من اللغة الى اللغو في التحليل النفسي
عبد الهادي الفقير
في إطار العلوم الإنسانية، أصبحت اللسانيات خلال القرن الماضي أحد النماذج العلمية المرجعية التي استلهمها العديد من التخصصات، ومن بينها التحليل النفسي. هذا المقال يستعرض كيف استفاد لاكان من هذه المرجعية في تأسيسه لما اكتشفه فرويد.
في سياق مشروعه للعودة إلى حقيقة اكتشاف فرويد ومواجهة التحريفات التي طالت التحليل النفسي بعد وفاة المعلم، يستند لاكان إلى مفاهيم أرسَتها اللسانيات البنيوية. وبما أن الكلام هو الوسيط الوحيد في الممارسة التحليلية، يؤكد أن التقنية التحليلية «لا يمكن فهمها، ومن ثم لا يمكن تطبيقها بشكل صحيح، إذا تم تجاهل المفاهيم التي تقوم عليها… وهذه المفاهيم لا تكتسب معناها الكامل إلا عند توجيهها ضمن مجال اللغة، وتنظيمها وفقًا لوظيفة الكلام».
استرجاع اكتشاف فرويد في حقيقته يستدعي إذا إدخال واستخدام مفاهيم لسانية. لماذا؟ لأننا إذا قرأنا فرويد جيدًا، يتضح بجلاء أن كل التشكيلات اللاشعورية—سواء كانت حلما أو زلة لسان، أو فعل فاشل، أو عَرَض—«لها بنية جملة». ومن هنا جاء الشعار الشهير عند لاكان: «اللاشعور مبني كلغة» والذي يشير فيه بوضوح إلى التشابه البنيوي بين التشكيلات اللاواعية كما بينها فرويد، وبعض العمليات اللغوية كما حددها سوسير.
نشهد هنا عملية تأسيس للتحليل النفسي على يد لاكان انطلاقًا من اللسانيات البنيوية، وذلك عبر محورين: أولًا، من خلال ربط اللاشعور ببنية اللغة، وثانيًا، لأن مجال اللغة نفسه هو الفضاء الذي تتشكل فيه التكوينات اللاواعية وتجد تعبيرها.
من هذا المنطلق، يستعير لاكان من اللسانيات عددًا من المبادئ والمفاهيم التي ستصبح داخل إطار النظرية والممارسة التحليلية، «مصدرًا لتحول إبستيمولوجي جذري على مستوى التوضيحات الميتاسيكولوجية» بحسب تعبير لاكان.
ومع ذلك، يجدر التذكير بأن الممارسة التحليلية نفسها (العلاج)، وكذلك المقاربات الدراسية التي تستند اليها، «لا تتناول اللغة بوصفها بنية شكلية لنظام اللسان، بل باعتبارها نظامًا دلاليًا تتشكل فيه وتتفكك الذات المتكلمة والراغبة». وهذا يعني أن انتباه المحلل النفسي لا ينصب فقط على محتوى الكلام والمعنى الذي يتضمنه، بل وبالدرجة الأولى، على آثار المتعة التي يُخلفها فعل الكلام لدى المتحلل، وعلى الكشوفات التي قد يغنمها فيما يتعلق بألغاز رغبته. ومن ثم، فإن الذات ورغبتها ليستا معطيات مسبقة، بل تتشكلان عبر الكلام الفعلي أثناء علاقة التحويل، في فعل القول ذاته وفي عملية التلفظ بحد ذاتها.
انطلاقًا من الوضعية التحليلية التي تقوم على فكرة أن كل فعل لغوي يتضمن ذاتًا متكلمة وراغبة، يُدخل لاكان بعض التعديلات على أطروحات سوسير الألسنية كي يطوعها بشكل أفضل لخدمة التنظير والممارسة التحليلية النفسية. وهكذا سيتم استخدام مفهوم الدال في التحليل النفسي بما يتجاوز التعريف الذي أعطته له اللسانيات: إذ سيتبع التحولات التي ستعرفها مفاهيم البنية واللغة مع تطور فكر لاكان.
على سبيل المثال، ما يسميه سوسير «تيار الأفكار» و«تيار الأصوات»، سيعيد لاكان تسميته فورًا بـ «تيار المدلولات» و«تيار الدوال».
كما أنه سيُعدِّل مخطط العلامة اللغوية الذي وضعه سوسير، ليس فقط عبر إلغاء الشكل البيضوي الذي يمثل عند سوسور حدود ووحدة الزوج المكوّن من الدال والمدلول، بل أيضًا من خلال قلب موقع المصطلحين بالنسبة إلى الخط الفاصل بينهما: فيسقط المدلول إلى أسفل الخط، بينما يُوضع الدال في أعلاه.
