بعض من كتاباتي في التحليل النفسي

مقتطفات : من على الأريكة

كتب ومقالات في التحليل النفسي

حوارات في التحليل النفسي

شهادات متعالجين بالتحليل النفسي

كتابات وترجمات زملاء عرب

فديوهات في التحليل النفسي

لاكان - كتاب : ركائز التحليل - فصل ١٠ من ٢٥

حضور المحلِّل

مشاكل التحويل 
النزعة التضليلية في التحليل 
الكلام الفارغ
التواجد المسبق للآخر الأكبر
مقالة من المجلة العالمية للتحليل النفسي

وحتى أتجنب تسولي الدائم لعلبة عود ثقاب، تم إهدائي إحداها، من هذا الحجم كما ترون، وقد كُتبت على ظهرها العبارة التالية: "فن السماع يكاد يساوي فن القول الصائب". وهذا ما يميز بين مهمة المحلِّل والمتحلل. ونتمنى أن نكون، الى حد ما، في مستوى هذين المهمتين.

سوف أتناول اليوم موضوع التحويل، بمنعى أنني سأخوض في مسألته، راجيا أن أتمكن من إعطائكم فكرة بخصوصه، انطلاقا من المشروع الذي أشرت إليه في لقائنا الثاني.

1

على العموم، يّنظر الى التحويل بكونه إنفعالا. ويتم اعتباره، بشيئ من الغموض، إما إيجابيا أو سلبيا. وبصفة عامة يتم القول، بقدر من الصواب، بأن التحويل هو الحب ذاته. لكن يجب التعقيب بأن هذه اللفظة الأخيرة، بصيغتها المستعملة هنا، تبقى جِد تقريبية. 

لقد طرح فرويد مبكرا مسألة كون ما يحصل أثناء التحويل هو بمثابة حب حقيقي وأصيل. لكن تجب الإشارة للتو، إلى أن المنحى العام الذي طغى لدى المحللين بعد فرويد، يذهب الى اعتبار التحويل بمثابة حب خاطئ، بمثابة ظل للحب. في حين أن فرويد، على العكس من ذلك، لم يعمل عل الدفع بكفة الميزان في هذا الإتجاه. ثم إن من أهم ما قدمته لنا خبرة التحويل في التحليل هو أنها دفعت للتفكير في مسألة ما يسمى بالحب الأصيل الى أبعد مدّا، الى مدّا لم نكن لنصله لولا هذه الخبرة.

وكما جرت العادة لدى المحللين عندما يَستدعون لفظ التحويل السلبي فإنهم يقومون بذلك وهم حذرين ومتلطفين بخصوص مفهومه. فلا يعتبرونه أبدا من قبيل الكراهية. وآنذاك يتم استعمال لفظ "التجاذب الوجداني" مكانه، وهو لفظ يَخفي بداخله أشياء عدة، بشكل يفوق أكثر بكثير مما يخفيه اللفظ الأول. وهي أشياء ضبابية لا يحصل تدبيرها في الغالب أثناء التحليل بشكل ملائم. أما نحن فنقول بدقة أكبر بدل ذلك، بأن من نقوم بالتحويل الإيجابي على شخصه، وهو بالمناسبة هنا شخص المحلِّل، قد يكون في "حسن ظننا". وبالعكس، فقد يضحى في "سوء ظننا" من نقوم بتحويل سلبي على شخصه. 

وهناك استعمال آخر للفظ التحويل، من الواجب بث النظر فيه، خصوصا عندما ننطلق من فكرة أن التحويل يعمل على تركيب كل العلاقات الخاصة بهذا الآخر الذي هو المحلِّل وبأن كل الأفكار التي تدور حول هذه العلاقة يجب وضعها تحت علامة الحيطة والحذر. من هنا نتج تعبير: "إنه (المتحلل) يُحَول بشدة". وهو ما يفترض كون أسلوب إدراكه قد تمت إعادة تركيبه حول المركز المهيمن للتحويل.

لن أواصل في هذا المنحى إلى أبعد مما فعلته حاليا، لأن هذا الاستقصاء اللغوي المزدوج يبدو لي كافيا حتى الآن. إلا أننا لن نكتفي أبدا، وبأي حال من الأحوال، بهذا الاستقصاء لأن هدفنا هو اقتراب مفهوم التحويل في ذاته.

