كاردينال - الكلام الشافي - فصل ١ من ١٨





الكلام الشافي 

                                      

هذه بداية لمشروع ترجمة رواية : 

Marie Cardinal, Les mots pour le dire, Paris, Grasset, (col. le livre de poche), Paris, 1975, 279 page


I

لم يكن الزقاق معبدا. كانت تملأه الحفر والمحدبات ويحيط به رصيف نحيف تحطمت بعض جوانبه. كان الزقاق شبيها بأصبع مُقعر يتغلغل بين منازل خصوصية متماسكة فيما بينها ولا يزيد علوها عن طابق أو طابقين. وفي منتهاه كان يصطدم بدفتين من سياج غطتهما نباتات رديئة.

نوافذ الزقاق لا تُبدي نشاطا ولا تُطلِع على أي سلوك حميمي. بداخله نظن أننا في لابروفانس في حين أننا في وسط باريس وبالضبط في الدائرة الرابعة عشرة. فليس هناك فقر ولا رفاهية فاحشة وإنما هنالك ما ينم عن حياة البورجوازية الصغرى التي تخبئ أثمن ما تمكنت من توفيره داخل الشقوق وخلف المصاريع المهشمة والمزاريب المصدأة والحيطان التي فقدت طلاوتها رقعة رقعة. أما الأبواب فهي قوية والنوافذ الأرضية مصونة بقضبان حديدية صلبة.

قد يرجع تاريخ هذه الفجوة الهادئة بالمدينة الى ما يناهز الخمسين سنة نظرا لتواجد بعض مخلفات الاسلوب العصري في الهندسة المتنوعة التي تتحللى بها ديار هذا الزقاق. فمن كان يقطن هنا ياترى؟ ان رؤية بعض الواجهات الزجاجية، أو بعض مضارب الابواب، أو ما تبقى من بعض معالم الزركشة المعمارية، تجعلنا نظنهم فنانين على وشك التقاعد، ينهون ما تبقى من حياتهم المهنية خلف هذه الواجهات، أو تجعلنا نظن أنهم من تلامذة هؤلاء الفنانين الهَرِمين أو أنهن مغنيات ُأوبِّرا مسنات أو قدامى محترفي المسرح.

لقد إخترقت هذا الزقاق حتى قُعره وحتى الشباك الحديدي الموجود على اليسار، وذلك لمدة سبع سنوات، ثلاث مرات في الاسبوع. لذا فإني (7) أدري كيف يتساقط المطر هنا وكيف يتفادى الناس قسوة البرد. وأعرف أيضا كيف تتحول الحياة في فصل الصيف، الى حياة شبه فلاحية مع ما يرافقها من زهور يانعة ومن قطط مسترخاة تحت أشعة الشمس الحارة. إنني أعرف كيف هي حال الزقاق ليلا ونهارا. أعرف أنه فارغ على الدوام. إنه دائماً فارغ حتى وإن تسارع أحد المارة تجاه أحد أبوابه أو أخرج سائق سيارته من أحد المخابئ. 

لم يعد بإمكاني تذَكُّر كم كانت الساعة عندما اجتزْت الشباك الحديدي لاول مرة. أكانت تلك الحشائش المهملة في الحديقة الصغيرة هي التي جلبت نظري ؟ أم أن قدمايا هما اللتان أحسٌا بالحصى المنثور بالممر الملتوي؟ أم أنني قمت بتعداد الدرجات الضيقة السبْع المؤدية للعمارة ؟ أم أن انتباهي قد توقف على الحائط الحجري المحيط في انتظار انفتاح الباب الخارجي ؟ لست أذكر.

إن ما ما أثار انتباهي فعلا هو ذاك الرجل الأدهم، القصير القامة وهو يمد يده نحوي. أبصرت أنه رشيق الجسم، أنيق اللباس وفاترالاقتراب. أبصرت عينيه السوداوين الثاقبتين كرؤوس المسامير. إمتثلت لأمره لما طلب مني الانتظار داخل قاعة أزاح عنها ستارا. انها قاعة أكل من طراز هنري الثاني يغطى أثاثها معظم مساحتها وتَفرض علي أنا القادمة الجديدة أخشابها المنقوشة، المزينة بالأقزام وأشكال النباتات الملتوية. وتعرض علي أيضاً سواريها اللفافية الشكل وأطباقها النحاسية وكذا أوانيها الفخارية الصينية الصنع.

كل هذا لم يكن لِينال إعجابي. أما ما أثار اهتمامي فهو الصمت المطبق. إنتظرت بكل تأهب وانقباض، حتى تناهى الى مسامعي عن يمين الستار، فتْح دفتين وخطوات شخصين كادا يلمسان الستار. بعد ذلك تم فَتح الباب الخارجي وتمتم صوت "مع السلامة، دكتور". لم يقابله رد ثم اُغلق الباب. بعد ذلك تواصل اليّ وقع خطوات خافتة نحو الباب الداخلي الذي بقي مفتوحا كما أوحت بذلك، بعد ثواني معدودة، طقطقات الأرضية الخشبية تحت السجادة وكذا الحركات المبهمة. (8)

وفي الاخير رُفع الستار وأدخلني الرجل القصير الى حجرة عيادته. فها أنا الان جالسة على كرسي قبالة مكتب، أما هو فقد أنغرس في قعر مقعد أسود مريح بجانب المكتب، مما يلزمني إدارة وجهي نصف دورة كي أتمكن من رؤيته. يتصدر الحائطَ قبالتي خزانة امتلأت كتبا تتوسطها أريكة بُنِّية اللون عليها وسادة ومخدة صغيرة. المحلل ينتظر بكل وضوح أن أتكلم. 

- "دكتور، إنني مريضة منذ زمن. لقد هربت من عيادةٍ للمجيء عندك. فأنا لا أقدر أن أتحمل أكثر."

أدَلني بإشارة من عينيه بأنه يستمع الي بإنصات تام وبإنه يلزمني الاسترسال. 

كنت واهنة القوى، منزوية في عالمي الشخصي فكيف لي أن أجد الكلمات التي تنطلق مني إليه ؟ كيف يمكنني مد الجسر الذي يربط المحتدم بالهادئ، الجسر الذي يربط المضيئ بالمظلم والذي يتخطى مياه المنازل القذرة ويتخطى الوادي الجارف لمواد نتئة متحللة، ويتخطى تيار الخوف القاسي الذي يفصل بيني وبين الدكتور، بيني وبين الآخرين ؟

كانت لدي حكايات يمكن أن أحكيها وكانت لدي نوادر أيضاً، لكن الحكاية التي تسكنني، هذا "الشيئ"، عمود ذاتي الفقري، المنغلق بالتمام، الممتلئ سوادا جارفا، كيف يمكنني الحديث عنه ؟ إنه كثيف وسميك، تخترقه اختلاجات ولهثات وتموجات بطيئة كتموجات أعماق البحر. مابقِيتْ عينيّ نوافذ. وإن كانتا مفتوحتين، فقد كنت أعلم فعلا بأنني أقفلتهما ولم يبقيا سوى شريحتي مقلة. 

كنت احس بالخزي والعار بما كان يجري بداخلي، بهذه الضوضاء، بهذه الفوضى وبهذا الهيجان. لكن لا أحد بإمكانه النظر لما يجري هناك. لا أحد بإمكانه أن يعرف ما يحدث ولو كان الدكتور نفسه. كنت أحس بالخزي والعار من الحمق الذي يلاحقني. وكنت أظن أي شكل من أشكال الحياة أفضل بكثير من الحمق. كنت دوما وأبدا أبحر في مياه بمنتهى الخطورة، ملئى بأعاصير وتيارات سريعة وشلالات وبقايا سفن محطمة. إلا أنني كنت أسطنع صورة من ينزلق بكل طمأنينة كأوزة على سطح بحيرة هادئة. (9)

ولكي أختبئ أكثر فإني أقفلت كل المنافذ : عيني وأنفي وأذنيَّ وفمي وفرجي وشرجي وحتى مبولتي. وكي يغلق كل فتحاته فإن بدني بات ينتج مواد مناسبة، بعضها يسمُك حتى يمتنع مروره لصلابته والبعض الاخر، على العكس، يسيل باستمرار فيمنع دخول ما عداه.

- " هل من الممكن أن تحدثيني عن العلاجات التي اتبعتيها وعن الاختصاصيين الذين قمت باستشارتهم؟"
- "نعم." 
عن كل هذا يسهل علي الحديث. بإمكاني أن أحصي الاطباء والعقاقير. بإمكاني الحديث عن الدم وعن سيلانه الرطب والدافئ بين فخذي منذ أكثر من ثلاثة شهور وعن عمليتَيْ كحْتِ الرحِم اللتين خضعتُ لهما من أجل استنزاف سيلانه.

