لاكان : قوة الكلام

 
جاك لاكان
قوة الكلام في التحليل النفسي

 
 
ترجمة : عبد الهادي الفقير

(حوارمع جاك لاكان في بعض قضايا التحليل النفسي. قام به إيميليو جرانزوطو لفائدة جريدة بانوراما الصادرة بمدينة روما والناطقة بالإيطالية. تم نشره يوم 21 نونبر 1974 ثم نقل الى الفرنسية بواسطة ترجمتين على الأقل. اعتمدنا لايصاله الى القارئ العربي على  ترجمة بول لوموان المنشورة بمجلة ماجازين ليتيرير رقم 428 الصادرة بباريس في شهر فبراير لسنة 2004). 

إيميليو جرانزوطو : يتم الحديث أكثر فاكثرعن أزمة التحليل النفسي فيقال أن فرويد قد تم تجاوزه وأن المجتمع المعاصر قد تبين أن نتاجه غير كاف ليس فقط لتفهم الإنسان وإنما أيضا لتأويل معمق لعلاقته بالعالم.

جاك لاكان : هذه قصاصات. أولا بخصوص الأزمة، فليست هناك أزمة ولا يمكن لهذه أن تحدث. فالتحليل النفسي لم يتوقف بعد عند حدوده الذاتية، والكثير في مجالي الممارسة والمعرفة ينتظر اكتشافه. فليس هناك حل مباشر في التحليل النفسي وإنما فقط البحث الطويل والصبور في تجلي الأسباب والغايات. ثانيا بخصوص فريد، فكيف يمكن اعتباره قد تجووز ونحن لم نفهمه بعد بصفة تامة ؟ إنه بكل يقين قد مكننا من معرفة أشياء جديدة تماما لم يكن بودنا أن نتخيلها قبله، ابتداءا من مشكلات اللاوعي حتى أهمية الجنس ومن الإلتحاق بالرمزي الى الإنضواء تحت قوانين اللغة. إن نظريته وضعت الحقيقة موضع تساؤل بحيث أن هذه مسالة تهم الناس كلهم والشخص بمفرده. فهذا غيره غير الأزمة وأكرر: لقد تم الإبتعاد عن فرويد ولقد تم استغلال إسمه لتغطية أشياء جمة، فحصلت انحرافات بحيث أن الأتباع لم يتبعوا الأصل دوما بكل مصداقية. فنتجت خلوطات. وبعد موته سنة 1939، زعم بعض تلاميذه إمكانية ممارسة التحليل النفسي بطريقة مغايرة، مختزلين لذلك تعليمه في هذه أو تلك من التعابير البسيطة. فانقلبت التقنية طقسا وانحصرت الممارسة حول السلوك قصد تكييف الفرد لوسطه الإجتماعي. فهكذا تم إنكار فرويد وابتداع تحليل نفسي ترفيهي. ولقد توقع ذلك هو ذاته حيث قال بان هناك ثلاثة مواقف لا يمكن تحملها او ثلاث عمليات غير ممكنة : الحكم، التربية وممارسة التحليل النفسي. إلا أنه أصبح من غير المجدي في أيامنا هذه معرفة من يتحمل مسؤولية الحكم، في حين يدعي كل الناس كونهم مربون. أما بخصوص المحللين النفسانيين فهم للأسف ينتشرون على واترة المنجمين والمعالجين بحيث أن مجرد إقتراح المساعدة يلقى نجاحا مضمونا لدى القوم فتراهم يتزاحمون على الأبواب. إلا ان التحليل النفسي في كنهه فهو مسألة اخرى.

