٣ - الذهانات (١٩٥٥-١٩٥٦)
هذا السيمينار بالنسبة للاكان، بمثابة رهان: إنه يحاول أن يبرز فيه إلى أي حد تسمح لنا المقولات التي طورها خلال السنتين الفارطتين، وبالخصوص مقولة الرمزي ومقولة الآخر، التطرق بشكل قويم للقضايا التي يطرحها علينا الذهان في الوقت الراهن.
يٌذكر لاكان بأن اهتمام فرويد بالذهان تعلق أساسا بمادة كتابية، تخص مذكرات الرئيس شريبر والتي أعطانا عنها قراءة «شامبوليونية». فلو كان الأمر يتعلق بشخص عصابي، كان بإمكاننا القول بأنه « بخصوص لغته، على نفس مستوى علاقة فرويد بلغته» (ص ٢٠). لكن بما أن الأمر يتعلق بحالة ذهان، فإننا نجدنا أمام سؤال مختلف: ليس فقط معرفة السبب في بقاء اللاشعور مقصيا أمام ذات الفرد وإن كان هذا اللاشعور باديا للعيان، وإنما أيضا لمذا يظهر ويتجلى في الواقعي.
وكي يجيب على هذا السؤال، يأخذ لاكان كمثال أول هذيانا بصريا، وهو هذيان صاحب الذئاب الذي تُطلعنا إحدى ذكرياته الطفولية كيف أنه، وهو يلعب بموساه، قد قام بقطع أصبعه الذي لم يعد مشدودا إلى يده إلا بقطعة ضئيلة من الجلد. مستعينا بفئة «الرمزي» يقوم لاكان بشرح الحادث بتعبيره الذي أصبح مذذاك مشهورا: «ما حصل بتره من الرمزي (ويعني الخصاء) يتم رجوعه في الواقعي». لكن يمكننا مع ذلك ملاحظة أنه إن بحثنا عن مراقبة تدلنا بدون جدال على سقوط ذات الفرد تحت طائلة تهديد الخصاء، فليس هناك ما يضاهي حالة صاحب الذئاب. تهديد الخصاء هنا وإن كان من قبيل الهوام، هو بمثابة الخيط، وإن كان رقيقا، فإنه الخيط الحديدي الذي يربط ذات الفرد بالنظام الرمزي. وهكذا لا نرى كيف يمكن أن نحَمل حالة صاحب الذئاب بهكذا «إلغاء» للنظام الرمزي. مع العلم أن هذيان صاحب الذئاب حصل بعدما سمع قصة امرأة من البادية ولدت بست أصابع، وتم قطع الأصبع الزائدة بضربة فأس. وهكذا فليس الرمزي هو ما تم بتره من الواقعي، بل إن إقحامه وانغراسه في الواقعي هو الذي بقي لدى ذات الفرد بمثابة شيء لا يمكن النطق به. لقد بقي مبعدا ومقصى عن كل إمكانية مروره بالكلام وبهذا المعنى، نعم، يبقى «مبتورا من الرمزي». إن «حكم» لاكان هنا يبقى في مجمله صحيحا، لكن يجر وراءه التباسا، بل خطأ، في معالجة حالة صاحب الذئاب كمثال.
أما المثال الثاني فيتعلق بهذيان سمعي يستقيه لاكان من إحدى مقابلاته العيادية بمستشفى سانت-آن. يتعلق الأمر بمريضة سمعت من طرف رجل صادفته في سلاليم العمارة كلمة «خنزيرة». عندما صادفت هذا الرجل الذي هو حميم الجارة قالت في نفسها، كما أقرت بذلك بعد سؤال من لاكان: «إني آتية من عند بائع لحم الخنزير». يفسر لاكان هذه الإيماءة مستعينا بمفهوم «الآخر» الذي يمثل ما هو غريب وما هو غير مفهوم من جانب الأخر كما من جانب الذات من حيث هي ذات ناطقة. فهذه الأخيرة تقلصت واختزلت لدى المريضة في شفافية الأنا الذي كانت ذات المريضة تتحدث «معه» عن نفسها كما يقول لاكان. مع العلم أن الأنا بنيويا ومنشئيا هو هيئة خارجة عن الكائن الذي يتعرف عن نفسه فيه. فليس من الغريب إذن إن أصبح مرسال الذات، وقد تم اختزاله في منبعه التخيلي، يُسمع من طرف المريضة وكأنه آت إليها من الخارج. إنه هنا ليس مرسال الآخر وقد تم استقباله على شاكلة معكوسة، وإنما هو مرسال ذات المريضة وقد تكون في هذا الخارج حيث يتموقع «الواقعي».
