في الذهان: حالة سريرية ١

 


 

في الذهان:

حالة سريرية ١

 

مقتطف من كتاب:

Jean-Claude MALEVAL, La forclusion du Nom-Du-Père ; le concept et sa clinique, Paris, Seuil, 2000, pp :418-436

 

جان-كلود مالفال

محلل نفساني

أستاذ سابق في علم النفس المرضي والعيادي 

فرنسا

ترجمة: عبد الهادي الفقير

 

تمهيد:

 

حذّر فرويد ولاكان من التعامل غير الحذر مع العلاج التحليلي لدى الأشخاص الذهانيين. ومع ذلك، لم يغفلا الإمكانات التي يمكن استخلاصها من طرق التقويم التخيلي التي تساعد المريض أحيانًا على تحقيق نوع من الاستقرار. منذ زمن بعيد، بدءًا من فيدرن وصولًا إلى بانكوف، مرورًا برُوازن، سيشر، فروم، ريتشمان، روزنفيلد، بينيديتي وغيرهم، كان يتم العمل على ترميم أوجه القصور في «الأنا» لدى الذهانيين وتصحيح خيالاتهم. لكن هذه الممارسات تركت المجال مفتوحًا ومعلقا أمام إمكانية علاج تحليلي نفسي يُراهن على إعادة تشكيل الوضع الذاتي للذهاني دون تخطيط مسبق أثناء مسار العلاج. فرويد لم يكن يؤمن كثيرًا بإمكانية ذلك، بينما كان لاكان يأمل فيه، لكنه لم يتمكن من المضي قدمًا في بحثه ليصوغ هذا التصور بشكل كامل.

يمكن القول إن مفهوم «اسم الأب»، الذي ينبثق عند لاكان من منطق الدال في الخمسينيات من القرن الماضي، يتيح توضيح بعض المؤشرات السلبية المتعلقة بتسيير علاج الذهانيين. ومع ذلك، لا يبدو أنه يفتح آفاقًا علاجية جديدة بشكل مباشر. ولكي تظهر هذه الآفاق، يراهن لاكان، في عام 1967، على تعميق أبحاثه، حيث من المفترض أن تنبثق مقاربة للمشكلة تستند إلى ما يسميه «تمركز مغاير».

بدأ لاكان تدريجيًا في وضع إمكانية هذا التوجه الجديد من خلال ملاحظات متفرقة، جميعها حصلت بعد عام 1964، ولم تعد تستند إلى منطق الدال، بل إلى مبدأ متصل بجانب المتعة (Jouissance). لقد حدد لاكان موقع الذهاني كذات خارج الخطاب، غارقة في متعة غير منضبطة، حيث تكون تعابير هذه الذات مكثفة (holophrasées)، وتحمل في طياتها نوعا من «الإيروتومانية» المرتبطة بالتحويل أثناء العلاج التحليلي.

من النظرة الأولى، تبدو هذه المؤشرات وكأنها تضع عقبات إضافية أمام العلاج التحليلي. إذ كيف يمكن إدماج ذات تتموقع خارج الخطاب في إطار التحليل، وهي ذات، لا يرى لاكان على عكس مود مانوني أي أمل في إمكانية «هسترة» خطابها؟ مع ذلك، إن الذهاني ينخرط في الكلام وقد يتمكن حتى من إقامة روابط اجتماعية متقدمة، بل وقد يصل إلى تأسيس طوائف. كيف يجب إذن فهم أنه قابع خارج الخطاب، مع أنه ليس خارج اللغة؟

يصبح هذا الأمر ممكن التصور بمجرد أن نتذكر أن الخطابات الأربعة التي صاغها لاكان عام 1969 تنطوي على انقسام الذات ووجود عوائق أمام المتعة (الكاملة). هذه الخطابات لا يمكن أن تدخل حيز التنفيذ إلا بعد تحقيق عملية الانفصال. وهذه العملية تشترط التمثيل الدلالي للذات وتنسيق علاقة هذه الأخيرة مع الموضوع. بعبارة أخرى، يسمح نظام الذات هذا باعتبارها «منشطرة» داخل الدال بين د١ ود٢، بِسَد هذا الانقسام بواسطة الموضوع.

نلاحظ أنه من المفارقة المطلقة أن يُطلق على ذلك اسم «انفصال»، إذ لا يتعلق الأمر بانفصال عن الموضوع، بل بالعكس تمامًا. فما الذي تنفصل عنه الذات إذن؟ إنها تنفصل عن السلسلة الدلالية. ففي عام 1958 أكد لاكان عن ذلك قائلا: «عندما لا تصبح ذات الفرد منقسمة، فإن هذا الأخير يصبح مجنونًا». يعيد لاكان صياغة هذه الفكرة في أبحاثه الأخيرة. ومع ذلك، يشير إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بمجال الدال حيث لم يحدث انقسام الذات. بل نجده يركز أيضًا على غزو الذات بمتعة غير منظمة.

يوضح لاكان عام 1967 أن الذهاني يحمل «الموضوع «ا» في جيبه». ولهذا السبب، يميل «الصوت» إلى التجسد في الهلوسات اللفظية، ويتجلى «النظر» في مشاعر كونه مُراقَبًا، وما إلى ذلك. فعلى نحو محايد، يقدم الذهاني نوعًا من الطبيعة المتناقضة بمعنى أن اضطراباته الكبرى تكشف عن أولوية خطاب الآخر. هذا الأخير يتغير في ظاهرة «الأتمتة العقلية» دون أن يحدث الانعكاس الذي يجعلنا نعتقد أننا نتحدث كما نُتحدث.

