١
عندما يُطرح علي هذا السؤال مباشرة وبما أنه من غير الممكن أن أكذب لأن الكذب خيانة لما هو أهم لدي وعندي، فإنني لا أتاونى عن الاجابة للفور: نعم، لقد خضعتُ لتحليل نفسي.
- واستوجبَ ذلك منكِ وقتا طويلا؟
- أزيد من عشر سنوات... ويحصل أيضا أن أعيد الكرَّة.
أثناءها يبدو لي أن نظر مخاطبي قد أصابته بلبلة.
وإذا ما وضعتُ قدمي على أرض صلبة كي أبين لمخاطبي بأنني أنا المجنونة أما هو فقد بقي محتفظا بما هو أساسي بالنسبة إليه ألا وهو ماله، فإنه لا يتنازل عن إضافة ما يلي:
- وقد كلفكِ ذلك ثمنا باهضا؟
- فأجيبه: إنه أفضل استثمار مالي قمتُ به حتي الآن.
أجيبه هكذا لأنها الحقيقة أولا وثانيا كي أريح بال مخاطبي وكي أتمكن من تبرير موقفي.
وهكذا أجدني بالفعل في موقف المتهَم.
- كيف بك، وأنت السيدة الذكية، وقد برهنت على تعقلك، وأنت المثقفة المحاطة بأخيار الناس، كيف بك تلجئين الى ممارسات كهاته، ممارسات لا تليق إلا بأناس غير أكفاء للاعتماد على ذواتهم، أناس مهزوزي العقول وضعاف الشخصية؟
أما إن لم يتم قذفي مباشرة بهذه التهمة فإن ما سيتم قوله لاحقا يدلي بجلاء بأن تفكير مخاطبي يصُب تماما في هذا المنحى، إذ يقول:
- فيما يخصني أنا، فإنني كفيل بتحليل نفسي بنفسي! ولست بحاجة لمحلل نفسي...
أرد عليه وأنا ابتسم بلطف:
- لحسن حظك، فما كل الناس في حاجة إلى تحليل نفسي. إذ يمكن لغالبيتهم الاستغناء عنه كلية.
ويكفي أن أتكلم بهذه الشاكلة التي عادة ما يُعتقد بأنها تتكفل بغلق أبواب النقاش في هذا المجال الغريب والعجيب، حتى تنفجر رغبة مخاطبي في الاطلاع على أكثر التفاصيل بخصوصه! أذ كيف يعقل ألا يكون تحليل أنفسهم بأنفسهم في غير متناول يدهم؟ وكيف لي أن ادعي بتوصلي إلى معرفة عميقة لدي قد يكونوا هم عاجزين عن الولوج إليها؟
يبدو لهم ذلك من قبيل المستحيل لدرجة تجعلهم يظننون بأنهم أشجع مني لكونهم لم يستعينوا أبدا بالتحليل النفسي، وبأنهم لم يعولوا أبدا إلا على قدراتهم الذاتية، بخلافي أنا « المسكينة المعلولة ».
من أين يأتيني إذن هذا الاحساس بالتفوق؟ وكأنني انتمي الى إحدى أسر المافيا، أو إلا إحدى مجموعات الكو كلاكس كلان الغارقة في الجهل والتي، زيادة عاى ذلك، تتجدر على إقصاء الآخرين.
في هذا المستوى من التحاور لا يمكن القول إن مخاطبي يتوجه بقوله نحوي وإنما الى نفسه بالذات. آنذاك يغتنم الفرصة بصوت مرتفع كل من يحاورني لتقييم ما يعتقده حول التحليل النفسي وتقييم المسافة التي تفصله عن خوفه الباطني.
إننا كلنا نخاف من الحياة ومن الموت وبالخصوص من أنفسنا بالذات. ونخاف إذن من التحليل النفسي الذي يلزمنا بمواجهتها. لهذا فنحن نخاف من التحليل لمجرد وجوده وإن لم نكن مضطرين للاستعانة به. إننا نخاف منه وإن كنا نصرخ ضحكا لسماع إسمه، وإن كنا نستغل كل قوتنا ونستعمل كل ذكائنا من أجل نعته بأبشع النعوت.
