فرويد - مقالة - صعوبة أمام التحليل النفسي




سيجموند فرويد



                                                                                                                                    
صعوبة أمام التحليل النفسي
1917


(تم نقل المقال الى العربية اعتمادا على الترجمة الفرنسية الموجودة في المصدر التالي : سيجموند فرويد، المؤلفات الكاملة في التحليل النفسي، (1916-1920) المجلد XV. دار النشر الجامعية الفرنسية، 1996، ص. 41-51.)
                                     


أفتتح كلامي قائلا بأنني سوف لن أتحدث هنا عن صعوبة لها ارتباط بالعقل أو بشيئ من هذا القبيل قد يمنع التحليلَ النفسي من بلوغ ذكاء مخاطبه (مستمعا كان أو قارئا)، بل إني أود الحديث عن صعوبة من نوع عاطفي، عن شيئ يَفقد به التحليل النفسي تعاطف المستمع أو القارئ ويجعل هذا الأخير في غير استعداد للثقة به والأقتناع بمصلحته. فهتان الصعوبتان تؤديان الى نفس النتيجة، ذلك أن من لم يحس بما فيه الكفاية من تعاطف مع شيئ ما، فإنه لن يكون بإمكانه تفهمه ببساطة موازية.

ومراعاة بقارئي الذي أتخيله من غير ذوي الإختصاص، فإنني أجدني مضطرا للتذكير بالأشياء أولا بأول. ففي التحليل النفسي وبعد تجارب عدة وانطباعات منفردة، تم بناء ما هو معروف الآن بإسم "نظرية الليبيدو". وكما هو معلوم، فإن التحليل النفسي يتم تطبيقه لتفهم وعلاج أمراض تسمى بالاضطرابات العصابية. فلكي تتم مواجهة هذه المسالة، أصبح من اللازم البحث عنها في الحياة النزوية للنفس. وهكذا احتلت بعض الفرضيات المتعلقة بحياة الانسان النزوية مقام الركيزة في منظورنا للإضطراب العصبي. 

أما علم النفس كما يتم تلقينه في مدارسنا، فإننا عندما نسائله عن قضايا الحياة النفسية، فإنه لا يعطينا إلا أجوبة ضعيفة الإفادة. وليس هناك مجالٌ تنضب فيه عطاءاته أكثر من مجال النزوات. لذا فإن إيجاد مُنطلَق في هذا الموضوع يقع على عاتقنا نحن. أُذَكر بإن المنظور الشعبي يفرق بين الجوع والحب ويرى فيهما ممثلين للنزوات التي تصبو، من ناحية، الى المحافظة على الفرد، ومن ناحية أخرى، الى توالده. فإذا ما تبنينا نحن كذلك هذه التفرقة التي تبدو طبيعية بالتمام، فإننا سنعمل أيضا في التحليل النفسي على فصل دوافع البقاء، أو دوافع الأنا، عن النزوات الجنسية ثم نقوم بتسمية القوة التي تتمظهر بواسطتها النزوات الجنسية في الحياة النفسية، بكلمة ليبيدو، بمعنى الرغبة الجنسية، مُدركين فيها شيئا شبيها بالجوع وبإرادة التسلط وغيرهما مما تشتمل عليه دوافع الأنا. 