هذا السيلان على اختلاف تواتره، هو أليف لي. إنه اختلال مطمئِن لانه ممكن المعاينة والقياس والتحليل، لذا فإني أحب أن أجعله مركز الصدارة لمرضي بل ومنبعه. فهل من الممكن ألا أُصاب بالرعب أمام هذا السيلان المسترسل ؟ وهل هناك امرأة لا يصيبها خبل من رأية طاقتها الحيوية تسيل بهذا الشكل ؟ وكيف لا يصيبني إرهاق من جراء المراقبة المستمرة لهذا الينبوع الحميم والمزعج، الملفت للنظر والمخزي ؟ وكيف لا أفسر بهذا الدم عدم قدرتي على العيش مع الاخرين ؟ فكم لطخت من كرسي ومن مقعد مريح ومن أريكة ومن زربية ومن فراش ؟ وكم تركت خلفي من مستنقع كبير وصغير ومن قطرات كبيرة وصغيرة بِكم من صالون وصالةِ أكلٍ ورواق ومسبح وحافلات نقل وبأماكن مختلفة ؟ فلم يعد بمقدوري الخروج بعد.

ثم كيف لي ألا أبوح بسعادتي أيام ينضب هذا الدم فلا يظهر الا من خلال بقايا سمراء اللون ثم صفراء ؟ في أيام كهاته يكون المرض قد زاولني وأنذاك يمكني التحرك والنظر والخروج من ذاتي. لَحظتها ينزوي الدم في عقر مَخبئه الناعم لينام هناك، كما كان عليه الحال في السابق، مدة ثلاثة وعشرين يوما. (10)

كي يتحقق هذا الغرض، كنت ألزم نفسي بأقل ما يمكن من العناء. فكنت أسلك متخذة أكبر الاحتياطات، فلا أحمل الاطفال بين ذراعي ولا أحمل سلة التسوق. لا أطيل مدة وقوفي أمام الفرن ولا أتكلف بالتصبين ولا أعتني بتنظيف زجاج النوافذ. أحاول أن أتصرف ببطئ وبهدوء حتى ينقرض الدم ويكف عن التلطيخ. كنت أستلقي على الفراش مرتدية ثوبا فضفاضا وأنا أراقب صبياي الثلاثة. وبغتتة، بحركة من اليد زادتها العادة سرعة ودقة، أسترسل في ترقب حالتي. كنت أعرف كيف أفعل ذلك أيا كان وضعي من دون أن أثير انتباه أحد. 

فبحسب الظروف قد تنزلق يدي من الامام فوق الزغب الصلب والمموج حتى تلتقي بالموضع الساخن والرطب لفرجي وبعدها ترتد بسرعة. أو أنها تخترق بكل سهولة الوادي الممتد بين الردف والفخذ فتلج، دفعة واحدة، الثقب المستدير والعميق ثم تنسحب منه بخفة فائقه. بعد ذلك امتنع عن النظر توا لأنامل أصابعي كي يطول انتظار الفجاءة. وإذا لم يكن هناك شيئ؟ في بعض الاحيان أحك بكل قوة بظفر الإبهام على جلد السبابة والوسطى فلا يظهر الا رشح خافت اللون. أنذاك يغمرني نوع من البهجة وأقول في نفسي: "سوف يتوقف النزيف كلية إذا ما عزفت كلية عن أية حركة." وهكذا أبقى جامدة، وكأني نائمة، راجية من كل أعماقي أن أسترجاع سوائي وأصبح ككل الاخرين. 

كنت أعيد مرارا وتكرارا هذا العد التي خبرَت فيه النساء: "إذا ما كان حوضي سينتهي هذا اليوم، فإن الحيض المقبل سيحصل في.... لكن هل هذا شهر ثلاثين أو واحد وثلاثين يوما؟ ...". وهكذا بفيت تائهة في حساباتي، في بهجتي وفي أحلامي حتي هزتني مداعبة قوية وملموسة، غامضة وسلسة لجلطة يعمل الدم المنهمر على الدفع بها. مادة بركانية سميكة ومتسارعة تنزل من الفوهة، تتهابط ساخنة فتغمر المستنقعات. تتصاعد لها ضربات القلب فيعود القلق و يتوارى الأمل. كل ذلك وأنا أهرول في طريقي نحو حمام المنزل. (11)

أثناءها سال الدم على ركبتي ثم وصل الى رجلي على شكل سيلان رقيق، جميل الاحمرار وقويه. إنها سنوات عدة قضيتها في انتظار لامتناهي وفي تأني وسواسي لهذا الدم.

لقد زرت عددا لا يحصى من أخصائيي أمراض النساء. وأعرف بالضبط أين أضع مؤخرتي على حافة طاولة الفحص بعد أن أثبتت رجليَّ متباعدتين فوق المناضيض المرتفعة. فها أحشائي مفتوحة ومعروضة تحت أشعة المصباح وتحت نظر الطبيب. وهاهي تحت تصرف الأصابع المغطاة بجلد مطاطي رقيق ومباحة للمخاريط الفولاذية الحميلة والمرعبة. 

كنت أغلق عينيٌ أو أنظر بإصرار الى السقف في حين كانت تُجرى في أحشائي تفتيشها خبيرة وتنقيبات غير محتشمة وملامسات تقنية. إنني أُغصب. كل هذا يبرر - على ما يبدو - اضطرابي ويجعله مقبولا وأقل ريبة.  فمن غير المعتاد حجز امرأة في مستشفى المجانين لانها نظفت ولان ذلك يروعها. فطالما بقيت لا أتكلم الا عن الدم فلن نرى غيره ولن نبصر ما يخفيه. 

كنت كما أسلفت جالسة بقرب الطبيب داخل هدوئه هذا المنزل المزخرف، في عقر الزقاق الصامت. كنت مطيعة وطيبة كما كان يجب على دمي أن يكون عليه أسفل بطني. وكنت أجهل لحظتها أن هذا المكان وهذا الرجل سيصبحان لدي نقطة انطلاق كل جديد. 

لقد تطاولتُ في سرد حكاية زيارتي لاستاذ كبير في أمراض النساء، بضع أسابيع خلت. جاء الأخصائي بلباسه الابيض المكون من سترة وسروال من الطراز الامريكي. غرس يده اليسرى بداخلي واتكأ بيده اليمنى على بطني من جانب لآخر وفي الوسط، دافعاً بإحشائي الى أسفل حيث تقوم أصابعه التحسس والجس وكأنه ربة منزل تستعد لإفراغ دجاجتها دفعة واحدة. توقعت أثناءها أن أحشائي ستصدر أصواتا غامضة وخافتة كأصوات الطين : "بلوف"، "صبلاش"، "صْلوب". لقد كان السقف أبيض كالكذب. كان ذا بياض شاسع تضيع فيه الفروج المشوهة والمنهوكة، وذا بياض عميق يلتهم الصور الخسيسة الواردة من مخيلتي. (12)

بعض فحص طويل، سوى الاستاذ قامته. أزال ففازت وصرح قائلا وأنا مازلت مستلقية على طهري وفخذي مفتوحان فوق الطاولة: "إن رحِمك ليس اكثر من متورم، لكني أنصحك بإزالته كلية في أسرع وقت ممكن وإلا فسيحصل لك مساوئ جلى وفي أقرب مما تظنين. لنحدد سويا وقت العملي الجراحية وسترين، سيمر كل شيئ على أحسن ما يرام...، بدون مزايدة، سأقوم بالعملية الاسبوع المقبل...، لننظر سويا، من اليوم الذي تفضلينه؟ الاثنين أم الثلاثاء؟"
- فقلت "الثلاثاء".
أطلعني بعدها عن المسار الذي يلزمني اتباعه قصد الفحوص الأولية وعن الترتيبات اللازمة من أجل قبولي في العيادة. قدمت له راتبه. شكرته ثم انصرفت.

كنت في حوالي الثلاثين من عمري وكنت لا أود أن ننزع مني هذا الكيس وهذين الكورتين. كنت أتمنى أن ينقطع سيلان الدم، لكني كنت أرجو الاحتفاظ بهذه العلبة بأسفل بطني. بدأ "الشيء" يتقاذف داخل رأسي. نزلت بكل سرعة السلالم المرمرية والمزينة بالأعمدة، بالزرابي، بالزخارف النحاسية وبالمرايا. جريت. قذفت بنفسي داخل الميترو حيث غمرني "الشيء" كلية فغرس هذه المرة بالذات عروقه في رحمي المتورم. يالها من لفظة! كهف مفروش بطحالب تنزف دما. مضيق خشن الضفاف بشعها. ضفضاع غطت جلده نتوء قذرة. أخطبوط.