س : فما هي ياترى هذه المسالة ؟
ج : إني أحددها بوصفها عرضا مبرازا للقلق المتاخم للحضارة التي نعيشها. إنها فعلا ليست بمسالة فلسفية. فانا أنفر من الفلسفة لكونها لم تعد تفوه بشيء ذي قيمة منذ مدة. ومن جهة أخرى، فإن التحليل النفسي ليس اعتقادا ولا يحلو لي أيضا أن أسميه علما. إنه مراس يُعنى بكل مالا يمشي على ما يرام. وهو مراس صعب للغاية لكونه يتوخى إيلاج ماهو غير مقبول او ماهو متخيل في صلب الحياة اليومية. فلقد حصل حتى الآن على بعض النتائج الفعلية إلا أنه لم يتوفر بعد على قواعد مما يجعله عرضة للكثير من الإلتباسات. يجب الا ننسى أن الأمر هنا يتعلق بشيء جديد للغاية سواء بالمقارنة بالطب أو بعلم النفس وملحقاته. ثم إنه فتي جدا. لقد توفي فرويد منذ خمسة وثلاثين سنة بالكاد في حين أن أول كتبه تاويل الأحلام قد تم نشره سنة 1900 ولم يلق إلا إقبالا فاترا. لقد بيع منه، على ما أعتقد، 300 نسخة فقط خلال بضع سنوات. كان لفرويد آنذاك تلامذة قليلون، تم اعتبارهم مجانين زيادة على كونهم لم يتفقوا فيما بينهم حول سبل تطبيق وتاويل ما قد حرزوا عليه من معرفة.

س : فمالذي لا يمشي على ما يرام لدى الإنسان اليوم ؟
ج : إنه هذا الملل الكبير إذ أن الحياة أصبحت تنضوي بكاملها تحت شعار السباق من أجل التقدم. فمن خلال التحليل النفسي يتوق الناس اكتشاف الى أي مدى يمكنهم المسير وهم يجرون خلفهم عبئ هذا الملل.

س : فما الذي يدفع بالناس لتحليل أنفسهم ؟
ج : إنه الخوف. فعندما تحصل للإنسان أحداث تفوق فهمه وإن كانت منه مرجوة فإنه يخاف. إنه يتألم من جراء عدم الفهم الذي يعترض سبيله وشيئا فشيئا يسقط في حالة رعب. فهذا هو العصاب. ففي العصاب الهستيري يصبح البدن عرضة للمرض من جراء الخوف من المرض مع العلم بأن هذا الإحساس مخالف للواقع. أما في العصاب القهري فإن الخوف يُقحم في الرأس أشياء غريبة أي أفكارا لا يمكن التحكم فيها وخوافات تتقمص فيها الأشكال والمواضيع معان مختلفة ومخيفة.

س : مثلا ؟
ج : قد يحس العصابي بأنه مضطر بضرورة قصوى للتحقق فيما إذا كان الصنبور مقفلا حقا وأن كل شيء في مكانه مع أنه يعلم علم اليقين أن الصنبور مقفل فعلا وأن الشيء هو في المكان الذي يجب أن يوجد به. فليس هناك أدوية تمكن من التخلص من هذه الحالة إذ لابد من استتباب حدوثها والتعرف على معناها.

س : وأما العلاج التحليلي ؟
ج : إن العصابي مريض يعالج بالكلام وابتداءا من كلامه بالذات حيث يلزمه أن يتكلم ويحكي ويستفسر نفسه بنفسه. إن فرويد يحدد التحليل النفسي بكونه تَقبل الذات لقصة حياتها من حيث أن هذه الأخيرة مؤسسة في كلام موجه لآخر. فلقد فسر فرويد بأن اللاوعي ليس هو بعميق بقدر ماهو في غير متناول تعمق الوعي له. ويقول أيضا بأن اللاوعي من حيث هو متكلِّم، فهو يشكل ذاتا داخل الذات بل وذاتا متعالية عن الذات. لهذا يشكل الكلام القدرة الفائقة للتحليل النفسي.