إن مفهوم التحويل محدد ومؤطر بالوظيفة التي يقوم بها في داخل الممارسة العيادية . إنه يقود الطريقة التي نعمل بها تجاه المرضى. وبالمقابل، تتحكم هذه الطريقة بدورها في مفهوم التحويل. وقد يبدو أنه من الممكن هنا، منذ البداية، الفصل في مسألة ما إذا كان التحويل مرتبطا أو غير مرتبط بالممارسة التحليلية، وفيما إذا كان نتاجا لهذه الممارسة، بل ونتاجا اصطناعيا لها. إن عايدا ماكالباين، وهي إحدى المؤلفين الكثرُ الذين تعمقوا في موضوع التحويل، ذهبت إلى أبعد حد في محاولة تنظيرها للتحويل من هذا الجانب. ومهما كانت جدارتها في ذلك - إذ كانت ذات مزاج قوي وعنيد - لنقل للتو بأنه ليس بوسعنا، بأي حال من الأحوال، تقبل موقفها المتطرف هذا. وعلى كل، فإن الخوض في مسألة التحويل بهذه الطريقة ومن هذه الزاوية، ليس بإمكانه أن يؤدي إلى الفصل في هذه المسألة بتاتا. وحتى وإن اضطررنا إلى اعتبار التحويل بكونه نتاجا للوضعية التحليلية، فبإمكاننا القول بأنه ليس من مقدور وضعية التحليل أن تخلق هذه الظاهرة من عدم. بل لا بد من تواجد مسبق لإمكانات خاصة بهذه الظاهرة، تعمل الوضعية التحليلية على إعطائها تركيبتها المتميزة، وربما تركيبتها الفريدة من نوعها.

وهذا لا يمنع بتاتا، حتى مع انعدام تواجد المحلِّل، من إن يحصل للتحويل مفعول وتأثير، من الممكن تركيبه بالضبط على شاكلة ما يحدث من تحويل أثناء التحليل. لكن لمجرد كون التحليل يعمل على استكشاف هذا المفعول وهذا التأثير، فإنه يوفر لهما قالبا تجريبيا، ليس بالضرورة مختلفا عما نسميه بالقالب الطبيعي. وهكذا فإن إبراز التحويل بداخل التحليل، حيث يحصل على ركائزه البنيوية، قد يشكل الوسيلة الوحيدة للتمكن من تطبيق شمولي لهذا المفهوم. سنتمكن هكذا من قطع الحبل الذي يربط منبع التحويل بحقل الممارسة التحليلية، بل وقطع الحبل مع النظرية الذي تزعم هذا الإرتباط.  

وعلى كل، فما كل أقوله الآن إلا من قبيل البديهيات. ويجدر بنا، منذ البدء، وضع التحديدات اللازمة لاقتراب أدق لهذا المفهوم. 

2

إن الهدف المنشود من هذا المدخل هو أن يُذكركم بما يلي : إن التطرق لأسس التحليل النفسي يفترض أن نُدخل نوعا من التناغم بين المفاهيم التي يرتكز عليها. ولقد برز هذا التناغم من خلال الطريقة التي سبق لي أن تطرقت من خلالها لمفهوم اللاشعور الذي، كما تتذكرون، لم أفصله عن مسألة حضور المحلِّل. 

"حضور المحلِّل" : إنه تعبير جميل جدا، قد نكونوا على خطإ إذا ما اختزلناه في تلك الموعظة المتباكية، أو ذلك الإنتفاخ الدسم، أو تلك اللمسة المتعلكة، التي تُجسده في كتاب تم نشره تحت نفس العنوان. 

إن حضور المحلِّل هو في ذاته مظهر من مظاهر اللاشعور. ولذلك، فعندما يحدث لهذا الحضور في أيامنا هذه أن يتجلى في بعض اللقاءات التحليلية، على شاكلة رفض لللاشعور - وذاك ما يميل إليه بعض المحللين بل ويعترفون به -، يجب ربطه بمفهوم اللاشعور بالذات. إنكم بقولي هذا تحصلون على ممر سريع لفهم التعبير الذي سبق لي أن وضعته في مكان الصدارة والذي يتعلق بحركية الذات التي لا تنفتح إلا لكي تنغلق ثانية، وذلك في إطار نبضة زمنية معينة، نبضة حددتُها بكونها أكثر جذرية من دخولها في الدال الذي يسببها من دون شك، لكنه لا يسبقها من حيث الجوهر، هذا الجوهر الذي حثني البعض على الخوض فيه. 

