الخطيبي - مقابلة مع أمي - فصل




عبد الكبير الخطيبي



"مقابلة مع أمي"

(فصل من كتابه "من فوق الكتف")


***

لقد سجلت عدة مقابلات مع أمي، وذلك خلال بضع سنوات قبل أن توافيها المنية في شهر دجنبر من سنة 1986، وعمرها آنذاك يناهز 76 سنة. أما أبي فقد توفي سنة 1947 وعمره 47 سنة، أي بعد ولادتي بتسع سنوات. كانت أمي مصابة بالسكري، لذا كنت أتوجس فقدانها على عجل الى حد ما. ولكي أعد نفسي للحداد، قمت بتسجيل عدة أشرطة من كلامها بدون أن أعرف ماذا كنت سأفعل بهذا التسجيل الصوتي. 

وبمناداتي لإمي انطلاقا من عملي ككاتب، كنت أرى بأنه في صالحنا نحن الإثنان أن نتحادث. فاستجابت بسرعة وبكل رهافة الى اقتراحي بتسجيل المقابلة. كانت أمي أمية، كما يقال. كانت حكواتية أمية وكنت أحب نغمة صوتها.

وبعد مماتها قمت بنسخ هذه المقابلات وبترجمتها من العامية المغربية الى الفرنسية. وها أنا الآن أقوم هنا بنشر مقاطع طويلة منها، وقد جردتُها من الإسئلة التي طرحتُها على أمي ومن التعليقات التي كانت تبدر مني أثناء المقابلة، مكتفيا هكذا بلعب دور الناسخ، لا غير. ونظرا لطول هذه المقابلات، فإني تعمدت اقتطاع بعض الفقرات ومثَّلت لها بنقط القطْع. أما الكلمات الموضوعة بين قوسين فهي كلمات أضفتُها كي تَسهُل بها القراءة. 

وسنسميها "لالَّة" : سيدة البيت.

سأشرح فيما بعد، وبطريقة غير مباشرة، لماذا أسلوب الناسخ هذا الذي سنَنتُه لنفسي، هو فيما أعتقد، طريقتي في تحمل مجهود العمل الذي يتطلبه الحداد.      


رماد

"في يوم من الأيام، ربطتٓ أخاك بحبل قصير. لا، بل هو الذي ربطك... في أي سنة من عمركما ؟ كان عمره سنة ونصف أما أنت فكان عمرك سنة... لقد توفي وعمره ثلاث سنوات. كان آنئذ يتكلم جيدا. كان جميل المحيى، وجميلة عيناه الواسعتان... كان أبوك يذهب الى المقبرة للبحث عنه، بعد مماته. وفي أحد الأيام، بدا له وجهه من فوق القبر. فقال لي أبوك : أخذ هذا الرأس ينظر إلي حتى تصَلب قفاي." أثناءها قرأ أبوك بعض السور القرآنية وغادر المقبرة. ثم قال لنفسه : "يجب أن أتوقف عن الذهاب هناك لرؤيته"...

نعم، إن أباك هو من سمى أخاك، وقد فعل ذلك عن طريق القرعة كما جرت عليه العادة... إسمك أنت ؟ إنه أعطي لك بمناسبة العيد الكبير. ياإلهي، كم كنت محبوبا لدى الجميع ! ويالها من ولادة مباركة بمناسبة هذا العيد ! كنت أتكفل برضاعتك وكانت العمة تمتم بنظافتك. لم أقم أبدا بحملك على ظهري. إنك لم تكترث لموت أخيك الصغير ولا حتى لموت أبيك. ولا دمعة واحدة نزلت من عينك... لم تكن تحب المدرسة القرآنية، بسبب الضرب المبرح...

نعم لقد صعد أخوك الى الجنة، وهذا أفضل... فمن عايشت فقدان قريبين يلزمها الصبر... لقد حصل لي إجهاض قبل ازديادك... وحصل لي آخر، فيما بعد، قبل ولادة أخيك غير الشقيق ؛ لقد كنت في خصام مع عمتك (من أبيك)... الله يبارك في الباقية... أما من ذهبوا (ضحِكتْ ولم تتم جملتها)... فهو مكتوب...