في عام 1977، يشير لاكان إلى أن «الأتمتة العقلية أمر طبيعي». ومع ذلك، يحدث في هذه الظاهرة نوع من رفض اللاوعي من طرف ذات المريض، مما يثير التساؤل حول كيفية استعداد الذات في هذا الإطار لتحليل أو تأويل معاناتها.

علاوة على ذلك، عندما تكون ذات الفرد مُدرجة داخل الآخر، وعندما يتم «الاستمتاع بها» من قِبَل الآخر، فإن تصريحاته تميل إلى أن تصبح متكتِّلة (holophrasées)، مما يؤدي إلى تكتل الثنائي الدلالي الأساسي د١-د٢، وهو ما ينطوي على فشل في انقسام الذات وعجز في تنسيقه مع «الموضوع ا». وعلى وجه الخصوص، تتعلق هذه الظاهرة بالعناصر الأولية للدلالة وللدوال الرئيسية للهلوسة، التي تصبح محمولة في هذا المعنى المكثف للدال وفي هذا التكثيف للمتعة.

فبنية هذه «الظواهر الأولية» تسمح بتوضيح الصعوبات التي تواجهنا في عملية التأويل. وحتى لو تمكنا من كشف الغطاء قليلًا عن هذا التكتل، وهي فكرة قد تكون مغرية لدى البعض، فإن ذلك ينطوي على خطر كبير يتمثل في إطلاق العنان للمتعة التي يحتويها. فمفهوم التكتل (holophrase)، المرتبط بالذهان منذ عام 1964، وكذلك بـ«الظاهرة النفسجسمية» (psychosomatique) و«ظواهر التخلف العقلي»، يجعل عددًا من المظاهر السريرية أكثر قابلية للفهم، لكنه في الوقت نفسه يضع عقبة جديدة وهامة أمام المضي قدمًا في علاج الذهانيين.

يجب إضافة الصعوبات الكامنة في خصوصية التحويل الذي يتطور لدى هؤلاء الأفراد. «الإروتومانيا القاتلة»، تخفي بالكاد وجود الآخر المستمتع، الذي يميل دائمًا إلى جعل الذهاني «شيئًا» خاصًا به. من هنا ينبع الخطر الذي أشار إليه لاكان منذ «السؤال التمهيدي لأي علاج ممكن للذهان»، وهو أن العلاقة التحويلية قد تُسرّع انطلاقة الذهان وتحوّل المعالج إلى مضطهِد.

حوْل أَشكال المتعة لدى الذهاني، يجب الاعتراف بأن تعاليم لاكان، رغم تعقيدها، تتسم بقدر كبير من الاتساق. كل واحدة من هذه التعاليم تُعد نتيجة لعملية واحدة: انعدام استخراج «الموضوع ا» لدى الذهاني. وهذا الفشل هو ما يُخرج الذات من الخطاب، نظرًا لغياب الحاجز أمام المتعة، ويجعل المريض عرضة ليُستمتع به من قِبَل الآخر، ويندمج مع الآخرين في تماثل تام بين التلفظ والمُفصح عنه في الكلام.

من ثم، وبخلاف بعض الآراء التي تَعتبر أن مفهوم «اسم الأب» قد أصبح عديم الفائدة في تعاليم لاكان، فإنه من الواضح تمامًا أن هذا المفهوم يبقى ضروريًا لفهم الظواهر المذكورة أعلاه. ذلك لأن المتعة المجنونة، الغامضة وغير المنظمة بواسطة الدال والمرتبطة بحضور «الموضوع ا»، لا تجد حدًا لها إلا من خلال وظيفة الفالوس التي تعتمد على «اسم الأب».

وباختصار، لا يبدو أن التقدم في مقاربة الذهان المرتبط بمبدأ المتعة يفتح آفاقًا علاجية أكثر من تلك التي جاءت بها التحليلات السابقة المستندة إلى منطق الدال وحده. بل على العكس، يبدو أنه يضاعف العقبات التي واجهتها المقاربات السابقة. فهو يبرز الصعوبات الكامنة في خصوصية العلاقة التحويلية، ويضع حواجز أمام التأويل الدلالي للهذيان، كما أنه يضع الذات خارج حدود الخطاب.

مع ذلك، فإن هذه المقاربة لا تُركز بعد الآن على الانفلاتات الدلالية، بل على غزو المتعة نفسها، وهي ذاتها التي وصفها شريبر (Schreiber) بدقة في تجربته حيث يقول: «إن فائضًا من المتعة قد يجعل البشر غير قادرين على أداء الوظائف المنوطة بهم. أما بالنسبة لي، فقد توقفت هذه الحدود عن فرض نفسها». لقد بدا له أن الرب يطالبه باعتبار نفسه مكوَّنا من رجل وامرأة، بهدف إتمام الجماع معه. إن الرب يطالبه بحالة دائمة من المتعة.

من خلال تسليط الضوء على تداعيات المتعة غير المنظمة، تمكن لاكان، في إطار تعاليمه، من صياغة مفهوم «التمركز المغاير» الذي نادى به عام 1967، بهدف تجاوز الحدود التي تضمنها «السؤال التمهيدي لأي علاج ممكن للذهان». ومع ذلك، لم يتمكن من استنتاج العواقب العملية التي تفرضها هذه الفكرة على إدارة علاج الذهانيين.