فمنذ سيغموند فرويد ومنذ كتابه « علم الأحلام » - الذي لم ينشره إلا في الشهر الأول من سنة ١٩٠٠ حتى يبين بأننا دخلنا بفضله حقبة حضارية جديدة وثورية - فرض اللاشعور وجوده واحتل مكانته داخل مجتمعاتنا. أصبحنا نعلم مذاك بأن مركز ذواتنا ليس فيما نفكر فيه وإنما في ما لا نفكر فيه. وجدنا أنفسنا خارجين عن نطاق ما ألِفه سابقونا. فلا أحد مذاك بإمكانه أن يدعي: « إني سيد نفسي وسيد المخلوقات ». فالكل أصبح على علم بذلك وإن لم يجدر بعضهم على الاعتراف به.
منذ ذلك الحين، أصبح التساؤل المستمر قانونا يحكم النساء والرجال الذين يعتبرون أنفسهم أحرارا ولو تطلب ذلك منهم ارتياد آلام النشأة الذي يقبع في عقر ذواتنا، لكن هذه المرة، من أجل العدول عنها وتجاوزها.
إلا أن التخلي عن آلام النفس الناجمة عن الاحساس بالذنب الذي يرافق كل مجيء الى الحياة - وهو إحساس عملت الديانة وأختها الايديولوجيا بصيانته منذ قرون - لا يحصل الا من خلال عمل دؤوب وجهد عظيم وعمل صعب، وإن كان لا يحظى بالنجاح أحيانا.
٢
في ذلك اليوم، ليس بإمكاني القول إنني كنت أحس بنفسي مختلفة عما كنت أحسه في باقي الأيام. لكن كيف كنت أحس بنفسي فيما قبل ياترى؟ إن من أغرب أمور الحياة، يكمن في كوننا قد اعتدنا منذ سنوات بل عشرات السنين على حمل ثقل لا صورة له ولا إسم، اعتدنا على تحمل القلق والاحساس بالذنب في بعض الاحيان، بل على تحمل الألم الذي في الحقيقة ننسى حتى إدراكه.
فإن سألنا سائل « كيف الحال » فإننا نجيبه بكل صدق : « على أحسن ما يرام »، إذا ما تركَنا جسدُنا، لسبب ما، مرتاحين بعض الشيء، ونجدنا في تلك الحالة التي تسميها فرانسواز دولتو « صمت الأعضاء » بحيث تتخللها سمة الصحة الجسدية التي لا يعتريها حزن موسوِس.
نعم، ففي ذلك اليوم من أيام شتنبر لسنة ١٩٦٧، لو صادفني أحد معارفي وأنا أقطع شارع مارصو متجهة نحو محطة الميترو بشارع آلما وسألني عن حالي بعد ابتسامة منه، فإنني لا بد أجيبه، وإن كنتُ لا أرى كيف كانت ابتسامتي نحوه: « بألف خير ».
لكن بعد ثواني معدودات، وجدتُني تحت وطأة حاجة مهولة لا تقهر كي أرمي نفسي تحت قاطرة المترو التي كانت تدخل المحطة في الحين.
رافق إحساسَ الرعب التي تملكني أثناءها، إحساس عارم من الاندهاش: فما الذي حصل لي أنا التي، ومنذ ما يزيد عن الثلاثين سنة مضت عن لحظة ولادتي، كنت عموما أتحكم جيدا في ذاتي؟ نعم، كنت قد اعتدت على تخبية أحاسيسي ومشاعري. كنتُ امرأة تخفي الأعظم من ذاتها. كنتُ ما يمكن تسميته بالشخص السِّري، ذي الشخصية المبهمة. كان بعضهم يطلق علي نعت الغامضة وهو ماكان يزيدني اعتزازا بنفسي ويبدو لي أنه يزيد من جاذبيتي. لقد كنت أظنني هكذا جذابة، أو بالأحرى كنت أود آن أكون كذلك.
لكن تلك المرأة الجذابة التي تزينت وقوَّمت هندامها كي تظهر كذلك والتي كانت على أهبة ركوب المترو لتزور محلات التجميل حتى يتسنى لها اتمام زينتها، انتابتها فجأة، كما يحصل لكل آمرأة تمَلكها اليأس، رغبة لارد لها للرمي بنفسها تحت قاطرة المترو. رغبة لا سبب لها، لأنني آنذاك ما كنت أرى لها من سبب البتة. وهذا ما كان يرعبني حقا.