س : كلام من ؟ المريض أم المحلل النفسي ؟
ج : إن ألفاظ مريض وطبيب ودواء في إطار التحليل النفسي ليست أكثر دقة من العبارات المتداولة عامة والمركبة على صيغة المفعول. فعندما نقول بأن فلانا خضع للتحليل فإننا نجانب القول الصائب بحيث أن من يقوم بجل العمل في التحليل فهو ذاك الذي يتكلم. إنه الذات المتكلمة. إنه الفاعل حقا ولو كان ذلك على الشاكلة الموحاة له من طرف المحلل الذي يدله على كيفية الفعل ويساعده على ذلك بتدخلاته. ثم إنه يمضي الى إمداده بتأويلات قد تبدو للوهلة الولى وكأنها تصبو الى حصر دلالة ما يقوله المتحلل. إلا أن التاويل في الواقع أكثر دقة من ذلك إذ يصبو بالفعل الى محو الأشياء التي يتوجع منها الفرد. فالمقصود هو أن نبين له من خلال قوله أن العرض، ولنقل المرض، لا يرتبط بشيء وليس له معنى. فهو غير ذي وجود وإن كان يتمظهر في الواقع. لهذا فالسبل التي ينحو بها فعل الكلام هذا تتطلب كثيرا من الممارسة وصبرا لامتناهيا. فالصبر والإنضباط هما وسيلتي التحليل النفسي. فالتقنية تكمن في التقييم الجيد للمساعدة التي يتم تقديمها للفرد المتحلل. لهذا فإن التحليل النفسي ممارسة صعبة.

س : عندما نتحدث عن لاكان، نربط لامحالة هذا الإسم بمقولة "العودة الى فرويد"، فما معنى ذلك ؟
ج : ذاك ما تم قوله بالضبط. فالتحليل النفسي هو فرويد بالذات. فعندما نود القيام بالتحليل النفسي يجب الرجوع الى فرويد والى تعابيره وتحديداته مقروءة ومٌؤولة حرفيا. ولهذا القصد بالذات، فإني أسست مدرسة فرويدية بباريس أعرض فيها، وذلك منذ أكثر من عشرين سنة خلت، وجهة نظري التالية : إن العودة الى فرويد تعني فقط تنقية الحقل من كل انحرافات وشبوهات الفينومينولوجيا الوجودية مثلا وكذا من كل التأطيرات الشكلية العالقة بالمؤسسات التحليلنفسية وذلك بإعادة قراءة تعليم فرويد طبقا للمبادئ المعدودة والمحددة انطلاقا من عمله. فإعادة قراءة فرويد لاتعني أكثر من إعادة قراءته. فمن لا يتوخى ذلك في التحليل النفسي يكون على غلط.

س : لكن فرويد صعب ويقال بأن لاكان يحيله أقل فهما. فلقد يُأخذ على لاكان كونه يتحدث ثم يكتب بطريقة تجعل هذه الكتابة من أشد صعوبة لا يأمل من فهمها إلا الأقلية المتميزة من أتباعه.
ج : أعلم ذلك إذ يٌأخذ علي كوني جد غامض وبأني أخبىء فكري خلف ستائر من دخان إلا أنني لست أدري لماذا. إني أؤكد بعد فرويد على أن التحليل النفسي هو تلك "اللعبة البين ـ ذاتية التي من خلالها تَدخل الحقيقة مجال الواقع". اليس واضح ؟ إلا أن التحليل النفسي هو غير لعبة للأطفال. لقد أعتُبِرت مؤلفاتي بأنها غير مفهومة. لكن بالنسبة لمن ؟ إنني لم أكتبها لكل الناس ولكي تصبح مفهومة لدى الجميع. فبالعكس، لم يكن همي أبدا مجاملة أي قارئ كان. كانت لدي أشياء أقولها فقلتها ويكفيني لذلك جمهور يقرأ، فإما إن لم يفهمها بعد فصبراً. أما بخصوص عدد القراء فإن لي منهم حظا أوفر بالمقارنة مع فرويد، ذلك أن كتاباتي تقرأ بكثرة، الشيء الذي أثار دهشتي. فلي يقين أنه بعد عشر سنوات على الأكثر سيجدني قارئي أشبه بكأس الجعة شفافية وقد يقال آنذاك : "لاكان هذا، ما أتفهه!".