لكن ما هذه الاعتبارات إلا مقدمات. أما العرض الأساسي حول الذهانات في هذا السيمينار فيتمحور حول القراءة التي يقوم بها لاكان بخصوص مذكرات الرئيس شريبر. فهاهو يبدئ بطرح بعض المبادئ:
١- بـإمكاننا، من داخل الكلام بالذات، بين السجلات الثلاث: الرمزي وهو ممثل بالدال، والخيالي وهو ممثل بالدلالة والواقعي الذي هو الخطاب المرسل حقيقة في بعده الدياكروني.
٢- تحوز الذات على مواد دلالية كي تمرر مدلولاتها في الواقعي. لكن ليس نفس الشيء أن يقع الفرد الى حد ما في شباك دلالة معينة وبين تعبيره عن هذه الدلالة في خطاب مفاده جعلها تتوافق مع دلالات مختلفة تم توصله بها. وهنا يُطرح السوال لمعرفة ما إذا كنا، بخصوص الرئيس شريبر، نجدنا قبالة آلية ذهانية بامتياز، من طبيعة تخيلية، وتذهب عنده من الاختلاب الأول في الصورة الأنثوية الى ينوع نظام كوني تكون الذات فيه غارقة بالكامل في تخيلاته حول تماهيه الأنثوي.
٣- الآخر هو بالأساس من له القدرة، على غرار الذات، على المكر والكذب.
٤- ما يرتبط دياليكتيكيا بالبنية المركزية التي تجعل من كلام الذات لذات كلاما يمكن أن يمكر، يكمن أيضا في تواجد شيء ما لا يخدع. بمعنى آخر، فكرة المكر في حد ذاتها تفترض الاستناد إما الى سجل الواقعي وإما إلى كلام يتحدث بخصوصه. وهذه وظيفة يتم ملؤها بطرق تختلف باختلاف الأوساط الثقافية. بالنسبة لآرسطو على سبيل المثال، فإمها ترجع للأجرام السماوية. أما بالنسبة لنا فهي تبدو منذ ديكارت على أنها من شأن الإله الذي لا يمكنه المكر بنا.
بعد طرح لاكان لهذه المبادئ، لم تعترضه صعوبة في تبيان التعارض الذي يحصل للرئيس شريبر بخصوص ضرورات الحضور الرباني: الضرورة التي تبرر الحفاظ حواليه بديكور العالم الخارجي وضرورة الإله الذي سصبح البعد الذي من خلاله سيلقى المعاناة من الآن فصاعدا. فهاهنا سيُفَعل باستمرار تطبيق المخادعة التي ستحدث انقلابا بمستوى التفكير على جميع الأصعدة، سواء كانت أسطورية أم لا. وهكذا فإن العالم سينقلب الى ما يمكن نعته باستلهام شاسع لكنه لدى المريض، هو أيقن دليل على معاشه. وبهذا الأسلوب تيم مواصلة المخادعة من طرف المريض، ليس مع أحد أشباهه، لكن مع هذا الكائن الأولي الضامن للسجل الواقعي.
إن ما يتعلق به الأمر لدى الذهاني، يقول لاكان، ليس هو الواقع وإنما هو اليقين. فحتى وإن اعترف الذهاني بأن ما يختبره ليس من قبيل الواقع، فهذا الاعتراف لا يمس يقينه بأنه هو المعني والمقصود بما يحدث. فهذا ما يشكل ما نسميه بالعتقاد الذهاني. يشير لاكان رلى أن التمظهر الأول عند المريض لهذا الاعتقاد هو ما يسميه «قتل الأرواح». فهو يعتبر حاصل لا مراء فيه، لكن يبقى محتفظا لديه بطابع ملغز، إذ ما قد يعنيه قتل روح من الأرواح؟ كان شريبر يتساءل.
