريعة هوامه، يسعى المنحرف إلى إثبات أن رغبته هي القانون، وأن شريعة الرغبة ليست سوى شريعةَ عبودية. فلا سعادة إلا في العبودية — تلك قد تكون الحكمة الأولى لهذه المنطق. وهي على كل حال العبارة الفرعية لكتاب سأتحدث عنه لاحقًا في سياق المازوخية، وهو كتاب 0Histoire d’.
هذا النمط من خطاب المنحرف يمكن أن يكون آسِرًا. ذلك أنه يقوم على تحالف، وعلى اندماج بين عنصرين لا يستطيع العصابي قط أن يوفّق بينهما: القانون والرغبة. أما عند المنحرف، فالقانون هو الرغبة، والرغبة هي القانون. ولا عجب في ذلك، ما دام فشل وظيفة الاب قد تركه سجين علاقة بالأم لم يكن فيها من الممكن إلا أن يختلط هذان القطبَان — قانونها ورغبتها — في واحد.
غير أن ما لا يراه المنحرف، هو أن هذه الشريعة ليست الشريعة الحقة، وأن الرغبة التي تندمج بها ليست رغبته هو، بمعنى أن يكون هو صاحبها، بل نجدده رهينة أو عبدٌ خاضعا لها. سيتّضح هذا الأمر لنا بشكل أوضح عندما نتناول إشكالية المازوخية ومدى فاعلية العقد الذي يربط المازوخي بشريكته. هذه العقود المازوخية تُظهر بجلاء أن المسألة بالنسبة للمنحرف هي اتّباع واحترام قواعد، ما إن تُعلَن حتى تكتسب طابع الأمر المطلق، مهما كانت رغبات الطرفين في لحظة تنفيذها.
هذه الإرادة في تحويل الرغبة إلى أمر مطلق لا يكون فيه للذات سوى أن تكون عميلا مخلصًا، هي من سمات المنحرف. فهو لا يكتفي بإرجاع الرغبة إلى وعيه بها، بل يحوّل ضرورة إشباعها إلى واجب لا يقبل التأجيل أو النقصان. لا مكان هنا لرغبة غير مشبعة، مع أن الرغبة غير المشبعة — كما تعلّمنا الهيستيرية — هي في الواقع التعريف الجذري لجوهر الرغبة. بل أكثر من ذلك، تصبح ألَمتعة نفسها واجبًا، ويتعيّن على الشريك، على الآخر، أن يقتنع بدوره بهذا الواجب. بما أن المتعة مفروضة، لم يعد هناك مكان للذنب، إلا ذنب التهرّب منها أو عدم التماهي مع أوامرها.
إن هذا لحلّ عملي للشعور بالذنب، لكنه لا يمنع مع ذلك المنحرف من أن يشعر بوطأة الأمر الفوقي لقانونه بشكل مؤلم. ذلك أن من يتحدّى الواقعي بهذا الشكل، لا بد له في النهاية أن يصطدم به عند المنعطف، سواء عند مستوى الشريك أو على مستوى جسده هو نفسه. فثمة مستوى من مقاومة المادة لا يمكن لأي كائن أن يتجاوزه. إنه ذلك الأفق الذي تُرسَم عليه ظلال الموت التدميري، وهو ما يغلق عالم كل منحرف في نهاية المطاف. لأن بعد الاستمتاع الى هذا الحد، لا بد أن تأتي لحظة تتحطم فيها ذات الفرد.
وسنرى، من خلال اقتصاد السادية والمازوخية، كيف يستخدم المنحرف هذا الأفق كضمانة من جهة — ضمانة بألّا يُحكم عليه بالألمتعة الأبدية، والتي قد تكون تعريفًا ممكنًا للجحيم — ومن جهة أخرى كلحظة قصوى يمكنه فيها، في تحدٍ أخير، أن يبلغ حدّ الألمتعة بالموت نفسه.
هذا يكشف لنا جانبًا أخيرًا من انقسام ذات المنحرف. فإذا كان يتصرّف أو يتكلّم باسم القانون، فإن القانون المقصود ليس سوى طغيان الأنا الأعلى. ذاك الأنا الأعلى الذي يقول عنه لاكان، في سيميناره «وزيادة»، إن وصيّته الأصلية هي: «استمتعْ» Jouis. العصابي، الذي يستفيد من سوء الفهم الناتج عن انقلاب الرسالة، يجيب بـ: «أَستمِـ(ـتـ)ـعْ» J’ouis . أما المنحرف، فهو ينجو من هذا الالتباس. لكنه، بانصياعه الدقيق لمطلب الألَمتعة الصادر عن الآخر الأمومي، وبتقديمه لنفسه كقربان كي لا يُلتهم حيا، وبمحاولته أن يجرّ شريكه معه في هذا الطريق، لا يفعل في النهاية سوى أن يبرهن على أن الرغبة المطلقة التي يسعى إلى خداعها ما هي إلا شرٌ مطلق، وأن الظلمة النابعة من رغبة الآخر هي بلاء علينا جميعًا أن نكفّره.
خيرٌ للمرء ألا يُولَد من أن يكون مدينًا بالحياة لرغبة الأم. ولهذا فإن السيّد الحقيقي عند المنحرف، السيّد الوحيد الممكن للألمتعة، هو الموت. لكن الموت بصفته محوًا رجعيًا، ذاك الذي ربما نادى به ساد، موتٌ يَشمَل حتى زوال كل أثر للجنس البشري من على وجه الأرض.