فها نحن نُقَدم في هذا المضمار أولى اكتشافتنا المهمة. إننا نكتشف مايلي : كي نفهم الأمراض العصبية، يتوجب علينا إضفاء الدلالة الكبرى على النزوات الجنسية، ويتوجب علينا اعتبار العُصابات على أنها أمراضا ملازمة للوظيفة الجنسية. إننا نرى أيضا بأن سقوط فرد ما تحت وطأة العصاب أو عدم سقوطه، يتوقف على كمية الليبيدو لديه وكذا على إمكانية تفريغها وإشباعها. إننا نفهم بأن الشكل الذي يتخذه مرضه، يتوقف على الطريقة التي اقتفاها نمو وظيفته الجنسية، أو كما اعتدنا قوله، إنه يتوقف على التثبيتات التي اعترضت هذه الوظيفة أثناء تطورها. فالتقنية التي نمتلكها والتي ليست بالسهلة، هذه التقنية التي تخول لنا تأثيرا نفسيا لدى المريض، تمكننا في آن واحد من استجلاء أنواعا شتى من العُصابات وكذلك من التحكم في تراجعها. إن مجهودنا العلاجي يلاقي نجاحا أكبر بصدد رزمة معينة من العصابات، تلك التي تصدر عن الصراع بين دوفع الأنا وبين النزوات الجنسية. فقد يحدث لدى الإنسان، أن تطغى متطلبات النزوة الجنسية لديه على قدراته الذاتية، فتبدو له هذه المتطلبات وكأنها خطر يهدد إما وجوده بالذات وإما الإعتبار الذي يكنه لنفسه. أنذاك يتخذ الأنا موقفا دفاعيا فيرفض للنزوات الجنسية ما ترغب فيه من إشباع فيرغمها على اللف والدوران كي تحصل على إشباع بديل قد يتخذ شكل عَرض عُصابي. 

إن العلاج التحليلنفسي يتمكن من إخضاع سيرورة الكبت لدى الفرد لمراجعة تُمكنه من الافضاء بهذا الصراع الى حل أفضل، متوافق مع الصحة. وقد يؤاخِذ علينا خصوم غير متفهمون، مغالاتنا في التكثير من أهمية النزوة الجنسية، ذلك أن للإنسان في نظرهم اهتمامات متعددة لا تقتصر على الجنس وحده ! إلا أن هذا ما لم يتم من لدننا نسيانه أو نكرانه ولو لحظة. فوجهة نظرنا الحصرية هذه قد تشبه وجهة نظر الكيميائي الذي يُرجع كل مكونات المادة الى قوة الجاذبية الكيماوية. فهو بهذا لا ينكر قوة الثًقل وإنما يترك للفيزيائي مهمة تقييمها. 

ففي خلال العمل العلاجي، يَلزمنا الإهتمام بكيفية توزيع الليبيدو لدى المريض. إننا بهذا نبحث عن استجلاء التصورات المرتبطة بالمواضيع التي تثبتت بها اللليبيدو فنعمل على تسريح هذه الأخيرة كي تصبح تحت تصرف الأنا. وهكذا نكون قد توصلنا الى تكوين صورة متميزة عن التوزيع الأولي للليبيدو لدى المرء. فنكون قد قبلنا بأن الليبيدو (سواء كانت على شاكلة مَيل شبقي أو على شاكلة قدرة حُبية)، تكون منذ بداية نمو الفرد، مُثَبتة على شخصه وتَستغل، كما قلنا، الأنا ذاتَه. ولا يحصل للليبيدو أن تتجاوز الأنا الى موضوعات خارجية إلا في فترة متأخرة، معتمدة في ذلك على إشباع الحاجات الحياتية الأساسية. وهذا ما يمَكّننا من التعرف على الدوافع الليبيدية في حد ذاتها ومن تمييزها عن دوافع الأنا. فيمكن للليبيدو أن تنسلخ من جديد عن هذه الموضوعات لتنزوي بداخل الأنا. فنحن نطلق إسم نرجسية على الحالة التي يعمل فيها الأنا على احتجاز اللليبيدو، كذكرى للأسطورة الإغريقية المتعلقة بالشاب نرجس، الشغوف بصورته المنعكسة على سطح الماء.