يشير لاكان كذلك إلى أن هذه الظاهرة بلغت ذروتها لدى شريبر في بلورة مهمته الدنيوية قصد خلاصه وانتهى به الأمر في آخر المطاف الى اعتبارها حلا لقضيته والحافز في نظره الى كتابة مذكراته. لكن، يقول لاكان، إذا سلمنا بأن شريبر كاتبا فما هو بشاعر إذ أن الشعر يعني ابتكار ذات تحمل في طياتها نظاما جديدا لعلاقة رمزية مع العالم. فليس لدى شريبر إذا ما يجعلنا لا نشك البتة في مصداقية ما نلاقية من خبرة أصيلة لدى سان جون دو لاكروا، أو لدى بروست أو نيرفال. فكل ما نجده لديه، فهو من قبيل الشهادة الموضوعية: إنه يعرض فيها لما تعرض له من اغتصاب و من تلاعب ومن تحوير ومن تقبيح وذم ومن تشهير. وعلى هذا المستوى يشير لاكان بما لا يترك مجالا للشك - خصوصا عند من يريد الإنصات لما يقوله - بأن هاهنا بالذات، في هذا النقص من القابلية الشعرية لدى شريبر، يكمن ما يسمى «قتل الأرواح».
وإن كان كذلك، يتساءل لاكان، فكيف يمكن ضبط مشكل شريبر نظريا؟ وما هي الآلية التي يرتكز عليها تكوين وبناء هذيانه؟
هناك نقطة حاسمة تجدر الإشارة إليها هنا: ما يسميه فرويد «إثبات بدائي» يسميه لاكان « ترميز بدائي» بمعنى أنه ليس ترميزا تقوم به الذات، وإن كان على الشاكلة الأولية التي تؤسس بها هذه الذات مسألة الحضور والغياب لديها، منظِّمة لهما على غرار الزوج اللفظي«فور ـ دا»، لكنه ترميز تنضوي الذات بداخله وحيثما يتواجد اللفظان قبل تواجدها. انطلاقا من هنا، ما أطلق عليه فرويد مفهوم «Verwerfung» يوازي لدى لاكان خللا في الترميز البدائي أو إقصاءا لهذا المستوى من الترميز، بالمعنى الذي أسلفناه. لكن أهو خلل أم إقصاء؟ إن النص اللاكاني يشير بكل وضوح الى أن ما حصل لدى شريبر هو خلل بحيث لا يمكن لذات شريبر، بأي حال من الأحوال، الولوج في ما لم يتم ترميزه لديها، فما بالك بإمكانية تحملها لعواقب هذا الترمير و افترضنا أنه حدث!
بالفعل، فرويد يؤكد بكل قوة بأن الأمر لدى شريبر لا يتعلق بكبت للوضعية الأنوثية كي يمكن الحديث عن عودة المكبوت في إطار عرَض عصابي كما لا يحق القول بإنكار لها أثناء القول بحيث يكون هذا الأخير متبوعا بعلامة النفي. إن الوضعية الأنوثية، كما يمكن لرجل ما أن يحتلها في إطار علاقة رمزية مع بقائه رجلا على المستويين التخيلي والواقعي، هذه الوضعية التي تمكننا من إرضاء قابليتنا الأساسية للاستقبال، وإن انحصر ذلك على استقبال القول، أصبحت بكل بساطة غريبة لدى شريبر، بل وقد ضربها الموت. إن الوظيفة الأنوثية في دلالتها الرمزية الأساسية، كما نتوقف عندها على مستوى الإنجاب، في ارتباطها مع الأبوة، هوذا ما بدا لشريبر على شكل انبثاق في الواقعي لشيء لم تكن له معرفة به أبدا. إنه انبثاق غريب بالكامل، سيخلف لديه انقلابا جذريا لكل مقولاته ويدفع به الى تغيير نوعي في عالمه.
وبالإجمال، لا يحصل «الحكم اللاكاني» على كل مغزاه إلا بتطبيقه على حالة شريبر. لأن العودة في الواقعي لما بقي من هذا الواقعي نفسه خارج شبكات الترميز البدائي، يُخلف هنا - اعتبارا لما يميز الذهاني من بحث جاد للتفكير المنطقي، بحسب لاكان - تغييرا كاملا في العلاقة مع العالم وذاك ما يهدف إليه كل نظام الهذيان لدى المريض. فهل ما يحصل هنا هو بمثابة علاج؟ لايكن قول ذلك، يؤكد لاكان، اللهم إلا إذا غالينا في الكلام.
فما الذي حصل إذن كي تبقى الوظيفة الأنوثية لدى شريبر خارج كل ترميز؟ يتعلق الأمر هنا، بحسب لاكان بالإخفاق الأكبر جذرية والأكثر تحطيما لعقدة أوديب. لكن لنواصل رويدا رويدا.