لقد أشرت بطريقة توليدية وبطريقة جدالية بأنه يجب  اعتبار اللاشعور بكونه مجمل تأثيرات الكلام على الذات - بما لهذه التأثيرات من أولوية راديكالية تجعلها تحدد فعلا مكانة الذات في حد ذاتها. وهذه أطروحة مفادها إعادة موضعة اللاشعور الفرويدي في محله. ما من شك في أن اللاشعور متواجد منذ الأزل. إنه موجود ويفعل فعله قبل مجيئ فرويد. لكن يجب التوكيد على أن كل التعريفات التي أعطيت، قبل فرويد، لوظيفة اللاشعور هاته، ما لها مع التحديد الذي أعطاه فوريد إياها شيئ يذكر على الإطلاق. 

إن مفاهيم اللاشعور الأولي، أو اللاشعور كوظيفة أصولية، أو اللاشعور بمثابة حضور مقَنَّع بدلالات تتموقع بمستوى الكائن قبل تجليها، أو اللاشعور الميتافيزيقي لصاحبه إيدوار ڤون هارتمان - رغم استشهاده الصريح بفرويد - أو اللاشعور الغرائزي، كل هذا لا صلة له البتة باللاشعور في التحديد  الفرويدي. وكذلك لا صلة له بتاتا بخبرتا التحليلية مهما كانت التعابير المستعملة وكيف ما كانت الإلتواءات والتعديلات التي رُوِضت لها هذه التعابير. وإني أناشد المحللين هنا: هل سبق لكم أبدا ولو لحظة أن خامركم إحساس بأنكم تتعاملون مع عجينة الغريزة؟  

لقد أقدمت على تقارب جديد مع الاكتشاف الفرويدي خلال القرير الذي عرضته بمدينة روما. حيث أكدت على ان اللاشعور هو مجمل تأثيرات الكلام على ذات فرد ما وعلى المستوى عينه الذي تتأسس به الذات بمفعول وتأثيرات الدال. وهذا يعني بكل تأكيد، بأن لفظ الذات لدينا، لا يعني الكائن الحي وإن كان هذا الأخير لازما للظواهر النفسية، ولا يعني أي مادة عضوية أيا كانت، ولا أية ذات عارفة ولا حتى اللوغوس المتجسد هنا أو هناك، وإنما يعني الذات الديكارتية التي تتمظهر لحظة تعَرُّف الشك على ذاته كيقين. مع فارق بسيط هو أن أسس هذه الذات، انطلاقا من تناولنا، تنكشف أكثر اتساعا، وفِي نفس الوقت أكثر تباعية بخصوص اليقين الذي ينفلت من قبضتها. وها هنا يكمن اللاشعور.

فهناك رابط بين هذا المجال وبين اللحظة، لحظة فرويد، التي ينجلي أثناءها. وهذا الرابط هو ما أعبر عنه، مقربا إياه من منهج نيوتن وآينشتاين وبلاك، من حيث هو منهج لا كوسمولوجي، بمعنى أن هاته المجالات تتميز بحفر أخاديد جديدة في الواقعي، بالمقارنة مع المعرفة التي نضعها منذ الأزل بين يدي الإله. 

ومن المفارقات الجديرة بالذكر فأن الميزة التي تضمن لمجال فرويد أمتن معونة في البقاء، تكمن في كون هذا المجال ميال بطبيعته للضياع. ولهذا يصبح من غير الممكن  في المجال الفرويدي، تفادي حضور المحلِّل كشاهد على هذا الضياع.    

وعلى هذا المستوى لن يبق هناك ما يمكن أن نستفيده منه، ذلك أن ما يحصل إثر ضياع هذا المجال هو خسران كامل لا يترتب عنه أي ربح، اللهم إعادة مواصلته في وظيفة النبضة. إن فقدان وضياع هذا المجال يحصل لا محالة في نطاق ضبابي يشير إليه الخط المائل الذي أَقسِم بواسطته العبارات الواردة بالتتابع أمام الألفاظ التالية : اللاشعور والتكرار والتحويل. وبخصوص هذه المسائل المتعلقة بالممارسة التحليلية، فإن نطاق الفقدان والضياع هذا، يتضمن قدرا من تقوية النزعات التعتيمية والتجهيلية التي تسم وضعية الإنسان في عصرنا الراهن، عصر التواصل المزعوم. وإني على يقين، وإن كنتُ لست أدري كيف، بأن المستقبل سيفسح المجال لأنماط لم يسبق لها مثيل من هذه النزاعات التعتيمية والتجهيلية. وإن الدور الذي لعبه تصور معين للتحليل النفسي في انتشار وتفشي هذا الأسلوب المعيشي الذي يسمي نفسه بطريقة الحياة الأمريكية، لخير دليل على ما أعنيه بتعبير « النزعة التجهيلية »، بحيث أن هذا التصور قد أعلى من شأن بعض المفاهيم التي تم لفظها من إطار التحليل النفسي منذ عهد قديم، ومن بين هذه المفاهيم: سيادة وظائف الأنا وهيمنتها. 