س : ماهي مميزات اللاكانية إذن ؟
ج : لم يحن الوقت للإسترسال في هذا الموضوع إذ ليس لللاكانية من وجود بعد. أما بخصوص لاكان فهو شخص يمارس التحليل النفسي منذ أربعين سنة ويجدٌّ في دراسته منذ وهلة مماثلة. إن لي اعتقادا راسخا في البنيوية وفي علم اللغة إذ سطرت في كتابي بأن ماقادنا اليه اكتشاف فرويد فهو التأكيد على جبروت النظام الذي تم ولوجنا به والذي، إن صح التعبير، ولدنا في إطاره مرة ثانية بخروجنا من حالة الرضيع منعدم الكلام. فالنظام الرمزي الذي بنى عليه فرويد اكتشافه مؤسَّس باللغة كفترة من الخطاب الكلي والفعلي. فعالم الكلام هو الذي يخلق عالم الأشياء المتواجدة سبقا بصفة عشوائية في كلٍّ ممكن الوجود. فليس هناك إذن غير الكلام لإعطاء معنى متكاملا لكٌنه الأشياء، ذلك أنه بدون الكلام فلا وجود لأي شيء. فكيف ياترى سيكون إحساس اللذة بدون وساطة الكلام ؟
أعتقد أن فرويد لما أبرز قوانين اللاوعي في مؤلفاته الأولى (تأويل الأحلام؛ مابعد مبدأ اللذة ؛ الطوطم والتحريم) فإنه سبق تلك النظريات التي شق بها فيردينان دي سوسير بعد بضع سنوات، السبيل الى الألسنية المعاصرة. 

س : أما بخصوص الفكر الخالص ؟
ج : إنه كباقي الأشياء، خاضع لقوانين اللغة، إذ أن اللغة وحدها هي القادرة على إفرازه وإعطائه كثافته. فبدون اللغة ماكان بإمكان الإنسانية أن تخطو خطوة واحدة في درب الأبحاث المعرفية. وهذا حال التحليل النفسي أيضا. فكيفما كانت الوظيفة التي ننسبها اليه، ككونه فاعل في العلاج أو في التكوين أو في استقصاء الرأي فلا بد له من وسيط وحيد يتم العمل به وهو كلام المريض. إلا أن كل كلام يستوجب إجابة.

س : فالتحليل إذن هو عبارة عن تخاطب. إلا أن هناك أناس يعتبرونه حصيلة الأعتراف.
ج : وأي اعتراف هذا؟ فللمحلل نعترف بفراغ عظيم. إننا نفوه له بكل بساطة وتلقائية بكل مايدور في ذهننا  وما هذا الا محض كلام. فاكتشاف التحليل النفسي هو أن الإنسان حيوان ناطق ويحق للمحلل تنظيم ما يسمعه من كلام وإعطائه معنى ودلالة. ولكي تتوفق عملية التحليل لابد من اتفاقٍ ووفاق بين المتحلِل والمحلِل. فمن خلال خطاب الأول يتوخى الثاني تكوين فكرة عما يحدث، وتقصي خلف العرض المتجلي، عقدة الحقيقة الصعبة المنال. وظيفة المحلِل الأخرى تكمن في شرحه لمعاني الكلمات حتى يفهم المريض ما يمكن انتظاره من التحليل.

س : إنها علاقة ثقة قصوى.
ج : بل إنه تحاور والمهم في هذا الحوار هو أن الأول يتكلم وأما الثاني فينصت له. فصمت المحلِل مهم أيضا إذ أنه لا يغالي في طرح الأسئلة ولا يبدي أفكارا تخص شخصه. وفي نهاية المطاف فإن المتحلِل ينحو دائما المنحى الذي يدله المحلل عليه.

س : لقد تحدثتم عن العلاج التحليلي، فهل به إمكانية للشفاء ؟ وهل يمكن التنصل من العصاب ؟
ج : يتم نجاح التحليل لما يتم تمهيد الطريق للإبتعاد عن العرض وعن المرض، أي عندما يتوصل الى الحقيقة. 