إن الاهتمام البالغ بدراسة هذيان شريبر، يقول لاكان، سيمكننا من الإحاطة بالجدلية التخلية في تطورها المتكامل. فإن كانت هذه الجدلية تتميز عما يمكننا تصوره من علاقة ذات طابع غريزية، أو طبيعي، فذلك بسبب بنية أصلية وهي بنية مرحلة المرآة. فهذه البنية، يقول لاكان، تجعل من عالم الإنسان التخيلي، عالما مفككا مسبقا. وقد انتبه المحللون على الدوام الى أن الهذيان يظهر حركية الهوامات وهي تتطور في دوامة الازدواجية.
إن الشخصين اللذين ينحصر عالم شريبر حولهما ويقلص، قد تكون أحدهما في مقابل الأخر وموازاة له. الواحد منهما يعرض على الأخر صورته المعكوسة. وهكذا نرى لاكان، بواسطة مقولته هاته، يضع حدا للخلط بين الإسقاط كا يفعل فعله بداخل الغيرة العصابية، على سبيل المثال، وبين ما قد يروادنا إلساقه بهذه الآلية في مجال الذهان.
بالنسبة للاكان، «عقدة أوديب» تعني نفس ما يعنيه «النظام الرمزي». فهما يعنيان ما يلي: كي تترسخ وتترتب علاقة الذكر بالأنثى، وهي أكثر العلاقات طبيعية لدى هذا الكائن «غريب الأطوار»، لابد من تدخل أو توسط نظام الكلام، وهو أمر لا يستقى من الطبيعة وإنما هو من باب اسم الأب الذي يجعل كل فرد معترف به اجتماعيا بصفته يحمل اسم فلان بن علان. فهذا الاسم لاينحصر على وجود الفرد ككائن حي وإنما يتعداه ليخلد ذكراه على حجر القبر. في حين أن الهوية التخيلية، من جهتها، فقدرها التفكك، وهو ما حتم لدى شريبر، يقول لاكان، تفكيك شخص بول فليشسيغ مثلا الى شخصين: فليشسيغ السفلي وفليشسيغ العلوي. بل إننا نرى شريبر نفسه وهو يبتكر شريبر آخر كنسخة ثانوية لشخصه بالذات وذلك لأنه قرأ نبأ موته في الجريدة. إلا أنه من الصعب في هذه الحالة معرفة من هو نسخة من، ومن هو الأولي لمن هو ثانوي. إن ما ينقص شريبر، بحسب لاكان، هو تدخل «الثالث» من حيث هو صورة لشيء ما ناجح ومتفوق وأنموذج لانسجام وتناغم.
أترك للقارئ عناية تتبع التحليل الدقيق الذي سيفتتحه لكان لهذيان شريبر انطلاقا من هنا. إنه تحليل يتعمق فصائل ودقائق هذا الهذيان في الفصل الثامن والتاسع والعشر من السيمينار، أما أنا فسأتوقف بعصض الشيء على تحليله الوارد في الفصل العاشر بخصوص مفهوم «Verwerfung».
لا يمكن توخي أي شيء ذي قيمة اعتمادا على المستوى التخيلي في تناول الذهان بحيث أن الآلية التخيلية هي ما يعطي للاستلاب الذهاني شكله وليس ديناميته. إن الواقع، بحسب لاكان موسوم مسبقا بما يسميه «الإعدام الرمزي» ويفسر ذلك قائلا: «يأتي الانسان بمفهوم النهار مثلا على خلفية ليست بخلفية ليل واقعي وإنما على خلفية غياب ممكن للنهار، قد يسكنه الليل والعكس صحيح. وهكذا فإن النهار والليل هما منذ البداية رمزان دلاليان وليسا من قبيل الخبرة الصرفة» (ص ١٦٩). هناك إذن، من منظور لاكان، ضرورة بنيوية للتسليم بمرحلة بدائية تتمظهر في العالم أثناءها الدوال في حد ذاتها. وهذا التمظهر يتطلب سبق اللغة. فالنهار من حيث هو نهار ليس مظهرا في حد ذاته وإنما كي يظهر الى الوجود فأنه يشترط التناوب المركزي لألفاظ توحي بالحضور والغياب. فحقل الترابط الرمزي هذا هو ما يقصده لاكان، إذ فيه تحصل «Verwerfung»: دال أولي يبقى محصورا في الغياهب البرانية، هذه هي الالية المركزية التي يفترضها لاكان كأساس للعظام.
