مفاتيح التحليل النفسي
مقابلة مع جاك لاكان، أجرتها مادلين شابسال، الكاتبة الفرنيسة، لحساب مجلة الأكسبريس التي نشرته في عددها 310، بتاريخ 31 ماي 1957.
س : إن المحلل النفسي يوحي بنوع من الرهبة. فيبدو لنا أن بإمكانه أن يقودنا الى حيثما يشاء... وبأنه على علم أكثر منا بما يحدد تصرفاتنا.
لاكان : لا فائدة من كل هذه المبالغة. ثم، أتظنين بأن هذا التأثير ينحصر على المحلل النفسي وحده ؟ فخبير الإقتصاد في نظر الكثيرين، يحوم حوله كثير من الغموض والإستغراب كما هو حال المحلل. وفي زمننا هذا فإن شخص الخبير هو الذي يترك فينا إحساسا بالرهبة.
ففي علم النفس مثلا، بالرغم من كونه كان قائما كعلم، فإن كل واحد من اختصاصييه يعتقد أن بإمكانه الولوج الى النفس من الداخل. ومع مجئ التحليل النفسي، ظنوا أنهم فقدوا هذا الإمتياز، إذ يُعتقد أن بإمكان المحلِّل أن يرى ما هو أبطن فيما يبدو لكم أكثر وضوحا وجلاءا. وها أنتم تحت ناظريه عراة، مكشوفون، ولا تدرون ما انتم عنه مبينون.
س : فها نحن نجدنا تحت نوع من الإرهاب. إننا نحس وقد تم انتزاعنا بعنف من ذواتنا...
لاكان : إن التحليلي النفسي، في نطاق الإنسان، يتمتع فعلا بكل المميزات الثورية والإنقلابية التي حظي به، في مجال الكون، المنظور الكوبرنيكي الذي نزع عن العالم مركزيته. وهكذا فإن الأرض التي هي مسكن الإنسان لم تعد مركز الكون. وبالمثل، فإن التحليل النفسي يخبركِ بأنكِ لستِ مركز ذاتك، بحيث توجد بك ذات أخرى، إسمها اللاشعور.
إنه خبر لم يتم تقبله في البداية. وتم اعتبار ذلك مجرد ترهات لاعقلانية أريد إلساقها بفرويد. لكن الأمر على العكس من ذلك تماما. فلم يقم فرويد فقط بعقلنة ما بقي يقاوم كل عقلنة حتى الآن، وإنما أيضا أبان وأفصح عن عملية عقلانية معقلِنة في حد ذاتها، بمعنى أنها تُعقلن وتعمل بصفتها منطقا، من غير علم الذات بذلك، وذلك في المجال المخصص كلاسيكيا لللاعقل، وهو مجال المشاعر.
فهذا ما لم يتم غفرانه لفرويد. وقد كان من الممكن أن يُتقبل منه الإتيان بفكرة القوى الجنسية التي تستحوذ فجأة على الذات بدون إعلان سابق وخارجا عن كل منطق. لكن أن يكون الجنس منبع ومقر كلام، وأن يكون العصاب مرضا يتكلم، فهذا ما تم اعتباره أمرا غريبا أتى به فرويد مما جعل حتى البعض من أتباعه يفضلون أن نتحث بدل ذلك، عن أشياء مغايرة.
يجب ألا نرى في المحلل "مهندسا للأرواح" ؛ فإنه ليس فيزيائيا يعمل على إقامة علاقة السبب بالعلة. فعِلم المحلل عبارة عن قراءة وهي قراءة المعنى. ولهذا بالضبط، ومن دون أن نعرف ما يختبئ وراء أبواب مكتبه، فإننا نجدنا ميالين لاعتباره ساحرا، وربما قد يمتلك قدرة أكبر من السحرة الآخرين...
س : وهو الذي اكتشف كل تلك الأسرار الرهيبة، التي تنبعت منها رائحة الكبريت...
لاكان : إلا أنه يجب تحديد من أي نوع هي تلك الأسرار. إنها ليست أسرارا من قبيل تلك التي تمكنت العلوم الفيزيائية أو الكيميائية من اكتشافها. فإذا كان التحليل النفسي يسلط الضوء على مسائل الجنس، فليس بالتعرض لها من جانب الواقع أو من خلال التجربة البايولوجية.
س : لكن فرويد قد اكتشف، على منوال اكتشاف قارة مجهولة، جانبا جديدا من النفس، سواء سميناه "لاشعورا" أو سميناه بطريقة مغايرة ؟ إن فرويد في هذا المجال هو بمثابة كريسطوف كولومب !
لاكان : إن وجود جوانب كاملة من الوظائف النفسية خارجة عن قبضة الشعور، هي حقيقة لم ينتظر مجيء فرويد للتحقق منها. أما إن كنتِ تتثبتين فعلا بمقارنة ما، فمن الأجدى أن نشَبه فرويد بشامبولين ! إن الخبرة الفرويدية ليست من قبيل تنظيم الغرائز أو القوى الحياتية. فالتجربة الفرويدية لا تتكشف هذه الأخيرة إلا من حيث مفعولها، إن أمكن القول، على مستوى ثاني من الفعالية. إن فرويد لا يتعامل مع المستوى الأول لتأثيرات الغرائز. فما يمكن تحليله، ما هو كذلك إلا لكونه مترابط بداخل ما يشكل فردانية تاريخ الذات. ولا يمكن لذات الفود أن تتعرف عن نفسها بداخل هذا التاريخ، إلا لكون التحليل النفسي يسمح بعملية "تحويل" هذا الترابط.