لقد تملكني هذا الخِضم من الأحاسيس في ثواني معدودة حيث كانت قاطرة المترو تقترب في صخب بداخل النفق الصخري. أثناءها وددت لو كانت بحوزتي قيود أو أصفاد أشد بها معصمي الى أحد اعمدة المقاعد الحديدية التراصة على رصيف المحطة. وربما قد تصدني عن الرمي بنفسي تحت المترو طبقا لأوامر تلك القوة العارمة التي استحوذت على أناي.
إن تلك الحاجة الملحة لربطي وتقييدي آنذاك، هي بمثابة إرادة قوية للبقاء على قيد الحياة، لكني في الواقع، لم أتبين ذلك إلا في هذه الآونة وأنا أكتب هذه الأحداث للمرة الأولى. فإن كان جانب من شخصي قد أصابه الملل في الحياة، وعزف عن البقاء، وكره نفسه ككائن حي، وفقد ثقته في من حوله من بشر، فظن أن ما تبقى من حياته لا طائل منه ولا جدوى، كان هنالك أيضا جانب آخر يقاوم شبرا شبرا لاسترداد حقه في البقاء.
وهكذا فقد كان هذا الجانب يسعى لإيقاف الجانب الأول. لقد ورد آنذاك إلى ذهني صورة القيود التي يستعملها رجال الدرك لشد أيدي الموقوفين. لكنها وسيلة لم أكن على ألفة بها ولم يحصل لي أن أبصرتها عن قرب وليس لي اطلاع على كيفية اقتنائها. لكن الهدف من مجيء هذه الصورة الى ذهني يتقصى وضعي في موضع الدركي واللص. وجدتُني آنذاك منقسمة الى ذاتين: من جانب، هناك ذاتي التي تقف بجانب القانون، ومن الجهة الأخرى ذاتي المتمردة، المتهمشة والقاتلة والتي تصبو الى إبادة كينونتي بالكامل.
وإن كان لابد من إعطاء مثال لما يسمى « انقسام الذات » في التحليل النفسي، أقول بأنني تجسدته على رصيف المترو. أما من تغلب في نهاية المطاف فهو الدركي الذي يمثل نزوة الحياة.
فعندما خمنت الاحتماء بالمقعد الحديدي على الرصيف ريثما تمر القاطرة، قررت الجلوس عليه والقبض على قضبانه بكلتى يدي، مغمضة عيني ومديرة قفاي الى القاطرة.
نعم، بقيت هكذا جالسة حتى مرت القاطرة. لم أكن أدري آنذاك لمذا كان الدركي في نفسي هو الأقوى. أما الآن وأنا متوافقة مع نفسي بما فيه الكفاية، من الممكن الحصول على إجابة لما حدث آنذاك. وبمجرة ما اختفت القاطرة عن ناظري، حتى صعدت السلاليم جريا نحو المخرج الأرضي، نحو الهواء الطلق. وخلال كل هذا الوقت، بدا لي وكأنني كنت وحيدة ولا وجود لبني آدم من حولي. ربما كان هناك أناس، لكنني ما رأيت لا مسافرا ولا موظفا ولا مارَّا، ولا أحد بتاتا. وربما كان ذاك جزءا من مشكلتي إذ كنتُ أعتبر نفسي وحيدة في الوجود، أقاوم الجميع لوحدي، وأقاوم المترو الساحق. وأصارع نفسي وتلك النزوة الملحة في الخلاص. لكنه خلاص مماذا؟
٣
شيء واحد كان يبدو لي أكيدا ولم أفتعل ذلك عنوة. فلم أكن لأنكر او أخفي عن نفسي بأنني لم أكن على ما يرام، ولم أكن لأتركها تغوص في معاناتها ومشاكلها.
لقد قاومت طويلا كي لا أعرف ما حصل، أو قل أنني كنت أتظاهر بعدم المعرفة حتى أتمكن من الحفاظ بماء الوجه. فهذه المقاومة الشاقة، هذه « المقاومة المعنوية التي تساوي بعنفها حروب الرجال » كما سماها رامبو الذي كانت كتبه من قراءاتي المفضلة آنذاك، تم خوضها حتى الآن خارجا عن ذاتي.
اليوم فقط أخذتْ تبزُغ في إطار وعيي. لقد كانت مؤلمة لدرجة الرعب، لكن يجب أن أعتبرها خيرا وتقدما على كل حال. فبإدراكي بأن الأمر ليس على ما يرام، سيكون بإمكاني في النهاية أن أفعل شيئا قد يخرجني من هذا المأزق.
