فرويد - كتاب : تقنية التحليل - فصل ١ من ١٢




الفصل الأول


طريقة فرويد التحليلنفسية


أن الطريقة الخاصة في العلاج التي يمارسها فرويد والتي أعطاها إسم التحلبل النفسي، هي مستقاة من الوسيلة المسمى بالتطهيرية والتي عرضها، بالمشاركة مع بروير في كتابهما : دراسات حول الهستيريا المنشور سنه 1895. ولقد تم اختراع هذا العلاج التطهيري، الذي كُلل بالنجاح، من طرف بروير الذي عمل على استعماله منذ عشر سنوات خلت في علاج هستيريا. إن استعمال هذه الطريقة مكنه من تكوين فكرة عن أسباب أعراض هذا المرض. وبإيعز شخصي من بروير، عمل فرويد على الأخذ بهذه الوسيلة وجربها على عدد كبير من المرضى. 

ترتكز الوسيلة التطهيرية على توسيع مجال الوعي الذي يحدث في التنويم ويفترض قابلية المريض ليخضع لهذه العملية. والمقصود منه هو إزالة الأعراض المرضية.  ولقد يفلح في ذلك بحيث يرجع المريض الى الحالة النفسية التي ظهر خلالها العرض لأول وهلة. آنذاك تعود الى الظهور ذكريات وأفكار ودوافع لم تبق موجودة في الوعي. وعندما يقوم المرضى بكشفها أمام الطبيب، مع ما يتخللها من انفعالات قوية، يُهزم العرض آنذاك ويصبح ممنوعاً من العودة. ففي عملهما المشترك، خلص المؤلفان، من خلال التكرار المطرد لهذه التجربة، الى فكرة كون العرض يحل مكان السيرورات النفسية المحذوفة والتي لم تبلغ مستوى الوعي، وبأنه يمثل تغييراً لهذه الأخيرة (وتحويلها الى الجسد). إنهما يشرحان الفاعلية الشفائية لعلاجهما بتفريغ (تطهير) الإنفعلات التي تم "خنقها" حتى اللحظة، والتي كانت مرتبطة بالفعل النفسي المرفوض. إلا أن المخطط البسيط لهذه العملية العلاجية، يتعقد في غالب الأحيان، لأن ما يساهم في تكوين العرض لا ينحصر في انفعال صادم وحيد وإنما يتعداه الى سلسلة من الإنفعالات، يصعب التمكن منها واستحضارها دفعة واحدة. 

إن السمة الأكثر تمييزا للطريقة التطهيرية، والتي تميزها عن سائر الطرق العلاجية، تكمن في كون فعاليتها الشفائية لا ترتكز على أمر مقترح من طرف الطبيب. بل يتم انتظار زوال الأعراض من تلقاء نفسها عندما تتمكن العملية النفسية التي تعتمد على فرضيات مختلفة مرتبطة بآليات نفسية، من تغيير مسرى السيرورة النفسية التي أدت الى تكوين العرض.

أما التعديلات التي أدخلها فرويد على الوسيلة التطهيرية التي تم إرساؤها من قِبَل بروير فتكمن أولا وقبل كل شيء في تعديل التقنية. وقد أعطت عذه التعديلات نتائج جديدة مما أدى حتما، في آخر المطاف، الى منظور مغاير وأن كان لا يناقض العملية العلاجية.

لقد تخلت الطرقة التطهيرية عن الإيحاء فيما سبق. إلا أن فرويد سيخطو خطوة أخرى متخليا أيضا عن التنويم. إنه يعالج مرضاه حاليا على الطريقة التالية : من دون أن يبحث في التأثير عليهم بأية وسيلة كانت، فإنه يجعلهم يستلقون بشكل مريح على أريكة. أما هو فيجلس خلفهم، مختفيا عن أنظارهم. إنه لا يطلب منهم إقفال أعينهم ويمتنع عن لمسهم كما يمتنع عن استعمال أي وسيلة ممن الممكن أن تُذكر بالتنويم. وهذا النوع من الجلسة يحدث على شاكلة مقابلة بين شخصين في حالة يقظة، يتم تجنيب أحدهما كل جهد عضلي وانطباع حسي من شأنهما أن يبعدا انتباهه عن نشاطه النفسي الخاص.