بمعنى آخر، عندما يقوم الفرد بعملية "كبت" فإن هذا لا يعني بأنه يرفض الإعتراف بما يمكن أن نعتبره غريزة - ولتكن على سبيل المثال غريزة جنسية تحاول التمظهر على شاكلة جنسمثلية - لا، إن الفرد لا يكبت جنسيته المثلية وإنما يكبت الكلام الذي تلعب فيه هذه الجنسية المثلية دور الدال.
أترين ؟ فما يتم كبته ليس بشيئ غامض ولا بضبابي. فليس هو نوع من الحاجة أو الميل قد ينتظر ارتباطه (لكنه لم يحصل على ارتباط لكونه بقي مكبوتا) إنما هو خطاب تم ارتباطه، وتم تركيبه في لغة. وهذا ما هو أساسي في الأمر.
فأينما كان "هو" مكبوتا، فإن "هو" يتكلم...
س : إنك تقول بأن الذات تكبت خطابا مترابطا ومركبا في لغة. لكن ليس هذا ما نحس به عندما نجدنا أمام شخص يتعرض لصعوبات نفسية، كالشخص الخجول مثلا أو المصاب بالوسواس القهري. وتصرفه يبدو سخيفا وغير مترابط. وإذا ما تصورنا بأن هذا التصرف قد يدل على شيئ ما، فقد يبدو هذا الشي جد غامض وتتم الغمغمة عنه بمستوى أدنى بكثير من مستوى اللغة. ونحن أنفسنا، عندما نحس بأننا مقودين بقوى غامضة، قد نعتبرها "عصابية"، فإن هذه القوى تتمظهر بالفعل عبر تحركات غير منطقية مرفوقة بخلوطات وبقلق.
لاكان : بخصوص الأعراض، إن ما تتعرفين عليه وكأنه خالي من كل منطق، لا يبدو لكِ كذلك إلا لأنك تأخذين هذه الأعراض منعزلة وتحاولي تأويلها مباشرة. فلتنظري الى الهيروغليفات المصرية. فطيلة الوقت التي بقينا فيه نبحث عن النعنى المباشر لرسوم النسور أو الدجاج أو رسوم الأشخاص الواقفة أو الجالسة أو المتحركة، ماكان من الممكن فك أسرار الكتابة الهيروغليفية. وذلك لان علامة "النسر" في ذاتها وبمفردها، لا تعني شيئا. إنها لا تحصل على قيمتها الدلالية إلا بداخل المنظومة التي تنتمي إليها وتنضوي بها. وهكذا، فإن المظاهر التي لنا بها أمر في التحليل، هي على هذه الشاكلة. فهي من قبيل لغة.
فالمحلل النفسي ليس من فصيلة المستكشفين للقارات المجهولة، أو أعماق البحار، وإنما هو من فصيلة الألسنيين. إنه يعمل على فك رموز وقراءة الكتابة التي هي أمام ناظريه والمعروضة تحت أعين الجميع. لكن لا يمكن فك رموزها وقراءتها إلا بالتمكن من قوانين تنظيمها والإمساك بمفاتيحها.
س : أنت تقول بأن هذه الكتابة هي تحت أنظار الجميع. لكن فرويد، إن قال شيئا جديدا فمفاده أننا، بخصوص المجال النفسي، إذا ما مرضنا فما ذلك إلا لأننا نخفي ونخبئ جزءا من ذاتيتنا، بمعنى أننا "نكبت". في حين أن الهيروغليفات من ناحيتها، لم تكن مكبوتة وإنما هي مسطرة على الحجر. فلا يمكن إذن لمقارنتك أن تكون كاملة وكافية ؟
لاكان : بل بالعكس، يجب الأخذ بها حرفيا : إذ ما يتوجب قراءته في تحليل النفس، فهو على الدوام هنا، متواجدا منذ البداية. أنتِ تتحدثين عن الكبت وتنسين شيئا مهما وهو أن الكبت بالنسبة لفرويد، وبالكيفية التي تحدث بها عنه، لا ينفصل عن الظاهرة المسماة "عودة المكبوت". فأينما حصل كبت، يستمر شيئ ما في الحراك. شيئ ما يستمر في التكلم. وبفضله يمكننا تحديد مركز الكبت والمرض، ويمكننا القول "هاهنا".
إنها فكرة صعبة الفهم، وذلك لأننا عندما نتحدث عن "الكبت"، فإننا نتخيل عملية ضغط - ضغط المثانة مثلا - على غرار كتلة غامضة وغير محددة تضغط بكل ثقلها على باب نرفض فتحها في وجهها. في حين أن الكبت من وجهة نظر التحليل النفسي، ليس هو كبت شيء وإنما كبت حقيقة ما.
فما يحدث عندما نبغي كبت حقيقة ما ؟ إن تاريخ الإستبداد بكل حذافره يأتينا بالجواب : فهذه الحقيقة المكبوتة تعبر عن نفسها في مكان آخر، على مستوى آخر وبلغة مشفرة ومستترة. وهذا مايحدث بالضبط مع الوعي : فالحقيقة المكبوتة تستمر في التواجد وتحتفظ على فعاليتها، لكنها تنتقل الى لغة أخرى، لغة العُصاب. مع اختلاف بسيط هو أننا لم نعد قادرين على القول بمن هي هته الذات المتكلمة. لكن يمكننا القول بأن "هو" يتكلم، بأن "هو" يستمر في الكلام. وما يحصل أنذاك يمكن قراءته وفك أسراره بالكامل، تماما كا تُقرأ - مع نوع من الصعوبة - كتابة سقطت في طي النسيان.