إذا قبلنا الأطروحة التي تقول إن معاناة الذات تنبع، في التحليل النهائي، من غزو المتعة لها، أليس من الواضح إذن أن يصبح هذا المحور هو ما يجب أن يوجِّه المحلل عمله نحوه، من خلال مواجهته؟ يبدو أن ميشيل سيلفستر كان من الأوائل الذين استخلصوا هذه النتيجة في السنوات التي تلت وفاة لاكان مباشرة. ففي عام 1984، أكد في مداخلته الأولى أنه «إذا كان الذهاني، في طلبه الأولي، ينتظر من التحليل دَوالًا قادرة على تنظيم الاضطرابات في عالمه، ففي طلبه الثاني، الطلب الذي ينطلق منه التحويل، يَعرض فيه الذهاني متعته على المحلل لكي يضع لها قواعد».

هذان المطلبان ليسا بدون ترابط مع المواقع التي يمكن للمحلل النفسي أن يشغلها وفقًا للمخطط I، فيما يتعلق بالقطبين الرمزيين اللذين يمكن للذهاني من خلالهما إعادة بناء واقعه. عند القطب الأول، I، مثال الأنا (Idéal du moi)، تستدعي فيه الذات دَوالًا لتنظيم اضطراب عالمها. وعند القطب الآخر، M، وهو دال الموضوع الأساسي الذي من الممكن أن تتمظهر فيه رغبة الآخر المستمتِع.

ففي علاجات الذهانيين، ينتقل المحلل النفسي غالبًا من أحد هذين الموقعين إلى الآخر، إذ غالبا ما تتداخل هذه المواقع، وأحيانًا تتميز بوضوح. هذا الوضع للمحلل في التحويل يؤدي إلى أنماط علاجية مختلفة جدًا. وهذا أحد الأسباب التي تجعل التعميم حول التحليل النفسي للذهانيين يتطلب الحذر.



الحالتان اللتان اخترت أن أتناولهما هنا بدتا لي مثاليتين لنمطين متطرفين. في أحداهما، يجد المحلل نفسه متموضعًا بشكل واضح إلى جانب M، حيث تتجلى «الإيروتومانيا القاتلة»، بأسلوب صادم وعنيف، مما يدفع كلًا من الطرفين إلى حدود قدرتهما على التحمل. أما في العلاج الآخر، فيبقى المحلل في موقع I، متخذًا موقفًا متحفظًا، حيث يكون الأسلوب مختلفًا تمامًا: لا صراخ، ولا تهديد، ولا حركات مبالغ فيها، بل أسلوب هادئ ومتزن.

من الجدير بالملاحظة أنني بدأت أحد هذين العلاجين في عام 1985، والآخر في عام 1991، مما يعني أن إدارتها تمت في فترة أصبح فيها من الممكن العمل على تنظيم المتعة في المرحلة الثانية من العلاج، بدلًا من الاعتماد فقط على تفسير الذهان على المستوى اللغوي في التحويل أو على مستوى التماهيات الإسقاطية.

 

علاج فرانسين التحليلي

 

الحالة الأولى تتعلق بشابة سأُطلق عليها اسم فرانسين. حصلت على شهادة في التدليك الطبي بعد أن فشلت في دراستها الطبية في السنة الثانية. تشتكي من حالة اكتئاب تُرجعها إلى ظاهرتين أساسيتين:

من جهة، تجد نفسها غير قادرة على الحفاظ على وظيفة، إذ تستولي عليها حالة من القلق بمجرد أن تضطر لاتخاذ أبسط مبادرة: «عندما لا أكون متأكدة من شيء، أصاب بالذعر. أفشل في عملي بسبب انعدام الثقة. ليس لدي أي ثقة بنفسي. أخشى أنني لست طبيعية. ليس لي الحق أبدًا في فعل أي شيء، فقط أبقى في حالة الذي يراقب عن بعد». من جهة أخرى، تعاني من أفكار مزعجة تُقلقها كثيرًا، معظمها يتعلق بالجنس. فهي تفكر، على سبيل المثال، في كلمة «جنس» عندما ترى والدتها تنزل السلم. ترتبط هذه الأفكار ضد إرادتها بشعر العانة لدى والدتها. 

في الجلسة الأولى، اعترفت بأن كلمات ممن قبيل «بقرة قذرة»، تراودها في كل لحظة وهي إهانات ربما تكون موجهة إلى والدها أو ربما إلى شخص آخر، وربما إليّ أنا. إن ظهور مثل هذه الأفكار بشكل متكرر يزعجها أيما إزعاج. هي متأكدة من أمرين تعود لذكرهما مرارًا وتكرارًا: الأول هو أن هناك عنصرًا جنسيًا يطغى على حياتها وفكرها، والثاني هو أن شخصيتها تفتقر إلى أساس راسخ. 

أتت لتسألني كيف يمكنها أن تحمي نفسها من هذه الأفكار الجنسية المزعجة وكيف يمكنها اكتساب الثقة في نفسها. بخصوص النقطة الأخيرة، تقترح عليّ أن أرشدها إلى كتب يمكن أن تساعدها. لذلك، هي تطلب مني، من جهة، أن أتمكن من تخفيف متعتها المشتتة (délocalisée)، ومن جهة أخرى، أن أقدم لها دوالًا تمنحها نوعًا من الاطمئنان والثقة في نفسها.

على الرغم من أنها تعطي انطباعًا بعدم التماسك، يظهر عندها منذ البداية أمر إيجابي جدًا، ولن تتراجع عنه فيما بعد. إنها ما لبثت تؤكد عن رغبتها في الخروج من هذه الحالة وأنها مستعدة لبذل الكثير من الجهد من أجل ذلك. 