ومهما تكن براعة الطبيب، فإن الدخول في التنويم يتوقف على حسن نية المريض، وإن كثيرا من العصابيين هم غير قابلين للتنويم. لهذا فبعد التخلي عن التنويم، أصبح هذا النوع من العلاج صالحا لعدد لا حد له من الناس. ومن ناحية أخرى، رغم ذلك، فإن توسيع مجال الوعي الذي يسمح حقا للطبيب للأمساك بكل المواد النفسية وما تشمله من ذكريات وتمثلات تساعد على تغيير الأعراض وتحرير الإنفعلالت، لا يتحقق كما كان يحدث. يتعلق الأمر إذن بتعويض العنصر الناقص بعنصر آخر، وإلا فلن تكون أية وظيفة علاجية ممكنة. 

آنذاك توصل فرويد، من خلال تداعيات المريض، الى هذا العنصر التعويضي الموافق تماما. وجده في هذه الأفكار اللاإرادية والتي تعتبر مُشوِّشة في الغالب، ولهذا بالذات يتم عادة طردها عندما تأتي لخلخلة السير المبتغى للأفكار. وحتى يتسنى له التمكن من هذه الأفكار المشوِّشة، يستدعي فرويد المرضى لإطلاق العنان لكلامهم كما يحدث فى حوار مفتوح على مصراعيه. فقبل أن يطلب منهم التأريخ المدقَّق لحالتهم المرضية، فإنه يستحثهم قول كل ما يجول بخاطرهم، حتى وإن وجدوه غير مفيد، وغير ملائم، بل وغبي أو بليد. إلا أنه كان يطلب منهم بالخصوص ألا يتناسوا الكشف عن فكرة أو خاطرة   تحت ذريعة أنهم يجدونها مُخزية أو شاقة. فبحرصه على تجميع كل هذه المادة الفكرية المهملة، تمكن فرويد من القيام بالملاحظات التي أصبحت العوامل المحددة لكامل نظريته. ففي السرد نفسه للمرض، تنجلي في الذاكرة بعض الفراغات التي تتمثل في نسيان بعض الأحداث الواقعية وفي تشويش التسلسل الزمني وتحطيم العلاقات بين الأسباب والحواصل، مما يفدي الى نتائج عديمة المعنى. فلا وجود لقصة عصاب لا يتخللها فقدان الذاكرة. فعندما نطلب من المريض أن يسد ثغرات ذاكرته، مركزا انتباهه على هذه المهمة، فإننا نلاحظ بأنه يستعمل كل الانتقادات الممكنة كي يصد الأفكار التي تتوارد الى ذهنه، وهكذا دواليك حتى اللحظة التي تظهر فيها الذكريات حقا ويشعر خلالها بإحساس شاق فعلا. يٓخلص فرويد من هذه الخبرة بأن فقدان الذاكرة يترتب عن سيرورة أَطلق عيها إسم الكبت ويُرجع إليها سبب الإحساسات الكدرة. أما القوى النفسية التي انتجت الكبت فيمكن، بحسبه، معاينتها في المقاومة التي تصد ظهور الذكريات من جديد.

فعامل المقاومة أصبح حجرة من أحجار الزاوية في نظريته. إنه يعتبر الأفكار المصدودة تحت أي ذريعة كانت، بمثابة روافد لبنيات نفسية مكبوتة (أفكار وانفعالات غريزية)، بمثابة تشويه لهذه الأخيرة من جراء المقاومة التي تعارض إعادة إنتاجها.

وكلما عظُم قدر المقاومة، كلما استفحل التشويه. لذا فإن أهمية هذه التداعيات بالنسبة لتقنية التحليل تكمن في علاقتها بالمواد النفسية المكبوتة. فبالتمكن من وسيلة تسمح بالمرور من االتداعيات الى المكبوت، ومن التشوهات الى المواد المشوهة، نتصول إذن، وبدون استعمال التنويم، الى جعل ما كان قابع في اللاوعي، قابلا للولوج الى الوعي. 