وعلى هذا النحو إذن، فإن حضور المحلِّل، وبالخصوص من جانب ما يتضمنه خطابه من عقم، يجب أن يُدمج في مفهوم اللاشعور. يجب علينا اليوم، كمحللين معاصرين، أن نأخذ في الإعتبار، أثناء عملنا التحليلي، بهذا العقم كبقايا مادة تترتب عن اكتشاف اللاشعور ولا طائل من ورائها. وهذا ما يبرر الحفاظ بداخل التحليل على وضعية صراعية ضرورية لوجود التحليل في حد ذاته.

فإن كان صحيحا بأن التحليل النفسي يرتكز على صراع أساسي، على دراما ابتدائية وراديكالية بخصوص كل ما نضعه في خندق ما هو نفسي، فإن التجديد الذي أشير أليه هنا والذي يسمى "التذكير بحقل وبوظيفة الكلام واللغة في الخبرة التحليلنفسية"، لا يدَّعي كونه موقفا شاملا مانعا فيما يخص اللاشعور، لأن التحليل النفسي ذاته هو تدخل يحصل داخل  الصراع. وهذا التذكير له فائدته المباشرة بحيث أن له بذاته عاقبة تحويلية. وهذا ما تم التعرف عليه بحيث أوخذ على سيميناري، من طرف الجمعية التحليلية الأورتودوكسية، كونه يلعب دورا محفوفا بالمخاطر لأني كنت ألقيه على مستمعي وهم في حالة تحويل نحوي. إلا أنني عوض أن أتبرأ من ذلك، وأدفعه عني، فإني أعتبره بالفعل موقفا راديكاليا مني لكونه مؤسِّسا لعملية تجديد التحالف الذي أهدف إليه مع الإكتشاف الذي قام به فرويد. وهذا يدل فى أن قضية اللاشعور - وترون بأنه من الواجب هنا أخذ كلمة "قضية" بما يتضمه من التباس؛ - يجب دعمها كقضية وكذلك كوظيفة العِلَّة على مستوى اللاشعور. إلا أن هذه القضية يجب اعتبارها بالأساس قضية خاسرة وضائعة، آنذاك فقط ستحصل المناسبة الوحيدة التي ستمكننا من كسبها.

ولهذا السبب لقد أبرزتُ بداخل مفهوم التكرار، وهو مفهوم لم يُقَدر حق قدره، هذا البعد المتمثل في اللقيا الخاسرة دائما، وفي الفرصة الضائعة أبدا. فوظيفة الضياع هاته تشكل مركز التكرار التحليلي. وها كذا يكون وقت الموعد قد فات دائما وأبدا. وهذا ما يسبب انعدام قيمة التكرار وما يسبب كذلك الوظيفة التعتيمية التي تؤسسه، بالمقارنة وبالعكس مع ما يحدث مع اللقيا بالواقعي.

إن مفهوم التكرار يجعلنا نصطدم بالمعضلة التالية: فإما أن نتحمّل بشكل صريح مشاركتنا وتورطنا كمحللين في الطابع العقيم لاختلافتنا حول أي عرض لخبرتنا التحليلية وإما أن نعمل على تقليم وتمليس المفهوم على المستوى الذي يستحيل تشييئه، ما عدا من جانب التحليل الفوقي لمسألة العِلة. وهذا ما يمكن التعبير عنه بالعبارة التالية: "لا تسعد التأثيرات إلا بغياب العلة". وفي هذه الحالة، كل التأثيرات تصبح هكذا تحت ضغط نظام فوقي، سببي، يتوخى انضمام هذه التأثيرات إلى رقصتها الجماعية. لكن، إذا ما تلاحمت التأثيرات يدا بيد، كما تقول الأغنية، فإنها تتمكن من صد العلة عن الإنخراط في دورتها الراقصة. 

وفِي هذا الموضع، يجب تحديد العلة اللاشعورية، ليس بما هو في طور الكينونة ولا بما هو عكسه، كما فعل هنري إي على ما أعتقد، وإنما هي بمثابة الكابح الذي يضفي على الكائن إمكانية الوجود رغم عدم تحققه بعد. إنها وظيفة الإستحالة التي يرتكز عليها يقين.