فالحقيقة لم يتم القضاء عليها ولم تسقط في هاوية. إنها هنا، عارضة نفسها ومتواجدة، لكنها أصبحت "لاشعورية". فالذات التي كبتت الحقيقة لم تعد تقتاد نفسها. إنها لم تبق في مركز خطابها، فتستمر الأشياء في التحرك من تلقاء ذاتها، ويستمر الخطاب في ترابطه، لكن في خارج الذات وخارجا عن إرادتها. وهذا المكان، خارج الذات هذا، هو ما نسميه با"للاشعور" وبكل دقة.
فها أنتِ ترين جيدا بأن ما فقدناه ليس هو الحقيقة. أما ما فقدناه فهو مفتاح اللغة الجديدة التي تعبر الحقيقة من خلالها عن نفسها من هنا فصاعدا. وهاهنا يتدخل المحلل النفسي.
س : أليس هذا تأويلك أنت ؟ إنه ليس تأويل فرويد على ما يبدو.
لاكان : إقرئي "تفسير الأحلام". إقرئي "سيكوباتولوجية الحياة اليومية". إقرئي "النكتة وعلاقتها باللاشعور". فيكفيك فتح أحد هذه المؤلفات في أية صفحة تشائين، لتعثري بكل وضوح على ما أحدثك عنه. فكلمة "رقابة" مثلا، لماذا اختارها فرويد مباشرة عند مستوى تأويل الأحلام، كي يعبر بها عن الهيئة المثبطة، وعن الهيئة الكابتة ؟ إننا نعرف جيدا ما هي الرقابة. إنها إكراه يتم فرضه بواسطة مقص. وعلى ماذا ؟ ليس على أي شيئ يمر في الهواء، وإنما على ما يُكتب، على خطاب، على خطاب تم التعبير عنه في لغة.
نعم. إن المنهجية الألسنية تتواجد في كل صفحات مؤلفات فرويد، فنراه دائما يشير الى مراجع ويقوم بتشبيهات وتقاربات ألسنية...
ثم أيضا، في إطار التحليل النفسي، لا نطلب من المريض، في نهاية المطاف، غير شيء واحد ووحيد : وهو أن يتكلم. فإن كان للتحليل النفسي من وجود، وإن كان له من أثر، فذلك فقد لإرتباطه بالبوح وبالكلام. فبالنسبة لفرويد، في نظري، لا يبزغ الكلام لدى الكائنات كما تفور عين ماء. لتنظري كيف يتم الحديث خطأ وكل يوم عن تعلم الطفل من خبرته : يقال بأنه يضع أصبعه على المقلاة فيحترق. وانطلاقا من هنا، يتم الإدعاء بأن تعرض الطفل لما هو ساخن أو بارد، وتعرضه للخطر، يجعله يستنبط، ويبني مجمل الحضارة....
إنه تفكير من السخافة بمكان. فانطلاقا من كونه قد تعرض للحرق، فإنه يجد نفسه قبالة أمر أكثر أهمية بكثير من اكتشافه لما هو ساخن أو بارد. وبالفعل فإن الطفل عندما يتعرض للحرق، فلا بد من وجود شخص آخر يعطيه درسا ويرتب له خطابا حول ما حصل. ثم إن الطفل يضطر الى بذل مجهود للدخول في هذا الخطاب الذي نغدقه عليه، أكثر بكثير مما يبذل من مجهود لتجنب المقلاة. وبتعبير آخر، فإن الإنسان الذي يأتي الى الوجود يلزمه أن يتعامل أولا وقبل كل شيئ مع مع اللغة ؛ فهذا معطى أولي. إنه منغمس فيها حتى قبل ولادته. أليس له حالة مدنية ؟
إن المولود الجديد يجد نفسه مغلفا بالكامل بشبكة اللغة هاته التي تستقبله وفي نفس الوقت تسجنه.
س : إن ما يجعل تشبيه الأعراض العصابية بخطاب متماسك، يصعب تتقبله وذلك لأننا لسنا ندري لمن هو موجه هذا الخطاب. فهو منظم من أجل لا أحد، بحيث أن المريض، والمريض على الخصوص، لا يفهمه، ويحتم تواجد اختصاصي يعمل على فك رموزه. وربما أن الهيروغليفات قد أصبحت غير مفهومة، لكن إبان استعمالها فإن مهمتها كانت تقوم بإبلاغ بعضهم ببعض الأمور والأشياء.
فما ماهي هاته اللغة العصابية التي هي ليست فقط لغة ميتة والتي ليست فقط لغة خاصة، بحيث أنها غير مفهومة من طرف المريض ؟ ثم إن لغة ما، هي ما نقوم باستعمالها. لكن هذه اللغة هي على العكس، تُفرض على المريض فرضا. أنظر الى الشخص الوسواسي، إنه يحاول بكل جهده إبعاد الفكرة القهرية عنه، يحاول الخروج من هذا المأزق...
لاكان : هنا بالضبط تكمن الملتبسات التي تشكل موضوع الإكتشاف. فإن كانت هذه اللغة غير موجهة لأحد، فإنه من غير الممكن سماعها من طرف آخر في عملية التحليل النفسي. أما بخصوص المسائل الأخرى فيجب التحقق بما يتعلق من الأمر ولذا يجب موضعته تحديدا بداخل حالة معينة. وهو يتطلب عرضا مطولا. فإذا ما لم نموضعه بالتحديد، فإننا نسقط في خلط يتعذر فهمه. لكن ها هنا من المكن أن يبدو ما أتحدث لكِ عنه، جليا ومكتمل الوضوح : إنه يخص الكيفية التي يُترجَم من خلالها الخطاب اللاشعوري المكبوت على مستوى العَرض. وسترين بأن الأمور ستبدو لكِ دقيقة الى أبعد حد.