في الواقع، اليوم فقط أعتبِر الاعتراف بتصدع ذاتي هو من باب حُسن حظي، وبأن التحليل النفسي هو ما سمَكنني من أن أعتبره كذلك. عكس ما كنت أعتقده في السابق، حيث قضيت وقتا طويلا أظن أن الأمر على ما يرام كلما خبينا مشاكلنا الحميمية وقلقنا عن أنفسنا وعن الآخرين. فكل ألم يتم نكرانه لا وجد له. هكذا كان ظني الذي ما فتئ يساير الظن العام. لكن جسمنا الذي لا يفتأ يغذِّي أنواعا مختلفة من داء السرطان، يبرهن على العكس. فالجهل لا ينفع في شيئ، بل إن الجميع يتفق على أن تشخيص الداء في حينه يمهد الشفاء. ذاتُنا أيضا قد تحضن لسنوات مديدة بعض أنواع سرطان الروح التي عادة ما نسميها عُصابا أو ذُهانا أو أمراضا عقلية. إنها أمراض تنخر ذواتنا عندما يعُم الداء وينتشر الوباء في مقتبل العمر وما بعده.
فالوقت لا يرحم ومرور الزمن لا يخفف من حدة الألم. ومع تقدم العمر وفي زمن الشيخوخة يزداد وسواس المتوسوسين، وتتفاقم حالة المهستَرين والكذابين والمنافقين وينغلق الخوافون على أنفسهم أكثر ويتساقط المكتئبون كالذباب تحت وطأة المهدئات.
أما أنا فإن نوبتي قد انفجرت في واضحة النهار واضحى أنذاك بإمكاني محاولة شفائي. وذاك بالفعل ما خامرني مباشرة عندما كنت على وشك الصعود الى سطح محطة المترو، قاصدة بيتي بعناء شديد. ذلك أن أعراض القلق مازات تقبض علي بقوة. في كل خطوة أخطوها، كنت أحس بالأرض تنسحب من تحت قدماي. كان الدُوار يتملكني فيدفعني للتمايل من هذا الجانب الى ذاك. نسيج دِرعي الذاتي تفكك ولم أعد قادرة عل لمِّ ألامي بحاويها الداخلي. تماما كما هو حال الملك رونو يشتكي وهو في طريقه الى بيته، معقور البطن، حاملا أحشاءه بين يديه.
بالرغم من ذلك، فكرةٌ واحدة قبضت على فكري وشغلت بالي: لن أطلب المساعدة من طبيب عمومي، ولن أطلب أبدا مساعة طبيب العقل لأنني أخشى عواقب التطبيب الكيميائي. كان الهلع يجتاحني دوما أمام هذه العقاقير التي تقضي على الأعراض عوض محاولة فهم كنهها. وهكذا عزمت على مكالمة محلل نفساني.
لكن ألم أكن أظن وأنا قبالة قاطرة المترو بأنني كنت وحيدة في هذا العالم، ولا وجود لأحد غيري في هذا الوجود؟ إنها فكرة غير صحيحة بالفعل، إذ هناك أيضا المحللون النفسانيون.
٤
المرة الأولى التي سمعت الحديث فيها عن التحليل النفسي ورأيت إسم فرويد مكتوبا كانت في مدينة موجيف، خلال الفصل الدراسي إبان الحرب.
على إثر إصابة بمرض السل - بدتْ للوهلة الأولى على آنها عارضة لكني تبينت أثناء التحليل النفسي في ما بعد بأنها كانت عبارة عن ردة فعل من جسمي لوضعية عائلية لم أكن لأطيقها - بعثني الطبيب لمدينة جبلية كي أعالج رئتي اليسرى. كانت عمتي آنذاك تقطن منطقة الهوت-سافوا حيث التحق زوجها بجيش الجينرال ديغول. هناك اتخذتْ لنفسها مع ابنتيها ملجأ فعرضتْ علي المجيئ لإيوائي أثناء العلاج.
ورغم الحرب، لقد حاولنا نحن الأطفال مواصلة دراستنا. فحالفني الحظ أن أندمج في قسم الفلسفة الذي تتوفر عليه المؤسسة الدراسية الصغيرة التي تشرف عليها الانسة لوكا. مما يميز الآنسة لوكا أنها كانت تطلب منا حفظ مقرر الفلسفة عن ظهر قلب. وحتى الآن تحضرني صورة كتاب المقرر الذي كان في حوزتي. إنه كتاب ذي حجم كبير، زُين غلافه الذي يضم أوراق جميلة ولامعة بنجوم رمادية.