س : هل يمكنكم التعبير عن هذا المفهوم بطريقة أقل لاكانية ؟
ج : أُسَمي عرضا كل ما يصدر عن الواقع وأسمي واقعا كل ما ليس على مايرام وكل مختل الوظيفة حيث يقف حاجزا بين الشخص وحياته وحائلا  بينه وبين تحقيق شخصيته. فالواقع يرجع دوما الى نفس المقام. إذ نجده هناك دوما متحليا بنفس التجليات الخداعة. ولقد افترى أصحاب العلم أن لاشيء مستحيل على مستوى الواقع. إن تأكيدهم على أشياء من هذا القبيل إما يدل على وقاحة كبيرة وإما يرجع حسب اعتقادي الى جهل كبير منهم بما نفعله ونقوله. إن الواقع والمستحيل هما في تنافر مما يجعل تواجدهما غير ممكن. ثم إن التحليل النفسي يدفع بالفرد الى اعتبار العالم كما هو فعلا أي كونه متخيل وبدون معنى. فقد نسمع التأكيد بإلحاح على ضرورة إعطاء معنى لهذا الشيء أو ذاك وكذا لأفكارنا ومتمنياتنا ثم للرغبات وللجنس وللحياة إلا أننا لا نعرف عن الحياة شيئا البتة وذاك ما تعب العلماء في شرحه لنا. إني أخاف، نظرا لغلطة هؤلاء العلماء، من أن يُحكِم الواقع ـ ذلك الشيء المخيف ـ قبضته ويفرض جبروته. فبمحل الدين حل العلم الذي هو أكثر استبدادية وبلادة وتجهيلا. فهناك الإله ـ الذرة والإله ـ المجال...الخ. وعلى كل فإن انتصر العلم أو الدين فلا بقاء للتحليل النفسي.

س : في أيامنا هذه، ماهى العلاقة بين العلم والتحليل النفسي ؟
ج : بالنسبة لي، إن العلم الحقيقي والجدي والأجدر بالإعتبار فهو العلمستقبلي. أما العلم الآخر، أي الرئيسي والذي يمتلك منابر في المختبرات فإنه يتقدم خبط عشواء وبدون بين بين ولهذا فإنه بدأ يتخوف حتى من ظله ويبدو أن زمن القلق لدى العلماء قد حان. فهؤلاء الأطفال المسِنون الذين يلعبون بأشياء مبهمة فيصنعون لذلك آلات أكثر تعقيدا ويبتكرون تعابير علمية أشد إبهاما داخل مختبراتهم المعقمة وألبستهم المجمدة، فإنهم بدأوا يتساألون عما سيأتي به الغد وعما ستفضي به هذه البحوث المستجدة دوما وأبدا. ولربما قد فات الأوان ؟ هذا سؤال يطرحه البيولوجيون والفيزيائيون والكيميائيون. أما بالنسبة لي فإنهم مجانين إذ أنهم على وشك تغيير واجهة الكون في حين لم يخطر على بالهم حتى الأن أن يتساءلوا فيما إذا كان ما يقومون به ذي خطورة ؟ وإذا ما تفجر كل شيء ؟ وإذا ما انقلبت البكتيريات المرَبَّاة بكل حنان في المختبرات البيضاء الى أعداء فتاكة ؟ وإذا ما زحفت أساطيل من البكتيريا على العالم وما يملأه من أزبال في مقدمتها علماء المختبرات هؤلاء ؟
فزيادة على المواقف المستحيلة التي عرَّفها فرويد والمتمثلة في الحكم والتربية والتحليل، أضيف رابعة تخص العلم، مع العلم أن العلماء لا يفقهون بأن موقفهم من غير الممكن احتماله.