لقد تحدثتي عن الشخص الوسواسي. فهاكي مراقبة فرويد هاته التي نجدها في كتابه : "خمسة تحاليل نفسية" والمسماة "صاحب الجرذان".
كان صاحب الجرذان وسواسيا كبيرا. شاب في ريعان شبابه، ذو تكوين جامعي، جاء الى ڤيينا لاستشارة فرويد نظرا للمعاناة القهرية التي استحوذت عليه : وهذه المعاناة تأخذ أحيانا شكل مخاوف بخصوص المقربين الأعزاء لديه، وأحيانا تتمثل في رغبة تجتاحه للقيام بأفعال قهرية، كرغبته في قطع رقبته بنفسه مثلا أو عبارة عن صدود وموانع تتكون لديه بخصوص أشياء وأمور تافهة...
س : وعلى مستوى الجنس ؟
لاكان : هاهو خطأ في التعبير ! وسواس قهري لا يعني أوتوماتيكيا وسواسا جنسيا ولا حتى هذا النوع من الوسواس أو ذاك بصفة خاصة. أن نكون مصابين بالوسواس يعني أن نكون مقودين بآلية وغارقين في مأزق يشتد أكثر فأكثر، لا حد له ولا نهاية.
فكلما كان الوسواسي على وشك تحقيق فعل ما أو أداء واجب ما فإن قلقا خاصا يعترض سبيله فيما إذا سيتمكن من تحقيق مراده ؟ وفيما بعد، حتى إذا ما توصل الى ما يريد، فإن إحساسا مؤلمًا يستحوذ عليه كي يتحقق مما فعل لكنه يتوانى عن التحقق خشية أن يعد أحمقا خصوصا وأنه يعلم حق العلم بأنه نفذ ما كان يصبو إليه.... فها هو وقد انخرط في دورات من التحققات والإحتياطات والتبريرات التي تتسع أكثر فأكثر. وهكذا تصبح حالة الطمأنينة مستعصية عليه، لأنه يكون قد سقط في مصيدة متاهات زوبعة داخلية.
وحتى أكبر الوسواسيين، فلا يمكن بالرغم من ذلك اعتباره هذاءا. فليس هناك من يقين لدى الوسواسي، وإنما فقط هذا النوع من الضرورة، الملتبسة كلية والتي تتركه تعسا ومتألما وحائرا لكونه مضطرا للخضوع لإصرار يصدر منه بالذات ولا حول له في تفسيره.
إن ألعاب الوسواسي واسع الإنتشار، لكن بإمكانه أن يمر متسترا إذا لم نكن على علم بتلك الأدلة الدقيقة التي تتعلق به. إن هؤلاء المرضى يتميزون بالحفاظ بشكل جيد على مكانتهم الإجتماعية، وإن كانت حياتهم قد لغَّمها وخربها الكثير من المعاناه وتفاقم العصاب.
لقد كنت أعرف أناسا كانت لهم مناصب جد مهمة وليست فقط شرفية أو إدارية، أناسا كانت لهم مسؤوليات بكبر وبشساعة ما يمكنك أن تتصورين. إنهم كانوا يقومون بها على أحسن وجه إلا أنهم كانوا يبزحون صباح مساء تحت طائلة وساوسهم.
فهكذا كان صاحب الذئاب، ذاهلا ومقيدا بداخل أعراضه المتفاقمة والتي قادته لمشورة فرويد في ضواحي ڤيينا، حيث كان حيث كان يشارك في مناورات عسكرية برتبة ضابط صف احتياطي. استشار فرويد طالبا منه النصح في مسألة غريبة تتعلق بمسألة تسديد دَيْن للبريد عقب إرساله نظارة. لكن الأمور اختلطت عليه بخصوص هذا الدين لدرجة جعلته غير قادر للكلام فيه.
فإذا ما تتبعنا حرفيا السيناريو المركب لديه بواسطة العرض وحتى منتهى شكوكه بخصوص أربعة أشخاص، فأننا سنتوصل الى ما يطابق هذا السناريو مطابقة تامة، من أحداث أدت، على شاكلة أكذوبة كبيرة وبدون أن يترسب لدى المريض علم بذلك، الى زواج كان المريض ثمرة له.
س : وما هي هذه الأحداث ؟
لاكان : هناك دَيْن احتيالي من طرف الأب الذي، وهو عسكري آنذاك، تم الإنتقاص من مرتبته إثر استغلاله لسلطته عنوة. وهناك أيضا سلف قد يمَكن المريض من رد ما كان عليه من دَيْن. ثم هناك مسألة رد دَيْنه الى الصديق الذي عمل على مساعدته. وفي الأخير هناك خيانته لحب حبيبته من أجل زواج سمح له باسترداد "وضعيته" المادية.
لقد سمع صاحب الجرذان بكل هذه الحكايات خلال طفولته. منها ما وصله بعبارات ممازحة وأخرى بتلميحات مقنَّعة. لكن ما يثير الإنتباه هو أن ما يتعلق به الأمر هنا لا يخص حدثا بعينه، حدثا صادما قد يتسبب في عودة المكبوت، إنما يتعلق بالمنظومة الدرامية التي أستقبلت مجيئه للحياة والتي أسست، إن أمكن القول، لمرحلة ما قبل تاريخ حياته كفرد ينتسب للماضي عريق. فيعاود ما قبل التاريخ هذا في التمظهر عن طريق أعراض تعمل على إظهاره بشكل يصعب التعرف عليه ويتم في النهاية عقده في أسطورة يتم تمثيلها وتقوم ذات الفرد بإعادة بناء شكلها من دون أن يكون له أدنى وعي بذلك.