إن الكلمات لدى مرضى النفس، وكذلك الاشياء، تحيى كما يحيى الناس والحيوانات. إنها تخفق. إنها تخفت أو تتضخم. فالتنقل بين الكلمات يضاهي التنقل بين جموع الناس. فبعض الوجوه وبعض الهياكل قد تمحي بسرعة وقد يبقى بعضها منغرسا بقوة ولا ندري لماذا. بالنسبة لي في تلك الفترة، كلمة واحدة انسلخت عن باقي الكلمات وبدأت تفرض وجودها علي لتصبح شيئا مهما، بل الشيئ المهم الذي يسكنني ويعذبني، لا يفارقني فيزورني في نومي وينتظرني لحظة استيقاظي. (13)

فتحت عينيّ ببطإ وأنا أستيقظ من نوم ثقيل كيميائي وعجيني مكنتني منه العقاقير المهدئة. أحسست أولا بأن جسمي لازال مكتملا. أحسست بعدها باللحظة وبالشمس. لا بأس. بدأت أصعد حتى سطح وعيي وبعد ثانية أو إثنين وربما ثلاثة، دوت كلمة "متورم" بداخلي. تناثرت من حولىي وكأنها لطخة من الصباغة الزيتية على حائط ناصع البياض. بعدها مباشرة انتابني الارتعاد ودوى طبل القلب وسال عرق الخوف. وهكذا بدأ النهار.

يجب أن أبدأ في استحضار ذاكرتي وأن الإلتقاء بالمرأة المنسية لدي، بل أكثر من منسية، إنها منقرضة. كانت تمشي، تتكلم وتنام. ويحز في نفسي عندما أزعم أنها كانت تنظر بعينيها وتستمع بأذنيها وتفوح من جلدها رائحة. إنها كانت تستمد حياتها بواسطة عينيَّ وأذنيَّ وجلدي وقلبي. فعندما أنظر الى يديَّ نجد لنا نفس اليدين ونفس الأظافر ونفس الخاتم. هي وأنا. أنا هي. لقد شرعنا، الحمقى وأنا في حياة جديدة، حياة يملؤها الأمل، حياة لا يمكن أن تكون أسوأ. أنا أحميها وهي تزودني بالرغبة في الاكتشاف وفي الحرية. وكي أقص هذا التحول وهذه النشأة، يجب أن أبعد الحمقاء عني وأن ابقيها دوما على مسافة مني. يجب أن أنشطر منها.

وكي أقص هذا التحول وهذه النشأة، يجب أن أبعد الحمقاء عني وأن ابقيها دوما على مسافة مني. يجب أن أنشطر منها. أبصرها في الشارع دائما على عجلة من أمرها. لا يخفى علي كل جهدها كي تبدو عادية وأن تُوقف الخوف المختبئ خلف ناظريها. أتذكرها واقفة ورأسها منغرس بين كتفيها، حزينة، مهمومة في نفس الوقت بتصاعد الإضطراب الداخلي لديها وبمحاولتها تصفيح عينيها. يجب ألا يبدو للعيان شيء من كل هذا. وبالخصوص، لا ينبغي أن تسقط في الشارع  فيحملها الآخرون الى المستشفى. مجرد تتصوها بأنها قد لا تتمكن من مراوغة اضطرابها النفسي الذي قد يتضخم سيلانه فيحطم السدود زاحفا، تجعل جسدها يرتعش بكل حدة. (14)    

مجال وجودها خارج المنزل أخذ يتقلص شيئا فشيئا. وفي يوم من الأيام توقفت كلية عن الخروج الى الشارع. بعد ذلك حصرت مجالها الحيوي على داخل المنزل. وهكذا تعددت الفخاخ حولها.في الأشهر الأخيرة، وقبل أن يتم وضع أمرها بين أيدي الأطباء، لم يبق في مقدورها ان تعيش إلا بداخل قاعة الحمام. إنها قاعة مغطاة بالرخام الأبيض. لكنها معتمة، تحظي بنور خافت يصلها من نافذة ضيقة على شكل هلال، تكاد تغطيها بالكامل أغصان شجرة تنقر على الزجاج كلما هب الريح. إنها قاعة جد نظيفة تغمرها رائحة الصابون ومبيدات المكروبات. لا وجود للغبار في اركانها. تنزلق الأصبع على رخامها وكأنه قطع من جليد. لايمكن لأي بداخلها أن يتحلل أو يختمر. ليس فيها من مادة قابلة للفساد والا بتباطئ شديد جدا مما يجعل حتى فكرة التحلل من قبيل المستحيل. 

بين المرحاض والمغطس هو المكان الذي يلائمها أكثر عندما لا تتمكن من التحكم في "الشيئ" بداخلها. إنها تختبئ هناك في انتظار أن تفعل العقاقير فعلها. فتنزوي هنالك منكمشة على نفسها، واضعة أسفل فخذيها على قدميها، ضامة ركبتيها الى صدرها. تعصر قبضتيها لدرجة تدمي أظافرها راحة يديها. رأسها المثقل يتمايل في كل صوب. الدم والعرق يسيلان منها بغزارة. إن ما يتكون في داخلها من صور فظيعة، ومن أصوات وروائح مقذوف بها من نبع طافح في كل الجهات،  تحل تماسك أي تفكير وتقضي بعبثية أي تفسير وتجعل من أي محاولة لإستتباب النظام غير مجدية. إن "الشيء" الذي يتكون في الداخل من خلال هذه المظاهر، يتمظهر في الخارج بواسطة هزات وارتجاجات عنيفة وتصببات عرق كريهة. 

أظن أن أول مرة ذهبت فيها لزيارة المحلل النفسي كانت مساءا. وقد يعود هذا الضن الى الحنين لتلك الجلسات المتأخرة التي كنت أحتمي خلالها في عقر الزقاق من البرد ومن الاخرين ومن الحمقاء ومن الليل. كانت إحدى تلك الجلسات التي كنت أحس فيها بمجيئي الى الدنيا وبنموي المتواتر. أفاق عريضة تنفتح أمامي والطريق يتسع، فأفهم أكثر فأكثر. (15)

فلم تبق الحمقاء تلك المرأة التي تلتجئ الى مرحاض المقاهي كي تخفي ارتجافاتها عن الأنظار، تلك المرأة التي تتهرب من عدو غير مسمى، تلك المرأة التي كان دمها يسيل على الرصيف والتي كان الخوف يتصبب منها حتى في عقر صالة الحمام. لم تبق تلك المرأة التي لا تريد أن نلمسها أو ننظر إليها أو حتى أن نكلمها. لقد أصبحت الحمقاء كائنا حنونا، حساسا، وغنية المكارم. وهكذا بدأت أتقبل الحمقاء بل وأحبها. 

في البداية، إنني أتيت الى هذا الزقاق راجية أن يتم الإعتناء بي لمدة معينة من طرف طبيب لا يقوم بإدخالي المستشفى، (كنت أعلم بأن المحللين النفسانيين لا يدخلون مرضاهم المستشفيات). فلقد كنت أتخوف من حجزي وإبقائي داخل داخل مستشفى الأمراض العقلية كما كنت أتوجس من العملية الجراحية التي كان بودها أن تبتر أحشائي. إنني أتيت الى هذا الزقاق هاربة من عيادية طبية، لكنني ظننت ان الأوان قد فات وسيزج بي في مستشفى الأمراض العقلية. كنت أظن أن لا بديل عن ذلك خصوصا منذ تم إغناء "الشىء" بالهلوسة. فقد كنت مصممة جداً على عدم البوح للطبيب بهذه الهلوسة. فلقد كنت أظن أنني إذا ما حدثته عنها فإنه لن يكون بإمكانه مساعدتي وسيرجعني للتو من حيث أتيت. فهذه العين التي تواجهني أحيانا والتي تحدق في - إنها موجودة حقاً لكنها غير موجودة الا بالنسبة إلي - تبدو لي كعلامة حقة على حمقي، وعلى مرضي هذا الذي لا شفاء له ولا عافية منه. 

