١١
في الحقيقة، بدأت حالتي تتأزم بغير علم مني ومن غير دراية أهلي. أصبت أعاني من شدة العجز والغم ومن قلة فهمي لذاتي وللاخرين. إنه لا يسعني أن أتذكر تلك الفترات التي كنت فيها منكمشة على نفسي إلا من خلال إحساس غريب تطغى عليه الشاعرية والحنان.
وتلك هي إحدى الأسباب التي تجعل علاج المراهقين بالتحليل النفسي عويصا الى حد ما، وتجعل من الصعب استجلاء ما يمكن اعتباره من قبيل المرض النفسي لديهم. إنهم يعيشون الحياة بنوع من التعالي وهو ما يمكن اعتباره طبيعيا في هاته الفترات من العمر. فإن بقوا قابعين في عقر غرفتهم، منكمشين تحت أغطية فراشهم، في حالة من فقدان الشهية تارة وفي حالة من الشره تارة أخرى - ولقد كنت كذلك بين الفينة والأخرى - آنذا يشتد تعاضد أفراد الأسرة ليقولوا سويا: "ماهي إلا أسوأ فترات الحياة، ستمر لامحالة وتنتهي!"
يجب القول إن أغلب المراهقين لا يسقطون ضحية تناول الكحول واستهلاك المخدرات وسبل الانتحار التي تحاصرهم من كل جانب وإنما يواصلون ويكملون دراستهم فينجحون. لكن البعض منهم، في فترة من فترات نموه، قد يمر بأزمة، ما من أحد يمكنه التنبؤ بتبعاتها. فهاهو عرضة للشرود أو عرضة لأعمال العنف ضد نفسه وضد الآخرين أو عرضة الاضرابات النفسبدنية.
- ماذا وقع، إنه كان طفلا طيبا وهادئا. ولقد كان ناجحا ومتفوقا. فلا أحد كان يتوقع ما يحصل!
أنا أيضا كنت فتاة جميلة، طيبة وهادئة، وهو ما بقي يتردد على أذني من طرف معارفي عن تلك الفترة. فلشدما يشددون على ما كنت أنعم به آنذاك من هناء بال وهدوء وطيبوبة. طبعا! لكن مع ذلك..
انتقلت الي الجامعة بعد اتهائي من الدراسة الثانوية. تسجلت بكلية القانون بجامعة السربون. لم تكن الدراسة هناك تأخذ مني حيزا كبيرا من الوقت. كان عدد الطلاب انذاك أقل بكثير مما هو عليه الآن، لذا كان الأساتذة أكثر تسامحا. فكان يكفي الإنشغال بالدروس بضعة أسابيع فقط من موعد الامتحان حتى يكون النجاح مضمونا.
فيما تبقى من الوقت كنت حرة، وهو ما يعني أنه كان بامكاني التفرغ لفراغي الداخلي. كان هذا الانطواء الذاتي هو لب عرَضي ومرضي. كنت أنزع الى السكون والاختباء والابتعاد عن كل مشاركة في حركية الحياة. بدون هدف ولا مغزى، كنت أقضي جل وقتي في التنقل من غرفة الى غرفة بمنزلنا البارسي الواسع الذي أُفرغ من خدمه وأثاثه الفاخرة. أفتح وأغلق أدراجا مملوؤة أشياءا أصبحت غير ذي فائدة بالنسبة لي. أجلس القرفصاء على فراشي لأكتب نصوصا أتنازل عنها ريث بدايتها، ثم أنطلق في رسوم أزياء موضة أتخلى عنها بمجرد الشروع فيها.
كنت أطالع وأقرأ بشراهة، ثم أحفظ عن ظهر قلب قصائد الأشعار المأساوية اليائسة. كنت أبكي كثيرا من دون سبب على ما يبدو. أمتطي دراجتي وانطلق من دون صوب في شوارع باريس التي غادرتْها السيارات. شوارع باريس الفارغة تروقني بجمالها فتزيل عني الممل والضنك.
الغريب أنني كنت راضية بوضعيتي التي يملأها الفراغ وانعدام النشاط الحيوي. فمنذ الأبد، كانت أمي لا توافق على إبداء أي رغبة مني أو على التطلع لسفر ولو كان مجرد نزهة. لقد كانت لا تتحمل أن أبتعد عنها ولو قيد أنملة. أما إن حاولت مخالفتها فإن القلق الذي قد ينتابها يصبح تحمله فوق طاقتي.