كنت أحظى بذاكرة قوية. وبما أنني كنت أرغب في أن احتل المرتبة الأولى، سواء في الدراسة أو في كل مجالات الحياة الأخرى، فإنني كنت أبتلع كل شيء وأحفظه في ذاكرتي، مستعدة لاستعادته رهن الطلب. لكن هذا بالذات ما يشكل عرَضا آخر من بين أعراض معاناتي النفسية والذي سأقوم بمجابهته خلال تحليلي النفسي. إنني إن توقفت عند هذه الأحداث البسيطة فلكي أوكد بأن كل ما يحصل لنا أثناء طفولتنا ومراهقتنا إلا وله معنى وإن كنا نعتبر ذواتنا في هذه المراحل صفحات بيضاء لا دلالة لها.
فكل شيء له مغزاه الخفي وتأثيره ونواياه ومعناه، سواء تبينا ذلك أم لا، وسواء علمنا بقيمته أم لا. إذ قد يحصل أن نقضي حياتنا حتى لحظة مماتنا ونحن نهزأ كلية بدلالة تصرفاتنا وبسيرورة الأحداث وبسير حياتنا وحياة الآخرين. بتصرفهم هكذا يتوصل بعض الناس الى تحمل واقعهم. بل يمكن القول بأن الحظ أسعفهم للحصول على هذا الترف. لأن العيش بدون مبالاة ولا توتر هو ترف في حد ذاته.
أما فيما يخصني فلقد كنت في حاجة ماسة لأفهم نفسي وفهم ما يدور حولي لأنني كنت في حالة يرثى لها من الخلط النفسي وما يحفه من مخاوف ورغبات قلقة. كنت أيضا أرزح تحت طائلة فقدان حب كل أقربائي وأخص بالذكر منهم أختي وأبوي الذين بقوا في المناطق المحتلة من التراب الفرنسي.
وفوق كل هذا كنت تعبانة جدا. فهل يرجع ذلك الى داء السل الذي أصابني أو الى حالة القلق التي انتابتني؟ كان يصعب علي وضع قدم أمام الأخرى وترتيب خطواتي كما يلزم. كنت أجر جسدي جرا لأن المشي في الطريق الصاعد من ميجيف الى الناحية التي كنا نقطن بها، كان من غير المطاق بل ومن المستيحل.
مع ذلك لم أكن أرغب في الموت، وما أظن أنني رغبت فيها أبدا. لكن من الغريب أنني كلما اهتممت بنابغة من النوابغ وقمت بقرأة سيرة حياته إلا وتبين في الأخير بأنه قد لاقى حتفه في ريعان شبابه من جراء داء السل. فذاك كان حال الفنانين مرهفي الحس أمثال شوبان وماري باشكيرتسيف وكاترين مانسفيلد.
لقد راودت ذهني فكرة كوني قد تماهيت بسيرة هؤلاء الفنانين العباقرة، لكنني لم أكن أعرف بعد دلالة هذا التعبير ولم يكن لي به علم ولا معرفة من قبل. لقد كنت أنذاك أجهل هذا التعبير كما كنت أجهل أيضا تعبير « الإسقاط ».
فب تلك الآونة لم نكن نتوفر على معرفة وافرة في السيكلوجيا. زد على ذلك أن الاخلاق العامة كانت تفضل الصمت عن الكلام. كان للصمت قيمة متميزة خصوصا في فترة الحرب والمقاومة السرية. فكل من كان يلتزم الصمت ويعرف كيف يلجم لسانه فيحتفظ لنفسه بانفعالاته وأحاسيسه، كان يتم اعتباره بطلا أو على الاقل أفضل من غيره.
ولقد سبق أن قلت بأنني كنت مسكونة برغبة عارمة أن أكون أفضل من الآخرين، فكنت أتمسك بالصمت لدرجة كنت لا أتحدث حتى لنفسي عن نفسي. لكنني كنت أيضا - وهذا من تناقضاتي الكثيرة - في حاجة ملحة لمعرفة ما يحصل ولمعرفة نفسي.