لكن ما هذا إلا تصور من قبيل الأسطورة «إذ ليس هناك من وجود للحظة ما أو فترة ما تحصل فيها الذات أولا على الدال البدائي ثم بعد ذلك تتابع المدلولات وبعد ذلك أيضا يشابك الدال والمدلول أيديهما في رقصة تدخلنا في مجال القول أو الخطاب» (ص ١٧٢). فإن كان لاكان قد أدخل أطروحته من هذا «الجانب السيء»، وهو جانب النشأة، فإن اعتماد هذا الجانب يبدو، كما قال بشيء من الترفع، ضروريا كي يحس مستمعيه بنوع من الارتياح ( في المألوف).
لكن هذا الجانب لا يبدو مع ذلك سهل المنال، لذا فقد عاود المحاولة مرات. فنجده مثلا يحاول الاستغاثة بفكرة تعددية التسجيل في الذاكرة وهي فكرة كان فرويد قد تعرض لها في رسالته لفليس رقم ٥٢، مما أدى بلاكان الى القول إن « الإحساس الأولي للمشهد البدائي بقي لدى صاحب الذئاب، رغم توفره على وظيفته الدالية، غير مستغل نفسيا طيلة سنوات قبل أن يتمكن من التأثير في حياة المريض. هكذا نرى بأن الدال معطى بصفة بدائية، لكن يبقى منعدم القيمة إن لم تقم ذات الفرد بإيلاجه في قصة حياتها» (ص ١٧٧). فالدال دائما موجود سبقا، لكنه مع ذلك ىكون منعدم القيمة، فهل معنى هذا أن الذات في سيرورة ترخنتها، هي من يعطي للدال البدائي مدلوليته؟
عند تطرقه فيما بعد للسؤل الهستيري «ماهي امرأة؟»، اقتيد لاكان للقيام بملاحظة عميقة مفادها أنه إكان هناك عدم توازي بين الأوديب لدى الذكر والأنثى فمرد ذلك أساسا إلى المستوى الرمزي. وبالفعل وحدها الجشطلت الفالوسية هي من يمد المجتمع البشري بالدال الذي يمَكن من التمييز بين الجنسين، إذ يصبح أحدهما معلوم والآخر غير معلوم. وإن سمح لي أن استعمل هنا ما قاله لاكان في موضوع تناوب الليل والنهار، بإمكاني القول بأن الرجل يأتي ليس على خلفية امرأة واقعية وإنما يأتي على خلفية غياب ممكن للرجل، تقطن فيه المرأة. فالرمزى إذن «يفتقر للمادة»، بمعنى أن «الجنس الأنثوي يطبعه الغياب، مما يجعله أقل جاذبية من الجنس الذكوري لما يميزه من إثارة وهذا ما يؤدي الى ظهور عدم ترازي مطلق.» (ص ١٩٩). يبقى مع ذلك أن هذا «الإفتقار المادي» الذي يؤدي بـأحد الجنسين أن يتخذ صورة الجنس الآخر كأساس لماهيته الجنسية، هو عينه بالنسبة للعصابي كما للذهاني.
ولكي يتغلب على كل هذه المشاكل، يأخذ لاكان المسألة من أعلى مستوياتها. ففي فصل من فصول سيميناره، عنونه جاك ألان ميللير «الدال في حد ذاته لا يدل على شيء» ينطلق لاكان من تحديد البنية باعتبارها مجموعة عناصر تكون جمْعا متغيرا ويشيرا مباشرة إلى أنه يقول «جمعا» وليس «كلا». وهذا ما قد يبدو مناقضا لإشاراته التي يقول فيها إن نظام اللغة يغطي كامل الدلالات الممكنة. لكن «الـزمر ليس كذلك، يضيف لاكان، لأن هذا لا يعني أن نظام لغة ما بإمكانه أن يحيط بكامل إمكانات الدال ويستنفذها» (ص ٢٠٩). يتم رفع الالتباس إذن عندما نفرق بين «المدلولات الممكنة» بمعنى تلك التي تم تحقيقها في اللغة وبين «إمكانات الدال» في تحديده الدائم لمدلولات جديدة.