١٢
إن ما يشد الانتباه عندما نبدأ في الخضوع لتحليل نفسي، هو المكانة المركزية التي تحتلها تعابير مثل بابا وماما. بعض الناس الذين لم يعرفوا أولياءهم، أو أقل القليل، لا يجدون جدوي في استحضار ذكريات الطفولة، وبالخصوص تلك التي تتعلق بتعلم النظافة الأولية. فعندما يحصل أن يستشيروا معالجا نفسيا بخصوص مشاكلهم النفسية فإنهم يتصرفون وكأن الأمر يتعلق بأمور تقتصر على حالهم كراشدين في علاقتهم براشدين آخرين، إلا أنهم في عملية التحليل يجدون أنفسهم مجرورين للحديث حتى عن صباهم وهم في المهد. وهذا كلام لا يسليهم بقدر ما قد يتسلى به المحلِّل، في نطرهم. في كل الحوال ، تراهم قد محوا من ذاكرتهم كل تلك الخزعبلات إن كان لها وجود.
لكن المشاكل التي يشتكون منها مع زوجتهم أو عشيقتهم أو مدير عملهم، هي في الواقع نسخة طبق الأصل للصراعات التي طبعت علاقاتهم البدائية مع ذويهم. وهنا تكمن أهميه استعادة ذكرى هذه الصراعات إذا ما كنا نبغي تعديل مفعولها أو إعادة ترتيبها أو تركيبها بالكامل.
هاكم مثال أحد أقربائي وقد تقدم به العمر. خرج من بطن أمه قبل الأوان وتم وضعه في حاضنة كي يكتمل نموه بأمان. وهكذا لقد تم فصله منذ ساعة ولادته عن جسد أمه وعن رائحتها ودفئها وحنانها. وهكذا أيضا تُرك لحاله معتمدا فقط على قواه الذاتية.
وفيما بعد، لقد برهن خلال فترات متعددة من حياته، على قدراته الكبيرة في مواجهته منفردا كل ما اعترض طريقه من صعاب وما كابده من صدمات. في العشرين من عمره أصيب بجروج خطيرة في معركة فيردان، فظنه أطباء المعسكر من بين الموتى. لكنه استعاد عافيته لأن شغفه بالحياة بقي متجذرا وصامدا، كما قال لي. وهو أيضا الشخص المهذب والحنون وفي نفس الوقت الأقل انفعالا ممن حصلت لي معرفتهم. فالحياة بجانبه تصبح هكذا أمتع مما هو ممكن إذ لا يَعلق بجلابيب أحد. فإن بقيتَ هنا بجانبه فعلى الرحب، وإن انصرفت فمع السلامة : قد يتحسر بعض الشيئ على فراق الأحباء لكنه يتجاوز مفعوله ببساطة. وهذا الشخص هو أبي.
كان يضحك مني كلما حاولت الربط بين قوة مقاومته للصعاب وطبعه المرح من جهة، وبين ولوجه الحاضنة منذ ولادته وما قد يكون لهذا الحدث من تأثير على ذاته، من جهة أخرى. لكن تصرفاته أثناء كل المناسبات العظيمة والخطيرة تثبت هذا الارتباط. وعلى كل، لقد متح من بئر هذه الخبرة المنسية لديه، ثقته الثابتة والمتأصلة في قدرته ، فأصبج من واجبه أن يتخطي كل المصاعب اعتمادا على طاقاته الخاصة.
أنا أيضا كنت أعتقد بأن ليس لطفولتي الأولى أي تأثير على الراشدة التي أصبحتها والتي اندرجَتْ في علاقات مهنية مع رجال في عمري ليس فيهم ما يعيد أبدا إلى ذاكرتي تعلقاتي الطفولية بأمي وجدتي ومربياتي. كنت أظن أيضا أن الزمن قد مر على هؤلاء اليائسات، فلم يعد لديهن من بأس كي يجعلْنني سعيدة أم بائسة.
لقد كنت على خطإ تماما. إنني كبرت بين يدي نساء عازبات أو مرملات أو مطلقات، وبهذا كان المولود، أي مولود يشكل عندهن أغلى ما في الحياة. فنموت بين أذرعهن المرتعشة حنانا واختبرت هكذا علاقاتي الأولى مع الاخرين. فما أَعذبه أن نكون وحيدا فى قلب الاخر وأن نشغل كل باله كسَيد لا منازع له. إنه الحب المجنون وقد استسغت عذوبة هذا التعلق الغرامي الى الأبد.
لكن ذلك لم يدم طويلا. فبعد خسارات متكررة وتناوب حالة الفشل، انتهيت الى إدراك أن لا وجود لهذا التعلق الغرامي إلا في الكتابات الأدبية وفي روايات أندريه بروطون السريالية. ماعدا ذلك فما هو إلا حب خانق ومنافي للحياة. (لقد بقي الكاتب فعلا على قيد الحياة، لكن ناجدة، بطلة رواية "الحب الجنوني" فقد قضت بحبها).