فعلى هذا المفهوم بنى فرويد فنًّا في التأويل تكون مهمته، إن أمكن القول، استخراج من مادة تداعيات الخامة، المعدن الصافي للأفكار المكبوتة. وعمل التأويل هذا لا يُطبق فقط على أفكار المريض، وإنما على أحلامه أيضا والتي تفتح لنا المدخل المباشر الى لا وعيه والى أفعاله المقصودة أو  تلك التي لا طائل من ورائها (الأفعال العرضية) والى كل تكل الأخطاء التي يتم ارتكابها في الحياة اليومية (زلة اللسان والهفوات، الخ). إن فرويد لم ينشر بعد تفاصيل تقنيته في التأويل أو الترجمة. ولكن حسب ما أعلن عنه حتى الأن، يتعلق الأمر بسلسلة من القواعد، تم اثباتها تجريبيا وترتبط بالصيغة التي يصلح من خلالها إعادة تركيب مواد اللاوعي انطلاقا من التداعيات. ويعطي فرويد أيضا إضاحات حول كيفية تأويل صمت المريض عندما تتغيب التداعيات. ويعرض أيضا أهم المقاومات النموذجية التي تظهر خلال العلاج. إن العمل الضخم والمعنون تفسير الأحلام الذي عمل فرويد على نشره سنة 1900، يمكن اعتباره كمدخل لتقنية التحليل. 

من خلال هذه الملاحظات بخصوص تقنية التحليل، يمكن استخلاص فكرة أن صاحها قد بذل جهدا لا طائل من ورائه وبإنه قد أخطأ بتخليه عن وسيلة التنويم الأقل تعقيدا. لكن تقية التحليل النفسي، عندما نتمكن منها جيدا، فإنها، من ناحية أولى، أسهل مما قد يوهم عرضها. ومن ناحية أخرى، ليس هناك أية طريقة مغايرة يمكنها أن توصلنا الى الغرض المنشود، بحيث يبقى هذا المسار الشاق، رغم ذلك، هو المسلك الأقصر. إننا نآخذ على التنويم إخفاء المقاومات ممدا يؤدي الى منع الطبيب من معاينة موازين القوى النفسية. فالتنويم لا يحطم المقاومات وهكذا لا يعطينا إلا معلومات ناقصة ونجاحات عابرة. 

إن المهمة التي تجهد منهجية التحليل النفسي في تحقيقها يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة لكنها متساوية في العمق. فنقول مثلا بأنه يلزم على العلاج التحليل أن يفدي الى حذف فجوات الذاكرة. فعندما يتم ملأ كل فجوات الذاكرة، أنذاك يتم تفسير كل ردود الفعل النفسية الغريبة ويصبح معه بناء أو تنشيط العصاب مستحيلا. يمكن القول كذك بأنه يجب رفع كل الكبوتات، فتصبح الحالة النفسية بعد ذلك كما كانت قبل أن تنتشر بها فجوات الذاكرة. واعتبارا لتعبير ذي بعد أشمل، فإن المسألة تكمن في جعل اللاوعي في متناول الوعي، وهو ما يتحقق بالتغلب على المقاومات. لكن يجب تذكر بأن هذه الحالة المثالية لا يتم الحصول عليها حتى لدى الأسوياء، وكذلك بأننا لا نجدنا قادرين، إلا في ما ندر، بدفع العلاج الى ما يقارب هذه الحالة. وكما أن الصحة والمرض لا يختلفان نوعيا، لكنهما يتحددان تدريجيا بصفة كمية، فكذلك الهدف المنشود في العلاج هو دوما الشفاء الفعلي للمريض واستعادة قدرته على النشاط والإستمتاع بالحياة. وفي حالة علاج تم توقيفه، أو لم يعط إلا نجاحا غير مكتمل، فأننا نحصل، مع ذلك، على تحسن ملحوظ في عموم الحالة النفسية، وإن كانت الأعراض التي أصبحت الآن أقل خطرا لدى المريض، مستمرة في التواجد من دون أن تصبغ على هذا الأخير طابع المرض.