وهكذا فإننا نعزو للفرد القدرة على المضي قدما من النرجسية الى حب الموضوع. إلا أننا لا نعتقد بأن الليبيدو تنكبُّ بكاملها على المواضيع. ففي الأنا يبقى دوما قدْر معين من الليبيدو، وبداخله تقبع بإصرار نسبة من النرجسية رغم حُب موضوعاتي جد متطور. فالأنا عبارة عن مخزن كبير تنساب منه الليبيدو التي تقصد المواضيع وإليه تتراجع من جديد. فالليبيدو الموضوعاتية كانت في البداية ليبيدو الأنا وبإمكنها أن تتحول الى ليبيدو الأنا من جديد. فحتى ينعم الفرد بكامل الصحة، لا بد لنزوته الليبيدية أن تحافظ على كامل حركيتها. وكي يتم فهم هذه المسألة، لِنُفكر في الأميبيا التي تتكون في نفس الوقت من مادة متماسكة ومائعة تُمكنها من نشر ألياف وأذيال تسري وتتدفق فيها المادة الحية وكذلك تمكنها بالمقابل من استرجاع هذه المادة في أي لحظة، على نحو يُرجِع النواة الخلوية الصغيرة الى حالتها الأولى.

إن ما حاولتُ إيضاحه فيما سبق، يخص نظرية الليبيدو في العصابات، وهي النظرية التي يرتكز عليها تصورنا لطبيعة هذه الحالات المرضية وكيفية علاجنا لها. وما من شك في أننا نعتبر هذه الإقترحات بخصوص نظرية الليبيدو على أنها صالحة أيضا بالنسبة للسلوك السوي. إننا نتحدث عن نرجسية الطفل الصغير وكذلك نُرجع للنرجسية العالية الدرجة لدى الإنسان البدائي اعتقاده في القدرة اللامتناهية لأفكاره تجعله، فيما بعد، قادرا، بفضل تقنية السحر، على التأثير في أحداث العالم الخارجي. 

أود الأن، بعد نهاية هذا التقديم، أن أتطرق لثلاثة إذلالات قسوى عاشاها حتى اللحظة، نرجسية وأنانية الإنسانية عامة، من جراء التنقيب العلمي.

أ) ففي بداية هذا التنقيب، كان الإنسان يعتقد بأن الأرض ترسو ساكنة وسط الكون في حين تتحرك الشمس والقمر والكواكب في محاور دائرية حولها. إنه هكذا يكون قد سلم بكل سذاجة بما تمده به حواسه. ذلك أن الإنسان لا يحس بتاتا بحركة الأرض. وأينما وللى وجههه، فإنه يجد نفسه وسط دائرة تحتوي العالم الخارجي. إن الأخذ بمركزية الأرض هو بالنسبة له ضمانة لمقامها الأساسي في الكون مما يناسب ميله لإعتبار نفسه سيد هذا العالم.  

إن انهيار هذا الوهم النرجسي يرتبط في نظرنا بإسم وبعمل نِكولا كوبرنيك، في القرن السادس عشر. ولقد أبدى الفيتاغوريون قَبله بزمن، ارتيابهم من هذا المقام الممتميز الذي خُصِّص للأرض. فمنذ القرن الثالث قبل الميلاد، صرح أريسطارك دو صاموص بأن حجم الأرض أصغر من حجم الشمس وبأنها تتحرك حول هذا الكوكب. وهكذا فإن اكتشاف كوبيرنيك العظيم تم التوقف عليه قبل هذا الأخير. وعندما تم حصول هذا الإكتشاف على تقبل الجميع، إنتاب الإنسان أول إذلال لاعتزازه بنفسه. إنه إذلال كوسمولوجي.