وبالفعل ستتعلق عروض لاكان اللحقة في هذا السيمينار، بالدال من حيث هو في انتظار أن يستعمله شخص ما في الكلام. وبالعكس من نظرية التواصل، يرى لاكان أنه من غير المبرر الحديث عن الدال بخصوص ما لا يتجاوز كونه مرسالا أو ردة فعل فقط. فلا نكون بحضرة الدال إلا عندما نحيط علما، عند وصول المرسال بفحوى الرسالة و «ليس هناك تحديد علمي آخر للذاتية إلا انطلاقا من امكانية استعمال الدال من أجل أهداف دلالية بحتة وليس من أجل مدلولات، بمعنى أن الأولى لا تعبر عن أي علاقة مباشرة قد تصبو إلى إشباع الشهية» (ص ٢١٤).
وهكذا يمكننا أن نلاحظ بأن تفكير لاكان بخصوص الدال هو في تلاقح وتحاور مستمر ودائم مع تفكيره حول الذات، وهذا ما يمز نظرته لأحدهما عن أي منظور مختلف. فالهوة التي لا يمكن أبدا ردمها بين الدال والمدلول هي ما يجعل الذات ليس فقط ذاتا للمدلول، وإنما أيضا وقبل كل شيئ ذاتا للدال. من هنا تنبع ملاحظة لاكان التي يقول فيها إن الدال يجب الأخذ به في ارتباطه مع المرسال، لكن أيضا وقبل كل شيء في الفعل الذي يوثق ويقر باستقبال الرسالة. وهنا تكمن مسوولية لا يمكن حتى التكهن بها إذا ما حصل استغلال الدال من أجل تحقيق هدف تم إعداده مسبقا وبالخصوص هدف إشباع الحاجات. فها هنا تنمو بذرة التفرقة بين الرغية والطلب. بالرغم من ذلك علينا أن نلاحظ بأن هذه الحرية التي تتمتع بهذا الذات بصفتها سيدة الدال لابد لها من حدود لأن ذاتية الذات كما رأينا تبقى مشروطة بالترميز البدئي. فليس إذن ما يثير الاستغراب عندما يستعيد ها هنا السوال التالي: ما هو هذا الدال الذي بإدخاله يتأسس الأوديب والذي يؤدي انعدامه الى «إلغاء» الوضعية الأنوثية؟
يؤكد لاكان عي أن الاحتكام لآلية «كأن» التي رفعت هيلين دويتش من قيمتها كبعد مهم من إعراضية الفصام يأتينا بالجواب: يتعلق الأمر بآلية تعويض تخيلي للأوديب الغائب الذي كان بوده أن يعطي لذات الفصامي فحولته، ليس على شاكلة صورة الأب وإنما على شاكلة الدال، إسم الأب. فكيف يمكن تصور هذا الغياب إذن؟
إن الأب ليس هو الوالد. إنه ليس كذلك لدرجة جعلت بعض المجتمعات ترجع هذه الوظيفة الى روح من الأرواح. لكن هذا لا يعني بأن الناس هناك يجهلون العلاقة بين الجماع والولادة. من ناحية أخرى، إنها الوظيفة نفسها التي يقوم شريبر بتحقيقها على المستوى التخيلي. بالنسبة للكان، إن الأب، بحسب المقام الذي يشغله في نظام القرابة، هو من يمتلك الأم في سلام من حيث المبدأ، وهو من يحافظ مع الطرف الآخر من المعالدلة، ألا وهو الإبن، على علاقة ليست عدوانية وإنما علاقة تحالف وأمان. لكن، يضيف لاكان، لقد حصل وتعرفنا على شخصيات أبوية موسومة بالتسلط اللامتناهي وبالتغول وبالرأي الأوحد والوحيد. في هذه الحالة يبلغ الاستلاب أقصاه. فلم يبق هذا الأخير مرتبطا «بدال معدِم» كما هو الشأن في بعض حالات العلاقة التنافسية مع الأب وإنما الى «انعدام الدال» الذي يفرغ من معناه ومن كل ملا يمثله في مجال الحقيقة. وهكذا تجد ذات الفرد نفسها غير مؤهلة بالتمام لتحمل تحقيق دال الأب على المستوى الرمزي. ولن يبق ي متناولها سوى الصورة التي تُختزل فيها الوظيفة الأبوية. فما قد ينجم عن ذلك بخصوص علاقة الذات بالدال؟ يتساءل لاكان.