كنت آنذاك في الثلاثين من عمري وكنت أتمتع بصحة جيدة إلا أنه كان من المحتمل أن أبقى مسجونة في مرضي لمدة خمسين عاما أخرى لولا وجود أولادي بجانبي. فمن دونهم لكنت قد تنازلت عن المثابرة في الصراع ضد المرض. لأن الصراع ضد "الشيئ" مضن ومرهق جدا لدرجة وجدتُني مدفوعة أكثر فأكثر للجوء لأدوية تدفنني في قبر عجيني ورطب. فأولادي كلهم جاؤا الى الوجود برغبة كبيرة مني. فهم لم يولدوا بمحض صدفة. فمنذ صباي كنت أقول في نفسي : "في يوم سأنجب أبناءا وأبني معهم ولهم حياة ملؤها الدفء والعطف والمرح والإهتمام بالآخر." فهذا كل ما كنت أحلم به لنفسي عندما كنت طفلة. (16)

لقد جاؤوا الى هذا العالم ينعمون بصحة جيدة وبحيوية إبان انبثاقها. إنهم يترعرعون في أحسن الأحوال الا أنهم لشد ما يختلف بعضهم عن البعض من حيث الطباع. كنا نحب بعضنا البعض وكم كنت أفرح لضحكهم وكم كان يريق لي أن أغني لهم أغاني الطفولة. 

وبعد ذلك حدثت المصيبة. حل بي "الشيء" وجعل مني مسكنه. إنه سلب مني ذهني لدرجة تجعلني لا أكلف الا به. مرت بي فترة في البداية ظننت أنه بإمكاني خلالها أن أتعايش مع "الشيئ" كما يتمكن البعض من العيش بعين واحدة أو رجل واحدة أو مصابا بقرحة المعدة أو بتقرح الكليتين. ذلك أن بعض العقاقير نجحت فعلا من التحكم في "الشيء" وتكبيله. فيكون بمقدوري آنذاك أن أنصت وأتكلم وأمشي. ويكون بإمكاني أيضاً أن أتنزه مع أبنائي وأُحضر لهم تحلية وأحكي لهم حكايات من أجل تسليتهم. بعدها أخد مفعول العقاقير يتقلص، فاضطررت الى استعمال ضعف الوصفة، ثم ضعف ضعفها. إلا أن هذا لم يمنع من أن أستيقظ ذات صباح سجينة "الشيئ". لقد زرت أعدادأ لا حصر لها من الأطباء، لكن نزيف الدم لم يتوقف. في بعض الأحيان يضعف نظري فأعيش في ضباب، يترآى لي كل شيء من خلاله معتما بل وخطيرا. انغرس رأسي بين كتفي وانكمشت قبضتَي وكأني في حالة دفاع. قلبي يدق طيلة النهار المائة والثلاثين أم المائة والأربعين دقة في الدقيقة وكأنه على أهبة لتكسير القفص الصدري والقفز منه أمام ناظري الجميع. إن دقاته المتسارعة ترهقني واعتقادي بأن كل الناس تسمعه يؤنب ضميري. 

لقد تمكن مني وسواسان على شكل حركتين أكررهما ألف مرة في اليوم. الاول، أسلفت الحديث عنه، ويتمثل في التأكد عن طريق اللمس بيدي من حالة سيلان الدم. أما الثاني فيخص تجسس نبضات قلبي. كنت أقوم بتنفيذهما بسرعة فائقة خفية عن الأنظار. لا أريد أن أسمع أحدا يقول وهو يراني أتحسس معصمي : " ماذا بك، هل تحسين بعدم ارتياح أو بألم؟" كان سيلان دمي وارتفاع ضربات قلبي هما الدلالة الملموسة والأكيدة لمرضي. (17)

كان يدفعان بي للقول، عندما يشتد بي الحال :"إني مصابة بمرض القلب، إني مصابة بسرطان الرحم." فتبدأ رقصة الفالس بين الأطباء، ويكتسب الموت حضورا أقوى مع هذه السوائل الكريهة والمتحللة. 

أما الأن وفي هذه اللحظة التي قررت فيها أن أبوح بمرضي، في هذه اللحظة التي خولت لنفسي فيها الإمتياز المعذِّب الذي يتمثل في وصف الصور المخيفة والإحساسات المؤلمة التي توقظ لدي ذكريات الأحداث الماضية، فإني أتخيلني كمخرج سينمائي من على رافعة وبيده كامرا، بإمكانه أن ينحدر كي يصور بشكل جد مكبر، ملامح وجه بالذات وبإمكانه أيضاً أن يعلو حتى يتمكن من تصوير المنظر بكامله. 

فهكذا، وبخصوص هذه الزيارة الأولى للمحلل النفسي، أتذكر باريس بأنواره الليلية في فصل الخريف. (أهل كان ذلك حقاً فصل الخريف؟). وبباريس، أتذكر حي آليزيا وفي هذا الحي، الزقاق، وفي الزقاق المنزل الصغير، وفي المنزل الصغير، مكتب مضيئ بنور خافت ينبادل فيه رجل وامرأة أطراف الحديث وهذه المرأة، وسط كل هذا، منكمشا على نفسها وكأنها جنين ذاخل الرحم. 

إلا أنني في هذه الفترة لم أكن أعلم بأن ولادة ذاتي قد بدأت وبأني أعيش اللحظات الأولى من حمل طويل سيدوم سبع سنوات. إنه حمل يخص ذاتي وليس غير.

لقد تحدثت للمحلل عن الدم الذي يسيل مني وعن "الشيء" الذي يُسرع ضربات قلبي. وكنت على يقين بأنني لن أبوح بموضوع الهلوسة. كنت على أهبة للتحدث عما حدث في الايام الأخيرة وعن العيادة التي هربت منها. وهكذا أكون قد تحدثت عن كل شيئ. 

كان المحلل ينصت لما أقوله بكامل الإنتباه ولاشيء في حديثي يدفعه لاستجابة ما. وعندما انتهيت من حديثي عن صالة الحمام وعن نوبات القلق التي ما فتأت تنتابني، سألني : (18)
- بماذا أحسستي في هذه اللحظة، ماعدا الإختلاجات الفيزيولوجية؟ 
- إنني خائفة.
- خائفة مماذا؟
- خائفة من كل شيء ... خائفة من الموت.

وفي الحقيقة لم أكن أدري ما كنت أخافه. كنت أخاف الموت لكنني أيضاً كنت أخاف الحياة. كنت أخاف من العالم الخارجي، لكني كنت أيضاً أخاف مما يدور بداخلي. كنت أخاف من الآخرين لكني كنت أخاف أيضاً من نفسي. كنت أخاف، أخاف، أخاف، أخاف.

لقد رمى بي الخوف في عالم الحمقى. فما كان من عائلتي، بعدما حصلت منها بالكاد عن استقلالي، أن أعادت بناء حزام واقي حولي. حزام يضيق أكثر فأكثر وتتبخر معالمه كلما ازدادت حدة المرض. إنها أقامت هذا الحزام ليس فقط لتحميني وإنما أيضاً لتحمي نفسها. فلا مكان للحمق في طبقتنا الإجتماعية. يجب كتمانه مهما كلف الثمن. إن الحمق لدى الإرسطقراقية أو لدى الشعب يعتبر إما غرابة وإما آفة. فهو قابل للتفسير على كل حال. لكنه في طبقة الأسياد الجديدة، فهو غير مقبول بتاتا. فإن نبع الحمق من الوراثة أو من الفقر، فهو شيء يمكن تفهمه. لكنه يبقى غير قابل للفهم إذا ما نبع في وسط ينعم بالرفاهية والغنى والعافية وبالإتزان الناجم عن المال المسكوب بالعمل. ففي هذه الحالة يكون الحمق عارا. 

في البداية، لم يبخل أحد من نصحي قائلا : "لا بأس. أنت قلقة فقط. خذي راحتك ثم قومي بتمارين رياضية". بعدها انقلبت النصائح الى أوامر : "إذهبي لزيارة الدكتور فلان. إنه صديق عمك ومن أكبر أخصائيي الأمراض العصبية." وهكذا فإنوالإختصاصي الكبير والصديق أمر بعلاج "تحت إشراف طبي" تم أثنائه احترازي في غرفة من الطابق العلوي لعي ادني عمي. 