فالطريقة العلاجية تبقي هي هي، ماعدا بعض التعديلات الطفيفة، بخصوص مختلف التكوينات العرضية الهستيرية وكذلك كل أشكال العصاب القهري. لكن لا يليق تطبيق هذه الطريقة بشكل غير محدود. إن طبيعتها في حد ذاتها تستلزم تعليمات أو تعليمات مضادة وفقا للشخص المزمع علاجه ووفقا للتقويم العيادي للحالة. فكل الحالات العصابية المزمنة والتي تتخلها أعراض قليلة الحدة والخطر، هي الأكثر استفادة من التحليل النفسي، وفي مقدمتها كل أشكال العصاب القهري وما يترتب عنه من أفكار وأفعال قهرية، وكذلك حالات الهستيريا التي تلعب فيها أعصبة الخواف والعجز الإرادي، الدور الرئيسي. تأتي بعدها التمظهرات البدنية للهستيريا، ما عدا الحالات التي تتطلب، كما في فقدان الشهية، تدخلا سريعا لإزالة العرض. أما في حالات الهستيريا الحادة، فيجب انتظار حصول فترة أكثر سكونا. فأينما تغلب انهيار عصبي، يستحسن إبعاد طريقة تقتضي جهدا، ويكون تقدمها بطيئا ولا تعير اهماما، في فترة معينة، لاستمرار الأعراض.

فهناك بعض الشروط التي تحدد اختيار الأشخاص الذين قد يستفيدوا كثيرا من التحليل النفسي. ففي المرتبة الأولى لابد من يكون الشخص قادرا على أن يعود سويا نفسيا ؛ في فترات الخلط العقلي أو الإكتئاب السوداوي، لا يمكن القيام بأي شيء، ولو تعلق الأمر بحالة هستيريا. وزيادة على ذلك، يلزم قدر من الذكاء الطبيعي وقدر من النضج الأخلاقي. وإذا كان من يمهتم بهم الطبيب عديمي القيمة، فإنه لن يتوان عن نزع ارتباطه بالمريض مما يجعله غير قادر على تعمق كبير لنفسية هذا الأخير. إن التشوهات الطبْعية الجد راسخة، وكذلك آثار تكوينة فاسدة الأصل، تترجم في التحليل بواسطة مقاومات  من غير الممكن زحزحتها. وعلى هذا الصعيد، فإن تكوينة المريض تفرض حدودا للمعالجة بالتحليل. تكون الشروط غير مستوفية أيضا عندما يقارب المريض الخمسين من العمر، وذلك لأنه لم يعد من الممكن استشفاف بعمق كتلة المواد النفسية، ولأن زمن العلاج قد يزيد طولا وتصبح القدرة على الرجوع القهقرى بالسيرورات النفسية في طريقها الى الخفوت.

وبالرغم من كل هذه القيود، فإن عدد الناس القادرين على الإستفادة من العلاج بالتحليل النفسي لا حد له، ثم إن إمكاناتنا العلاجية أصبحت بفضل هذه الطريقة، جد كبيرة، بحسب فرويد. ولكي يكون العلاج أكثر فعالية، يشترط فرويد أن تدوم مدته من ستة أشهر الى ثلاث سنوات. إلا أنه يطلعنا مع ذلك، ونظرا لظروف مختلفة يسهل التكهن بها، بأنه لم يتمكن، بصفة عامة وحتى هذا اليوم، من اختبار علاجه إلا على أناس مصابين بمرض خطير ويعانون منذ سنوات. وبما أنهم أصبحوا غير قادرين كلية على التوافق مع الحياة وقد خاب ظنهم في كل أنماط العلاجات الأخرى، فإنهم لجأوا، وهم في يأس تام، الى هذه الطريقة الجديدة وغير المجمع عليها بعد. أما في الحالات الأخف، فإنه من الممكن تقليص مدة العلاج مما  يخلف نفعا عظيما يستفاد منه مستقبلا في مجال الوقاية.