مقابلة أجراها بيير ديكس مع لاكان في 26 نونبر 1966، وتم نشرها في مجلة "الأداب الفرنسية"، عدد 1159، شتنبر 1966.
بيير ديكس - "الحقل الفرويدي"، هكذا تسمى المنشورات التي التي تقوم بالإشراف عليها بدار السوي. كذلك يتم الإستناد بصفة دائمة الى فرويد في مجموع المقالات المكونة لمؤلفك "كتابات" الذي تم نشره مؤخرا. لهذا فإن السؤال الأول الذي أود طرحه عليك هو التالي: كيف تموضع نفسك بالنسبة لفرويد؟
جاك لاكان - أود التأكيد منذ البداية على أن كل ما قمتُ بكتابته يرتكز على عطاء فرويد. وهنا يكمن أول اعتبار يمْكنني ادعاؤه. فأنا هو من قرأ فرويد. لقد قرأت بالفعل آخرين كذلك، لكن بطرقة لا تضاهي قراءتي لفرويد. قرأت هيجل مثلا. لكني أتساءل كيف تمت قراءة ما كتبته أنا من طرف بعضهم كي يعتقدون بأنني ما فعلت سوى تقديم الولاء لنسق هذا الفيلسوف، في حين لم يكن توظيفي لما أتى به هيجل إلا كوسيلة لضحد الأطروحات الهذائية حول مسألة التوحد.
لنرجع الى فرويد. فكلما واصلت قراءتي لفرويد، كلما استوقفتني متانة عطائه وتناسقه المنطقي. يتخلل أعمال فرويد منطق أُعبر عنه أنا مستعملا أحرفا ورموزا بدقة تضاهي التعابير الجديدة التي أدخلها بورباكي في المنطق الرياضي. فعندما يولد حدث علمي، حدث لا يتماشى مع الصيغ السابقة، ماذا يحدث؟ إن أي حدث علمي لا ينشأ إلا عندما يضع فئة من الفئات المتواجدة موضع اختبار. فإن لم يكن هناك من وجدود مسبق لنسق ما، لن تكون هناك إمكانية لضحده. وكل حدث جديد يتطلب بِنية جديدة. وهكذا فاللاشعور حدث جديد ويأتي بضحدٍ للبنية القديمة المتعلقة بعلاقة الذات بالموضوع.
لكنَّ مدى ما أتى به فرويد كان يتجاوز كثيرا ما بإمكان متلقيه استيعابه وقراءته؟ فمن هؤلاء ياترى؟ إنهم المعالجون المنشغلون بفهم التحركات الغامضة التي يلاحظونها لدى مرضاهم. وذاك ممنون لهم. لكن التكوين الطبي، مع ما يكتنفه من اهتمامات وتقاليد ذات تطلع انساني، ماكان ولن يكون الأجدر بفسح المجال لبُعد التحليل النفسي. فإذا كان اللغويون والمنطقيون ذوو قابلية الإنصات لهذا البعد وتقبله، فهذا ما يشير الى المنحى الذي يَلزم احتذاؤه في سبيل إكمال التكوين الطبي.
لماذا إذا اصبح انتشار فكر فرويد على ما هو عليه اليوم، لدرجة أصبح فيها حتى من هم من بين المحلليلين الذين لا يقتادون بتعاليمه، غير قادرين على شيء سوى تنصلهم عن اعتمادهم تعابيره، ولو كان اعتمادا لفظيا بالمعنى الفظ للكلمة؟ المشكلة بالتحديد هو أن جل المحلليل النفسانيين لا يعلمون لمذا هم هكذا متعلقين بالنص الفرويدي. في حين نراهم في الواقع يحشون في كلمات فرويد كل شيء، أو بالأحرى كل المضامين التي كانت سارية قبل فرويد وحتى تلك التي عمل فرويد على تبخيس قيمتها. إنهم هكذا يردون عليه الصرف بالعملة المزورة.