إنهاغرفة هادئة، تمت إقامتها في العِلية وتم تجهيزها بسرير عريض. حيطانها مغطاة بكتان مزين بزركشات عن مناظر طبيعية مريحة. كل زركشة تحمل صورة راعية تحمل عصا وأمامها قطيع من الغنم بجانب شجرة زيتون. وتتكرر هذه الزركشة بشكل يزيد من الراحة والإسترخاء. (19)

يوجد بالغرفة مرحاض تم عزله عن الغرفة بستار تعلوه نفس الزركشة. إنه بيت للنظافة مريح مزين بالخزف الصيني الأبيض، ذو أركان مدورة مما يعطيها طابعا مريحا. قبالته توجد طاولة مع كرسي. وبالغرفة أيضاً فتحة دائرية تم تحويلها الى نافذة تفتح على منظر خلاب لإحدى ضواحي باريس. يتكون هذا المنظر من صف لشجر الحور المنتعش، ومن أشجار تفاح مزروعة بشكل غير منتظم ومن حقول الحبوب التي تغطي الأفق ومن سماء شاسع. 

لكن هذا الكتان المزركش، هل رأيته فعلا في غرفة العيادة أم هو كتان الغرفة التي قضيت طفولتي فيها؟ ألم يكن الكتان الحيطي في العيادة  مطبوعا برسوم لورود ضخمة تحملها سيقان ممتلئة؟ أهل كان هناك فعلا كتان يغلف الحيطان أم لم يكن هناك سوى صباغة زرقاء لامعة؟ لا أتذكر جيدا. ولست أتذكر أيضا كيف أتيت الى هنا و من الذي قادني الى هذا المكان. لكن يعود الى ذاكرتي بوضوح تام السلم الضيق الذي يؤدي الى الغرفة وكذلك الأثاث الذي يجهزها وحتى النافذة وبيت النظافة الموجودين بها. 

كان من المطلوب مني أن أزيل ثيابي وأن ألبس بذلة النوم الجديدة وأن أدخل الفراش الرطب ذي الأغطية المنعشة وأن أتمدد وأن أسمح لشخص ما التحقق من درجة ضغط دمي وتحسس نبضات قلبي. وبما أنني أصبحت هكذا تحت تصرف الطب فقد أغلقت عينيَّ كي استمر داخليا في المقاومة، أما من الخرج فقد سلمت نفسي : لقد كان جسدي ممدا على طوله وذراعي ملقتان على الأغطية ويديَّ مفتوحتان. كان السواء يبدو علي من الخارج. أما من الداخل فكان يلزمني تهدئة نبضاتي. لقد وضعوا على ذراعي ألة قياس النبض. كنت أسمع صوت تنفسها القصير كلما تم عصر المنفخة. وكلما انتفختت الا وأحسستُ بها تعصر ذراعي أكثر فأكثر. ثم أحسست بشيء من التشنج لما لامس حديد الأسطوانة البارد باطن مرفقي. لقد أكد الطبيب على أن ضغط دمي جد منخفض ويجب قياسه كل أربع ساعات قبل إعطائي قرص الدواء. أما أنا فلا يهمني إن كان ضغط دمي منخفض. فكل ما يهمني هي دقات قلبي المجنونة. ولقد سنحتني عملية قياس الضغط فرصة لمحاولة تهدئتها. بعد ذلك أزيلت الساعدة من ذراعي وأحسست بحركة من حولي. (20)

من الذي كان هناك؟ أهو عمي أم الأستاذ الصديق أم شخص آخر؟ لست أدري. فطوال فترة المرض، كان همي الوحيد هو التحكم في نفسي وإشعال الحرب ضد "الشيء" مما يجعلني لا أبصر جيدا ما يدور حولي وأحس وكأنني على وشك فقدان بصري. كنت أعتمد على نوع من الغريزة في تحركاتي مما يجنبني الإصطدام بالأشياء وبالناس. 

وأخيرا أحسست بأنامل أربعة أصابع، أربع كويرات رطبة توضع بطريقة خبيرة على ساعدي. ماكان لهذه الأنامل أن تبحث طويلا. فبمجرد ما أن لمست منطقة النبض حتى أصبح الدم الذي يمخضه "الشيئ"، يهتز قبالتها. تحسست الأصابع دقات الدم، فضاعفت للتو من أعدادها لهذه الدقات وعملت على إرجاع صداها في كل جسمي وفي كل أرجاء الغرفة. 90 دقة، 100، 110، 120، 130، 140 دقة... ومهما فعلت كي أخفي أثر "الشيئ" وأسد كل المنافذ في جهه حتى لا يظهر فإنه تعلم أن يظهر على هذه الشاكلة، سالكا مسلك عروقي وجلدي. فههنا طل شبح هذا الوغد وهو يسخر مني ولا يطاوعني. لقد ضرب بكل قواه الأصابع التي رفعت عنه بسرعة. وهذا، فقد أصبح الحاضرون بجانبي على علم. بعدها أحسست ثانية بحركات حولي، حركات خافتة وغير مقلقة. 

"لتأخذي دواءك الآن. ربع قرص فقط، أربع مرات في اليوم لمدة أسبوع. بعد ذلك سنقوم برفع المقدار. وسيتحسن حالك." هكذا تحدثت سيدة قصيرة، رشيقة، ذات شعر تخلله البياض. أبصرت في عينيها بأنها سجلت المرسال الذي بعثه "الشيئ" عبر أصابعها. إنها تعلم بما يختلج بداخلي. 

أخذت بيدي كأس الماء التي مدته لي وربع القرص من الدواء وتظاهرت بتناوله. وفي الحقيقة، مرت أسابيع لم يعد في وسعي تناول أقراص غير مذابة في الماء. فلقد حصل بحلقي تقلص يمنع من مرور أي شيئ. (21)

كان يراودني إحساس بالإختناق كلما حاولت الابتلاع. أقفلت عينيٌََ محاولة إفهام السيدة بأن كل شيئ على ما يرام وبأنني في حاجة  الى الراحة. أما قطعة القرص فقد بقيت محبوسة في حلقي وكأنها صخرة. 

لم يبق أحد غيري في الغرفة. قفزت نحو المغسلة كي أرمي بالدواء من فمي. تغلغلت أصابعي حتى البلعم كي تحدث تشنجا يخلصني. وفي النهاية، سقط جزيء القرص الأصفر من فمي وسط سيل من الألياف الرغوية. (أكان القرص أصفرا أو وردي اللون أو لؤلؤيا؟). جلست على حافة المرحاض وأنا أرتعد من رأسي حتى قدماي. لست أدري كم بقيت هكذا بدون حركة. إلا أنني أتذكر بأنني أزلت اللفافة الواقية التي تحبس تدفق دمي وأخذت أنظر الى نزيفه، قطرة قطرة، في حين كنت أتمايل ببطئ من الأمام الى الخلف كي أهدهد نفسي، مع كامل العلم بأنني أهدهد "الشيء" في نفس الوقت. قطرات الدم المتساقطة تسيل رويدا ريدا، مختلطة برطوبة الزليج الأبيض. تمكنت في آخر المطاف من شق طريق ضيق ومنعرج حتى مصب الماء الفائض. شغلت بالي هاكذا برؤية الدم المنهمر مني وهو يسير طريقه. وعلمت بأن له الآن حياة تخصه لوحده، وبأنه يكتشف لذاته قوانين فيزياء مواد الأرض من وزن وحجم وسرعة وديمومة. إنه الآن بصحبتي وهو الآخر مثلي تحت سطوة قوانين الحياة الغير مفهومة واللامبالية. 

لقد فاز "الشيء". فلم يبق في هذا الوجود الا نحن الإثنين، هو وأنا والى الأبد. لقد بقينا محبوسين في بعضنا، مصحوبين بما كنا نفرزه سويا من دم و عرق وغائط ولعاب وقيح وقيء. إن "الشيء" أبعد عني أولادي والأزقة المزدحمة والمتاجر المضيئة. أبعد عني البحر في وسط النهار مع مويجاته الدافئة. أبعد عني الضحك وحرارة الأصدقاء ولذة القراءة ساعات طوالا. أبعد عني الموسيقى وذراعي رجل حنون تضمني ونشوة السباحة في المياه العذبة. فلم يبقي لي إلا أن أبقى منكمشة على حافة هذا المرحاض في هذه العيادة وأن أسترسل في رجفتي. كانت أعضائي ترتعش لدرجة أخذا فكي يسطكان محادثان أصوات بلهاء كأصوات ألة. (22)

ومن حسن حظي أن دروج السلم كانت تحدث صريرأ. فأسرع للتمدد في الفراش متخذة وضعتي المعتادة كلما سمعت خطى تقترب. لم أكن أحب السيدة ذات الشعر الأبيض ولم أكن أحبذ مقاسمتها الحديث. كانت تأتيني بوجبات الأكل وتعطيني الأقراص بعد أن تقيس ضغط دمي وضربات قلبي. وبما أني لم أكن قادرة على الأكل، كنت أرمي في المغسلة بكل ما يمكنها ابتلاعه وأما الباقي فكنت أرمي به في مزرب مياه الأمطار الملتصق بأسفل نافذتي. 