في المقابلة الأولى، أشارت الى ما أسمته أنشطة والدتها كقوادة، إذ كانت هذه الأخيرة تبحث لابنتها عن عشيق يخفف عنها وحدتها. وهكذا كانت تعتقد أنها تقدم المساعدة لابنتها.. وبالفعل وجدت لابنتها، وعمرها ٢١ سنة، عشيقًا عبر إعلان في الصحف حيث قدَّم رجل أجنبي يبلغ من العمر 37 عامًا نفسه لهذه المهمة. وعلى الرغم من كونه متزوجًا، بقيت فرانسين معه لمدة ثلاث سنوات دون أن تحبه، التزامًا بأوامر والدتها. 

فرانسين تُرجع بداية مشاكلها النفسية إلى تلك الفترة: «بدأت أفكر دائمًا جنس، جنس، جنس عندما أرى رجلا أو امرأة». بعد عام من نهاية هذه العلاقة، اضطرت إلى دخول المستشفى لمدة ثلاثة أشهر. انفجرت الهلوسة حيث أصبحت تعتقد أنها هدف لاضطهاد من قبل «الروزكرشيون». ستخبرني لاحقًا أن والدها هو أحد كبار المسؤولين في هذه المنظمة. ومن هناك بدأت الهلاوس المرتبطة بالصليب، التي جعلتها تحس برائحة البلاستيك والخشب المحترق، وهي المواد الرئيسية المستخدمة في عمل والدها.

بعد أن هدأت الظواهر المرَضية، واصلت بصعوبة دراستها بعيدًا عن منزل والديها. أثناءها التقت طالبًا أجنبيًا أقامت معه علاقة مستمرة ومُرضية. ومع ذلك، قامت بعدة محاولات في العلاج النفسي بسبب إخفاقاتها الجامعية. وفي الأخير، اضطرت إلى التخلي عن دراستها في الطب بسبب مخاوفها من عودة المشاكل النفسية. 

في مارس 1991، وبعد خمس سنوات من النوبة السابقة، انطلق هذيانها مجددًا. أصبحت مغرمة بمحللها النفسي. وكان لديها شعور بأنها مثلية الجنس، وتتهم صديقها بلا سبب بأنه مثلي الجنس. خلال فترة دخولها المستشفى، كانت جميع الفتيات يظهرن لها جنسمثليات مما كان يثير خوفها. تقول: «عندما كنت مريضة، كان الجنس دائمًا في ذهني».

 تراجعت الأفكار الهلوسية في غضون بضعة أسابيع تحت تأثير العلاج الكيميائي. بعدها حصلت على شهادة في التدليك الطبي في نهاية السنة الدراسية وعادت للعيش مع والديها في انتظار العثور على وظيفة. باءت محاولتها الأولى لممارسة مهنتها بالفشل سريعًا. عندها جاءت عندي لاستشارتي. قالت: «كنت أقوم بعملي جيدًا، ولكن كان لدي خوف عميق، كما لو أنني غير قادرة على القيام بذلك بشكل صحيح. أخفقت في الحصول عل وظيفة بسبب نقص الثقة، وكان آخرها، حيث شرحت لي زميلة لطيفة عدة مرات ما يجب فعله، لكنني لم أفهم. كنت في حالة من الذعر، لذا غادرت».

تُظهر فرانسين بعض السمات الوسواسية، مثل التفكير القهري، والصلاة التي لا تنتهي قبل النوم، وفي بعض الأحيان تبدو مشلولة بسبب الشكوك. ومع ذلك، فإن عدم تماسك كينونتها، الذي يجعلها غير قادرة على اتخاذ أي مبادرة، «يكشف عن ثغرة في أعمق نقطة من الشعور بالحياة لديها»، مما يشير إلى نقص جذري في الفالوس الرمزي، وهو ما يحدد بنية الذهان. علاوة على ذلك، فهي بحاجة دائمة إلى الاعتماد على شخص مقرب لتعرف ما يجب عليها فعله. اختياراتها تمليها، في الأساس، والدتها التي تسيطر على حياتها. تؤكد هذه الدلالة على الكيفية التي يتجه بها بعض المصابين بالذهان في حياتهم نحو هوية تتبنى رغبة الأم. 

عندما تطلب مني كتابًا يمْكنها من خلاله تعلم الثقة بالنفس، أي الكتاب الذي يحتوي على معانٍ يمكنها التمسك بها، يبدو أن موقع المحلل النفسي قد تم تحديده بالفعل. ليس كشاهد كما سيكون عليه الحال خلال تحليل كريم، بل بمثابة «الآخر» الذي يشتمل على دلالات المثال. علاوة على ذلك، عندما اعتبرت فرانسين تصرفات والدتها كقوادة بكونها مسببا في انطلاق اضطراباتها، فهي هكذا تشير بشكل غير مباشر إلى أنها تطلب من المحلل عدم تعريضها لمتعة الآخر كما فعلت أمها. ومن هنا، بعد مرور الوقت، يتضح أن المعطيات الأساسية التي يمكن من خلالها إدارة العلاج كانت موجودة في أقوال المريضة منذ الجلسات الأولى.

 لقد تمركزت بداية التحليل حول نقص الثقة الجذري لفرانسين بنفسها وحول الأفكار الجنسية الطفيلية التي كانت تجتاحها. وكلا العاملان يسببان لها كثيرا من القلق ويؤديان بها إلى التشكي من استحالة العمل والقدرة على الاستقلال. 