 3

وهذا ما يقودنا نحو وظيفة التحويل. فالتحويل يفتح لنا المنفذ إلى هذا الجانب الغير محدد من الكائن الخالص الذي ما من وسيلة لتحديده، وإلى هذه الوضعية الأولية لللاشعور الذي يتبلور بكونه متمركز على عدم إمكانية تحديد الذات. إن التحويل يفسح لنا المجال، وبطريقة ملغِزة، للإتجاه نحو هذا المجال،. فها هنا عقدة مستعصية تقودنا إلى ما يلي: إن الذات تبحث في الحصول على يقينها. أما مسألة يقين المحلِّل ذاته بخصوص اللاشعور فلا يمكن فصلها عن مفهوم اللاشعور. 

وهكذا فإنه من السهل ملاحظة كم تتكاثر وتتعدد وتتقاطب التنظيرات حول التحويل في التحليل النفسي. ولا أدعي أنه بإمكاني إعطائكم عنها نظرة متكاملة، لكني سأحاول أن أقودكم في مسارات من أجل استجلاءات مختارة. 

فمنذ ظهور مفهوم التحويل في تدريس فرويد وكتاباته، أخذ يراودنا بصدده انزلاق لا يمكن وضعه على عاتق فرويد. وقد أدى الإنزلاق إلى كوننا لم نعد نرَى في التحويل إلا مفهوم التكرار فحسب. لكن يجب ألا ننسى بأن فرويد عندما عرض علينا هذا المفهوم، قال بالكلمة: "كل ما لا يمكن تذكره يتكرر في التصرف". وكي يقوم هذا التصرف بالكشف عما يقوم بتكراره، فإنه يُعرض بين يدي المحلِّل كي يقوم بإعادة تركيبته. 

بالإمكان الانسياق الى الظن بأن الصدمة - كما تم الإحتفاظ بها في وظيفتها الإفتتاحية في منظور فرويد، وهو ما يقابل في منظورنا المقاومة الناتجة عن الدلالة - هي المسؤولة في الحد من التذكر. وعلى كل، من الممكن أن نجد سهولة في تنظيرنا لهذه المسألة إذا ما اعتبرنا بأن هنالك لحظة جد دالة بخصوص تمرير السلطة بين الذات والآخر، ذاك الذي نسميه بالآخر الأكبر، مقام الكلام، وافتراضيا مقام الحقيقة.

أهناك نقطة تمظهر مفهوم التحويل؟ فذاك ما يبدو مظهريا، وبذلك عادة ما نكتفي بقوله. لكن لننظر إلى المسألة عن قرب. فهذه اللحظة، في منظور فرويد، ليست فقط اللحظة الفاصلة التي تقابل ما أشرت إليه بكونه لحظة انغلاق اللاشعور، وبكونه نبضة زمانية تجعله يختفي في نقطة معينة من التعبير عن نفسه، إن فرويد عندما يتعرض لوظيفة التحويل، فإنه يؤكد على اعتبار هذه اللحظة بكونها السبب فيما نسميه بالتحويل. إن الآخر، سواء كان كامنا أم لا، يكون حاضرا مسبقا في عملية تمظهر الذات. إنه متواجد سبقا، عندما بدأ شيء ما يعبر عن نفسه منذ اللاشعور.

إن تأويل المحلِّل لا يقوم إلا بتغطية كون اللاشعور - إن كان فعلا يطابق تعريفي له بأنه لعبة دلالية - قد قام من قبل بعملية التأويل من خلال تكويناته المختلفة بما فيها الحلم أو زلة اللسان أو النكتة أو العرَض. إن الآخر، الآخر الأكبر متواجد هنا بصفة مسبقة خلآل انفتاح الللاشعور، وإن كان هذا الإنفتاح بطريقة جد عابرة.  

إن ما لقننا إياه فرويد منذ المراحل الأولى لتعاليمه، هو كون التحويل مقاوما لللا شعور بالأساس. فالتحويل هو الوسيلة التي ينقطع فيها اللاشعور عن التعبير والتي من خلالها ينغلق. فعوض أن يصبح التحويل أداة لتمرير السلطة لللاشعور فإنه يعمل على إغلاقه. إن هذا لأمر أساسي في تركيبة المفارقة التي يمكن التوقف عليها حتى في نصوص فرويد والتي عادة ما يُعبِّر عنها بالقول بأنه يَلزم على المحلِّل أن ينتظر حدوث التحويل كي يبدأ في إعطاء تأويلاته. 