أمي وجدتي كن يقتسمن معنا، أنا وأختي أبعد مستويات التعلق العاطفي، فكن يقلن لنا بأنهن سيقضين نحبهن لو حصل لنا مكروها. وإن متنا فسيمُتن لحظتها من شدة الحداد واليأس. ومع ذلك فلقد ربياني على رغبتهن الشديدة والعنيفة والبدوية في الحياة. أبي كذلك، رغم ابتعاده عني، رباني على تثبيت قدماي في تربة الرفض لكل ما يجعلني أتوانى في مقاومة صعوبات الحياة.
لهذا لم أكن أكتفي، في مجال العواطف، بأقل مما عشته إبان طفولتي من مشاعر عارمة جعلتي لِحدَّتها أبقى محبوطة، مجروحة ويائسة وفي نفس الوقت لا أريد أن أبقى ضحية هذا الاحساس المتناقض. وإلا فستكون خسارة فادحة.
١٣
إلا أن حبا عارما اعترض طريقي في مقتبل العمر، جعلني أفقد توازني لدرجة دفعتني للاحتماء بالتحليل النفسي كحل وحيد ِلما ألم بي.
فماذا كان يميز هذا الحب العارم كي يعصف بي لهذه الدرجة؟
إنه يصعب علي استتبابه، وذلك أولا لأن خفاياته وتعقيداته لا تهم أحدا غيري وثانيا لأن ما يعلمنا التحليل النفسي هو أننا لا نري في العادة إلا نصف البرتقالة.
كل ما يمكنني قوله الآن هو أنني، بعد علاقة عاطفية مرت عليها بضع سنوات، وجدت نفسي منغمسة حتى النخاع في روابط كنت أتألم وأعاني منها كثيرا مع إحساسي الشديد بعدم قدرتي على فكها.
أنذاك كنت أجدني، يوما بعد يوم، وحيدة في المساء، وحيدة في أيام العيد، وحيدة في فترات العُطل. كان يخامرني إحساس عميق بأنني كنت آنذاك أضحي بوقتي وأبذر طاقتي الابداعية، في ماذا؟ في الانتظار.
كل اللواتي عشن مكانة العشيقة يعرفن ما أريد الحديث عنه. إن معاشرة رجل متزوج لا تتيح ما قد يبدو لهن "حياة حقيقية" كنساء. فأنا لا أقول بأن وضعية كهاته من غير الممكن تحملها، لكن لابد من درجة من الرشد وقدْر من الوعي كي تحصل الاستفادة منها.
أما أنا فقد تزوجت وأنا صغيرة جدا من رجل جد مشغول بعمله. زد على ذلك أنني كنت لا أنجب فلم يكن من حظي أن أُرزق أطفالا. لهذا تمنيت، قبل فوات الأوان، أن أتمتع كامرأة "بحياة حقيقية" بمعية رجل يكون حاضرا يوميا بالمنزل. وبالخصوص كنت أتمنى ذلك الشيء البسيط والتافه: خشخشة المفاتيح في قفل الباب الخارجي للمنزل، مرة أو مرتين في اليوم.
لكنني في الواقع كنت أجد نفسي تماما في موقع نقيض ما كنت أتمناه. كنت أجدني رفقة الغياب والبعد والهجران التي لا يخفف من حدتها إلا رنات التيليفون بين الفينة والأخرى. لماذا إذن كنت أصر أن أبقى على هذه الحال، في حين كانت ذاتي بكل جوارحها تنبهني الى أنني كنت على حافة المرض؟ فهذا ماكان لا بد لي من تحليله فيما بعد.
من المعلوم أنه لم يكن بمقدوري وضع كلمات على معطيات المشكلة التي ألمت بي. بل من الممكن القول أنني كنت أشرح الأمور لنفسي بشكل عكسي. فلم أكن أبدا أبغي الافصال عن هذا الرجل، لكني كنت فقط أود من هذا الرجل الذي يدَّعي بحبه لي أن يحبني بما فيه الكفاية حتى يفضل العيش بجانبي والبقاء بقربي. إن حصل ذك، كما قلت في نفسي، فسيحصل دائي على دواء ولن أكون إذن في حاجة لتحليل نفسي.
إضافة الى ذلك، كنت أُقنع نفسي بإنه إن لم يتصرف نحوي بما كنت أتوخاه فلأنه كان يجد سبب ما يمنعه عن ذلك في ذاتي أنا؟ فما قد يكون ذلك ياترى؟ ألأنني عاقر؟ هو نفسه أب لأطفال عدة ويبدو عليه مسرورا بعلاقته بامرأة لاتنجب. كنا أنذاك في فترة تحرر المرأة فكان يُنظر الى المرأة الولَّادة بعين الازدراء. فكانت "الأدمغة" النسوية أنذاك، وفي مقدمتهن سيمون دو بوفوار يرفضن الحمل لأنه يعوق منافسة الرجال بأسلحة متكافئة والعيش معهم في مساواة.