إن جدك من أمك هو من تكفل بأول إخوانك. نعم، كانت جدتك هي من يحكي لكم الأحجيات والألغوزات. كان الأكبر منكم ينادي أصغره باسم "البربري"... كنا نسمح لك بالذهاب عند عمتك بعد زواجها وكنا نأتي لرأياك بمناسبة كل عيد. وفي يوم من الأيام، قال لي أبوك، رحمة الله عليه :  "سأذهب غدا لرؤية إبني". أعددت له ملابسة النظيفة ثم تظاهرت بالنوم وأخذت أنادي وكأني في حلم : "ياعبد الكبير ! ياعبد الكبير". وفي الصبيحة أخبرني بأنه سيأخذني معه... لم أكن لأقول الحقيقة لأبيك. نعم، كنت أتظاهر بالحلم... وفي أحد الأيام، قرر أبوك إرجاعك الى المنزل، فقال لي : "إن زوج عمته لم يعمل على تثقيف ذاته، أما أنا فيلزمني تعليم إبني". فسجلك في المدرسة، أتذكُر ؟... أختك (تلك التي توفيت) كانت مسجلة في المدرسة... كانت مصابة بمرض غريب، وكانت تسقط على الأرض، فيغمى عليها... وحتى الأصغر، فلقد أُغمي عليه لحظة موت أبيك... لقد كان مسكونا بالجن... أما الآن فإنه لم يعد يسقط...

كان أبوك يضرب إخوتك عندما يذهبون الى السينما... لكن ذاك تصرف أبله، فما الضرر في الذهاب الى السينما !... كان الأصغر يفقد الوعي ويغمى عليه... وكنا نأخذه لزيارة الولي الصالح... إني أراه وهو جالس تحت القبة. لقد سقط أرضا فاعتقدت أنه مات. جاء الفقهاء بالنار وبالبخور. أخذوا يقرؤون التعاويذ وهم يتصايحون، رافعين قضبانا حول رأسه. ولحظة صاح أخوك : "إنها انصرفت... إنها انصرفت عني !". لقد قال أن شيئا ما انصرف وكأنه أفعى... فقلت لهم : "أما الآن وقد شفاه الله، فيجب أن نقدم قربانا". فأتينا بكسكس وشاي... لقد حبسنا أخاك في القبة ليلة كاملة. وقد اتكأتُ بكل جسدي على باب مقام الولي الصالح كي لا يتمكن أخوك من الخروج... وأثناء الإستجواب الذي أجري معك في الإذاعة، كنت تتحدثتُ عن الحب وانت تضحك. لقد ضحكتَ كثيرا. فقلتُ في نفسي : " إنه لا يحب الزواج ولا الأولاد، إنه يحب الكتب. إنه يكتب هنا ويسافر هناك". وأنا على حق، والله العظيم !... فلتزوج بمسلمة ياولدي !...

لقد تزوجتُ وأنا صغيرة جدا ؛ وقبل زواجي لم أكن قد صمت رمضانا إلا مرة واحدة، مرة واحدة فقط... كان أبوك يهتم جيدا بذاته... لقد كان عالِما قبل زواجه بي... أما أمي فقد قامت إحدى جاراتها بتسميمها. لماذا ؟ من شدة الحسد... لقد وضعتْ السم في الكسكس... فأخذت أمي تصيح وتحترق، قائلة لأبي : "لقد سممني الجيران، إِرفعْ بهم دعوة الى المحكمة !". إن هذه المرأة المسمِّمة كانت عاقرا ولقد اتخذ زوجها لنفسه زوجة ثانية لينجب منها أطفالا... نعم، لقد احتفل الجحاج بولادتك أثناء موسم الحج. يا إلهي ! كم كنتُ أتمنى أن تزداد لي ابنة تساعدني في وضع الحنة...

أتذكر ! بعد موت إحدى أخواتي، أخذناك معنا لتَحضر جنازتها. وعندما أعطيناك ماءا تشربه، قذفتَ به قائلا : "لا أريده، إنه وسخ"، وهو ما أضحك الجميع. لقد توفيت الخادمة... كانت تتناول المخدرات وتشرب الخمر... أما الخادمة الأخرى فلقد سرقت منا خادمة صغيرة يتيمة... وعدتها بزواجها من ابنها... ياإلهي ما أكذبها ! فلم يمن لها ولد... أما جدتك من أمك، فقد رزقت بأربع أو خمس بنات... وولد. وكانت تتمنى ولدا آخر. لقد زارت الولي الصالح وقالت له ما يلي : "أرزقني بولد بإمكانه أن يتعلم، أما ولدي الحالي فهو أمي لا يفقه"، ثم نامت تحت قبة الولي. ولدها أيضا توجه الى الولي الصالح قائلا : "إذا ما ولدَت أمي بنتا أخرى هذه المرة فسأضعها في قفة وأحملها اليك"...