تحاول فرانسين معالجة هذه المشكلة بشكل وسواسي عبر جهود لتركيز الفكر، وتتخذ هذه الجهود أشكالًا متنوعة. فهي تصلي لفترة طويلة قبل النوم لكي يساعدها الرب على التخلص من الكلمات البذيئة والإهانات التي تطرأ على ذهنها. وعندما تفرض فكرة مزعجة نفسها رغم كل شيء على مخيلتها، تحاول كتابتها ووضعها في زاوية لتتوقف عن التفكير فيها. هذه العملية تكشف عن علاقة غامضة بموضوع المتعة المتفشية، إذ تأتي إلى الجلسات ومعها ورقة مكتوبة تحتوي على كل ما تعتبره مهمًا، أي تحديدًا ما لا ترغب في التفكير فيه بعد الآن. تحتفظ بتلك الورقة في يدها أثناء الجلسات، وتقرأها جملةً جملة وتعلق على كل واحدة. وعندما طلبت مني الاحتفاظ بتلك الأوراق، بدا لي من الحكمة قبول هذا الطلب باعتباره إيداعًا لهذه المتعة المزعجة. 

في بعض الأحيان، تَستخدم الكتابة أيضًا لدعم جهودها لتركيز الفكر. فعندما تشك فيما قيل لها، تكتب ذلك وتعلق عليه، قائلةً «إذن هذا صحيح، ولا يجب الشك في ذلك». بالطبع، لا يحدث هذا إلا ليمنحها بعض الراحة من شكوكها. في تلك الفترة، تبدو كمريضة وسواسية، ولكن وسواسية تخشى من الهذيان، لأن أفكارها الطفيلية تبدو مرتبطة بموضوعات هذياناتها السابقة.

كل يوم، ولساعات عدة، تتحدث مع والدتها عن مشاكلها. تحاول والدتها أن تطمئنها، لكنها بالكاد تنجح في تحقيق ذلك بشكل دائم. يبدو أنها ليست في موقع يُمكنها القيام بذلك. غالبًا ما يشكل حضور الأم عاملا محفزا لأفكار جنسية متنوعة. تفكر فرانسين في مؤخرة أمها وفي فرجها وتتخيلها فاتحة فخذيها ...الخ. وتلومها بشكل خاص على السماح لها بمشاهدة الأفلام الإباحية على شاشة التلفزيون عندما كانت مراهقة.

تؤكد فرانسين على إحساسها بالذنب تجاه الاحداث المتعلقة بالجنس أثناء طفولتها: عندما لاحظت أختها تدخل فترة المراهقة، قالت لها «زغب المؤخرة»، ثم إنها لمست قضيب ابن عمها وعمره ست سنوات إلا أنها لم تقدر على الاعتراف بذلك عندما حلت بمدينة لورد (الفرنسية) المقدسة. ثم إنها تصفحت مليا كاطالوج متاجر «لارودوت» خصوصا في باب ملابس النساء التحتية ...الخ. أما الحدثين الأكبر أهمية والذي تحس بتذكرهما كبير القلق، يدلان على علاقتها الخاصة بمسألة المتعة: إنها توبخ نفسها كونها قرأت بكامل الافتتان، حوالي العاشرة من عمرها، كتبا إباحية وجدتها في غرفة نوم أبيها.  بعدها أخذت تتصور علاقات جنسية تكون هي في محل الرجل. «زد على ذلك أنني، في نفس الفترة، داعبتُ فرجَ صبية أصغر مني بنتفة حشيش، ولما طلبتْ مني أن أريها فرجي بدوري، رفضتُ.» هاتان الذكرتان يرتبطان بكونهما يؤشران الى كونها تقبع في دور الرجل وترفض تحمل موقعها كفتاة. إضافة الى ذلك أن المتعة المحرمة التي اكتشفتها في كتب أبيها، طغت عليها لدرجة ظنت أنها ستُغرق كامل جسدها: «كلما واظبتُ على مطالعة هذه الكتب الإباحية، أحسست أن ثديييا يكبران وهذا ما كنت أتخوف منه وأرفضه لأن ذلك الإحساس كان يزعجني كثيرا». حتى وإن كان الهوام مجرد تركيبة رجعية فإنه يدل قطعا على وضعيةِ ذاتٍ مهددة باقتحام متعة أخرى لها.   

خلال الأشهر الأولى من العلاج، التحقت فرانسين بدورة استرخاء. وخلال هذه الدورة، بدأت تواجه ظواهر غريبة كانت قد شعرت بها سابقًا، لكنها أخذت تميل إلى الظهور بقوة أكبر. فتساءلت: «هل يجب أن أواصل الاسترخاء أم لا؟» وتسألني عن ذلك. وتضيف: «عندما أمارس الاسترخاء، أشعر بأن لديّ سوالف. حتى مع شعري الطويل، أقوم بتمرير يدي على وجهي وأدرك أن ذلك غير صحيح، وأنني لن أمتلك أبدًا سوالف أو لحية تنمو». يوم السبت ظننت أن عضو الذكورة نبت محل فرجي وأصبت بالهلع. كانت ردة فعلي أن أقول لنفسي: «عضو الأنوثة عندي له شفتان له شفتان صغيرتان وأخرى كبيرتان، زيادة على نقطة بيضاء من أجل السوائل البيضاء...وأنا أتقبل هذه الوضعية.... ظننت أيضا أن أنفي يطول ويطول كأنف بينوكيو...». وفي بعض المرات، في نفس المناسبات، تظهر أمامها صور لعضو الرجل، أو أشخاص عراة، أو علاقات جنسية مع أمها...الخ. بالإجمال، إن حالة الاسترخاء التي تساهم في تفتيت معالمها التخيلية، تعمل لديها بشكل خاص على إطلاق متعة الآخر على عواهنها. وعلى نفس الشاكلة، ليس من النادر أن يؤدي تمدد الذهاني على أريكة التحليل الى ظواهر مماثلة. لهذا لم أتراجع عن الرد سلبا على تساؤل فرانسين بخصوص متابعة دورات الاسترخاء. في حين يتم أساندها، وبتشدد في بعض الأحيان بخصوص مجهوداتها للحصول على عمل. لقد كانت هذه المجهودات تصطدم بتخوفها من أن تكون مهووسة جنسيا، نظرا لتواتر الصور الشاذة في ذهنها وكذلك لأحاسيسها الاكتئابية التي تدفعها لتبخيس نفسها، ونظرا أيضا بالخصوص لشغرة عميقة لديها، أسمتها «عدم الثقة في النفس» تجعلها في صعوبة لا حد لها أمام اتخاذ أية مبادرة. 