ليس هناك ما يٓنفر منه المحللون المعاصرون أكثر من اللاشعور. وذلك لأنهم لا يعرفون أين وكيف يموقعونه. وذلك ما يٓسهل فهمه، إذ أن اللاشعور لا ينتمي للمجال الأوكليدي. لذلك يجب بناء مجال خاص به وهو ما أقوم به اليوم. أما المحللون الذين لم تصلهم تعاليمي فلا علم لهم بذلك. لذا فهم يفضلون اعتماد مفاهيم من قبيل الأنا والأنا الأعلى وما شابه. إنها مفاهيم تتواجد في أعمال فرويد لكنها مجانِسة كذلك لمفاهيم متداولة منذ القدم بحيث يسمح استعمالها بالرجوع ضمنيا الى مضامينها القديمة.
ولا تنسوا أن الجيل الأول من المحللين وجد نفسه في وضعية البحث عن الأعتراف بالنفس بموازاة العمل وكسب القوت في نفس الوقت. فهؤلاء الإطباء هم أبعد من أن يكونوا أقل جدارة. فلقد حصل لديهم نوع من الإدراك بجدية المنظور الفرويدي وأصبحوا مشدوهين في استعمالهم لأداة جد فعالة وتُناقض التكوين الذي حصلوا عليه أثناء دراستهم الثانوية وكذلك في كلية الطب. ولقد بذلوا جهدا في تفسيره وفِي التعريف به - وإن كان مجهودا، كالمعتاد، يفتقر للمهارة - حتى يتسنى لهم إدخال المفاهيم الفرويدية، وما فتحته أمام أعينهم من مجال غير مسبوق. لكنهم بانكفائهم على مُجرد إيصال هذه المفاهيم وتقبلها من طرف الوسط الثقافي، كانوا ميالين الى ابدال الجهاز العلمي الذي عمل فرويد على تركيبه، بالجهاز الفلسفي الذي سبقه. وبالخصوص، كانوا ميالين الى مراجعة الجهاز الفرويدي حتى يتسنى لهم الرجوع الى العلاقة القديمة بين الذات والموضوع. وفيما بعد، واصل التابعون السير على خطاهم. وما كان من هذا "التكييف" إلا أن يؤدي الى تطورات وخيمة في التحليل النفسي.
إن ما أقدمه لك الآن هو نوع من الدروس في الإيبستيمولوجيا. وها أنت ترى، من خلال دروسنا بمستوى الدراسات الجامعية العليا، بأننا لسنا على خطإ بإعطائنا لتعاليمنا النظرية في التحليل النفسي، امتداداتها الإبيستيمولوجية.
بيير ديكس - وما هي هذه التطورات الوخيمة التي تتحدث عنها؟
جاك لاكان - تلك النماذج اليونغية، على سبيل المثال، وتلك القوة الروحية الأولية. فهذا ما تم إقصاؤه في زمانه من طرف فرويد نفسه. إن موقف فرويد هذا لجدير بالذكر حقا نظرا لما كان يتمتع به يونغ من مكانة مرموقة آنذاك. فعندما يلمِّح فرويد إلى ما يسميه "صلب الكائن"، فلكي يشير الى حدٌٍ في استقاء اللاشعور لا يمكن تجاوزه. أما ما يُرخي بجناحي ظلاله في الوقت الراهن على التفكير التحليلي، فهي نفس الخلوطات، لكنها اتخذت شكلا أكثر صُمّا لأنها الآن مزَوقة بطلاء علمي.
أما فكرة التطور الناجمة عن ممارسة البيداغوجيين، والتي تتباهى بتبديات الملاحظة البيهافيورية، فإنها تفدي الى رَتْق بَخْس الثمن لما يَلزم بالعكس، ضبطه وتحديده كفجوة حقيقية: إنها بِنيةُ ثورات الرغبة، وحدها الكفيلة بإعطاء نكوصات هذه الرغبة ما يليق بها من اعتبار. فهو ذا بكل فجاجة ما يتعلق به الأمر.
وكل هذا يفترض عملا نقديا لمفهوم الغريزة. وهو عمل من اللازم مواصلته الآن أيضا. إلا أن هذا العمل النقدي يفرض نفسه أكثر في الوقت الراهن من جراء العروض التبسيطية لكتابات فرويد لدرجة أتلفت كنهها، ومن جراء ترجمتها ترجمة بعيدة كل البعد عن الأمانة العلمية. كل هذا دفع الى الإعتقاد بأن فرويد يستند على مفهوم الغريزة، في حين ما كان ذلك إلا باطلا.