فبتعطشي الكبير هذا للمعرفة احتفظت في ذاكرتي بالقاعدة الفلسفية اليونانية التي توصي المرء أن يتثبت، قبل كل شيء وحتى قبل أن يشق طريقه في الحياة، بمعرفة نفسه بنفسه. وفي نفس الاتجاه خامرتْ ذاك الطبيب الأجنبي الأصل والمسمى سيغمون فرويد، فكرة الانتباه ليس فقط الى أبدان مرضاه وإنما أيضا الى ما يدور في أفئدتهم وما يجول في خبايا أنفسهم. والاكثر غرابة وإعجابا أنه عمل على معالجة موضاه بواسطة الكلام، ولقد خلف في هذا المجال كتبا عدة.
٥
عندما طفوت على سطح نفق المترو، صعدت وأنا أقبض بيدي على حقيبتي الشخصية، الى شقتي الخالية التي تركني فيها طلاقي من زوجي. في حينها أدركت بأنني أستكن الى مكان يفتقر الى الركائز التي قد تحميني. بمجرد دخولها وقع نظري على نافذتها الزجاجة العريضة وأدركت أيضا أنني كنت في الطابق الخامس من العمارة. كنت حقا أعلم بوجود هذه الفتحة العريضة في شقتي لكنني لم أكن لأعرها نفس الاهتمام الذي أخصها به الآن، وكأن النزوة التي كانت تريد أن تدفع بي تحت عجلات قاطرة المترو لازلت تفعل فعلها.
إنها تريد الآن أن تدحرجني حتى الشرفة كي أقذف بنفسي من على الحاجز. أي ولله! ياله من دافع شنيع وغريب ولا معقول! في الواقع ليست لدي رغبة في الموت لكني أريد فقط أن أرمي بنفسي تهربا من شيء ما. لكن مماذا؟
إن من لم يسبق لهم الاحساس بهذه الازدواجية لا يمكنهم فهم مدى كوننا نجد أنفسنا عاجزين أمام هذه الحالة النفسية التي ما من شيئ هيأنا للتعاطي معها، وهي أن كينونتنا لا تنحصر في ما نعتقده وفي ما نتصوره بوعينا. إذ هناك قوة بداخلنا تبحث، في ظروف معينة، أن تسطو على إرادتنا وتتحكم بها. يعرفون ذلك جيدا من يتملكهم الغضب عادة. بعض القلتلة أيضا قد يحصلوا بواسطتها على ظروف مخففة أمام قضاة يقظين.
فكان بإمكاني أن ألوذ بها لأنني أنا أيضا كنت أعتبرني بريئة من الرغبة في قتل نفسي، ككل أولائك الذي يقدمون على اعمال يدينونها هم أنفسهم. والدليل الراسخ على كوني لم أكن أود الانصياع الى النزوة التي حاولت إرغامي على قتل نفسي، هو أنني فكرت ثانية بربط نفسي بآلة التدفئة بصالون شقتي. كنت أود الالتساق بها حتى لا أصبح كبش فداء شيطاني الداخلي، فأنجو من تلك الرغبة الجهنمية التي كانت تصبو لذم نفسيتي وتدمير ذاتي.
أكان لهذه النزعة التدميرية لنفسي منبعها في ذاتي أنا التي لم أكن عنيفة الطبع ولا إجرامية الميول؟ ما أظن ذلك. فالى من ترجع هذه النزعة؟ فمن كان من حولي يخطط لاندثاري ومنذ متى؟ أسئلة ما كان بامكاني لوحدي الاجابة عنها في لمحة عين. وهكذا بدا لي من الجلي أن أبحث عمن يساعدني في ذلك.
لقد تزاحمت في ذهني كل هذه الأفكار وأنا اقترب من آلة التلفون. أدرت ظهري الى النافذة باحتراز شديد وأخذت في ادخال رقم هاتف محللة نفسانية، صديقة لي. ولحسن حظي كانت مود في منزلها. ببضع كلمات مقتضبة اعلمتُها بما حصل : قلت لها إنني كدت أن ألقي بنفسي تحت عجلات المترو وإني في أمسِّ الحاجة الى مساعدتها فمتى يمككني لقياها.
- غدا، أجابتني بدون تردد، ثم حددت لي ساعة في العشية.