ب) لقد اعتلى الإنسان، خلال تطوره الثقافي، مرتبة سيد أشباهه من سلالة الحيوان. إلا أن عدم اكتفائه بهذه السيادة جعله يصبو لتعميق الهوة بينه وبينهم فرفض لهم ملَكة العقل وأسند لنفسه روحا خالدة، ثم تبجح بأصول ربانية أعانته على قطع كل روابط الصلة بينه وبين عالم الحيوان. إنه لمن المدهش حقا أن يبقى هذا الإدعاء غريبا لدى الطفل الصغير وأيضا لدى البدائي. فهذا الإدعاء حصيلة تطور لاحق ويعبر عن تطلعات جد طموحة. أما الإنسان البدائي في مرحلة الطوطيمية، فلم يكن ليجد حرجا في ربط عشيرته بسلف حيواني. إن الأسطورة التي تتضمن بقايا نمط التفكير العتيق هذا، تجعل الألهة يتخلقون بأجساد حيوانية. أما فنون الأزمان البدائية فتخَوِّل للآلهة رؤوسا حيوانية. وكذلك الطفل، فهو لا يحس بأي نوع من التمييز بين ذاته وبين الحيوان. فهو لا يبدي دهشة عندما يصادف من خلال الأحاجي، حيوانات تفكر وتتكلم. إنه بذلك ينقل إحساسه بالخوف تجاه أبيه صوب كلب أو حصان، من دون أن تكون له نية في تحقير الأب. أما عندما يكبر ويحصل ابتعاده عن الحيوان، يتسنى له آنذاك أن يشتم بني جلدته راميا إياهم بأسماء البهائم.                                                                                                     

إننا نعلم جميعا بأن أعمال شارل داروين ومساعديه وتابعيه، قد حدَّتْ من افتراء الإنسان هذا في مهلة لا تتعدى نصف القرن. وهكذا تبين بأن الإنسان ليس أفضل من الحيوان بل إنه ليس غيره. فهو ينزل من السلسلة الحيوانية وتربطه أواصر قرابة شديدة مع بعض الأنواع الحيوانية في حين تتباعد هذه القرابة مع أنواع أخرى. إن ابتكارات الإنسان وإنتاجاته الخارجية لم تتمكن من محو الشهادات الدالة على هذه المعادلة والمتجلية سواءا على مستوى تكوينه الجسدي أو استعداداته النفسية. فهاهنا يكمن الإذلال البايلوجي؛ الإذلال الثاني لنرجسية الإنسان.                                                                                                                                       

ت) أما الإذلال الثالث، فإن له صدا أكبر لكونه سيكلوجيا. فمهما بدت درجة تحقير الإنسان من خلال مظاهره الخارجية، فإنه يبقى عزيزا وعالي القيمة في نفسه. لقد صَنع في مكان ما، بصُلب أناه، عضوا يقوم بمراقبة ما إذا كانت عواطفه وأفعاله متوافقة مع متطلباته. فإن لم تكن كذلك، فهاهي تُصد وتُآخذ بدون هوادة. إن الإدراك الداخلي، أي الوعي، يُطلع الأنا عن كل السيرورات المهمة التي تجري بداخل النسق النفسي، فتقوم الإرادة، موجَّهة بهذه المعلومات، بتنفيذ ما يأمر به الأنا، معدِّلة ومُوصلة ما كان يصبو للتحقق بطريقة منفصلة ومستقلة. ذلك أن هذه الروح ليست بالشيئ البسيط وإنما هي عبارة عن تراتب أنساق منها ماهو أعلى وما هو أدنى. إنها حصيلة خليط من الدوافع المتناقضة والمتنافرة في جُلها والتي تعمل كل واحدة منها بشكل منفصل على التحقق، تلبية لأكبر عدد من النزوات ومن العلاقات مع العالم الخارجي. فمن الضروري إذن للوظيفة النفسية أن يكون النسق العلوي منها على علم بما يستجد بها وأن تتمكن إرادته من التغلغل في أي رحب منها كي يفرض سطوته. وهكذا يحس الأنا باطمئنان بخصوص شمولية وصحة المعلومات التي تصله وكذلك بخصوص تنفيذ الأوامر الصادرة عنه. 