لست أتذكر إن كان الوقت طويلا أم قصيرا. إنما أذكر بأنني كنت سجينة. لقد نظرت مليا إن كنت سأموت فعلا إذا ما رميت بنفسي من النافذة. نعم، سوف أموت بالفعل. من المحتمل أن المنزل يتكون من أربعة طوابق، الا أن السقف الممتد تحت نافذتي يحجب عني أسفل البناية ويمنع عني رؤية المكان من الأرض الذي قد أسقط فيه. فربما قد أسقط على قبة زجاجية أو على نبات. إلا أنني لا أريد أن أموت بهذه الطريقة. إن الموت يخيفني إلا أنه يشكل الحل الأوحد المتاح للقضاء على "الشيء".

لست أدري كم مر من الأيام قبل أن أحس بحاجة ملحة وشديدة للهرب. قد تكون ثمانية على الأقل، ذلك أنه في أحد الصباحات، أمرتني السيدة بتناول نصف قرص في حين كنت أعلم جيدا بأنني كنت ملزمة لتناول ربعه لمدة أسبوع ثم نصفه بعد هذه المدة. 

لقد فوجئت بكوني، ذلك الصباح، متمددة على ظهري كعادتي ووجهي خارج الأغطية. وهذا ما أدهشني حقاً لأنني كنت لمدة شهور أعيش في وجل وأنام منكمشا على نفسي، غامرة محياي تحت الأغطية.  وقي نقس الوقت الذي كنت ألاحظ فيه هذا التغير، كنت أحس بثقل في قفاي وكأن داخل جمجمتي قد انتفخ، وكأني نخاعي قد أصبح من معدن. (23)

فوعيت أنذاك بأن هذا الثقل كنت أحس به من ذي قبل وإن لم يكن بنفس الدرجة. وتبين لي أيضاً بأن "الشيء" لم يبق على حاله : فلق أصبح سميكا وثقيلا وعجينيا بعدما كان متربصا وقافزا وحادا. وليس الخوف هو ما يسكنني الآن وإنما هو الأسى والكآبة والإشمئزاز. فأنا لا أريد هذا لنفسي ولا أعرف ماهي تلك الغريزة التي جعلتني أفضل الصراع المضني مع "الشيئ" المتربص والمهاجم بدل التعايش الخنوع مع "الشيء" الفاتر والملتصق بي كحالة غثيان مستمر. 

لقد أحسست برأسي المنغرس في الوسادة طيلة الصباح أكثر ثقلا وأشد ألما، فربطت علاقة بين حالتي الراهنة وبين الأقراص التي كنت أتناولها. وتذكرت محادثة دارت بين عمي وبين صديقه الطبيب العقلي. كانا يتحدثان عن علاج جديد، عن "صدمة كيميائية" لم يتم ضبها بعد لكن نتائجها تبدو أحسن من الصدمة الكهربائية المتداولة. كانا يتحدثان قبالتي وكأنني إناء من خزف. إلا انني أنذاك لم أعر حديثهما أي انتباه. لقد دار بخلدي وبكل بساطة بأن الدائرة قد تم إقفالها حولي وبأنه سيم إدخاله مستشفى الأمراض العقلية بسبب أنني غير قادرة على التعايش مع الآخرين وعلى الإعتناء بأولادي. ضف الى ذلك أنني تعبت من المرض وكل رجائي في أن يتم خلاصي من الخوف، من "الشيء" مهما كان الثمن.

لكن في العيادة وفي ذلك الصباح بالضبط، تبين لي أن الثمن المطلوب مني سيكون باهضا جذا ولم أكن مستعدة لتأديته. سوف لن أستمر في تناول أقراصهم القذرة. هكذا قررت. فعندما تأتيني السيدة بالأقراص فإني سأتظاهر بتناولها ثم أبصقها من النافذة. وهذا ما فعلت. 

عندما أبحث عن الذكريات التي ترجع لهذه الفترة، أتفاجأ لكوني لا ألاقي في ذاكرتي الا أراضي قاحلة ملأئ بأشلاء بشر وشظايا أشياء. لا ألاقي إلا شواطئ تراكمت عليها بقايا مختلطة من أيامي. وفجأة، ألاقي بنايات واضحة، محددة، متكاملة، متوازنة جداً ولامعة. (24)

أثناء مرضي، كنت في بعض اللحظات أكثر ذكاءا وأقوى بصيرة. أحتفظ عن ذالك بذكرى جد مؤثرة. فعندما كنت مصابة بالمرض، اكتشفت سبلا لقارة نفسي ماكان لي أن اصل اليها لولا الحمق. كنت أتوفر على خفة عقلية غير معهودة. فبين الفينة والأخرى، كانت ترى دي أفكار دقيقة، ورقيقة وواضحة تؤدي بي الى معرفة أكبر وفهم أعمق بمن يحيطون بي. كنت أتأمل الأخرين فأجدهم يسلكون في حياتهم طرقا تختلف تماماً عن تلك التي اكتشفتها، طرقا كنت أود نصحهم بتجنبها لأنها كانت تحمل سوءا وخطرا لهم. إلا أنني لم أفعل، لإعتقادي بأنني حمقى وبأن أفكاري واستشفافاتي ليست ألا مجرد عته. فكيف كيف يمكن لي أن أقشعر لفكرة كون الأخرين في داهية وأنا في حالة جنون !

وهكذا فلقد تبن لي في ذلك اليوم وبكل وضوح ما كان من الممكن ان يحصل لي وإن كنت لم أر بعد أحدا خرج من مستشفى الأمراض العقلية بصحة وعافية. بعدها رأيت بعضهم : كانوا مقصوصي الأجنحة. لاحول لهم ولا قوة. يتخوفون من كل شيء. راحة أيديهم عرقانة ونظرهم مزدوج. إن صدرت منهم شعلة ما أسرع ما أن تنقلب. رمادا. شعلة ثم رماد... أظن أن "الشيء" لم يعد يؤلمهم لكنه، حيا، يسكنهم ويمسك بزمامهم.  

لقد فهمت كل هذا بالرغم من المرض الذي يثقل ويعذب رأسي وبالرغم من الدواء المخدر الذي ينزع مني دماغي. إني لا أريد بهذا القدَر، ولهذا  أعددت خطة محكمة من أجل فراري. ولقد خمنت في أدق تفاصيلها : يجب في البداية ألا أتناول ولو فتاتة قرص دواء. وبما أنني عازمة على الخروج من العيادة يلزمني ثانيا أن آكل ولو قليلا لأنني في حاجة الى شيء من القوة. وفي الأخير سأحاول الحصول على رخصة للخروج الى الحديقة. بعد كل هذا سوف يسهل الأمر. والأكثر من كل هذا، فإني كنت أتوقع بأن "الشيء" سيهاجمني من جديد نظرا لانعدام تأثير المخدر. (25)   

إنه سيسطو علي بما أوتي من قلق ورعشة ورعدة وخوف وعرق. سوف يعاودني ضعف البصر وسيلان الدم وكأني ثور منخور. فلا بأس. يجب أن أنصرف وبكل سرعة. كنت أعرف بأنه لم يبقى أمامي إلا أربعة وعشرين ساعة كي ألعب الكوميديا التي أعددتها. بعد هذه المدة قد يصبح الفرار في غير متناولي إذ أن كل ما أملكه من قوة سيتم استغلاله في مكافحة "الشيء" من جديد. فإني على يقين، إن لم أفلح من الفرار، بأنني لن أتمكن من استعادة حقيبتي الشخصية المحملة بشتى المهدءات وبمختلف المنومات وبكل الوسائل التي عادة ما أستعملها في كفاحي : قطع سكر لمكافحة تشنج المعدة، أقراص النعناع لإزالة تعجن اللسان وانقباض الحلق، الأسبيرين للتخفيف من حرارة الرأس، المزيل لرائحة العرق الكريهة كي لا تغمرني، كل الوسائل القطنية الواقية من سيلان الدم، النظرات السوداء التي تحجب ناظري من مرأى الآخرين وتقي عيني من الأنوار الساطعة. تتضمن حقيبتي أيضاً الدراهم التي كنت في حاجة ماسة إليها لركوب سيارة أجرة أو باص أو قطار، ما دمت في عقر البادية. كان لابد لي من إيجاد حل آخر. وسوف أجده. سأذهب الى البلدة المجاورة وأكلم هاتفيا أحد الإصدقاء. إن موظفي البريد يعرفونني : " إنها ابنة أخ المدير، وستؤدي الواجب غداً". أما إن طلبت استرداد حقيبتي فستكون نهايتي. لقد كنت متيقنة من ذلك. كان يلزم الا يعتورهم أي ارتياب. ولحسن الحظ كانت أطراف الحديقة لا تخفى علي. فقد لعبت فيها إبان الطفولة وجولت فيها أولادي فيما بعد. كنت أعرف فجوات سياجها التي سأخرج منها خفية من الحراس. إنهم على كل لا يعلمون لماذا كنت أوجد هناك بما أن العيادة ليست مقصورة على المصابين بالأمراض العقلية. فلم يكن أحد يعلم بأسباب وجود هناك ما عدا عمي وعمتي والممرضة. (26)