لقد كان أبوك عالما. قال له أبوه وهو على مشارف الموت :"لا تصبح تاجرا. إذهب لتدرس في القرويين بمسقط رأسي (فاس)... أنصت إلي". أما أبوك فقد نسي هذا الكلام وتعاطى للتجارة. لكنه بكى ندما في أحد الأيام. فقالت له أخته : "ألم ينصحك أبك بأن تتعلم وتتثقف ". وقرر أبوك أن يسافر. لد قرر أن يستفيد من العلم. وبعد سفره، ومع نهاية دراسته، قدمنا ذبيحة عجل... وأقيمت حفلة فانطازيا اعتزازا به وفخرا... وجاءت القبائل بهدايا. وحاكت له أخته جلبابا وقميصا... ولقد عُرض عليه أن يصبح قاضيا، لكنه أجاب : "يصبح القاضي كأكل البطيخ، إنك تزيل ما شئت من الحبات لكن لابد أن تبلع البعض منها ". ويعني بذلك الفساد... قلتُ بأن أباك تعاطى للتجارة...

أما أبي فكانوا يسمونه بوخريس. أمه كانت تفقد دائما أبناءها. فنصحها بعضهم أن تعلق حلقة صغيرة في أذنه. وتم ذلك. وفي الواقع، كان إسمه الحاج محمد... عائلتي من جهة أمي، أتت من اليمن... إنهم شرفاء... سباعيين. بركتهم جلية. وجدَت الوزارة إسمهم في الأرشيف. حاليا تمت صيانة قبة قبره. الحرفي المعلم الذي قام بصيانة الزليج قال : " وكأن عاصفة اندلعت فوق قبره ". لقد علق الزوار حول القبر أشرطة خضراء : تسعة عشر شريطا... ياألهي ! يا لها من زوبعة. أما صباغ المحل فقد رأى الولي الصالح قائما للصلاة بلباس أبيض. ميت يصلي، ياإلهي ! عندما رأى الصباغ ذلك، كاد أن يسقط من على سلم عمله. لقد نزل ببطئ، لكنه اختنق وسقط على الأرض. بعد هذا الهلع، بقي فاقدا القدرة على الكلام لمدة شهرين على ما أظن. وأثناء العودة الى القبة، تم العثور على سلم الصباغ أما الوالي فقد رجع الى قبره... أنا ؟ لم يسبق لي أن رأيت وليا صالحا قد عاد الى الحياة. لا أحب الكذب...

أنتم ياأبنائي، تنتمون الى شجرة، الى شجرة نسب وحسب... أنتم مثقفون... فيجب أن نشتري شريطا لمقام الولي الصالح... لقد قلت ذلك لأختي... أما زوجي الثاني فقد قال : "قُدني ياربي لأرض الماء والشجر ". لقد كان شريفا... مرة حصل لي حلم رأيتني فيه وأنا أقوم بحج لمكة. كنت نائمة. فرأيت مكة كلها بياضا، ورأيت امرأة بلباس أبيض. كانت مغطاة بإيزار ومزينة بالحنة. رأيت شجرة بجانب هذا البيت. رأيت رجلا معمما. وعندما أنهيت الحج بالكامل ورأيت بالفعل ذلك الرجل، صِحتُ : "إنه الرجل الذي رأيته في الحلم". ثم رأيت المرأة اللابسة بياضا، فحدثتني ثم انصرفٓت. ولقد قيل لي فيما بعد بأنها فاطمة الزهراء (إبنة النبي). والولد الذي رأيته اختفى هو كذلك... أما الرجل الذي أعطيتُه الفلوس فقد قادني الى قبر النبي وقال لي : "أنظري !". فرأيت آنئذ مائدة مغطاة حنة وأخرى ثمرا وأخرى ورودا. وبقيت أتعجب من تلك الغرائب. وعندما استيقظت ناديت ابنتي "تعالي، تعالي يابنتي، إني على حافة الموت، فلقد قيل لي بأن من رأى نفسه في الحلم وهو يؤدي فريضة الحج، سيموت بعدها للتو". فردت علي ابنتي : "ماذا تقولين ؟ إنك ستذهبين الى مكة بالفعل. إنك مباركة مرتين ؛ في الحلم وفي الحقيقة "... وفي مكة، رأيت قبر النبي. إنه ملفوف بغطاء أخضر، والأنوار تتلألأ حوله من كل صوب وكأنها لمعان البرق. تصور يا ولدي ! إن الوادي هناك منبعه في الجنة وماؤه أخضر اللون.