لقد أثار انتباه لاكان سمتين تميزان الجمل التي ترددها الأصوات المتعددة في هذيان شريبر: اقتصار هذه الجمل على الجانب التركيبي وكذلك انعدام كل ما يمت الى استعارة حتى وإن كانت الجملة تتضمن معنى ما. وهذا ما يدفع، بدون مغالات في التشبيه، الى التفكير في مرض الأفازيا لممكتشفه فيرنيكه. من المعلوم أن لاكان يرجع هنا الى التفرقة التي يقوم بها رومان جاكوبسون في اللغة بين محور الاستعارة أو المجاز ومحور الكناية. إلا أن لاكان يرى بأن الاستعارة تنتج مدلولة تنزع الدال من روابطه المعجمية. فوجه التشابه الوحيد الذي يعترف به بين «بوعز» و «حزمته» ترجع الى الموقع في الجملة. إن استعارة ما تنبني قبل كل شيء اعتمادا على ترابطها الموضعي في الجملة، كما يقول. وهكذا فإن اللغة هي قبل كل شيء نظام من المواقع المتناسقة. وفي زمن لاحق فقط، يقوم هذا النظام بإعادة إنتاجه من الداخل بخصوبة وإبداعية لا سابق لهما.
فحتى نتمكن من أن نضبط عن قرب تغلب الكناية لدى شريب وبالخصوص التشارك الصوتي للكلمات، يجب بحسب تقدير لاكان، إعادة النظر في علاقة الذات بالآخر كي تتم الانتباه، موازية مع تعاكس المجاز والكناية، الى التعاكس بين وظيفة الكلام المؤسِّسة من جهة وكلمات السر من جهة أخرى، حيث تتكون في الغالب الأعم، الأسئلة والأجوبة. وهذا ايعاكس ملحوظ في استعمالين اثنين لكلمة «أنت» كدال وكإشارة. يوضح لاكان ذلك بأمثلة متعددة، ويأسفني أن أكتفي باستحضار واحد منها. فعندما أقول «أنت من يتبعني» فإنني أصرح باستدعاء إن لم يكن بأمر يخص «الأنت» فيه بمن هو قبالتي، ويمكن لهذا «الأنت» في مناسبة أخرى أن يعنيني كما هو الحال في تعبير «أنت لن تتغير» لحظة أوجهه لنفسي. إنه «أنت» الأنا الأعلى و«أنت» الأمر الهذَّاء. وفي المقابل، «أنت الذي ستتبعني» هي جملة مناداة وتومئ الى المقام الذي سيتأسس فيه الكلام، بمععنى أنه المقام الذي تتوصل منه الذات بمرسالها على شاكلة معكوسة. إنه مقام الآخر (الأكبر) الذي يبرز هنا في أصالته كثالث، والذي يأتي منه الجواب بخصوص ما يحمله النداء من طلب للتنصيب.
وهكذا نجدنا مع لاكان أقرب بكثير من مأساة شريبر. ففي المكان الذي استدعي إليه شريبر كأب - اللغة تقول «أنت» كما أكد لاكان في «خطاب روما»- وعند مناداة إسم الأب، لاشيء يجيب. انطلاقا من هنا، فإن الطريقة الوحيدة التي بقيت بين يديه كردة فعل قادرة على شده الى مجال اللغة وقادرة على مده بأمان المدلولية المألوفة، يكمن في امتثاله اللامتناهي بداخل هذا التعليق المسترسل الهزيل حول مجرى الحياة، الذي تشكله لديه الأوتوماتيكية العقلية.