إلا أنهم إن رأوني فإنهم قد يخبروا عني فيعلم عمي بأنني هممت على الهرب وبذلك قد يفشل برنامجي حتما. أما بالنسبة لمموظفي البريد، فالموقع مختلف ذلك لأنهم ليسوا على اتصال متواصل مع مستخدمي العيادة. ففكرت بأن أقوم بكل تلك الترتيبات غداً وأغار العيادة هربا بعد الغد. الشي الوحيد الذي بإمكانه أن يغدر بي هو نبض قلبي. فهل بإمكان الدواء الذي تناولته حتى الآن، أن يهدأه لأمد غير قصير؟ 

جاء وقت تناول قرص وسط النهار. كنت جالسة على فراشي. دخلت الممرضة فقابلتها ببشاشة :
- صباح الخير
- صباح الخير، يبدو أنك اليوم في أحسن حال.
- نعم، أحس بارتياح أكبر. 

قياس ضغط الدم ونبض القلب. كأس الماس ونصف القرص على صينية من معدن. منذ أيام كنت أبتلع نصف القرص مباشرة دون تذويبه فأبقيه محصورا بمهارة بين اللسان والأسنان بعد أن يصل الماء وحده في الحلق. إبتسامة. تنصرف الممرضة. نصف القرص في الميزاب.

في العشية، هذه المرة وأنا واقفة بمدخل المرحاض، قلت للممرضة :
- الطقس معتدل هذا اليوم.
- نعم، إنه يوم جميل،
- أريد مقابلة عمي، لي رغبة في الخروج.
- مهلا، مهلا. أظن هذا غير ممكن. خصوصا وأن الإستشفاء متواصل.
- هل من الممكن مقابلة عمي؟ لي رغبة في القراءة. 
- أكيد. 
قياس ضغط الدم ونبض القلب ثم القرص في الميزاب. 
بعد لحظات ظهر عمي : 
- يبدو أن حالتك في تحسن مستمر وأنك ترغبين في القراءة ! لقد حملت لك مجلات وقصص بوليسية. 
- أريد أن أتحرك بعض الشئ. أمن الممكن أن أتجول قليلا في الحديقة غداً ؟ 
- يجب أن أستشير الطبيب المكلف بك في ذلك. 
- كلمه بالهاتف. فأنا متيقنة بأن ذلك لا يزيدني الا تحسنا. إن لدي رغبة لا حد لها في التحرك والمشي. (27)
- سأكلمه. مبدئيا سيقدم بعد غد لزيارتك. 
- أنا لا أريد أن أبقى طوال هذا الوقت بدون حركة. فكما ترى، إن حالتي في تحسن كبير. قلت له بابتسامة عريضة.

كان يجلس على مؤخرة سريري. يحاول جاهدا ألا تصطدم عيناه بعينيٓ. ولكي يعطي لنفسه هيبة أكبرفي ناظري، أخذ يتفقد سجل المعلومات الطبية المعلق على سريري والتي يسجل فيها يوميا درجة ضغط الدم وعدد دقات القلب وكمية الأدوية الموصوفة في حالتي. لقد حفظ هذا السجل عن ظهر قلب بحيث أن الممرضة تنزل بها إليه كل صباح. 

- يبدو أن حالتك تمشي الى أحسن بالفعل. ممتاز جداً. عما قليل سأخبرك بفكرة طبيبك بخصوص حالتك. 

طبيبي ! لم أكن أعرف حتى إسمه. وفي انتظار عودة عمي، قررت أن أغتسل بعض الشيء. مشطت شعري مدة طويلة ثم نظفت أسناني. كل هذا أتعبني لأنني مازلت جد مرهقة. راقبت "الشيء" لكنه لم يختلج. جلست فوق المرحاض كي أرا قب دمي وهو يسيل. كان ذلك موضوع اهتمامي المفضل منذ أن أقمت في العيادة. إنه يذكرني بالبحر وبأمواجه التي تنكسر على الشاطئ وهي تلفظ آخر نفس لها. أتفكر أيضاً في الكواكب وفي دورانها المتراتب. 

وعندما أسمع أولى طقطقة تصدر من إحدى درجات السلم، ألبس سؤالي الداخلي وأتسارع للجلوس على كرسي أمام طاولة عليها مجلة مفتوحة. تتصدر إحدى صفحاتها جينا لوللوبريجيدا تلبس فستانا مُقَورا جداً وتعلو محياها ابتسامة عريضة جداً. ياإلهي، كيف تفعل هذه المرأة كي تبدو على هذه الدرجة من السعادة !

دخل عمي الى الغرفة. كان كعادته يلبس سترته البيضاء التي تعصر بطنه بعض الشيء، وعلى رأسه قبعته الصغيرة البيضاء التي يستعملها في غرفة الجراحة :

- إن طبيبك موافق. يمكنك أن تذهبي للنزهة غداً. إنه جد مرتاح للسرعة التي يتقدم بها شفاؤك. ويبدو أن هذا الدواء الجديد قد يخلف لدى المرضى تأثيرا معاكسا لما هو منتظر. فقد يجعلهم خائري القوى وقد يسبب لهم صداعا حادا. ستبقى الممرضة بصحبتك. عمتك تسأل فيما إذا كنت ترغبن المجيء الى المنزل لمقاسمتنا وجبة العشاء. (28)

- لا، ليس هذا المساء، شكرًا. لقد تعشيت وإني أستعد للنوم. سوف آتي غذا في حالة ما مرت جولتي على أحسن ما يرام. أبلغها شكري ولا أشك بأنها ستعذرني. 

- طبعا. وكما تعلمين، إن الشك لم يراودها ولو دقيقة واحدة بأنك ستنعمين بالشفاء وبسرعة. فحالتك ليست من طبيعة العائلة. إنك أرهقتي نفسك جدا بإلحاحك تربية أولادك لوحدك. هذا كل ما في الأمر. إنها مهمومة أساسا بحالة أمك التي تتخوف عليك كثيرا. أنت تعرفين درجة حب إحداهما للأخرى. إنهما طيلة اليوم معلقتين الى طرفي التيليفون. لم يبق في استطاعة أمك المسكينة الوقوف على قدميها. إن الإعتناء بأولادك يرهقها. 

- سأسترد صحتي عما قريب. يجب طمأنتها على ذلك. وسوف تعود الأمور الى نصابها في أقرب الآجال. 

- إن ما أريد أن أقوله هو... إنه يتعلق بأمك أساسا. إنها عانت الأمرين، هذه التعسة، ومن حقها أن ترتاح... على كل، إني أتحدث إليك... كامرأة ولا كصغيرة. فليس من اللازم تضخيم الأمور.

- لا، لا، أنا أفهم ما تقولة وسأعمل ما في وسعي لإنهاء هذه الحالة. إن الأمور تتحسن.
- أمسية سعيدة، عزيزتي. ترك قبلة على جبهتي وانصرف. 

أنا لا أ ريد أن أفكر في أمي ويلزمني ألا أفكر في أولادي...
بعد ذلك اختلط علي الأمر. عراكي مع "الشيئ" كان قاسيا. ولم أجد لدي القدرة على مواجهته فترة طويلة، من دون سلاح، ومن دون أي مخدر لمساعدتي. ومع ذلك فإني تمكنت من المقاومة. خرجت بدون الإستعانة بالممرضة وجريت في الحقول. (أحاول أن أتذكر فيما إذا كانت سنابل الزرع عالية، لكن بدون طائل.) تمكنت من مخاطبة صديقي بالهاتف : 

- أتعدني بأنك ستأتي غدا في نفس الساعة ؟ في ملتقى الطريق الرئيسية والممرالضيق. بالضبط في نقطة اللوحة المشيرة للعيادة. الى اليسار، على بعد كيلومتر واحد من القرية. 
- يمكن الإعتماد علي. سأكون هنالك. (29)

في المساء، أمام التليفزيون، بين عمي وعمتي، بدا لي وكأننا داخل حوض أسماك اصطناعي. هما سمكاتان لطيفتان يبتلعان طحالب بحرية أما أنا فكنت أخطبوطا. علي ألا أعاملهما بعنف وألا أفعل ما يقل بالهما. لا حراك ولا كلام. 