س : إنها لرؤية جد متشائمة لما نسميه بالتقدم.
ج : لا. إن هذا لشيء آخر. فأنا لست متشائما. وسوف لن يحدث أي شيء لسبب بسيط وهو أن الإنسان غير قادر على أي شيء ولو على تدمير ذاته. شخصيا، إني سأجد رائعا وقوع كارثة تهلك بالإنسان فتكُون الدليل على أنه تمكن من فعل شيء ما مستعملا يداه ورأسه وتدخلاته الربانية والطبيعية وغيرها. فكل هذه الباكتيريات التي أٌسْرف في إطعامها لمحض الترفيه، لَما يتم بثها عبر العالم كجراد التوراة، فإنها تعني انتصار الإنسان. إلا أن هذا لن يحدث، ذلك أن العلم لحسن الحظ يعيش أزمة مسؤوليته ولذا فكل شيء، كما يقال، سيرجع الى مسراه. وكما سبق لي قوله فإن الواقع كما هو الحال دائما سيحظى بالأسبقية وسنؤدي الثمن كالمعتاد.

س : زيادة على صعوبة اللغة وغموض المفاهيم، يعاب عليكم التلاعب بالألفاظ والمزاح اللغوي والجناس الفرنسي وبالخصوص، التعابير المتناقضة. فكل من يستمع إليكم أو يقرأ لكم من حقه أن يحس بأنه محتار وتائه.
ج : أنا لا أمزح في الواقع بل إني أتفوه بأشياء أشد جدية. إنني فقط أستعمل الكلام كمثل العلماء الذين تحدثت عنهم لما يستعملونه من آلات تقطير مختبرية أو تركيبات إلكترونية. إلا أنني أحاول دوما الإرتكاز على التجربة التحليلنفسية.

س : تقولون بأن الواقع لا وجود له في حين أن الإنسان المتوسط يعرف بأن الواقع هو العالم وكل ما يحيط به وكل ما يعاينه مباشرة ويلمسه.
ج : لنتخلص أيضا من هذا الإنسان المتوسط الذي لا وجود له كذلك لأنه تلفيق إحصائي ولا وجود الا لأفراد. فعندما أسمع عن إنسان الشارع أو عن استقصاءات الرأي أو عن حالات التجمهر أو أشياء من هذا القبيل فإني لا ألبث أن أتذكر هؤلاء الأشخاص الذين تم إنصاتي إليهم، كل على حدة، خلال أربعين سنة من الممارسة. فلا أحد منهم يشبه الآخر. ولا أحد منهم له نفس الخوافات ولا نفس إحساسات القلق ولا نفس طريقة التحدث أو نفس التخوف من عدم الفهم. فمن هو ياترى هذا الإنسان المتوسط ؟ أهو أنا أم أنت أم بواب عمارتي أم رئيس الجمهورية ؟

س : كنا بصدد الحديث عن الواقع أي العالم الذي نعاينه جميعا.
ج : حقا. إن الفرق بين الواقع أي ما لا يمشي على ما يرام وبين الرمزي والخيالي اللذين هما بمثابة الحقيقة، فإن الواقع هو العالم عينه. وللتأكد بأن العالم لا وجود له، يكفي تذكر كل هاته التفاهات التي يظن قوم لامتناهي من البلهاء بأنها هي العالم نفسه. وإني لأدعو قراء بانوراما للتأمل مليا في ما قرأوه مؤخرا قبل اتهامي بالتناقض.