أبعد من ذلك، تقود التجربة التحليلية لاكان إلى عدم القبول بالكامل بفكرة «القطع» التي تمثل عند سوسير العملية التي تحدد الوحدات الدلالية من خلال سلسلة من الفواصل المتزامنة بين العلامات اللغوية، مكوِّنةً بذلك وحدات من مدلول/دال.
هذه الفكرة المتعلقة بالقطع بين الوحدات الدلالية لا تناسب تمامًا جاك لاكان، إذ يرى ضرورة تعديلها، بل حتى استبدالها، كي يتم في نظره «إعطاء ما هو قيد البحث [كلام ذات الفرد] معنى قابلًا للاستخدام حقًا في تجربتنا.»
وهكذا، بدلاً من مفهوم القطع بين الوحدات، يقدم لاكان ما يسميه «نقطة التدبيس» (point de capiton)، وهي على شكل عقدة لغوية تفعل فعلها على مستوى الذات.
في البداية، يلاحظ لاكان غياب هذا النوع من اعقد والربط في الإنتاجات اللغوية للمرضى الذهانيين. فعند إعادة تحليله لحالة الرئيس شريبر، على سبيل المثال، يلاحظ أن هذيان هذا الأخير يتعرض لاجتياح تدريجي صارخ من قبل الدال، إذ بداخل هذا الهذيان، يتحرر الدال شيئًا فشيئًا من المدلول. وفي مرحلة لاحقة، ستقوده التجربة التحليلية ككل إلى اعتبار العلاقة بين الدال والمدلول على أنها علاقة «دائمة السيولة، ودائمًا معرضة للغياب».
«نقطة التدبيس» في منظور لاكان، هي آلية يتم من خلالها ربط الدال بالمدلول داخل سلسلة الخطاب، تماما كما يفعل الفرَّاش بضم قماش أسفل الفِراش بأعلاه بواسطة عُقد تُثَبت المواد المحشوة بداخل الفراش. ونقطة التدبيس هاته تستمد أهميتها الأساسية من علاقتها بسجل رغبة الذات. فأثناء التحليل النفسي، وضمن علاقة التحويل، تتم دعوة المتحلل إلى استكشاف لاوعيه، مما يفرض عليه مواجهة ألغاز وتقلبات رغبته، ليصل في النهاية إلى التساؤل عما إذا كان يريد حقًا ما يرغب فيه.
يقول لاكان في أحد سيميناراته، مخاطبًا المحللين النفسيين: «ابحثوا عن الوظيفة الزمنية لنقطة التدبيس داخل الجملة، طالما أن معناها لا يكتمل إلا مع لفظتها الأخيرة. وكذلك كل لفظة تكون متوقعة في بناء باقي الألفاظ الأخرى، وفي الوقت نفسه، تحدد معناها بشكل رجعي.» من خلال ذلك، يطرح لاكان مشكلة قيمة العلامة كما نظّر لها سوسير، ويسعى إلى إيجاد حل لها.
فيما بعد، وفي سياق نموذج معقد ومتعدد الطبقات صاغه تدريجيًا وأطلق عليه اسم «مخطط الرغبة»، يضع لاكان في قاعدته المتجه (Δ → S̷) الذي يجسد نقطة التدبيس، والتي تقوم، عبر أثر رجعي، بربط سلسلتين دلاليتين عند نقطتين محددتين: السلسلة الدالة S-S’، التي تتحرك بحرية وتبقى منفصلة عن المدلولات الواقعة تحت الخط الفاصل.
يرى لاكان أن العلامة لا تكتسب معناها داخل سلسلة الكلام إلا من خلال علاقتها التعارضية مع بقية العلامات التي تشكل هذه السلسلة. بمعنى آخر، لا تتجلى دلالة المرسال إلا عند اكتمال الجملة المنطوقة. ومن هنا تأتي أهمية مفهوم الأثر الرجعي (après-coup)، الذي يمثل بُعدًا أساسيًا في التحليل النفسي، حيث تعمل نقطة التدبيس على إيقاف انزلاق الدال على المدلول، من خلال تثبيت أحدهما بالآخر، ولو بشكل مؤقت، مما يمنح الخطاب استقرارًا لحظيًا في المعنى.
إدخال مفهوم «نقطة التدبيس» (point de capiton) في نظريته حول بُعد الرغبة، يشكل خطوة مهمة في عملية تأسيس لاكان لاكتشاف فرويد بخصوص حقل اللغة ووظيفة الكلام في التحليل النفسي.
بعد تقديمه لهذا المفهوم، يواصل لاكان استلهام أفكاره من علم اللغة، وهذه المرة من خلال أعمال جاكوبسون، خاصة من خلال مفهومي الاستعارة (métaphore) والمجاز المرسل أو الكناية (métonymie) اللذان يشكلان المحوران الرئيسيان في قدرة اللغة الابتكارية.