أما فرويد فلقد أتى بشيء مختلف تماما تحت مفهوم Trieb. لكن مفهوم Pulsion (النزوة) غير صالح كفاية كي يستوفي الرنات المرتبطة بالإستعمال الألماني لكلمة Trieb. إن Trieb، وهو ما أُعبر عنه بالإنسياب، هو بمثابة تركيب حقيقي، لا يبدو فيه ما يصدر عن منبع "عضوي" إلا وقد تم تركيبه ثانية بداخل بِنية جديدة. إن البنية على هذا المستوى تتطلب الطبولوجيا الجد دقيقة التي يتميز كل من الطلب والرغبة من خلالها ويترابطان فيما بينهما إلى ما هو أبعد من متطلبات الحاجة العضوية.
بيير ديكس - بمعنى أنك عندما تقول بقراءة فرويد، فإنك تطلب ليس فقط قراءة النص الأصلي وإنما قراءة كامل النص وبطريقة تستوعب معنى النص الأصلي، معنى كلمات فرويد وأقواله؟
جاك لاكان - ليكن في علمك بأن فرنسا هي الولة الوحيدة من بين الدول العظمى المتحضرة التي لا تتوفر على ترجمة كاملة ورصينة لمؤلفات فرويد. وترجع مسؤولية هذا الواقع، في المقام الأول الى الأميرة ماري بونابارت التي أفضت على نفسها ميزة مترجِمة فرويد إلى الفرنسية. فهل ستتغير هذه الوضعية؟ لقد ترتبت عنها مضاعفات خطيرة بحيث قامت برتق كل المنافذ التي كان من الممكن للاكتشاف الفرويدي أن يستفيد منها في إطار المجالات الأدبية التي بدت، على مستويات عدة، منفتحة على أصدائه ومستوعبة لها. فهناك السورياليون من دون شك، وكذلك هناك مورياك الذي لم يبق بعيدا عن تأثير هذا الاكتشاف.
أما عندما نقرأ تحت قلم شخص بمرتبة جِيد، الذي كان على علم بهذه المسائل بما فيه الكفاية، بأن فرويد معتوه لكنه موهوب، نجدنا مضطرين للقول بأن جِيد لم يعرف من فرويد إلا ما أتوه به مؤولوه الذين كانوا في الحقيقة، هم معتوهين لكن بدون موهبة. أما الآن فعلى الآداب أن تكون على علم بما ينتظرها من هذا الباب. وهنا ربما يكمن كل المعنى - وعلى كل، المعنى الأمتن - الذي يستمد استعمال لفظ "البِنيوية" منه حقه وصلاحيته.
بيير ديكس - أود بهذا الصدد أن أسألك حول موضوع البنيوية، بالضبط، بحيث يُكتب هنا وهناك عنك بأنك بنيوي وفِي نفس الوقت يحدث نوع من التآمر البنيوي يقوده ليفي-ستروس وفوكو...
جاك لاكان - ...آلتوسير وبارث وأنا. نعم، أعرف! لنزيح بادئ ذي بدئ كلمة مؤامرة لإنه يجب معرفة ضد ماذا تحاك هذه المؤامرة. لكن من غير الممكن لي هنا أن أسكت على ما انتابني من إحساس بخصوص أحد أعداد مجلة "القوس" والذي أجده سيء النبرة، مُبتذِلها. ذلك أنني لم أقم أبدا بمواجهة فكر سارتر إلا بطريقة غير متعمدة بل وطارئة، تتعلق بأخلاقياته فقط.
فإن كان سارتر قد مكن فرنسا بعد الحرب أن تلبس قلنسوة جديدة، فهو إرث ليس من الأفيد الخوض فيه مجددا. أما بخصوص فكره، فيحق لي القول بأنه من بين تلك الأفكار التي لا أدين لها بشيئ مهما كانت المتعة التي قد تحصل لدي عند قراءة هذا التحليل أو ذاك بقلمه.