إنني أريد أن أؤكد على هذه المسألة لأنها تشكل الخط الفاصل بين الطريقة الجيدة والطريقة السيئة في تناول التحويل. ففي التحليل النفسي طرق عدة لتناول مسألة التحويل، وهي طرق لا يلغي بعضها البعض. ويمكن تحديدها على مستويات مختلفة. فعلى سبيل المثال، إذا ما تم اعتبار علاقة الفرد بهاته أو تلك من الهيئات - التي عرفها فرويد في إطار تقسيمه الثاني للجهاز النفسي، بكونها الأنا المثالي أو الأنا الأعلى - بأنها جزئية، فذلك لا يعني في الغالب إلا أننا فقط لا تعطي سوى نظرة جانبية لما يهم بالأساس العلاقة بالآخر الأكبر.

إلا أن هناك اختلافات حول هذه المسألة ليس من الممكن اختزالها. فمن بينها المنظور الذي لا يمكن إلا أن يؤثر في ممارسة التحليل والذي يركز في تحليله للتحويل على ما يسميه بالتحالف مع الجانب السوي للأنا. وهو منظور يَطلب من المتحلل استعمال رويته كي يتمكن من ملاحظة الطابع الوهمي لتصرفاته في أطار علاقته مع المحلِّل. إنها أطروحة تعمل على هدم ما يتعلق به الأمر في التحليل وذلك بطمسها هنا لانقسام الذات المركزي وبتجسيد هذا الانقسام فعليا على مستوى الحضور. إن الاعتماد على جزء سوي من الذات، يُعتقد بأنه متواجد هنا على مستوى الواقعي، وعلى استعداد للحكم  للاسطفاف بجانب المحلِّل كي يحكم على ما قد يحصل في إطار التحويل، إنما هو في حدً ذاته جهل بكون هذا الجانب يشكل حقا ما يتعلق به الأمر في التحويل، بحيث أنه هو الذي يغلق الباب، وبأن "الحسناء" التي نتطلع الى الحديث معها هي هناك خلفه وهي لا ترجو إلا فتحه. ولهذا بالضبط، وفِي هذه الآونة بالذات، يصبح التأويل مواتيا وفاصلا وذلك لان ما يجب أن نتحدث إليه هي تلك الحسناء خلف الباب بالذات.  

إنني لا أفعل هنا سوى الإشارة إلى ما قد يلحق من قلب رأسا على عقب للنموذج الذي نُكوِّنه نحن في فكرنا حول هذه المسألة. لقد قلت في مكان ما بأن اللاشعور هو خطاب الآخر. في حين أن خطاب الآخر الذي يتطلب الأمر تحقيقه، والذي يخص اللاشعور، ليس له وجود أبعد من هذا الأخير وإنما خارجه. إنه الخطاب الذي يَطلب، عن طريق فم المحلِّل، بفتح الباب. وبالرغم من ذلك، تظل مفارقة قائمة في تعيين حركة انغلاق اللاشعور هاته، بكونه اللحظة الأولية التي يستقي منه التأويل مفعوله. وعلى هذا المستوى تنكشف الأزمة المفهومية الدائمة التي تتواجد في التحليل النفسي والتي تتعلق بالنظرة التي يتوجب اتخاذها تجاه وظيفة التحويل. 

إن التناقص الحاصل في وظيفته والذي يجعل منه نقطة التأثير لمفعول التأويل، في حين نجده يشغل في نفس الوقت لحظة انغلاق اللاشعور، هو ما يَلزم أن نعتبره كما هو حقا، بمعنى كونه عقدة. أن نعتبره عقدة مستعصية أم لا، فهذا ما يجب النظر فيه، لكنه عقدة على كل حال. وهذا ما يدفع بنا إلى النظر فيه - وهو ما قمت به لمدة سنوات عدة - انطلاقا من اعتبارات مستقاة من علم الطوبولجيا والتي أتمنى ألا يبدو التذكير بها من دون فائدة.

 4

هناك أزمة في التحليل، ويحق لي وبدون انحياز، أن اختار آخر نص لأحدهم لا يمكن عده من العقول الضعيفة، وهو نص بإمكانه أن يبِين عنها وبالطريقة الأكثر جلاءا. إنه مقال محكم، يشد الانتباه، لصاحبه طوماس تْزاز. نشره في العدد الأخير من المجلة العالمية للتحليل النفسي. وفيه يحدثنا عن مدينة سرقوسة، لكنه مع الأسف لا يجعل هذه الأخيرة أكثر قرابة من أرخميدس، لأن سرقوسة هاته هي في ولاية نيويورك. لقد أُوحي هذا المقال إلى صاحبه انطلاقا من فكرة متماسكة مع أطروحته التي ألهمت مقالاته السابقة. وهي أطروحة تثير الانتباه حقا إلى أصالة توجهه التحليلي.