فماذا كان يعتورني من نقص إذن؟ ذلك أنني كنت أنا السبب في كل ما حدث، أنا التي كنت على خطإ، أنا التي كنت في قفص الاتهام. أنا "المذنبة". وهل كناك امرأة تعيش عوز الحب حقا وحقيقة، قد لا تفكر في قرارة نفسها بأنها هي السبب في عدم حبه لها، بل هي مصدر المأساة والمشكلة؟
وهكذا فالسؤال التي كنت على وشك طرحه على المحلل النفساني كان يبدو لي بسيطا: كيف يمكن أن نحظى بالحب في أقصى درجاته؟
١٤
لقد كنت مرتاحة لكون المحلل الذي أدلتني عليه مود رجلا وليس امرأة. لم أكن أعرفه بعد. لكني كنت أعرف بأن عمره يناهز عمر الرجل الي كنت أحبه وهكذا إذن قد يقوم بوظيفة تعويضه على المستوى النفسي. فبدأت أتخيلني أُمَرن مخالبي على شخصه بدون أن أتعرض لخطر منه لأني مهما أقوله فإنه يبقي قابعا في مقعدة ناصتا إلي. وبالمجمل، ورغم أنني لم أره بعد ورغم كوني لست قادرة حتى على الوقوف على قدماي، فإنني أنشأت أتصورني مستعدة لإغوائه.
إن هذا ما يسمى بالتحويل في التحليل. وقد يتجلى بأشكال مختلفة، منها العشقي بطبيعة الحال ومنها الحاقد والمتعالي واللامبالي...
ومنذ انطلاق التحليل، يقوم المحلل بإعلامكم بقاعدة اللعبة أو بالأحرى، بالعقد الذي يعني إجمالا، بأن كل ما يحدث أثناء التحليل يتم من خلال الكلام وليس من خلال الأفعال. فيجب علينا ألا نقوم بأفعال غير مستحبة في مكتب المحلل ككسر شيئا ما مثلا أو عدم اتحترام المواعيد أو بالاعتداء على شخص المحلل أو بالعكس أن نعلق برقبته مبدين زغبة فيه. كل هذه أفعال قد تُفضي الى إيقاف عملية التحليل من طرف المحلِّل. وهذا يعني أن التصرفات والسلوكاات غير الكلامية تصبح محرمة في إطار التحليل النفسي.
لكن في الواقع، إن الكائن البشري، لكونه ليس روحا محضا، لا يمكن اختزاله في كلامه فقط. إنه يتحرك ويتنفس. تصدر منه روائح ويُصدر أصواتا من جسده ومن حلقومه. إنه يسرق نظرات ويعرض مظهره للعيان. والكل يعرف بأن هذا كاف لامرأة ما كي تنطلق في الإغراء، بل قد تجد في هذا الإطار أفضل فرصة لتنطلق على هواها.
كل العذراوات، وكل الملكات وكل الراهبات من القرن الماضي قد اسقطن عشاقهن في شباكهن رغم الظروف الأكثر صعوبة في المنع والتحريم. لقد كان يتم اخضاعهن للصمت المطبق خلف قضبان غليظة، لكنهن كن يفلحن مع ذلك وينجحن في بلوغ هدفهن.
أما أنا وها أنذا على مقربة من رجل غريب عني يطلب مني أن أحدثه عما يدور بخلدي وبدون مراوغة، فإنني لا أخاف شيئا ولا أخشى أحدا. وأجدني للتو أسبح في روايات الحب. فليتجرأ رجل زار محللة لأول مرة، أو امرأة زارت محللا، أن يقولا لي بأن تفكيرا من هذا القبيل لم يراودهما على الإطلاق. وهكذا يكونان من الكذابين المفترين. لكن في وضعية كهاته وهي ليست بالمسلية، لا بد أن تتحقق في شخص المحلل ما يمكن اعتباره بمثابة غنيمة وهمية، لاسطياد ما يصول ويجول في لاشعور المتردد على التحليل.
لم أكن لآتذكر مع ذلك ما كنت أرتديه من زي عندما نزلت بمكتب كريستيان، في صباح هذا اليوم من ربيع 1967، بعدما تدحرجت طويلا على الرصيف الطويل. أظن أنني عملت كل ما في وسعي كي أبدو أنيقة لكن بدون تكلف قد يثير استفزازا. كنت أود قبل كل شيء أن أظهر في قوام سيدة محترمة، خصوصا وأن مظهر جسدي كان أصغر بكثير من عمري المتقدم. كان الفرق بين مظهر جسدي وعمري كبيرا لدرجة كنت استسيغ الكذب بخصوص عمري كي أقرب بين هذا وذاك، لكن في لحظة أعتبرها لحظة الحقيقة ما كنت لأسمح لنفسي بذلك.