ينتهي السيمينار بمداخلة من لدن لاكان حول النقاش الذي دار بين عايدا ماكَلبايْن وفرويد. لاكان يساند ملاحظة الأولى التي تؤكد على عدم وجود أثر لمسألة الخصاء لدى شريبر وإنما الأمر يتعلق عنده بالبتر وبنزع الأعضاء التناسلية. لكن مع ذلك، لاكان يطعن في اعتماد مجال التخيلي وحده، كما فعلت عايدا ماكالباين، في تفسيرها لهذيان شريبر. في نظرها هذيانه يرتكز على هوام قبتناسلي، يرغب الطفل من خلاله مضاهاة أمه في قدراتها الولادية، لكن الأهمية المركزية التي أولاها فرويد على الدوام لعقدة الخصاء لا يمكن فهمها إلا إذا ما اعترفنا بأن «الثالث» الذي هو الأب له عنصر دلالي لا يمكن اختزاله في أي إشراط تخيلي كيفما كان. وهنا تكمن مأساة شريبر. «لا يتعلق الأمر بعلاقة الذات بمكان تتم الإشارة إليه بداخل البنيات الدلالية المتواجدة، وإنما بعلاقته، تحت شروط جد خاصة، بالدال في حد ذاته، وهذه العلاقة تؤسس للدخول في الذهان» (ص ٣٦٠)
لقد توقف القارئ بدون شك عند هذا «الالتقاء بالدال في حد ذاته» من طرف الذات، في حين يتم إرجاع انفجار الذهان إلى «إغفال» (Forclusion) هذا الدال، وهو لفظ اقترح لاكان تبنيه نهائيا كترجمة لمفهوم «Verwerfung» لدى فرويد. كثيرة هي مقتطفات الكتاب التي تدفع الى هذا النوع من الحيرة. ولكي يتم رفع هذا الإحساس يكفي التسليم بأن الدال في حذ ذاته لا يدل على شيء بالخصوص ما عدا فعل الدلالة نفسه، وهذا الفعل هو الخاصية ذاتها التي تجعل الدال يحدد المدلولية انطلاقا من الترابطات التي يعقدها مع دوال أخرى. في حين إن الترميزات البدائية التي بانعدامها ينعدم كل واقع إنساني، هي محددات تؤدي الى معنى بحسب لاكان. ومن ناحية أخرى، فإن «الإلغاء» يعني إفراغ الدال من كل ما يتم إثباته فيه بدائيا، بحيث عندما تلتقي ذات الفرد مجددا بهذا الدال، بمعنى رده على نداء منها، فإنها لا تجد في حوزتها إلا صورة الأب، فتقوم بتضخيمها لدرجة تجعل منها «الهُوَ» (ضمير الغائب) الذي يبتلع جميع مناحي حياة الذات،
أما الأشياء فإنها تضمحل وتتلاشى، بحسب لاكان، لتصبح مجرد ظلال حاملة أصواتا.
إن النقاشات التي غلبت على سيميناري لاكان في السنتين السابقتين، نجدها قد اختفت بالكامل خلال هذا السيمينار. إنه شيء يثير الانتباه إذا ما علمنا أن خطابه كان موجها بالخصوص في هذا السيمينار لأطباء العقل ومحللي النفس. وربما قد يفسر انعدام النقاش هذا بكون الأفكار التي كان يقدمها لاكان آنذاك جديدة كلية على مستمعيه (إذ لم يستق من الطب العقلي إلا مفهوم الأوتوماتيكية العقلية الذي أتى به أستاذه دو كليرومبو). كان مستمعو لاكان يتلقون أفكارا كهذه لأول مرة، قبل أن يغلفها تِردادها الببغاوي من طرفهم بطابع اليقين الزائف. ولا ننسى كل تلك الصعاب النظرية التي كان لاكان يجدُّ في حلها خلال مساره التنظيري، كمحاولته التوفيق بين توكيده على استقلالية الدال عن المدلولية وبين عملية ترميز بدائية لا يمكن أن تفعل فعلها إلا بفرزها لمعنى ما، ذاك المعنى بالذات الذي يقوم الأب الواقعي بدعمه. أضف إلى ذلك أن لاكان كان يطلب من تلامذته أن يتبعوه ليس فقطا على مستوى الأفكار وإنما أيضا في خدمة التحليل النفسي. لكن، حتى وإن أعطيناه صيغة المنادى: «أنت الذي ستتبعني»، فإن نداءا كهذا يبقى من قبيل الطلب الذي لا يصعب علينا تصور تبعاته المزعجة، بل والمقلقة خلال تلقين التحليل النفسي الذي يتم عادة (مع الأسف) في إطار علاقات تحويلية شديدة.
أما بخصوص أخطاء طباعة كتاب السيمينار، فلا أرى أنها تتعدى مستوى ما يحصل عادة في مشروع كهذا. وبما أني لم أبذل جهدا في تعداد هذه الأخطاء فإنني سأكتفي بالتذكير هنا بمثالين فقط: يعطي جاك ألن ميلر للجزء الأخير من الفصل السادس عشر، العنوان التالي: «وظائف الأب الثلاثة»، في حين يتعلق الأمر بثلاثة طرق مختلفة للتعامل مع وظيفة الأب. وبالمثل نقرأ في الصفحة ٢٦١ ما يلي: «... مسألة تأثير كل ما يصيب العلاقة بالأخر من اختلال في وظيفة اللغة»، عوض كتابة «بالآخر».