ليس هناك إذن من داعٍ للخوض في هذا الخلط المفتعل. لترك إذن هذا التصور السارتري لحاله ولنقتصر على ما يجمع بين هؤلاء "المتآمرين" والذي تم نعتهم، وبطريقة أكثر سخافة، بألقاب دنيئة.
لقد أشرت إلى البنيات المؤهَّلة والمحقَّقة التي تستند إليها بنيويتي. إنها بنيات ليست من دون روابط مع تلك التي أدت بدورها إلى بنيوية ليفي-ستروس. وبالضبط، نظرا لأن هناك إسنادات محققة، وفوارق يتم التوقف عندها بكل دقة، فمن الواضح أن موقف كل منا، كلود ليقي-ستروس وأنا، لا يلتقيان في مجال البنيوية إلا على وجه التشابه المحض، وكل منا يعمل في مجاله الخاص به. إننا لم نتآمر لسبب هو أنه ليس بالإمكان أن يمد أحدنا الآخر العون والمساعدة، ماعدا الصداقة التي تربطنا.
أما فيما يتعلق بميشيل فوكو وبخصوص الفلسفة التي استنتجها من المجالين اللذين قمنا باستجلاء البنى الخاصة بهما، فهو عمل يزاوله بكل استقلالية ولا يلزم مسؤولية أي من الآخَرَين، وإن كان أحدهما، أنا شخصيا، أسعد بفرصة حضوره في سيميناري وبالمناقشة معه.
أما آلتوسير ورولان بإرث، فإن كانا قد وجدا في تعاليمي مادة وجهازا ينير لكل واحد منهما طريقه الخاص، فما ذلك إلا دليل على انفتاحهما الفكري وحدته. أما قراءتهما مني فهو أمتحان جانبي لي ولا أستفيد خيرا إلا من إشكاليتهما.
إن البنيوية، لأسباب بنائية تحديدا، ليست لونا ولا شكلا من أشكال تلك البقع الطلائية التي تتوسع وتنتسر من جراء سيولتها. لهذا فأنا أرفض، في نهاية المطاف استعمال هذا اللفظ الذي لا شيء يضمن عدم استغلاله في مصلحة النزعات الإنسانوية الرخوة.
بيير ديكس - يقول سارتر في حقك بالمجلة التي أشرتَ إليها: "إن اختفاء، أو كما يقول لاكان، "إزاحة الذات من محورها" مرتبط بتشويه سمعة التاريخ. فأن لي يبق محل للفعل التاريخي، لن يبق للذات وجود كذلك. فماذا يقول لنا لاكان وكذلك المحللين الذي يستندون إليه؟ إن إلإنسان لا يفكر، بل هو مفَكر فيه كما هو متكَلم فيه بحسب بعض اللغويين. فالذات في هذه السيرورة لم تعد تشغل مكانة مركزية. إنها أصبحت عنصرا من بين عناصر أخرى. أما الأساسي فهو "الطبقة" أو إن شئتم فهو البِنية التي ينخرط فيها والتي تؤسسه".
جاك لاكان - إن هذه الأقوال ناجمة عن تصفح متسرع لما آكتبه. بل إنها أسوأ من ذلك. إنها ناجمة عن فكر يكتفي بالأصداء الأقل وضوحا. وأنا لا أشتكي من ذلك. إن الخبرة التي استشففتها من أقرب المقربين لسارتر تكمن في المبدإ التالي: لنكتب الكتاب أولا وبعدها ثانية نقوم بتحقيق المعلومات المتضمنة. وهذا من بين الأسباب التي دفعتني أفضل أن أترك كتاباتي على شتاتها حتى اليوم. وهو ما ضمن لي أن يكون من يود الرجوع إليها، راغبا في الإطلاع عليها بالفعل. وهذا أيضا ما دفعني حليا إلى جمعها في كتاب، أي في وقت أخذت فيه هذه الإشاعات تنتشر رغما عني.