بعد مرور 8 أشهر على بدء العلاج، تمكنتْ من الحصول على تدريب غير مدفوع الأجر كأخصائية تدليك طبي في عيادة خاصة، وهو تدريب كان من المفترض أن يُهيئها لاحقًا للقيام ببعض الوظائف المؤقتة وربما الحصول على وظيفة دائمة هناك. 

شعرتْ برضا كبير لأنها تمكنت من تقديم نفسها بشكل جيد وتم قبولها. ومع ذلك، أصبحت أكثر توترًا وقلقًا مع اقتراب موعد بدء التدريب. في صباح ذلك اليوم، اتصلت بي في الساعة الثامنة صباحًا لتخبرني بأنها لا تريد الذهاب للعمل، وأنها تشعر بتشاؤم شديد، وأن الأمر يفوق قدراتها، وغير ذلك من المبررات. 

كانت مُقنِعة للغاية في شرحها بأن الوقت لم يحن بعد، وبدا أنها تنتظر مني موافقة على عدم خوض هذه التجربة، مما يسمح لها بعدم تحمل مسؤولية التراجع. لكنني امتنعت تمامًا عن منحها هذه الموافقة، وشجعتها بدلاً من ذلك على مواجهة الوضع وحثثتها على عدم التردد في طلب المساعدة من زملائها إذا واجهت صعوبات أثناء العمل.

وبمساعدة مكالمات هاتفية معي تقريبًا كل يوم وزيادة عدد جلسات العلاج، تمكنتْ من إنهاء تدريبها الذي استمر 15 يومًا، رغم مواجهتها بعض الصعوبات التي كانت تعود أساسًا إلى بطء أدائها، والذي نسبَته جزئيًا إلى علاجها بالأدوية المضادة للذهان. 

بل إنها تمكنت من تمديد التدريب لأسبوع إضافي، خلاله أصبحت طلباتها للحصول على الدعم عبر الهاتف والجلسات الإضافية أقل تواترًا. ومع نهاية التدريب، شعرتْ بالشجاعة لتسعى إلى الحصول على فرصة عمل لدى مدير الموارد البشرية، لكنه لم يمنحها الكثير من الأمل بشأن إمكانية التوظيف.

قبل فترة قصيرة، كان يبدو لها من المستحيل تحمل مسؤولية عملها كمعالجة بالتدليك الطبي. وبعد انتهاء تدريبها، أظهرتْ ثقة أكبر بنفسها. ومع ذلك، لم يكن بإمكانها إكمال التدريب حتى نهايته إلا بفضل الدعم اليومي تقريبًا من والدتها ومن محللها النفسي. 

ففي أثناء الجلسات، كان من الضروري أحيانًا طمأنتها عدة مرات في اليوم عبر الهاتف، وكذلك تأكيد صحة المبادرات التي فكرتْ بها قبل أن تتمكن من تنفيذها. على سبيل المثال، بالنسبة لتمديد فترة التدريب ولقاء مدير الموارد البشرية، اضطررتُ في المقابل إلى معارضة ميلها المتكرر للتخلي عن كل شيء، مما يعني دعمي الدائم للمُثُل العليا لمساعدتها على مواجهة إغراء وضع نفسها في موقع يُشبه «النفاية» أو الشيء المهمل.

في تلك الفترة، بعد 9 إلى 10 أشهر من بداية العلاج، لم تتوقف صور المتعة المكدِّرة عن نشاطها، على الرغم من أنها خفتت إلى حد ما. بدأت فرانسين تظهر المزيد من الحيوية، وأصبحت معجبة بطبيب شاب، وقللت بنفسها من جرعات العلاج الكيميائي. والأهم من ذلك، بدأت باتخاذ خطوات مختلفة للبحث عن وظيفة أو تدريبات أخرى. مع ذلك مازالت تشك بعمق في قدرتها على تحمل المسؤوليات المهنية، لكنها تريد أن تتغلب على هذه الوضعية، وأن تتوقف عن العيش في منزل والديها، وتؤسس عائلة، وتنجب أطفالاً، وترى أن كل ذلك يتطلب أولاً الاستقلال المالي.