فحتى الأشياء البسيطة وكذلك الجزئيات الدقيقة لها قيمتها في التحليل، فنجدها تتملك العقل في لحظة عظيمة كهاته. تماما كعظمة يوم الشركة الأولي حيث يتساءل المعني بالأمر فيما إذا كانت جرعة الماء أو قطعة البسكوتة التي قام بابتلاعها مذ ثلاث ساعات، سترمي به في خطيئة قاتلة أم لا.
نعم. بالنسبة للبعض، وأنا من بينهم، تتكفل وضعية التحليل النفسي بإيقاظ تخوفاتهم والرفع من تأنيب ضميرهم. وربما لأنه ليس من السهل في وضعية كهاته معرفة ما يمكن أن نطوع إليه تفكيرنا. يقال. إن المحللين يستقبلون زوارهم بذهن خالي من كل الأفكار المسبقة. كذالك المريض، ولست إدري إن كان ذلك بمحص تقمص، يكون خالي الذهن من أي تفكير عند ما يأتي بين يدي المحلل، وخصوصا في الموعد الأول. أو بالعكس نجده يجتر نفس الفكرة أو يتمادى في التمحيص والتدقيق في الأمور الواضحة وهو ما يمكن اعتباره شكلا آخر من فراغ الذهن.
تركني المحلل برهة من الوقت في قاعة الانتظار وبقيت هناك بدون حراك غير قادرة حتى على تصفح مجلة ما، كي لا يبدو علي وكأني غير مكترثة بما ينتظرني. وبعدة مدة فتح باب مكتبه وأدخلنيه ثم قدم لي مقعدا غير بعيد من مقعده.
فماذا حدث ذلك اليوم، وفيما تشاركنا أطراف الحديث؟ أظن أنني أشرت الى زيارتي لمود قائلة: "لاشك أنها قد أطلعتك على الأمور؟"
لا يسعني هنا إلا أن أؤكد على أن المحلل النفسي لا يريد أن يعرف شيئا عن المريض إلا ما يقوله هذا الأخير بنفسه وذلك لأن اختيار كلمة دون أخرى أثناء تسلسل الكلام له أهمية كبرى. لذا طلب مني أن أعيد قصتي على مسامعه من جديد، فقصصت له ما حصل في حادثة المترو. فعلت ذلك بصعوبة كبرى لأن أحاسيس القلق كانت تنتابني كلما حاولت. وفي كل محاولة أحس بانقباض شديد يحز في أعضائي التناسلية ثم ينتشر في باقي جسدي. يديَّ تتعرقان وتختنق أنفاسي، فأتساءل مرعوبة الى أين تسير بي خطواتي.
راودتني فكرة أن أبوح لكريستيان بدقيق التفاصيل للحالة التي عشتها. ألست هنا لأتحدث عن نفسي وأفصح عما ألم بي؟ ولو أني كنت بصدد الحديث عن حادثة خلت منذ مدة فإن ما سأقوله الآن بصددها قد يكون مهما للغاية.
كانت تلك هي الطريق الصواب. أما كريستيان فكان يهز رأسه بين الفينة والأخرى متتبعا لما أقوله. إنه لا يفعل ذلك من أجل موازرتي وإنما لكي يدلني على أنه يصغي لكلامي. وهو ما طمأنني بعض الشيء. فحتى الآن لم يخطر بخلدي أن أقوم بإغوائه.
بعد ذلك عرضت باقتضاب حالة الحب التي كنت أعيشها ثم تطرقت، على شاكلة سيرة ذاتية، لبعض جوانب حياتي العائلية، الاجتماعية والمهنية. إلا أن هذه المعلومات لم يتم طلبها مني. فلستم ملزمين للافصاح توا وبديق التفاصيل عن كل هذا: عن مكان وتاريخ الازدياد، عما تحصلون عليه من راتب شهري وعما إذا ما كانت شقتكم أو منزلكم في ملككم أم لا. لكن الغريب في الأمر هو الناس عادة ما يبادرون من تلقاء أنفسهم بإعطاء هذه المعلومات بل والافاضة فيها. لقد اعتدنا على أن تكون حياتنا وتصرفاتنا مسطرة ومرتبة في سجلات، ولهذا نجدنا نفعل نفس الشيء حتى مع أنفسنا.
لكن خلال التحليل ما أسرع ما ننتبه الى أن كل هذا ما له إلا مرتبة ثانوية. أما ما له قيمة في التحليل فيكمن في الشكوى التي نحملها على أكتافنا الى التحليل وفي الطلب التي نتوسل إلى المحلل من خلاله. فالمهم هو ما نشتكي منه وما نطلبه بخصوص شكوانا هنا والآن.