يقوم لاكان بتقريب هذين المفهومين بعمليتي التكثيف (condensation) والإزاحة أو النقلة (déplacement) الاتين اعتبرهما فرويد المحورين الأساسيين لعمل اللاشعور. يوضح لاكان ذلك قائلا: «بشكل عام، ما يسميه فرويد التكثيف هو ما يُعرف في البلاغة بالاستعارة، وما يسميه بالإزاحة هو المجاز المرسل. إن بنية الجهاز الدلالي ووجوده المعجمي أمران حاسمان لفهم الظواهر الموجودة في العصاب، لأن الدالّ هو الأداة التي يُعبَّر بها عن المدلول المختفي. ولهذا السبب، عندما نعيد التركيز على الدالّ، فإننا لا نقوم سوى بالعودة إلى نقطة انطلاق الاكتشاف الفرويدي».
الاهتمام الذي يوليه لاكان لدور الاستعارة والمجاز المرسل في خطاب المُتحلل يعكس مرة أخرى الأهمية الجوهرية للدالّ في التجربة التحليلية. ويضيف لاكان: «عادةً، نضع المدلول في المقام الأول عند تحليلنا، لأنه بالتأكيد أكثر ما يلفت انتباهنا، وهو الذي يبدو، للوهلة الأولى وكأنه البعد الخاص بالتحقيق الرمزي في التحليل النفسي. لكن تجاهل الدور الوسيط الأساسي للدالّ، وعدم إدراك أنه هو العنصر الموجِّه في الواقع، لا يؤدي فقط إلى تشويه الفهم الحق للظواهر العصابية، بل يجعلنا عاجزين تمامًا عن فهم ما يحدث في الذُهان».
إذا عدنا الآن إلى عبارة لاكان السابقة، نلاحظ أنه لا يقول إن «اللاشعور مُنظَّم بواسطة اللغة»، بل يقول إن «اللاشعور منبي كلغة». لماذا؟ لأن لاكان لا يرى أن اللغة، بصيغتها الشكلية والمجردة، هي التي تحكم تكوين اللاوعي، وإلا فإن اللاوعي سيكون بالكامل محددًا بواسطة اللغة وسيصبح مجرد موضوع لغوي بحت.
بالتالي، استخدامه لكلمة “كأنه” يشير إلى أن اللاشعور يتجاوز النموذج اللغوي التقليدي. وهنا يأتي دور التحليل النفسي والتفسير التحليلي في إبراز هذا اللاشعور وجعله موجودًا كلغة فريدة، وذلك عبر استغلال الغموض الذي يميز الدالّ في تراكيبه البلاغية ومجازاته.
لذلك، إذا لم تعد اللغة المجردة وبذاتها هي شرط اللاشعور عند لاكان، بل إن اللاشعور هو الذي يصبح “شرط اللألسنية”. لاكان يؤكد ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول: «إذا قلتُ إن اللغة هي ما يبني اللاشعور كلغة فذلك لأن اللغة، في البداية، ليست شيئًا موجودًا بذاته».
فاللغة، التي يدّعي علم اللغة تحليلها، والتي لا «وجودا لها سبقا»، ليست سوى «ما نحاول معرفته»، وما «يقوم الخطاب العلمي بصياغته بخصوص ما يتعلق بوظيفة «اللّغو» (La lalangue).
«Lalangue» مصطلح ابتكره لاكان عام 1972 في سيميناره XX تحت عنوان «Encore»، حيث استخدمه للإشارة إلى لغة جد خاصة تختلف عن اللغة المستخدمة والمتداولة للتواصل وللتعبير عن الأفكار. فهي تشير إلى اللغة التي يستمتع بها ما أقترح تسميته «الكائناطق» (Parlêtre)، أي اللغة التي يُستمتع بها قبل أن تُستخدم كأداة للتواصل. فتعبير اللغو قريب من المناغاة (lallation) التي يقوم بها الطفل قبل أن يتعلم التحكم في اللغة.
اللغو إذن، مثل المناغاة، تشير إلى الهديل الذي يسبق الكلام الطفولي. هذا الأخير يتكون من كل تلك المقاطع الصوتية الجميلة أو الكلمات الخاصة جدًا التي يكررها الرضيع بفرح غامر عندما يبدأ في الكلام، والتي يحتفظ بها الوالدان في ذاكرتهم، وغالبًا ما يكررونها بسعادة. أما الهديل أو المناغاة التي تسبق الكلام الطفولي، فتكرارها أو حتى تذَكرها من طرف الوالدين ليس سهلا بسبب طبيعتها غير الواضحة وغير المتميزة.