فقد يتم نقلها في الأعراض كما يتم نقل لغة أو كتابة بداخل لغة أخرى أو بداخل علامات أخرى. فتحصل إعادة كتابتها في هذه الأعراض من دون أن يقع تغيير في ترابطاتها ؛ وكذلك الحال أيضا في علم الهندسة حيث يتم قلب ما هو كروي الشكل الى مسطح، لكن هذا لا يسعدني البتة بأن أي شكل ينقلب الى أي شكل آخر. إنها وسيلة جد فعالة.
لاكان : وعندما يتم استجلاء هذه الأحداث
ج : اسمعي جيدا. فأنا لم أقل بأن تحليل العصاب يتحقق فقط بالتوقف على هذه الأحداث. ففي حالة صاحب الجرذان، كما تعلمين، شيء آخر ليس بوسعي أن أفيض فيه هنا. فما من آحد إلا وأصبح عصابيا لو كان يكفي أن تتواجد مرحلة قبل تاريخية في أصل كل وعي. فهذا الشيء الآخر يرتبط بكيفية تناول ذات الفرد للأمور، فيتقبلها أو يكبتها. ثم لماذا بعضهم يكبت أشياء معينة دون غيرها ؟ …
فلتحاولي قراءة حلة صاحب الجرذان بهذا المفتاح الذي يخترقه من كل جانب، وحيث تنقلب الى لغة رمزية وغير ملحوظة بالمرة من طرف المريض، أمور لا يمكن التعرف عليها أو فهمها لا باعتبارها خطابا.
س : من الممكن إذن للحقيقة المكبوتة أن تنبني كما أنت تقول، أي بكونها خطابا تنجم عنه عواقب وخيمة. فكن عندما يأتي عندك أحد المرضى، فإنه لا يأتي لكونه يبحث عن حقيقته وإنما لكونه يعاني الأمَرين ويتوخى التخفيف من ألمه. وفيما أذكر من حالة صاحب الجرذان، هناك أيضا هوام يتعلق بالجرذان...
لاكان : بمعنى آخر : " في الوقت الذي تهتمين فيه بالحقيقة، هنالك شخص يعتني … ».
على كل، فقبل استعمال وسيلة ما يجب إدراك كنهها، ويجب معرفة كيف تتكون ! إن التحليل النفسي وسيلة ذو فعالية فائقة ؛ وبما أنه وسيلة تنعم بمكانة جد رفيعة فمن الممكن أن نسخره لفعل أشياء لم يتم قط إعداده من أجلها، وهكذا فإننا لا نعمل إلا على الحط من قيمته.
يجب أن ننطلق مما هو أساسي : على ماذا تطبق ومن أي نمط هي تأثيراتها، وهي تلك التأثيرات التي تترتب عن مجرد تطبيقها. لهذا فإن ما يتعلق به الأمر في التحليل، وبالخصوص تفك الظواهر التي تتمظهر التي بمستوى الغرائز فإنها تترتب عن السجل اللغوي : إن الأمر يتعلق بالتعرف والإعتراف المنطوق للعناصر الأساسية لسيرة ذات الفرد والتي تم تقطيعها وتوقيفها لدرجة جعلتها تسقط تحت الخطاب.
أما بخصوص التأثيرات - على عرار التأثيرات الميكانيكية أو التأثيرات الضوئية - التي يمكن إرجاعها بالفعل الى فعالية التحليل، فهي تأثيرات من قبيل استرجاع هذا الخطاب المكبوت. ويمكنني القول بأنك بمجرد ما تمددين الفرد على أريكة التحليل وحتى لو لم تشرحي له قاعدة التحليل إلا بصفة مجملة، فإنه يجد نفسه قد أدخل في بُعد البحث عن حقيقته.
نعم، فبمجرد أن يجد الفرد نفسه وقد استدعي للحديث قبالة شخص آخر، قبالة صمت شخص آخر - وهو صمت لا ينم عن مجاملة ولا عن عتاب وإنما هو صمت انتباه واستقبال - فإنه يحس بأن هذا الصمت هو بمثابة انتظار، وبأن هذا الإنتظار هو انتظار للحقيقة.
وأيضا، إنه يجد نفسه مدفوعا الى الكلام بواسطة الفكرة المسبقة التي تحدثنا عنها سابقا والتي تتعلق باعتقادنا بأن الآخر، الخبير أو المحلل، قد يعلم عنا ما لا نعلمه عن أنفسنا. وهكذا يتم ترميم وتقوية حضور الحقيقة والتي هي متواجدة بصفة ضمنية.
إن المريض يعاني حقا، لكن يتبين له بأن الوجهة التي عليه أن يسلكها من أجل التغلب أو التخفيف من معاناته هي من باب الحقيقة التي عليه أن يعرف منها أكثر وأفضل.
فليس هناك أب مكتمل ولا أب نموذجي.
س : أيكون الإنسان هاكذا كائنا لغويا ؟ أهذا هو التصور الجديد للإنسان الذي نعزوه لفرويد ؟ أيكون الإنسان كائنا متكلما ؟
لاكان : هل اللغة هي ما هية الإنسان ؟ إنها مسألة لا أدعي بعدم الإهتمام بها. ويسعدني أن يعتني بها كل من يهتمون بما أقوله. لكن ما يهمني في هذه المألة بالفعل هو ذي بعد آخر. وكما أقول في بعض الأحيان، فإن القطعة المجاورة...