لست أدري ما نجم عن كلامي خلال هذه الجلسة، لكن في لحظة ما بادر كريستيان بإعلامي بأنه يقبل مرافقتي في التحليل. أما فيما يخصني لم أكن أشك في ضرورة انصياعه المبدئي لطلبي تحليلا منه وقبوله مرافقتي فيه. لكن عندما سمعت كلامه تبين لي بأنه كان بإمكانه أن يرفض، فهو حر في موقفه وليس في موقع الطبيب الذي يلزمه اغاثة كل من يستغيث به. إنه في الواقع كمحلل، لا يكلف بالخطر المحدق بي، واقعيا كان أو خياليا وإنما كان يكلف بذاتي، ذاتي العاقلة والمتعقلة، ذاتي الأبدية التي تحمل آلامها محمل الجد، ذاتي المتعطشة للحقيقة، للتبادل والتواصل مع الآخرين. إنه بالاجمال ما كان سويا وقويا بذاتي، التي فقدت زمامها نوعا ما في اللحظة الراهنة لكنها لا تود أن تبقى هكذا بل تريد أن تستعيد زمام أمورها. فمع هذا الجانب من شخصيتي يعمل المحلل على عقد تحالف كي يقوم بمناصرته. أما الجانب الآخر، الجانب المستلب فإننا سنقوم كلانا بالتكفل به.
لقد أحس الجانب المستلب بهذا التحالف ضده لذا فقد دخل في "مقاومة" عنيدة. ذلك أن شطرنا الذي انحبس في العصاب لا يستسيغ التخلي عما اكتسبه من مواقع في ذاتيتنا. لا أبدا.
ثم إن كريستيان شرح لي بأننا سنبقي هكذا بعض الوقت نتبادل أطراف الحديث بخصوص اضطراباتي ومشاكلي في إطار جلسات استهلالية للتحليل النفسي. ربما أنه خمن، من خلال أقوالى، بأنني لم أكن بعد على مقدرة لمواجهة متطلبات التحليل لوحدي وأنا مستلقية على الأريكة ومن دون إمكانية الاستعانة برأيته. لربما كنت هشة وهزيلة البناء لدرجة تلزمني قدرا من العناية والترميم قبل بداية تحليل نفسي متعمق.
بطبيعة الحال، لست على معرفة دقيقة بحالتي وكريستيان لم يصارحني فيها. فيمكن أن نحس بأننا لسنا على ما يرام لكن ليست لنا معرفة بكنه ما يجعلنا كذلك. إنما وضع تشخيص محدد وصريح في حالة كهذه من طرف المعالج قد تكون له عواقب وخيمة لدى المريض. وفي بعض الفترات قد يطلب المحلل مواصلة التحليل كل يوم من أيام العمل الأسبوعية. فنظن خطأ أن حالتنا قد تأزمت وقد تتطلب كثيرا من العناية. إلا أن العكس هو الصحيح، إذ قد نكون على عتبة تحقيق تقدم ملموس، ولكي يتم الانتقال للمرحلة اللاحقة، قد يرغب المحلل في إسراع عملية الانتقال.
على كل فإن الخوض في تحليل نفسي هو من بين الميزات التي نحظى بها في مجتمعاتنا الليبرالية، لكننا قد لا ندرك ذلك حقا خصوصا عندما نكون غارقين في مشاكلنا ومعاناتنا. أما أنا فإنني لهذا أمْتن كبير الامتنان لهذا البلد الذي أعيش فيه والذي جعل ذلك في حوزتي. تمام كما هو الحال بالنسبة لبعض الفحوصات الطبية جد متخصصة والتي من غير الممكن التوفر عليها بالمجان إلا في بعض البلدان عبر العالم.
لقد طالت هذه العلاقة التحليلية الأولى قرابة سنة. كنت خلالها أقصد عيادة كريستيان الذي كان يعمل بمنزله غير البعيد عن منزلى. وهذا ما أخذَته مُودْ بعين الاعتبار عندما أرشدتني الى هذا المحلل. فقد كنت آنذات غير قادرة على ارتياد وسائل النقل العمومي، وما بالك بالمترو. كنت أتردد على عيادته ثلاث مرات في الأسبوع. أدخل ثم أجلس بعض الوقت في قاعة الانتظار وآخذ في اجترار ما قاله لي عشيقي وما لم يقله، ما فعله ما لم يفعله. وما قلته أنا وما لم أقله. وما سأقوله غدا وبعد غد. وعندما يستدعيني المحلل للجلسة أدخل مكتبه وأبدأ في تفريغ حمولاتي.
ماذا كان يجيبني؟ لا أذكر. يقال إن هذه علامة على تحليل ناجح. حل شيء تمر عليه كف المحو، كل شيئ يغلفه النسيان. فتسقط الأشياء حيث ما يحق لها أن تسقط في غياهب اللاشعور.
على كل ومع مرور الأسابيع، أصبح قدماي ثابتة الخطى. أصبحت أقل خوفا في مخالطة الناس وفي مواجهتهم. فجاء وقت لاحظت أعراضي وقد بدأت تخف الواحد بعد الآخر.