بالنسبة للاكان، يتشكل اللغو من اللغة التي تسبق وجود الذات. فالفرد يأتي ليسكن اللغة ويجعل منها أول موطن له. ولكن من خلال استثماره لللغة التي تسبقه، يجعل منها أولًا لغوَه قبل أن يحولها إلى أداة للتواصل وتوصيل المعنى. اللغو إذن، سواء عند الطفل الصغير أو عند البالغ، يشير إلى الاستمتاع باللغة، بما يتجاوز استخدامها كوسيلة تواصل. فهذه اللغة، التي تسبق اللغة المشتركة، والتي تحمل في طياتها متعة لغوية، لا تُلغَى بالقواعد النحوية أو بالتنشئة اللغوية، بل تظل نشطة في اللاشعور. وهى ما ابتدع له لاكان جملة: «J’ouis» والتي تعني «أستمع» مع الإبقاء على مكنون الاستمتاع «jouissance». لهذا اقترح ترجمة «j’ouis» بجملة: «أستم(ت)ع».
بالنسبة للفرد، يأتي اللغو أولًا، ثم يتم استثماره في لغة التواصل التي تصبح فيما بعد نوعًا من التنظير المعرفي حول اللّغو. من خلال هذا الابتكار اللغوي (La lalangue)، يتخلص لاكان من البنيوية السائدة في عصره، والتي كانت تدمج اللغة ضمن السيميولوجيا. لكنه في الوقت نفسه، يبتعد عن تقديره السابق للبنية النحوية. وهكذا، ينحت لفظة (linguisterie) التي تستحضر الى الذهن، كما يقول جان-كلود ميلنر، حرفة النجارة… أو حتى أعمال القرصنة. ويحلو لي أن أنحت في اللغة العربية كلمة «لغْويات» كمقابل لهذه اللفظة اللاكانية.
فاللغو إذن، بوصفه التجسيد المباشر للغة الأم، هو في كل لغة، المساحة التي تجعله عرضة للالتباس، لكنه، في جميع الأحوال، لا يُستخدم في الحوار. فاللغو ينطق بأشياء تتجاوز بكثير ما يستطيع الكائناطق تحمّل معرفته أو التصريح به. من هذا المنظور، يشكل كيانًا غير متماسك وافتراضي، بحيث لا يمكن نطقه بالكامل أو التعبير عنه بشكل تام.
هذا «اللا-كُل» في اللغو، تحاول اللسانيات تجاهله، لأنها منشغلة بالبحث عن أشكال إدراج الكُل في اللغة. لكن اللغة، كما يقول لاكان، ليست في النهاية سوى «تنظير معرفي حول اللغو».
وهكذا، فإن اللاشعور، باعتباره معرفة قابلة للفك والتشفير، يتشكل من اللغو. ومن هذا المنطلق، «لا يمكنه إلا أن يُنظَّم كأنه لغة»، لكنه يظل دائمًا لغةً افتراضية بالقياس إلى ما يدعمه، أي اللغو. فهذا الواقعي الذي يتمظهر في اللغة، هو الذي يدعم بنية هذه اللغة الفريدة، لغة اللاشعور، التي تطرح «كمجرد فرضية» من أجل ذات يُفترض أنها قادرة على القراءة، أو بالأحرى، قادرة على تعلم كيف تقرأ.
Bibliographie
DE SAUSSUR Ferdinand, Cours de linguistique générale, Paris, Payot, 1980.
DOR Joël. Introduction à la lecture de Lacan T.1 L’inconscient structuré comme un langage. Éditions Denoël, 1985.
DUCROT Oswald, Le structuralisme en linguistique, Éditions du Seuil, (Points), 1968
FREUD Sigmund, L’interprétation des rêves,
FREUD Sigmund, Psychopathologie de la vie quotidienne
KRISTEVA Julia et RUDELIC-FERNANDEZ D. « Psychanalyse et linguistique » in L’Apport freudien ; éléments pour une encyclopédie de la psychanalyse, Sous la direction de Pierre KOFFMAN, Larousse, 1998, pp. 737-752.
LACAN Jacques Le séminaire, Livre III, Les psychoses, (1955-56), Paris, Seuil, 1981
LACAN Jacques, Écrits, Éditions du Seuil, 1966.
LACAN Jacques, Le séminaire, Livre ? Le désir et son interprétation
LACAN Jacques, Le Séminaire, livre XX, Encore
LACAN Jaques, « Radiophonie », Autres écrits, Paris, Seuil, 2001,
MILNER Jean-Claude, Le périple structural. Figures et paradigme, Paris, Verdier/poche, 2008
MILNER Jean-Claude, L’amour de la langue, Paris, Seuil, 1978.
SAFOUAN Mustapha, Le structuralisme en psychanalyse, Éditions du Seuil, (Points), 1968