لم أكن أدري آنذاك بأنني سأبتعد عنهما بالمرة. فما كان يحز في قلبي هو أنني كنت واعية بأنني سأخدعهما. فنما أنهما مثالي التفوق في  العائلة، كنت متيقنة بأنني بمغادرتها، سأبتعد عن طريق الخير. لكن ما سأفعله هو طريقي وهو ما قررت اتخاذه. فأنا لم أكن أبدا عادية، ولم يكن أبدا بودي العيش بطريقة عادية، على منوالهما. فلأنصرف بعيدا إذن، وأطلق صراحما مني. 

في اليوم التالي، كانت السيارة هناك في الموعد المحدد. إنطلقنا بسرعة أثناءها سمحت لجسدي بالإرتعاش ولأسناني بالإسطكاك. 
- ماذا بك؟ أتريدين أن أفعل شيئا ما؟ 
- لاشيء، لاشيئ. ليس بيدك الآن ما تفعله من أجلي. سقني الى ميشال. لا عليك. سوف يتحسن حالي. اهتف الى العيادة وقل لهم إنني في أمان ولا ضرورة في البحث عني. لا تقل لهم أين أوجد الآن فلا أريد رأيتهم مجددا. 

في اليوم التالي قصددت الزقاق للمرة الأولى. من الذي هتف للمحلل؟ هل هي ميشال؟ لست أتذكر. إنها كانت تعرفه أما أنا فقد سمعت عنه. فربما أنا من هتف اليه. (لقد وجدت في منزل مسشال بعض العقاقير وتمكنت من التخفيف من حدة "الشيء".

- إني تحدثت عن كل شيء كما ترى.
كنت أريد أن أتحدث عن سيلان الدم، لكنن بدل ذلك تحثت خصوصا عن "الشيء". فهل سيقوم برفض مساعدتي؟ لم أكن استحمل النظر اليه، إنما كنت أحسني مرتاحة داخل هذا المجال الضيق وأنا أتحدث عن نفسي. لكن هل أنا أيضا في مأزق جديد، وربما الحتمي؟ ربما كان علي أن لا أضع ثقتي في هذا الرجل. (30) 

قال لي: "فعلت حسنا بعدم تناولك هذه العقاقير. إنها جد خطيرة." تراخى جسمي من انقباضه وأحسست نحو هذا الرجل القصير بعرفان عميق. فربما قد يرتسم مَعبرا بيني وبين شخص آخر. فياليت ذلك ممكنا ! وياليتي أجد أحدا ينصت الي حقا وفعلا !

إسترسل قائلا : "أظن أنه بإمكاني إعانتك. فإذا كنت موافقة، سنبدأ سويا تحليلا نفسيا ابتداءا من الغد. ستأتين الى هنا ثلاث مرات في الأسبوع لأجل ثلاث جلسات تدوم الوا حدة منها ثلاثة أرباع ساعة. فإذا ما كنت موافقة، فإنه من واجبي أن أخبركمن ناحية، بأن تحليلا نفسيا من شأنه أن يغير مجرى حياتك، ومن ناحية أخرى، يلزمك ابتداءا من الآن، عدم تناول أى نوع من هذه العقاقير، سواء تعلق الأمر بسيلان الدم أو بالدماغ. وفي الأخير، يجن أن تعلمي بأن تحليل نفسيا مستوفيا يتطلب ثلاث سنوات على الأقل وقد يتطلب ذلك منك كثيرا من الجهد والعناء. سأطلب منك، مقابل كل جلسة، أربعين فرنكا، وهو ما يكافئ مائة وعشرين فرنكا في الأسبوع." 

كان يتكلم بكل جدية وأحسست بأنه يريد أن أستمع إليه وأن أفكر بجد. فهذه أول مرة، ومنذ زمن طويل، لم يخاطبني أحد وكأني شخص سوي. فحضر ببالي بأنه، رويدا رويدا، تم انتزاعي كل احساس وتمتع بالمسؤولية. فأصبحت هكذا لا أساوي شيئا. أخذت أفكر في هذه الوضعية الراهنة وفي ما قاله اللحظة. فما هو شكل هذا التغيير الذي قد يلحق بحياتي؟ ربما قد يحصل الطلاق، نظرا لان "الشيئ" قد أثبت مخالبه انطلاقا من لحظة الزواج. فليكن، إذا كان لابد من ذلك. وماعدا هذا، ما كنت أرى شيئا آخر في حياتي يمكن أن يغيره التحليل. (31)

أما مسألة الأجر فهي غير سهلة وذلك لأني لم أكن أتوفر على مال. كنت أعيش بما يربحه زوجي في عمله وبما تمدنا به عائلتي من معونة. 

"دكتور، ليس عندي مالا."
- سوف تحصلين عليه. يلزمك آداء أجر الجلسات من مالك الخاص. فهذا أحسن. 
- لكني غير قادرة على الخروج، وغير قادرة على العمل. 
- ستتمكننين من ذلك. فبإمكاني انتظار ثلاثة أشهر أو ستة أشهر ريثما تحصلين على عمل. من الممكن أن نجد حلا. كل ما أريده هو أن تكوني على وعي تام بأنه لابد أن تدفعي أجر عملي وأن يكون لهذا العمل قيمة عالية الثمن عندك. وحتى الجلسات التي تم غيابك عنها من دون إذن مسبق يجب آداء ثمنها ككل الأخريات. فإذا لم يكن للتحليل كلفة لديك، بطريقة أو بأخرى، فإن لن تعيرينه اهتماما. وهذا معروف."

كان يخاطبنا بنوع من الجفاء وبنبرة شخص لحظة إبرام صفقة. صوته لا يحمل أي شفقة ولا أي ترفع أستاذي أو أبوي. لم أكن أقدر حق التقدير بأنه لما قبِل بدأ التحليل مباشرة فإنه أضاف ثلاث ساعات أسبوعيا من العمل المضني على حساب وقته الشخصي. لم يُبد أي تلميح للتعب المضاف ولا لكونه يتعامل معي بصفة استثنائية نظرا لأنني جد مريضة. ولا كلمة من هذا القبيل. بل بالعكس. مظهريا وبكل بساطة، يبدو وكأن الأمر يتعلق بصفقة. إنه يخاطر ويترك لي الإختيار. إلا أنه يعلم بأنه عدا الحل الذي يقترحه فلن يبقى أمامي سوى مستشفى الأمراض العقلية أم الإنتحار. 

" أنا متفقة يادكتور. لست أدري كيف سأفعل لتسديد الأجر، لمنني متفقة.
- حسنا. نبدأ منذ غد."
أخرج يومية صغيرة وحدد لي الأيام والساعات المخصصة لي.

"وفي حالة ما وقع لي سيلان دم، يادكتور؟ 
- لا تفعلي شيئا."
- لقد تم دخولي المستشفى بسببه. فتم نقل الدم إلي وكذلك عمليات تنظيف الرحم.
- فاهم. لا تفعلي أي شيء. أنا في انتظارك غدا. ما عدا شيئا واحدا أطابه منك : حاولي أن تنسي كل ما تفقهينه حول التحليل النفسي. حولى ألا تعتمدي على هذه المعارف في حديثك. استعملي مرادفات لألفاظ التحليل النفسي التي تعرفينها. فكل ما تعرفينه من هذا الباب من الممكن أن يعطل عملك التحليلي." (32)

لقد كنت حقا أعتقد بأنني أععلم كل ما يتعلق بالإستبطان وفي قرارة نفسي كنت أظن أيضا بأن مفعول عمل التحليل سوف لن يفوق تأثير ضمادة على ساق من خشب.
- "لكن دكتور، بأي مرض أعاني؟" 
- قام بإشارة صغير محدد وكأنه يقول من خلالها : " وما الطائل من التشخيص؟" ثم أضاف : "إنك تعبانة ومضطربة وأظن أنه بإمكاني مساعدتك." ثم رافقني الى الباب : "مع السلامة سيدتي، الى غد."
- مع السلامة، دكتور." (33)