نسيت أن أقول بأنني لم أحادث أحدا بخصوص تحليلي النفسي وبالأخص حبيب عمري. ليس من كثرة الحياء أو الاحساس بالخزي. لكنني كنت آنذاك ما أزال هشة بعض الشيئ كي أواجه علامات الاستغراب أو ردود الفعل المنتقدة أو حتى تطلعات الفضول، ولو كانت بحسن نية.
فلقد كان يلزمني قدر من التستر ولفترة من الزمن.
١٥
عادة ما كان يطرح علي السؤال: "كيف يتم الموعد الأول مع المحلِّل النفسي؟"
إن هذا الاهتمام باللحظة الأولى يثير استغرابي. ذلك أن الأهم في الأمر وكذلك الجدير حقا بالاستغراب هو ما سيتبع هذه اللحظة من مواعيد متتالية وبالأخص الموعد الأخير، ذاك الذي نحدد ونقرر فيه بأن الأمور تقدمت بما فيه الكفاية كي نتوقف عن مواصلة التحليل.
لقد انتهى بي الأمر لأدرك بأن ما يثير الفضول هكذا، وكذلك ما يقلق الى حد كبير، هو أننا نسترسل في الاعتقاد بأن المحلل النفسي، مثله مثل المنجم أو معلم طائفة دينية، يقوم مباشرة بقراءة فالِك ثم يقودك بقبضة يد قوية الى حيث يشاء. إنه تخوف مشروع حيث ينبع من اللاشعور، ذلك الاحساس الذي ينتابنا ويضعنا تحت ملكته وتصرفه.
فمنذ الموعد الأول نعتقد أن المحلل الذي يعمل على تحريك وتفعيل اللاشعور، سيقوم لا محالة بعقد تعهد مع هذا الأخير في غير صالحنا. لا أنكر أبدا بأن هناك من المعالجين النفسانيين من هم مشعوذون. ليس لأنهم بالضرورة يلهثون وراء الربح باستغلال معاناة المساكين وآلامهم، وإنما لأنهم لم يحصلوا قبلا على تحليل نفسي أو أن تحليلهم النفسي، إن حصل فعلا، لم يُحقق له النجاح والفلاح في آخر المطاف. فيبقى لدي هولاء المعالجين مناطق ضبابية بخصوص رغبتهم في مزاولة التحليل النفسي. وبهذا تبقى لديهم رغبة في الانتقام من الاخرين والتسلط عليهم، حتى يثْبتوا لأنفسهم بأن لا قيمة أعلى من قيمتهم. أو يتجرأون على القيام بأي شيء يدعم النظرة التي يكونوها لأنفسهم عن الاخرين وعن العالم.
فكيف إذن يمكن الاحتماء من المشعوذين الذين هم في الواقع أبغض وأخطر من أولائك الذين يلهثون وراء مالنا وما ملكت أيماننا؟
بإمكننا أولا أن نفعل كما نفعل ونحن نبحث عن طبيب جراح: نستشير ثم نستشير الآخرين قبل الموعد. فمن بين أولائك الذين يُقطعون لحمنا ويُكسرون عظامنا، نجد من هم أشد خطرا من المحللين النفسانيين. فعندما يكون التخدير قد أخذ منا مأخذه، وتكون كلمة المشرط لا مرد لها، فلا حول ولا قوة لنا بعدئذ ولا مفر. أما في التحليل النفسي، الذي هو تقنية تعتمد على الكلام فقط، ولا علاقة لها بالتنويم، تبقى هذه الامكانية مفتوحة وبدون ضرر.
من الممكن كذلك أن نلتمس معلومات من طرف زملاء المحلل، أو من طرف متعالجين إن سهُل الاتصال بهم. وأهم طريقة تكمننا من التحقق بأنفسنا من قيمة المحلل هو ما يمكن أن نقيسه في الموعد الأول وحتى خلال المواعيد التي تليه. والتي يتبادل فيها المحلل وطالب التحليل أطراف الحديث بطريقة طبيعية وعفوية. فإن كان المحلل في العادة يقوم بتقييم طالب التحليل، وقد يرفض طلبه إن لزم الأمر، فمن الممكن إذن لطالب التحليل أن يتحقق من كفاءة المحلل هو أيضا. لكن كيف العمل أمام معالجين يُغَلبون الصمت منذ البدابة على تبادل الكلام؟ في هذا الحالة، أقول إن على طالب التحليل أن يزن المسألة بنفسه، فإن أقلقه ذلك فليبحث عن غيره من المحللين وإن لم يجد في ذلك حرجا فلا بأس. المهم هو أن تكونوا على اقتناع تام بأنكم غير ملزمين أن تتفاهموا مع من لا يمكنكم التفاهم معه. لأن ما يتعلق به الأمر في التحليل النفسي وما هو مهم، هو التوصل الى تفاهم وتوافق مع الذات عبر شخص آخر.