أما التعديل الذي أدخلتُه في الصفحات 796-797 من كتاباتي، بخصوص ما أسميه بالإستعارة الكوبيرنيكية، فإنه يحدد ما لفكرة انزياح الذات عن مركزها من عدم قيمة. فأنا لم أتحدث عن اختفاء الذات إلا تعرجا بحادث كسوفه بداخل الرغبة. وما لهذا إلا مفعول فلسفي متواضع بقدر ما هو كلاسيكي. وقد كان بودي ألا أقدم على تفاهة من هذا القبيل لو لم يكن هدفي هو دحض تعبير Aphanisis (الذي يعني اختفاء) عندما حاول خونز، وهو أحد الزملاء الأكثر شهرة في وسط التحليل، تطبيقه على الرغبة وأن يجعل منه مايدل على خوف الذات الشديد تجاه الرغبة.
أما فكرة تشويه سمعة التاريخ التي تكون قد صدرت مني فهي فكرة من قبيل تجاوز الحدود عندما يتم تخطي المعالم، بحسب تعبير السيد فونويار. في حين كان يكفي فتح أكثر خطاباتي شهرة (أو كما أتصورها على الآقل) وأقصد "خطاب روما" حتى يتبن بأن أي حدث في انطلاقته الأولى هو معاش من طرف الذات الناطقة من حيث هي مسجلة في سجل التاريخ، وفِي تاريخانية أولية.
فأنا لا أعتقد بأن الإنسان هو كائن مفكَّر فيه، وذلك لأنني لا أتحدث عن الإنسان أبدا. إنني أحاول فقط بنينة ما يحصل لدى الكائن الذي يقوم بالخطاب. إن الكلام يحدث عنه في موقع مخالف لذلك الذي يعتبر أنه يتحدث منه، لكنه يستخلص بكل تأكيد بأنه هو ذاتُه لكونه يفكر. فما هي ياترى كينونته هاته، إذا ما تبين بأن المكان الذي يفكر منه، لا يعرف عنه شيئا؟
وكذلك أنا آسف للخلط بين البِنية وبين الطبقة. فمفهوم الطبقة ليس من عندي. ثم إن افتراض بأن هوسيرل لا قيمة له عندي، هو بمثابة اختصار تبسيطي حتى يصبح من الممكن تجنب اكتشاف أنه قد يَصُب في اتجاهي.
إلا أن هذا الجهل ليس متبادلا. فلقد حصل لدي اهتمام كبير، اهتمام منغرس في انجذاب حقيقي ببعض العروض التي أتى بها سارتر في كتابه "الكينونة والعدم" للحياة السادو-مازوخية. إنها مفيدة للغاية. إنه عرض لما قد يتخيله من لا يمتلك بِنية الإنحراف الجنسي كمفتاح يسمح له بالإتكاء على هوام المؤسس لهذا الشذوذ. فنراه إذن يستمتع بعرضه قصد تبرير رغبته الذاتية في الوقت الذي وقعت فيه هذه الرغبة في خُدعة. وهكذا يكون قد تم الوصول الى القيام بعمل عيادي الى حد ما، لكن بِنية الإنحراف الجنسي بقيت في غير متناول اليد بالمرة. وهذا ما يتطلب خبرة عيادية. والإفتقار الى هذه الخبرة هنا يبرهن على ما لا يمكن استرجاعه بواسطة العرض وإعادة التكركيب، وخصوصا التركيب النفسي، مما يجعلنا نلمس فعل التشويه الملازم للحدس والذي لا يَحد منه إلا الإستناد الى البنية وحدها.
ولكي أختم قولي حول كل ما سبق، أأكد بأن ليس هناك من موقف يغوص في النزعة المثالية بخصوص هذه الأمور، أكثر من ذاك الذي يطرح الذات كمعطى أولي.
مما لا شك فيه أن بِنية الذات تناقض وتعارض عمليات الحدس. لكن يجب مزاولة تاريخ العلوم بما فيه الكفاية حتى نعلم بأن مصير العلوم كان دائما يتطلب التخلص من بعض الحدوسات كي يتسنى لها أن تصبح علما. فلقد قام ديكارت بتأسيس فيزياء الحركة عندما تخلى عن فكرة القوة الدافعة. أما الآن، إذا ما أردنا تأسيس علم للذات، فمن اللزم علينا أن ننسلخ من وهم استقلالية الذات.