لقد زاحمني أحد الحجاج السنيغاليين فكدت أن أسقط فيه، وتم دهسي بالأقدام الى أن ساعدني حاج آخر على الوقوف منتصبة. يا ما جهل الرجال ! كم من امرأة تم دهسها هناك حتى وافتها المنية. فقال لهم أحد الحجاج : "أنتم تقتلوهن وتدعون بأن مآلكم الجنة !"... لقد سقطتُ ونحن قاصدين لرمي الشيطان بالحجارة. نرميه بسبعة حجيرات، لنلعنه هو وذريته.                

ولقد رأيت حاجا يلعن الشيطان وهو يحمل نعليه في يديه وكأنه يريد قذفه بهما. ويحكى أن الشيطان طارد النبي وأبا بكر يوم رميه بالحجارة. لقد رمى النبي الحجارة الأولى ثم الثانية وعند السابعة اختفى الشيطان... لا. لم أم أرى الشيطان بأم عيني، حمدا لله. فما رأيت غير الصلاة. وعندما يحين وقت الصلاة، إرى رجلا وفي بعض الأحيان امرأة. أبو كان يقول : "يأتي الشيطان ليلا ليشغل بال المؤمن كي ينتاسى أقامة الصلاة في حينها... عيشة قنشية (الجنية) ؟ يقال إنها خرجت من البحر. قال لي أبوك بأنها حيوان بحري. فعندما تلتقي بباخرة فإنها تبتلعها بالكامل... وعندما تقوم القيامة، يشف ماء البحر. فيقول البحر آنئذ : " أين هي أسماكي وأين هي بواجري وأين أمواجي ؟"... تختلط الأرض بالبحر... وبكل شيئ... ويقال بأن أعيننا ستكون فوق رؤوسنا. ويضعنا الله فوق شعرة، فنمشي على هذه الشعرة ومن هو مبارك فإنه لن يسقط...

لقد كانت تضرك عيناك يابني، فكنت تدلكهما كثيرا. فحملناك الى الولي الصالح. اشترينات بيضات وكسرناهما على عينيك. أثناءها حلمت برجل يحمل عصا بين يديه، فقال لي "أتريدين تينا ؟". قلت نعم. ضرب تينة بعصاه ولما سقطت أرضا دفعها نحوي برجله. فأمرني بأخذها. قلت له لا. أنا أبحث عن إثنين". فأعطانيهما. أخذتهما وغلفتهما بورق. بعدها رأيتني وأنا في منزلني، والأنوار في كل مكان... فاستيقظت. فقلت لي أختي : "قومي لنذهب الى حال سبيلنا. لقد شفي إبنك. لقد كانت التينتان عيني الولد." ولقد فتحت عينيك الى أعلى، ثم الى أعلى، ثم خفضتهما ببطئ...

لقد كنت نحيفا لحظة ولادتك. وذلك أفضل، وهو ما يضفي عليك طرازا متميزا... لقد جاء اللقلق الى مدينتنا. أتدري ياولدي ! يقال أن اللقالق تصلي كما تصللي الحمائم. في فترة الحج (بمكة)، عندما كنا نقيم الصلاة، كانت اللقالق تحوم فوق رؤوسنا. وعند انتهائنا من الصلاة، كانت تقف، بحمد الله، وقوته، مصطفة، الواحد بجانب الآخر، فوق قبة النبي... في تلك الأيام كانت أيضا الحمائم المسافرة....


(أقوال جُمِعت في 18 و 19 مارس 1880 وفي 18 أكتوبر 1982).