شكرتها وما إن وضعت سماعة التيلفون حتي أحسست بنوع من الارتياح وهو ما أثار انتباهي إذ لم يحصل بعد شيئ يذكر. فكل ما حصل هو أنني استجديت محللة نفسانية وحصلت للتو منها على مساندة مبدئية، أما الاستفادة من تحليل نفسي فذاك قد يتطلب سنوات طوالا. كل أولائك الذين خطوا هذه الخطوة فحصلوا على موعد عندما كلَّموا محللا للمرة الأولى، بإمكانهم الشهادة بهذا: ولو تطلب انتظار الموعد الأول ستة أشهر أو سنة، كما يحصل عادة مع المحللين المطلوبين بكثرة، فإننا نحس مع ذلك وكأن تغيرا قد حصل في ذاتنا، وهو ما يدل على أن السيرورة التحليلية بدأت تفعل فعلها. وابتداءا من هذه اللحظة بالذات، يخامرنا شعور بأن ما يلم بنا من معاناة قد تصل الى حد الهلع، لن يتواصل الى ما لا نهاية. فالجحيم ليس أبديا ولا منعدم الحدود، فبعد كل نفق مخرج. وحتى إن كان هذا المخرج لا يتسع الا لرأس إبرة، فبوسعنا أن نرى من خلاله بصيصا من النور الذي قد يقود الى خارج النفق. وهذا ما يسمى باسم الترجي.
وزيادة على ذلك فإن هذا الرجاء، وإن كان يتطلب تدخل شخص آخر، فإن منبعه ليس خارجيا وإنما يصدر من الأعماق. فنحن الذين نقرر بأن على الأمور أن تتوقف عند هذا الحد لأننا نريد إخراج انفسنا من المأزق الذي توجد فيه.
نعم، من لحظة لأخرى وجدتني على استعداد تام للتخلي عن كل ما أسميته أناي، عن كل ما كنت أتمسك به وأعتقده يشكل كنه كينونتي من تصرفات ملتوية وأفراح خاطفة وبقايا أسرار ورغبات بائسة. كل ما يشكل شخصيتي الغالية لدي. أما اليوم فإنني عازمة على التخلي عنها خصوصا وأنها تعمدتْ خذلاني. يلزمني تعويضها بشخصية أخرى.
كل اعتقاداتي الخاطئة وأفكاري المسبقة عن التحليل النفسي تبخرت في رمشة عين. فلا شيء على وجه البسيطة بإمكانه أن يشدني الى هذه القوة الفتاكة بداخلي والتي تدفع بي، كي أقاوِم جبروتها، لربط نفسي بمدفأة شقتي. إلا أن مقوامة هذه القوة لا تكفي بل يلزمني استإصالها من ذاتي والرمي بها بعيدا عني، كي لا تبقى أبدا جزءا مني.
قولي هذا قد يدفع الى الظن بأن التحليل النفسي هو من قبيل طرد الأرواح الشريرة بحيث يتم ابعاد الشيطان بعد قراءة بعض التعاويذ. نعم، أثناء التحليل كلام كثير يقال، لكن ليس من أجل إخراص الشيطان وإبعاده وإنما للدفع به للكلام وللحديث، إذ ليس هناك أخطر في ذواتنا مما بقي بها غير منطوق به ومسكوت عنه. فما يجعل مدة التحليل النفسي تطول هو أن ما تم السكوت عنه قد يرجع الى فترات حياتنا لم نكن نمتلك أثناءها قدرة الكلام، بل قد يصعد الى ما قبل فترة ولادتنا. فبعض المسكوت عنه من طرف الأجيال السابقة قد يؤثر على نفسيتنا تماما كما لو كان قد حصل في حياتنا الراهنة. فلتذهبوا لنبش ما تم كتمانه عنكم. وهو ذا ما سيحصل لي بعد سنوات عدة من التنقيب التحليلي.
لكن في هذه اللحظة بالذات لم يكن ليخطر على بالي حجم المجهود الذي ينتظرني. في تلك الساعة ماكنت أفكر إلا في الموعد المحدد غدا وإمكانية حدوثه. لست أدري كيف قضيتُ الأمسية في انتظار الموعد وأنا تحت زوبعة كل ما كان مسكوت عنه في ذاتي وقد أخذ يغلو بداخلي. ربما قضيتها أمام جهاز التلفاز أتحسس أعضائي كي أتعرف بذاتي لأني أصبحت غريبة عن نفسي.