بعد بضعة أسابيع، أثمرت جهودُها بحيث أعطيتْ فرصة للعمل كبديل لمدة 5 أشهر بدلاً من موظفة في إجازة أمومة بمستشفى عام في مدينة صغيرة تبعد حوالي 420 كيلومترًا عن منزل والديها. ومرة أخرى، اختلطت لديها مشاعر القلق بالرضا. كانت تخشى ألا تكون قادرة على تحمل مسؤوليات الوظيفة بمفردها. في البداية عُرض عليها تدريب غير مدفوع مسبقًا لتتعرف على العمل. وبعد مناقشتها جدوى الفكرة معي، طلبتْ تمديد فترة التدريب من 15 يومًا إلى شهر ونصف.

عندما بدأتْ العمل، عادت الظواهر التي ظهرت سابقًا خلال التدريب السابق إلى الظهور، مثل القلق الشديد في الصباح، المكالمات الهاتفية المتعددة، البطء في العمل، والشعور بالإرهاق، بالإضافة إلى استمرار بعض الأفكار المتطفلة. وصلت عدة مرات بسببها إلى حدود الانهيار. على الرغم من زيادة عدد الجلسات العلاجية، لم يكن ذلك كافيًا لمنع لحظة انهيار. فقررت التوقف عن العمل وهربت يوم الجمعة من اجتماع كان من المفترض أن تأخذ فيه الكلمة.

مع ذلك، عادت يوم الاثنين بناءً على إصراري، وكذلك على إصرار والدتها، وأيضًا بناءً على إصرار فيرونيك، أخصائية التدليك الطبي التي كان عليها أن تحل محلها. وجدت في فيرونيك امرأة متفهمة لصعوباتها، فأصبحت صديقتها واستضافتها في منزلها، وكانت متاحة جدًا لدعمها. علاوة على ذلك، قدمتْ لها ما كانت بحاجة إليه بشدة: نموذجًا يُحتذى به. تقول فرانسين: «فيرونيك هي مرجع بالنسبة لي. أحاول تقليدها». لولا الدعم المستمر والملتزم من فيرونيك، لم يكن من المؤكد أن تتمكن فرانسين من إكمال التدريب بنجاح.

على مدار الأسابيع، بدأت صعوباتها تتحسن، وأصبح العمل يبدو أقل صعوبة وأُنجز بشكل أسرع. ومع ذلك، تصاعد القلق مع اقتراب موعد مغادرة فيرونيك. لم تشعر فرانسين بعد بأنها قادرة على تحمل المسؤوليات المهنية بمفردها، على الرغم من أنها تؤدي عملها يوميًا برضا الجميع.

خلال الفترة الأولى من الاستبدال، كان عليّ مرة أخرى دعمها عبر الهاتف تقريبًا كل صباح. كانت تقول إن الأمر مرعب للغاية، وإنها ليست قادرة، وإنها سترتكب أخطاء كارثية. كانت تشعر أنها لا تملك الوقت الكافي لتحضير المواد. كانت تتسلط عليها أفكار «الجنس» عند رؤية بعض الأشخاص، وتكون متشائمة جدًا في الصباح. كانت تعتقد أن الآخرين يجدونها سخيفة، وأن البعض يسخر منها، وكان العمل يبدو صعبًا جدًا. كانت تفضل التخلي عن كل شيء. كانت تنتظر مني أن أسمح لها بالتوقف، وتجادلني بإلحاح كي أعدل عن إجاباتي السلبية الثابتة، التي كنت أرفقها دائمًا بكلمات مهدئة.

تدريجيًا، بدأت المكالمات الهاتفية تقلّ. شعرتْ فرانسين بتحسن تدريجي في عملها، وتمكنت من أن تُقبَل في فريق العمل. أكملت فترة الاستبدال بنجاح كبير وبرضا الجميع. ولأول مرة، تمكنت حتى من التحدث بسهولة أمام الآخرين لتقديم مداخلة حول وسيلة من وسائل إعادة التأهيل الخاصة. كما أصبحت قادرة على إجراء مقابلات فردية متعلقة ببعض الممارسات الرياضية، وأحيانًا على تقديم نصائح نفسية لا تفتقر إلى الفاعلية والملاءمة.

تحسن مظهرها الجسدي أيضًا بشكل ملحوظ. من امرأة بلا ملامح واضحة، ممتلئة قليلًا، وذات لباس غير متناسق، برزت شابة أنيقة. وخلال عملها المؤقت، لم تزعزع توازنها النفسي تجربة عابرة مع طبيب في مرحلة التدريب، على الرغم من أنه عاد في اليوم التالي إلى بلده البعيد.

تعتزم فرانسين استخدام جزء من المال الذي كسبته مؤخرًا للتسجيل في وكالة زواج. ومع ذلك، ما زالت تشعر بالحاجة إلى استشارتي والحصول على موافقتي قبل اتخاذ كل خطوة هامة. وبما أنني أتذكر أن بداية اضطراباتها ارتبطت بدور القوادة الذي لعبته والدتها في حياتها، فإنني أرى أن تشجيعها على هذا الأمر قد يكون خطرًا، لأنه قد يضعني في نفس المكانة التي كانت لوالدتها، مما قد يعيد إلى السطح شخصية «الأم المتسلطة». وفي المقابل، بدا لي أن تحذيرها من الأمر لا يبدو ضروريًا أيضًا، خصوصًا أن تجربتها العاطفية الأخيرة كانت ناجحة إلى حد كبير.