فأنا لا أقول بأن الإنسان "متكلما" وإنما أحاول أن أطرح الأسئلة بصيغة مختلفة وأتساءل "من أين يحصل الكلام ؟" لدى الإنسان. بمعنى آخر فإني لم أحاول أن أبني ميتافيزيقا وإنما نظرية للعلاقة البيذاتية. فمنذ فرويد إذن، لم يبق مركز الإنسان في الموقع الذي كان يتم اعتقاده. ويلزم إعادة إرساء الأمور مجددا بناءا على هذا الإكتشاف.
س : إذا كان التكلم هو الأهم بحيث يقوم الفرد بالبحث على حقيقته بواسطة الكلام والأعتراف، أفلا يحل التحليل، نوعا ما، محل الإعتراف بالخطايا ؟
لاكان : لم أسمح لنفسي لأحدثك في المسائل الدينية، إلا أنني بادرت بالقول بأن الإعتراف هو من باب التقليد الديني ولم ينشأ من أجل إرضاء أي نوع من الحاجة إلى الإعتراف ... ثم إن إجابة القسيس، وإن كانت مواسية أو مشجعة أو أمارة، فإنها لا تدعي لنفسها فعالية الغفران.
س : من وجهة نظر العقيدة فإنك على حق بلا ريب. إلا أن عملية الإعتراف تمتزج، وذلل منذ زمن لا يغطي كامل العصر المسيحي، بما يمكن تسميته بإدارة الوعي. أفلا نجدنا هاكذا في مجال التحليل النفسي، بحيث يتم هنا أيضا الدفع بالأفراد إلى البوح بأفعالهم ونياتهم وتتم كذلك قيادة عقولهم في البحث عن الحقيقة ؟
لاكان : لقد تم الحكم من طرف الروحانيين على مسألة تدبير وإدارة الوعي بطرف مختلفة. فلقد تم النظر الى هذا السلوك بكونه عملا مسيئا في بعض الحالات. وبمعنى آخر فإنه من مهمة أهل الدين، النظر في كيفية اعتبارهم لهذه المسألة وماهي الفعالية التي يولونها.
لكن يبدو لي أنه من غير الممكن لأية عملية إدارة الوعي أن تتجند بتقنية مفادها استكشاف الحقيقة. لقد حصل أن رأيت بأمي عيني رجال دين أكفاء ومحترمين أخذون مسؤوليتهم في أمور معقدة تتعلق قضايا شرف الأسر، ولقد وجدتهم على الدوام مصرين على أن إخفاء الحقيقة في حد ذاته مدعاة لعواقب جد وخيمة.
ثم إن مدراء الوعي جميعهم، لن يتوانوا في إعلامك بأن أكبر صعوبة يلاقونها في مسيرة حياتهم تأتيهم من الوسواسيين والمتشددين في تدقيق الأمور. فهم لا يعرفون البتة كيف يتعاملون معهم. فكلما أسرفوا في التخفيف عليهم، كلما زادت حدت وساويسهم. وكلما حاججوهم بالعقل وأقنعتهم بالمنطق، كلما رجعوا نحوهم مثقلين بالأسئلة الأكثر سخافة.
لكن الحقيقة التحليلية ليست بشيء يغلب عليه طابع السر والغرابة مما يجعلنا لا نرى لدا من هم مؤهلون لريادة العقول، قابلية لإدراكها هذه الحقيقة كما هي، أي في تجليها الُمباغت. ولقد كانت لي معرفة بأفراد من بين رجال الدين، عندما تأتيهم تائبة مثقلة بوسواس النجاسة، كانوا على دراية بأنها قد تكون في حاجة ماسة للإنتقال بها حينا الى مستوى آخر، كأن يسألونها مثلا إن كانت تتصرف بحق مع خادمتها آو مع أبنائها؟ وبتذكير قاسي من هذا القبيل، كانوا يتوصلون الى نتائج مدهشة.
في نظري، قد لا يجد مدراء العقول ما يقولونه في التحليل النفسي، وأكثر ما يمكنهم فعله هو اقتباس بعض الرؤى التحليلية قد تمدهم بشيء من العون والمساعدة...
س : ربما. لكن هل ينظر الى التحليل النفسي بنوع من التقبل ؟ إذ يتم اعتباره في الأوساط الدينية بإنه علم من علوم الشيطان.
لاكان : أظن أن الظروف قد تغيرت. لقد بقي التحليل النفسي مدة طويلة بعد اكتشافه من طرف فرويد علما فاضحا وثوريا، بدون شك. ولم يكن الأمر يتعلق بمعرفة إن كان موضع ثقة أو لا. أما معارضته آنذاك فكانت عنيفة تحت ذريعة أن التمحللين قد ينفكوا من قيودهم وينطلقون في إشباع كل رغباتهم ويستبيحون كل شيء... أما اليوم فإن التحليل النفسي، سواء تم تقبله كعلم أو لا، فإنه انضم الى تقاليدنا وانقلبت المواقف منه ظهرا على عقب: فعندما لا يتصرف أحدهم كما ينبغي، وعندما يقوم بفعل يعتبره أهله بأنه شائن وغير مستحب، يتم التفكير في توجيهه الى المحلِّل النفساني. وكل هذا يدخل في إطار ما يمكنني تسميته، ليس بتعبير "مقاومة التحليل" وهو تعبير دقيق جدا على المستوى التقني، وإنما بتعبير "الرفض الجمعي".