إلا أن الأمر يسيرُ على عكس ذلك في بعض الأمراض، وخصوصا في العُصابات التي نحن بصدد دراستها. فالأنا قد لا يحس بنفسه على ما يرام إذ يشاهد تقلص سلطته على الروح، التي هي عُقرُ دارِه بالذات. فتنتابه بغتة أفكارٌ لا ندري من أين تأتي، وليس لنا حول ولا قوة لصدِّها. فيبدو هؤلاء الضيوف الغرباء وكأنهم أشد ممن هم تحت سطوة الأنا. فنراهم يقاومون كل ما للإرادة من قدرات سبق أن أبرزت مفعولها، ويبقون غير عابئين بأية مناقضة منطقية، وغير مبالين بما قد يدلي به الواقع من توكيد مضاد.  ومن ناحية أخرى قد نجدنا أمام دوافع قهرية يبدو وكأنها صادرة من لدن شخص مغاير لدرجة تدفع الأنا لرفضها، لكنه مع ذلك يبقى مُتَخوفا منها ومرغما لاتخاذ كل الإحتياطات في مواجهتها. فالأنا يعترف بأن هاهنا مرضا، وهاهنا نوعا من الإجتياح الغريب، فيزداد يقظة واحتراسا إلا أنه يبقى غير قادر على فهم الإحساس الغريب الذي يفاجئه بإبطال طاقاته. 

إن الطب النفسي لا يوافق، وبِحق، أن تنجم هذه الظواهر عن أفكار شريرة تأتي من الخارج لتقتحم الحياة النفسية. إلا أنه، زيادة على هز الأكتاف، يكتفي بالقول : إنحلال عقلي، قابلية وراثية، تخلف بنيوي! أما التحليل النفسي فيعمد الى استيضاح هذه الحالات المرضية المخيفة. إنه يُعِدُّ بحوثا طويلة ودقيقة. ثم ينحت مصطلحات إضافية وتركيبات علمية. وفي الأخير يصبح بإمكانه أن يقول للأنا : "إن ما تغلغل في ذاتك ليس بالشئ الغريب عنك. إنما هو جزء من حياتك النفسية، إنسلَخ عن معرفتك وعن قدرة إرادتك للتحكم فيه. ولهذا فإنك تبدو ضعيفا في مقاومتك. إنك تصارع نصفا من قوتك بالنصف الآخر، فلم  يعُد بإمكانك جمع كل قوتك كما لو كنت تصارع عدوا خارجيا. أما ذاك الجزء الذي أصبح يعارضك ويخرج عن سيطرتك، فليس لأنه جزء خسيئ أو أقل قيمة من بين قدراتك النفسية. يلزمني القول بأن الخطأ هو من نصيبك. فلقد غاليتَ في تقدير قوَتك عندما ظننتَ أنك قادر على التحكم في نزواتك الجنسية واستغلالها كما يحلو لك، معتبرا أنه ليس لزاما عليك البتة، الأخذ بعين الإعتبار بتطلعات هذه النزوات. فهاهي قد ثارت ثم اتّبعت مسالكها الغامضة كي تتخلص من القمع. إنها غنمت حقها بطريقة لم يعد بإمكانك تقبلها. فأنت لم تعُد تعرف كيف تصرّفَت هذه النزوات، ولم تعُد تَعلمُ شيئا عن الطرق التي اختارت اقتفاءها. أما ما وصل الى علمك، فهو العَرَض وحده ولا غير. إنه حصيلة كل ما حصل، وهو يتمظهر من خلال المعاناة التي تقاسيها أنت. لذا فأنت لا تتعرف عليه على أنه حصيلة نزواتك المرفوضة فتجهل بأنه إشباع بديل لهذه النزوات. 

"وهذه السيرورة ليست ممكنة الأ بشرط واحد: وهو أنك مازلت على ضلال بخصوص نقطة أخرى مهمة. فأنت تظن أنك على علم بكل ما يدور بخلدك، وبأن وعيك سيطلعك بكل كبيرة وصغيرة تخطر به. أما عندما لم يصلك خبر عن أمر يدور بخلدك، فإنك تؤكد وبكل ثقة، بأن ليس له وجودا. إنك تذهب الى حد اعتبار ما هو نفسي كمرادف لما يتم الوعي به، أي بما هو معروف من لدنك. وكل هذا رغم البراهين القاطعة بأن ما يحدث في نفسك هو أكبر بكثير مما يصل الى وعيك. فاسمح لنفسك إذن أن تتفَقه أكثر حول هذه النقطة. 