إننا ذوات متفردة، كلنا متميز عن بعضنا البعض وما يتوخى من خلال تحليل نفسي هو التوصل الى تقبل ذواتنا فيما يميزها من انفرادية أصيلة وعميقة وما يتخللها من أحداث ورغبات. فإذا كان هذا المحلل، رغم ما له من شواهد تَألق بها ومن صيت يلفه ومن كتب ألفها من محاضرات ألقاها، ليس على أهبة للانصات الى ما أنتم تودون اسماعه أثناء التحليل، فما عليكم إلا أن تبحثو عن محلل آخر، وذاك خير لكم.
- فعلى هذه الوتيرة، سنذهب لحال سبيلنا كلما حصل أدنى سوء تفاهم، تاركين التحليل وراءنا كل مرة؟
- في الواقع، لا تمشي الأمور بهذا الشكل.
مما لا مراء فيه أننا كلنا متفردون وذوو خصوصيات ذاتية، إلا أن هنالك قوانين عامة تنظم عمل النفس الإنسانية. وهو ما يسمح بالحديث عن التحليل النفسي بكونه علم الذات. إنه علم فتي إذ لم يتجاوز بعد قرنا من الزمن، لكنه يتقدم بخطى وثيقة وواعدة.
من بين هذه القوانين التي أنا متأكدة من صدقها، هو ذاك الذي يدل لدينا على وجود شاهد حق وأصيل بخصوص كينونتنا. إننا كلنا نعرف في قرارة أنفسنا ما هو حق وما هو باطل، ماهو خير وما هو شر. لكن هذا لا يعني أنه من غير الممكن أن يحصل لدينا ميل للباطل وللشر. فعامة الناس تقضي جل وقتها، بامتثالها لمختلف الأوامر والنواهي، في البرهنة على أنها قادرة على ارتكاب أعظم الرذائل وأشنع الحماقات.
ومع ذلك وحتى أثناء ارتكابه أبشع الجرائم، فإن أي واحد منا يبقى على علم بأن ذاك شر، إلا إذا كان شاذا ومنحرف الأخلاق كلية. لقد كان بعض عناصر الشرطة السرية النازية يعلمون حق العلم بأن ما كانوا يفعلونه هو شر كبير عندما كانوا يشدون صبايا القوميات التي يكرهونها من أقدامهم ويقذفون بهم عرض الحائط حتى تتهشم جماجمهم. لقد كانوا يشعرون بأن ذلك فظيع وإجرامي و يستحقون لارتكاب ذلك الموت بالإعدام، وإن لم يفعلوا ذلك إلا تنفذا لأوامر نزلت عليهم ممن هم أعلى مرتبة وأسمى منصبا. لمذا؟ لأنه في قضايا الأخلاقيات ليس هناك من أحد أعلى مرتبة من علو ضميرنا، فإن لم نكن متيقنين من ذلك، قد يحصل لنا الحظ وتتاح لنا الفرصة لاستكشافه والتحقق منه بواسطة تحليل نفسي.
فعندما يحصل أن نستشير طبيبا أو معالجا قد يكون منحرف السلوك والتصرفات، فإننا نتبين في قرارة أنفسنا لا محالة بأنه لا يفعل خيرا. تماما كما يحدث، ونحن أطفالا فيتصرف أحد أولياؤنا نحونا تصرفات سادية أو شاذة. إننا نرى ونعي ذلك في قرارة أنفسنا ونحن أطفالا حتى. لكن في حالتنا تلك، ليس لنا بعدُ من القوة ومن القدرة لصده والابتعاد عنه. لكننا مع ذلك نعرف حق المعرفة أن ما يقوم به بشع وخطأ، بل قد يصل مرتبة قتل في حقنا.
أما الان ونحن "كبارا"، لنا كامل القدرة للابتعاد عن معالج من هذا النمط. ففي عيادته أو في مكتب استشارته لسنا كمن هو في مستشفى المجانين تحيط به القضبان من كل جانب وتلفه وسائل التكميم والتقميط الكيميائية أو الجسدية. فكل ما يلزمنا فعله هو فتح الباب والخروج من القاعة. وحتى إن كنا لا نرغب في إيداع تكلفة الحصة فلا أحد يقتفينا وقد انطلقنا نمشي بعيدا في الشارع.
هكذا يتم التعاقد في التحليل النفسي: يمكنك أن تنصرف في كل لحظة كما تشاء، وألا تعود وإن حصل تحديد الموعد اللاحق او المواعيد اللاحقة. كان يلزمني أن أتطرق لهذ المسائل قبل أن أرجع الى "مواعدي الأولى" والى بداية تحليلى النفسي.