إنه لمن المثير للانتباه حقا، من لدن محلِّل له مكانة عالية في وسطه التحليلي الأمريكي على الخصوص، أن يعتبر التحويل بكونه مجرد مقاومة من طرف المحلِّل، ثم يصل إلى خلاصة يقول فيها: "إن التحويل هو بمثابة المحور الذي ترتكز عليه كل العملية التحليلنفسية. فهو مفهوم غير رسمي لكنه ضروري. إلا أنه يشكل منبع الجراثيم التي قد تعمل على تدميره، بل وعلى تدمير التحليل النفسي في حد ذاته. لماذا؟ لأنه يضع المحلِّل في موضع أبعد من محك الواقع كما يصبو إلى التوصل إليه من طرف مرضاه، من زملائه ومن نفسه. يجب الإعتراف الكامل بهذا الخطر. فلا مهنية المحلِّل ولا ترتيب معايير الممارسة ولا حتى التحاليل التكوينية المدفوع به الى حدود لا تُطاق، من شأنها أن تحمينا من هذا الخطر". وهاهنا نبلغ خلاصة المقال: "إن نزاهة المحلِّل والوضعية التحليلية من شأنها، لوحدها فقط، أن تجنبنا من خطر انطفاء الحوار الفريد من نوعه بين المحلِّل والمتحلل". إن هذا الباب المسدود المختلق بالكامل، مرده إلى كون المؤلف لا يري في عملية تحليل التحويل إلا باعتباره ناتج موافقة يتم الحصول عليها من طرف الجانب السوي من الأنا، باعتباره الجانب القادر على الحكم واقعية الأمور وفصلها عما هو وهمي.

لذا فإن مقاله يبتدئ، وبصفة منطقية هكذا : "إن التحويل هو على شاكلة مفاهيم الخطأ والوهم والهوام". فعندما يتم التحقق من حصول التحويل أثناء التحليل، فإن الأمر يبقى مسألة توافق بين المتحلل والمحلِّل، مع الفارق أن المحلِّل، نظرا لأنه يصبح هنا بدون إمكانية استئناف ولا إمكانية استنجاد، فإننا نجدنا مقودين هنا لاعتبار كل محاولة لتحليل التحويل بمثابة حقل تحفه المخاطر من كل صوب، مع عدم إمكانية التحكم فيه.

لم أتخذ هذا المقال إلا كحالة بينية، لكنها بيانية، تدفع بنا هنا إلى إعادة الاعتبار لسببية تُدخل في الحسبان لعبة من مجال آخر. وهذا المجال هو مجال الحقيقة. والحقيقة لا تنبني إلا لكون الكلام، وحتى الكاذب منه، ينادي بها ويستجديها. وهذا البعد هو دائما غائب في النزعة المنطقية-الوضعانية التي تغلب على تحليل مفهوم التحويل لدا تْزاز. 

لقد تم الحديث عن نزوع فكراني لديَّ في ما يتعلق بمنظوري لدينامية اللاشعور، بحجة أنني أضع وظيفة الدال بخصوصها في مكان الصدارة. لكن أفلا يبدو جليا بالعكس، بأن في هذا الموقف الاجرائي لدى تْزاز، ينجلي بكل وضوح النزوع إلى الفكرنة المزعومة بخصوصي؟

فبغض النظر عن كوننا بعيدين كل البعد عن اعتبار ذاتين في وضعية محض مزدوجة، تتحادثان في مسائل ذاتية متواجدة لديهما بصفة قبلية ومطروحة على مستوى السلوك وكأنها نتيجة آثار انخفاض ضغط نفسي ما، فإنه يلزمنا أثناء التحليل العمل على إبراز حقل الخداع الممكن. فعندما طرحتُ بين أيديكم مفهوم الذات اليقينية لدى ديكارت كنقطة المنطلق الضروري لكل تأملاتنا التنظيرية حول ما يَبين عنه اللاشعور، فقد أكدت لدى ديكارت على دور التوازن الذي يلعبه الآخر الأكبر الذي ليس بوسعه أبدا أن يكون مخادِعا. أما في التحليل، فإنه من الأخطر أن تتم مخادعة هذا الآخر الأكبر. وهذا ليس هو البعد الوحيد الذي يجب الإهتمام به خلال التحويل. لكن لتتعرفوا بأنه إن كان هناك مجال من مجالات الخطاب، يمكن فيه للمخادعة أن تحظى بنجاح، فإنه بلا ريب مجال الحب الذي يعطي لهذه المخادعة النموذج الأمثل. فما من طريقة كي نطمئن أنفسنا، عندما نكون على وشك الغلط، أفضل من إقناع الآخر بحقيقة ما نبوح به. أوليس في هذا بِنية مركزية لبُعد الحب، يعطينا التحويل فرصة لتصويرها؟ فباجتهادنا في إقناع الآخر بأنه يمتلك ما ينقصنا، نضمن لإنفسنا إمكانية الإستمرار في تجاهل ما ينقصنا بالذات. إن دورة الخداع، بحيث تقوم بإبراز بُعد الحب في لحظة محدَّدة، هي ما يفتح أمامنا بابا شاسعا للخوض في تفاصيلها ومراحلها في الحصة المقبلة.