لذلك، بدأت أحاول ألا أجيب مباشرة على طلباتها المتكررة للحصول على رأيي. وفي النهاية، تستنتج فرانسين أنني لا أعارض فكرتها، فتخطو الخطوة من تلقاء ذاتها وتسجل نفسها في الوكالة. بعدها تلتقي بعدد من الرجال، وتنشأ علاقة مع أحدهم أصغر منها بـ 8 سنوات، ما يجعلها تشعر أنه صغير جدًا بالنسبة لها، لكنها تقرر تجربة العلاقة على أي حال. تبين لاحقا أنها كانت على حق إلا أن العلاقة بينهما ستنتهي بعد 4 أشهر عندما يُظهر الرجل عجزه عن ترك منزل والديه للعيش معها. تتقبل فرانسين الانفصال الذي تم بالتراضي بهدوء وسلام، وهي ليست بدون شعور بالراحة، إذ كانت تشك في مدى حبها الحقيقي لهذا الرجل طوال العلاقة.

بعد ثلاث سنوات من بداية العلاج، تجد فرانسين عملاً بدوام جزئي أصبحت موظفة دائمة فيه. تقوم بأعمال مؤقتة في عدة مؤسسات، وتوفر لها العديد من فرص العمل أكثر مما يمكنها تلبيته. تعيش في منزل أصدقاء يؤجرون لها غرفة. تختفي الأفكار المزعجة تقريبًا تمامًا. تقول: «غريب ما يحدث! لا أعرف إذا كان ذلك نتيجة العلاج النفسي، لكن الآن عندما يضايقني تسلط الأفكار الجنسية، فإني أميل إلى نسيانها. بينما في الماضي، كنت أكررها وأعتبرها تلميحات تتعلق بأمور الجنس الخاصة بي».

كذلك أصبحت صورة والدها أقل سلبية بكثير حيث رجعت ال ذاكرتها أحداث جيدة قضتها معه. كما اكتسبت ثقة أكبر في نفسها. ومع ذلك، ما زال لديها نقص عميق في شعورها الذاتي حيث لا تزال بحاجة إلى الاعتماد على محللها النفسي، وعلى والدتها، بل وأحيانًا على زملائها، لتهدئة قلقها واتخاذ القرارات.

بعد عام، حصلت على وظيفة بدوام كامل. لم تعد تتردد في اتخاذ المبادرات في عملها دون الرجوع إلى أي شخص. تعيش بمفردها في شقة مستأجرة بالقرب من مكان عملها. تبدأ وتيرة الجلسات في التناقص.

في هذه المرحلة من العلاج، يبدو لي أنه يجب أن يستمر طالما لم تجد فرانسين علاقة بديلة تُمكّنها من توجيه حياتها بناءً على وجود دائم. تبحث عن هذا من خلال رغبتها في لقاء رجل أكبر منها سنًا، مع ميل واضح لتفضيل طبيب. وعلى الرغم من أن مثل هذه الإمكانية لا تبدو مستبعدة، إلا أن متطلباتها بشأن صفات الزوج المستقبلي تؤدي إلى فشلها في العديد من العلاقات العابرة. في هذا الصدد، يُظهر نمط سلوكها، الذي ينتقل بسرعة من المثالية إلى التقليل من قيمة الشخص المحبوب، بعض السمات التي تُذكّر بسلوك الهستيرية.

بعد أربع سنوات من بدء العلاج، ظلت القناعات الأولية قائمة، لكن فرانسين أصبحت قادرة على مواجهتها بطريقة أكثر إرضاءً. فمن ناحية، تم الحد بشكل كبير من المتعة الغامرة والكاسحة. وعندما كانت تظهر أفكار مزعجة مجددًا، كانت فرانسين قادرة على التخلص منها بسهولة. ومن ناحية أخرى، كانت تثبت دائمًا أنها تفتقر إلى أساس ممنطق ترتكز ذاتها عليه. ومع ذلك، فإن هذا الشعور قد خفّ، حيث سمح لها العلاج بالابتعاد قليلًا عن الارتباط المفرط بأمها. وقالت: بهذا الصدد قالت فرانسين: «لقد راهنت كثيرًا على أمي، لكنني الآن أقول لها أحيانًا: أنتِ لستِ قديسة، أنتِ تخطئين أيضًا».

ومع ذلك، في عام 1994، لم يكن هذا العلاج قد انتهى. لتقييد متعتها وتوجيه حياتها، لم تتمكن فرانسين إلا من تطوير نوع من الاستقرار النفسي البسيط: «الآن، عندما أواجه صعوبات، أفكر فيما قد تقوله لي وفي كيفية القيام به، وهذا يمنحني شعورًا بالأمان». من الواضح أن هذا بناء من صنعها، حيث يتعين عليها غالبًا أن تخترع ما قد أقوله لها. ومع ذلك، لا تزال تعتمد بشكل كبير على حضوري الفعلي، لدرجة أنه أثناء عطلتي، تحتاج إلى استبدالي بكاهن يتولى بالفعل نفس وظيفة كبح المتعة، بل ويؤدي بشكل أفضل وظيفة وضع المثُل العليا.

من الممكن بلا شك استخلاص بعض الدروس من عمل فرانسين فيما يتعلق بالعلاج التحليلي للذهانيين، ومع ذلك سيكون من المغامرة التسرع في اعتبار هذا العمل نموذجًا لا بديل له. في الواقع، العلاج التالي، الخاص بكريم، يختلف بشكل جذري في معظم جوانبه. ستكون المقارنة بينهما أكثر فائدة من محاولة أخذ أحدهما أو الآخر كنموذج مرجعي. فالخلل الذي يحدث في الهوام المركزي لذات الشخص الذهاني يؤدي إلى تنوع في العلاج التحليلي للذهانيين لا يمكن مقارنته بالتنوع الذي يلاحظ في العلاج التحليلي للعصابيين.