وهناك خوف البعض من فقدان أصالتهم وابتكاريتهم ثم الإنزال بهم الى مستوى العامة. إنه خوف ليس بالقليل. فحول فكرة "التكييف" هاته، تجدر الإشارة إلى نشوء بناء نظري ما فتئ، في أيامنا هذه، ينشر الخلط في العقول ويدس القلق في النفوس. لقد قيل مثلا بأن دف التحليل النفسي هو تكييف الذوات الى مسار حياتها والى حاجاتها الحقيقية. وهذا يعني بكل وضوح بأن حصيلة التحليل تكمن في أن نصبح أبا متكاملا أوزوجا نموذجيا أومواطنا مثاليا، بمعنى أننا نصبح فردا لا يناقِش ولا يجادِل في أي شيئ.
وهذا باطل تماما. إنه باطل بقدر بطلان الفكرة المسبقة السالف ذكرها والتي ترى في التحليل وسيلة للتحرر من كل القيود والإلتزامات.
س : ألا تعتقد بأن ما يخشاه الناس فوق كل شيء، وأن ما يجعلهم يرفضون التحليل حتى قبل أن يضعوا فيه ثقتهم كعلم، هي اعتقادهم السائد بأنهم قد يفقدوا جزءا من ذواتهم وقد يحدث تحول لا يطاق في أنفسهم؟
لاكان : إنه قلق مشروع، لكن على المستوى الذي يَبرز من خلاله. فالإدعاء بأنه لا يحصل تغير في الشخصية بعد عملية تحليل، هو أمر مضحك. إنه منا من صعب الدفاع، في نفس الوقت، عن فكرة كوننا حصل على نتائج من التحليل النفيسي وبأننا أيضا لا نحصل عليها، بمعنى الشخصية تبقى كما كانت عليه ولم يمسها تغير. إن مفهوم الشخصية هو ما يتطلب توضيحه وإعادة تأويله هنا.
س : هل الخلاف بين التحليل النفسي وبين مختلف التقنيات السيكلوجية الأخرى يكمن في أن التحليل النفسي لا يكتفي بالتوجيه أو بالتدخل العشوائي، لكنه يشافي....
لاكان : لا نشافي إلا ما يمكن مشافاته. فلا يمكننا مشافاة الدالتونية أو العته العقلي مثلا، وإن كان بإمكاننا القول في آخر المطاف، بأن الدالتونية أو العته لهما ارتباط وثيق بالبعد النفسي. أتعرفين مقولة فرويد: "أين كان الهو، يجب أن أكون"؟ يجب على ذات الفرد أن تحل محل الهو، وهو هذا المحل الذي لم تعد توجد به بعدُ، حيث تم تعويضها بهذا الكلام المجهول والذي نطلق عيه إسم الهوَ.
س : في التوجه الفرويدي، هل يحق التفكير في معالجة مقادير كبير من الناس الذين لا يعتبرون أنفسهم مرضى؟ بمعنى آخر، هل من المفيد القيام بتحليل نفسي لكل الناس؟
لاكان : إن امتلاك لاشعور ليس من امتياز العصابيين. هناك كثير من الناس لا ترهقهم معاناة طفيلية، ولا يثقلهم تواجُد الذات الأخرى بداخلهم. بل إنهم يتقاسمون الى حد ما مع هذه الذات الأخرى، إلا أنهم قد ينتفعون أكثر لو أقدموا على التواصل معها. ذلك لأن اختيار عملية التحليل لا يعدو تعرف الشخص على قصة حياته.
س : وهل هذا صحيح بالنسبة للمبدعين؟
لاكان : إنه سؤال ذو قيمة في معرفة ما إذا كان من الأفيد بالنسبة لهم أن يتقدموا بسرعة أو أن يُغطوا برداء، ذلك الكلام الذي يصارعهم من الخارج. إنه، في آخر المطاف، نفس الكلام الذي يضايق العُصابي وفِي الوحي الإبداعي). فهل هناك فائدة للتوجه السريع، عن طريق التحليل، صوب حقيقة قصة حياة الذات، أو من الأفيد تركها على حالها، كحال غوته، لتخلق إنجازا قيِّما يكون بمثابة تحليل نفسي عظيم؟ فهذه المسألة جلية جدا لدى غوته. إن كامل عمله بمثابة إستشفاف لكلام الذات الأخرى. فلقد دفع بالأمور الى أبعد ما يمكن آن يقوم به رَجل نابغة من فصيلته. فهل كان بإمكانه أن يؤلف نفس العمل لو قمنا بتحليل نفسي لشخصه ؟ لو تم ذلك سيكون عطاؤه لا محالة مخالفا، في نظري. لكن ما كنا لنفقد شيئا من عبقريته.
س : وبالنسبة للناس الذين ليسوا بمبدعين وإنما يتحملون مسؤوليات تقيلة، واللذين لهم علاقات بالسلطة، أتظن أنه يَلزم إخضاعهم للتحليل؟
لاكان : ربما قد يكون من المفروض بالفعل ألا نشك ولو لخطة بأن شخصا ما إن كان قد أصبح رئيسا لمجلس، فذلك لأنه قد أقدم على تحليل نفسه وهو في ريعان شبابه، إلا أن الشباب يتمدد طويلا في بعض الأحيان.
س: إحذر! فما يمكننا مؤاخذته على السيد جي مولي لو كان قد قام بتحليل نفسي لذاته، فادعى لنفسه الحصانة ضد خصومه الذين ليس لهم هذا الحق؟
لاكان : أنا لا أحبذ الخوض في موضوعِ ما إذا كان السيد جي مولي قد يمارس السياسة أو لا لو خضع لتحليل نفسي. لم أقل أن تحليلا نفسيا شاملا وجامعا قد يحل كل التناقضات، أو إن حللنا جميع البشر فستتوقف كل الحروب وتختفي الصراعات الطبقية. إنما أقول العكس بكل تأكيد. فكل ما يمكن أن يخطر ببالنا في هذا الشأن هو أن الأزمات والكوارث قد تصبح أقل ضبابية واختلاطا.