وليس هذا كل ما أريد أن أوضحه لكم، بحيث أن التحويل لا يتضمن كل ما يسبب إنغلاق اللاشعور. فما يسبب هذا الإنغلاق - وهو ما سنقوم بحفصة بصفته الوجه الآخر لمفهوم التحويل - هو ما أسميته بالموضوع "أ" وهو ما يتموضع على الرسم في الجهة اليسرى في محل علامة الإستفهام.                                          
        
إجابات

فرانسوا وال: إلى أي نظرية من نظريات المعرفة، في إطار الأنسقة النظرية المتواجدة، يمكن أن نربط ما قلتموه في الجزء الأول من محاضرة اليوم؟ 

لاكان: بما أنني أقول بأن الجديد في الحقل الفرويدي يكمن في إعطائنا من خلال الخيرة التحليلية شيئا من هذا القبيل يمكن التوقف عنده بهذه الشاكلة، فليس من الغريب إذا ألا تجد نموذجا له عند بلوتين مثلا.  

بالرغم من ذلك، ورغم رفضي بعدم تتبع سؤال ميلير الأول بخصوص مسألة المصدر الأنطولوجي لللاشعور، فإني قد أرخيت الحبل قليلا وأعطيت بعض المستندات الدقيقة جدا. فتحدثت عن (…) فكنت أشير بالتحديد الى العبارة التي استعملها هنري أي والذي لا يمكن أن نقول في حقه بأنه كفأ بمسائل اللاشعور، إذ يلجأ إلى موضعة اللاشعور بحيز ما من الشعور في إطار نظريته. وتحدثت أيضا عن (…) عن المنع، عن "قول لا". إنها إشارة غير بعيدة المدى في مجال الميتافيزيقا. ولا أظنني قد تجاوزت الحدود التي سطرتها لنفسي. وعلى كل، إنها إسنادات تمكنني من تنظيم النقاط الي طرحت سؤالك حولها بطريقة تمكنني من تبليغها بطريقة جيدة. ففي اللاشعور هنالك معرفة لا يمكن أبدا اعتبارها بكونها معرفة يجب اكتمالها وإغلاقها.

إن استعمال تعابير كهاته، (…) من شأنها أن تشيئ اللاشعور أكثر. لذا فإني أتجنبها بكل عناية واهتمام. أما ما هو أبعد، وهو ما أسميتُه قبل قليل بالحسناء خلف الباب، فهو ما يتعلق به الأمر حقا ولم أتطرق له اليوم بالمرة. إن ما يتعلق به الأمر فعلا هو الإنتباه الى كيف يكون حيّز من الذات وقد شُد من الخلف الى درجة عالية وعميقة من الإنفصام. إنها النقطة المفصل، إنه المفتاح الذي يجب أن نرى فيه العقدة المستعصية.

بيير كوفمان: مالعلاقة بين ما أشرتم إليه بعبارة نفاية وما تحدثم عنه سابقا تحت تعبير "بقية"؟

لاكان: البقية في مسار الإنسانية هي دوما مُجدية. أما النفاية فهي البقية المنطفئة والمتفحمة. فلفظة النفاية هنا مستعملة بطريقة جد سلبية. إنها تقصد ذلك التقهقر الذي يحصل على مستوى نظرية المعرفة السيكلوجية، بحيث يجد المحلِّل نفسه متموضعا في حقل ليس له بد من الهرب منه. فيَبحث له عن تطمينات وضمانات في نظريات تصب في ممارسات تفضي الى علاجات تقويمية وتطبيعية، متعهدة ذات المريض ببلوغه حالات السعادة الأكثر خرافية؟ وذلك بالاتكاء على ما يطبع عصرنا من نزعة تطورية بلهاء. فالنفاية هنا، هُمُ المحللون أنفسهم، وليس غير. وفي حين أن اكتشاف اللاشعور مازال فتيا، فإنها مناسبة لا سابق لها لثورة أصيلة.


 15 أبريل 1964