س : إنكم تبدون دائما أكثر تشاؤما.
ج : هذا ليس بصحيح. فأنا لا أنضوي لا بين المنذرين ولا بين القلقين. فويل للمحلل النفسي الذي لم يتجاوز مرحلة القلق. حقيقة، تحيط بنا أشياء مزعجة ومفترسة كالتلفزة مثلا التي تبتلع بشكل متككر جزءا كبيرا من شخصيتنا. وما ذلك إلا لوجود أناس قابلين لإبتلاعهم، بل إنهم يختلقون مصلحة لما ينظرونه. ثم إن هناك أشياء أخرى ليست أقل افتراسا كتلك الصواريخ النازلة على سطح القمر وكتلك الأبحاث المتعمقة لأغوار المحيطات والى غير ذلك من الأشياء المفترسة. ورغم كل هذا فليس هناك مايدعو للإكتراث. فإن لي يقين بأنه لما نمتلك ما فيه الكفاية من صواريخ وتلفزيونات ومن كل تلك الأبحاث الفارغة فإننا لابد نبتكر أشياء أخرى نلهي بها أنفسنا. إن هذا مثابة إنعاش للدِين، أليس كذلك ؟ فما أفضل من الدين كغول مفترس؟ إنه عبارة عن حفلة مستمرة تمكن من الترفيه عن البال لقرون عدة كما تمت البرهنة على ذلك سابقا.
فأما إجابتي على ذلك فهي أن الإنسان كان دوما قادرا على التكيف مع الشر. فهذا هو الواقع الوحيد الذي بودنا إدراكه والإقتراب منه. لذا فما بقي لنا إلا التعرف عليه والإستسلام له وذلك بإعطاء معاني لكل الشياء كما قلنا سابقا. فمن دون هذا الواقع، ماكان ليحصل للإنسان من قلق وماكان لفرويد أن يصبح مشهورا وبقيتٌ أنا مدرسا بمدرسةٍ إعدادية.

س : فهل القلق دوما من هذا القبيل أم هناك أنواع من القلق مرتبطة بظروف اجتماعية وبحقاب معينة وبمجالات ثقافية مختلفة ؟
ج : إن قلق العالِم الذي يتخوف مما ستنجم عنه اكتشافاته قد يبدو فتي الظهور. لكن ماذا نعرف عما حدث في أحقاب سالفة ؟ وعن مآسي باحثين آخرين ؟ فأما قلق الأجير المستعبد لسلسلة تركيب الآلات، كما كان مستعبدا في السابق لمجداف السفينة الحربية، فهو قلق الوقت الراهن، وبكل بساطة، فإنه مرتبط بلغة العصر وبتحديداتها.

س : لكن ما هو القلق بالنسبة للتحليل النفسي ؟
ج : إنه شيء ما متموضع خارج بدننا. فهو خوف من لاشيء يمكن للبدن، بما فيه الذهن، ان يكون حافزا له. إنه بإيجاز، الخوف من الخوف. فكثير من هذه المخاوف ومن هذه الإحساسات بالقلق، على المستوى الذي نرقبها به، لها علاقة بالجنس. لقد قال فرويد بأن الجنس لدى هذا الحيوان الناطق المسمى إنسانا، ليس له دواء ولا به أمل. فمن بين مهام المحلل التوقف في متن كلام المريض على العلاقة بين القلق والجنس، هذا المجهول الأكبر. 

س : في أيامنا هذه التي يعرض فيها الجنس في كل الأماكن، بما فيها السينما والمسرح والتلفزة والجرائد والأغاني وحتى على الشاطئ، يقال بأن الناس هم الأن أقل قلقا بالمشاكل المتعلقة بالقضية الجنسية. ويقال أيضا بأن التحريمات قد ألقي بها جانبا فاصبح الجنس غير مخيف.
ج : إن هوس الجنس المكتسح ليس إلا ظاهرة إشهارية. أما التحليل النفسي فهو شيء جدي يعنى، كما قلت، بعلاقة جد خاصة بين شخصين : المتحلِل والمحلِل. وهكذا فلا وجود للتحليل النفسي الجمعي وليس هناك قلق أو عصابات قومية.

أما إذا كان قد أعطي للجنس مكان الصدارة الى حد عرضه في الأزقة وتمت معاملته كأي مادة منظِفة في الحلبات التلفزيونية، فإن ذلك لا ينبئ بأمل في أي نفع ما. أني لا أقول بأن ذلك شر في حد ذاته وإنما هو غير كاف البتة للتكفل بإحساسات القلق والمشاكل الخاصة. إن هذا التصرف يسري مسرى الموضة ومسرى هذا الزعم التحريري الذي أنزل لنا من أعلى، كخير أعطانا إياه المجتمع المدعى إباحي. إلا أن هذا التصرف لا يفيد شيئا على مستوى التحليل.