ليكن في علمك، وكما كنت أقول لك سابقا، بأن الخطأ يكمن في استعمال وسيلة معينة قبل التحقق من كيفية تكونها. في حين أنه في إطار النشاطات المتداولة في مختلف أرجاء العالم تحت إسم "التحليل النفسي"، يتم تعتيم وإنكار المستوى الأول الذي أدخل فرويد من خلاله شعلة التحليل.
إن مجهود الغالبية العظمى في المدرسة التحليلية، يصب في ما أُسميه محاول اختزال التعاليم الفرويدية، بمعنى تحييد وإزالة كل ما يبدو مزعجا بداخل النظرية الفرويدية. وسنة بعد سنة، نرى وتلحظ تزايد هذا الإنحطاط، ليصل في بعض الأحيان، كما هو الحال في الولايات المتحدة، لتشكيلات تتعارض تماما مع الإكتشاف الفرويدي.
فليس لأن التحليل النفسي يبقى متنازعا عليه كي يضطر المحلِّل لجعل ملاحظاته أكثر تقبلا وذلك يصبغها بطلاءات مختلفة ومتعددة الألوان، وبتشبيهات مقتبسة، بطريقة شرعية الى حد ما، لمجالات علمية قريبة منها.
س: إن ما تقوله الآن قد يكون محبطا بالنسبة للكل من تخول له نفسه القيام بتحليل ذاتي...
لاكان : أن كنت أقلقت بما أقول، فذاك أفضل. إن ما أرغب فيه أكثر هو إطلاق صرخة تنبيه أمام الجمهور، وأن يكون لهذ الصرخة دلالة دقيقة ومحددة على المستوى العلمي : أن تكون نداءا ومطلبا أوليا بخصوص تكوين المحللين.
س: أليس هذا التكوين، حتى الآن، طويلا وجديا؟
لاكان : تدريس التحليل النفسي كما تتم صياغته حاليا، يرتكز على دراسة الطب ثم القيام بتحليل نقيب ذاتي، ثم تحليل ديداكتيكيا يشرف عليه محللا متمرسا. لكن ينقص هذا التكوين شيئا أساسيا من دونه لا يمكن لنا أن نحصل على تكوين تحليلي جدي. إنه يشمل المعارف اللغوية والتاريخية، وكذلك تاريخ الديانات، الخ. أما فرويد، في ما يخصه، فلقد أحيى مضمون ذلك التعبير القديم الذي يحلو لي أسترجاعه هنا وهو Universitas litterarum.
إن الدراسات الطبية غير كافية بطبيعة الحال للإنصات وسماع ما يقوله المتحلل، بمعنى التمييز بداخل خطابه لبُعد الرموز وكذلك لحضور الآساطير، أو بكل بساطة، إستشفاف معنى ما يقوله كما نقوم باستنباط معنى نص مكتوب.
وفِي هذه الآونة، انطلقنا في دراسة جدية للنصوص الفرويدية. سمحت لنا بها الإستضافة الكريمة التي جاد علينا بها الأستاذ جون ديوي بإستقبالنا في عيادة الأمراض العقلية والمخية بالجامعة.
س : هل تعتقد أن التحليل النفسي كما اكتشفه فرويد قد يضمحل إذا ما سقط في أيدي من هم غير مؤهلين بما فيه الكفاية؟
لاكان : إن التحليل النفسي، في الوقت الراهن، هو في حالة تحول الى أسطورة تتعتم ملامحها أكثر فأكثر. ويمكننا الإشارة الى دلائل لهذا التحول: إمحاء قطة أوديب، التكريز على الميكانيًمات القبْأوديبية، التركيز على مسألة الأحباط، إبدال مفهوم القلق بكلمة الخوف. لكن هذا لا يعني بأن الفرويدية، ومضة الفرويدية الأولى، لا تمشي مشيها في كل حدب وصوب. إننا نرى لها تجليات واضحة وجلية في مختلف العلوم الإنسانية. وفِي هذا المجال، أذكر بالتحديد ما ذكرني به صديقي كلود ليفي-ستروس بخصوص العناية التي أبداها أهل العلوم الإناسية بعقدة أوديب بصفته أعمق ابتكار حصل في مجال الأساطير للأزمان الراهنة.
إنه لمن المثير للإنتباه، ومن المدهش حقا أن يكون فرويد، ولوحده، قد توصل الى الإبانة عن كل تلك التأثيرات التي لم يحصل قط أن تم نت قبل فصلها وإدخالها في مجال محدد المعالم، مكتشفا هكذا وفِي نفس الوقت، علما جديدا وحقلا لتطبيق هذا العلم.
أما بالنسبة لهذا العطاء العبقري الذي تركه لنا فرويد، والذي اجتاز القرن الذي ولد فيه كل من نار، فالتفكير فيه والعمل عليه لا زال متأخرا جدا. وأقول هذا بكل يقين. ولن نحقق تقدما في هذا المجال إلا بتواجد العدد الكافي من الناس الأكفاء، كي يقوموا بما يتطلبه أي عمل علمي أي عمل تقني وأي عمل يعبقري يمكنه يخط أخدودا. لكن ميما بعد، لا بد من تواجُد جيش من العمال كي يحصدوا ما تم بذره.