"إن النفس لديك لا تتطابق كلية مع الوعي. فليس نفسُ الشيءِ أن يُخالج وجدانَك أمرٌ ما أو أن تكون أنت، إضافة الى ذلك، على علم بما حدث. أشاركك القول بأن ما يصل وعيَك من معلومات قد يكفي عادة لتلبية احتياجاتك، فتكتفي هكذا بإيهامك بأنك تعلم بما هو أهم. إلا أنه في حالات جلى، قد ينشُف عِلمك وتبقى إرادتك قاصرة بقدر قصور معرفتك. وفي كل الحالات تبقى معلوماتك ناقصة وغالبا ما تكون غير حقة. وكم يحدث ألا يتم اطلاعك على الأحداث الأ بعد وقوعها وحيث لم يبق لك استطاعة في تعديلها. فمن ذا الذي، وإن لم تُكن أنت بعدُ في حالة مرض، بإمكانه أن يقدِّر ما يدور بخلدك وأنت لا تعلم عنه شيئا أو قد علمت أشياء خاطئة عنه ؟ إنك تتصرف كمَلِك مُطْلق، يكتفي بالمعلومات التي يمده بها كبار وجهاء البلاط ولا ينزل نحو الشعب كي يسمع صوته. فادخُل الى نفسك عميقا وتَفَقه أولا كيف تتعرف عن ذاتك، أنذاك ستفهم لماذا قد تسقطُ مريضا، فيمكنك، ربما أن تتفادى ذلك."

إن التحليل النفسي يريد أن يعلِّم الأنا هكذا وبهذه الطريقة، انطلاقا من الإضاءتين اللتين مفادهما أنه من غير الممكن السيطرة الكاملة على الحياة النزوية الجنسية وبأن السيرورات النفسية لهذه الحياة هي لاشعورية في حد ذاتها وهي لا تصبح في متناول الأنا وتكون تابعة له إلا بواسطة إدراك ناقص وغير يقيني. إن هاتين الإضاءتين اللتين قدمهما التحليل النفسي تساويين القول بأن الأنا ليس بالسيد في عقر داره. فهاتان المقولتان لوحدهما يشكلان الإذلال الثالث للإعتزاز الإنساني بالذات وهو ما أسميه الإذلال السيكلوجي. فليس من المدهش إذا ألا يحظى التحليل النفسي باعتبار الأنا له بل إن هذا الأخير يرفض بكل عناد أن يضع ثقته فيه.


قليل من الناس بلا ريب، قد قبلوا بهذه الحقيقة بكل وضوح : إن تقبل فرضية السيرورات النفسية اللاشعورية قد تُخلف عواقب عظمى سواء على مستوى العلم أو على مستوى الحياة اليومية. لكن لنسارع كي نضيف بأن التحليل النفسي ليس هو أول من قام بهذه الخطوة. من بين هولاء الأولين يمكن الإشارة الى فلاسفة أجلاء وفي مقدمتهم المفكر العظيم شوبنهاور القائل ب "الإرادة" اللاشعورية والتي توازي النزوات النفسية في التحليل النفسي. إنه المفكر ذاته الذي ذكَّر الناس، بواسطة تعابير ذات قوة لا تُنسى، بأهمية تطلعاتهم الجنسية والتي لم تُقَدر حق قدرها. أما التحليل النفسي فلا يحظى إلا بالأفضلية الوحيدة المتمثلة في كونه لا يؤكد بطريقة مجردة على هذين الفرضيتين المقرِحَتين جدا للنرجسية واللتين يمكن تلخيصهما في الأهمية النفسية للحياة الجنسية وأيضا في الطبيعة اللاشعورية للحياة النفسية. إن التحليل النفسي يقدم الدليل على ذلك بواسطة عطاءات تخص كل فرد على حدة وتُلزم كل واحد أن يتخذ موقفا قبالة هذه المسائل. ولذا بالذات فإن التحليل النفسي يصبح مصب نفور ورفض الناس الذين مازالوا يتوارون متخوفين أمام إسم هذا الفيلسوف العظيم.