ماطيرن : كتاب - في الفقدان - فصل ١ من ٦

جون ماطيرْن
في مزايا الفقدان
(بين كتابتي الأدبية وتحليلي النفسي)

 « De la perte et d’autres bonheurs »  بداية لترجمة كتاب جون ماطيرن
ماطيرن ناشر مؤلف لعدة عتب وروايات بالفرنسية، بعضها ترجم إلى عدة لغات

ترجمة : عبد الهادي الفقير


توطئة

كاد هذا الكتيب ألا يرى النور بعد كتابته. فقد ابتلعه ثقب المعلوماتية الأسود، الذي هو كابوس كل كاتب. ذلك أنني فقدتُ قرص الكامبيوتر الذي تضمَّن الكتاب أثناء نقل أثاثي من منزل إلى منزل آخر وأيضا بعدما تم ضغط "الكلاود" فحصل إفاراغة من نسخة الكتاب المحفوظة به

حتي هذه اللحظة، كنت أكتب كل رواياتي  بخط اليد قبل العمل على تسجيلها كي تصبح ملفا ألكترنيا. لكن إحساسا غامضا دفع بي هذه المرة للتخلي عما أَلِفته وألح علي بأن الوقت قد حان لمصاحبة العصر واستعمال وسائله . فكي أدخر الوقت والطاقة، كان علي أن أكتب مباشرة على كيبورد حاسوبي الصغير، هذه الأعجوبة التيكنولوجية الحديثة. إنه كان خفيفا وجد مناسب، فلمذا إذن لا أستعمله كما يفعل كل الآخرين مثلي.  

بكل تأكيد، أنا لست ككل الآخرين، وما يصلح للآخرين ليس بالضرورة ما يناسبني. لكن ربما كان هذا الوقف هو مجرد ردة فعل مني كي أدافع عن كبريائي وأتناسى إحساسي المخزي  بكوني فشلت أيما فشل في أن أصبح كاتبا عصريا. وربما لا.

لكن ما ذا يمكن قوله في هذه الممارسة التي تتطلب منا إيداع حصيلة أعمالنا ومنتوج مجهودنا الفكري، في "الكلاود"، هذا الهوام المعاصر؟ يالها من حماقة تجعلنا نتصور بأن سحابة قد تشكل المكان الأضمن للاحتفاظ  بأفكارنا، والمكان الأليق لتثبيت الكلمات التي ضمَّناها أحلامنا فأصبحت نصوصا قابلة للنشر؟

وربما أنني هكذا فعلت كل ما في وسعي، ولو مرة واحدة، كي أضيِّع كل ما كتبته من أفكار حول فرويد. فهل أضعتُها رغما عني في قرص كامبيوتر ثم في سحابة معلوماتية، كي أحصل عليها مجددا وعلى أحسن وجه؟

لقد استقبلتُ رغم ذلك هذا الطرح بفرح كبير وبكثير من الاثارة: إن رغبتي في الغطس من جديد في كتابات فريد التي تركتْ قراءتها أثرا كبيرا علي أثناء مراهقتي، تعدني الآن بمغامرة شيقة حبلى بالفكَر وبالكتابة الأدبية. لم يكن من الصعب علي اختيار أحد نصوص فرويد. فمن بين ما كتبه هذا الأخير، كان تعليقه على إحدى قصص الكاتب الألماني ويليام جِنْسِن قد شغل في ذاكرتي كقارئ، منصبا خاصاوهكذا إذا فإن كتاب فرويد حول "الهذيان والأحلام في گراديڤا" لجنسن"، هو ما سأستعمله كنقطة انطلاق للتعامل مع بعض المبادئ الفرويدية الكبرى، وذلك من خلال الإنارة المستقاة من تجربتي الشخصية لمبدإ اللذة. فما بإمكانه ياترى أن يكون محفزا لي، بصفتي ناشرا وكاتبا خضع لتحليل نفسي شخصي، أكثر من أن أكتب تعليقا على تعليق قد يقترب من تمرين تلمودي، أو أكثر من الوقوف على الكتاب الوحيد الذي يقف فيه فرويد بكل جلاء موقف المفسر لكتاب أدبي؟

انطلقت في قراءة هذا النص من جديد، بنظرة كنت أتوخاها جديدة إلى أكبر حد. قرأته أولا في الأصل الألماني ثم من خلال الترجمة الفرنسية. ثم قمت  بتدوين الملاحظات على أحسن وجه. وفيما بعد وتحت سماء رحيم لصيف صافوياردي، انطلقت في الكتابة بكل سهولة ويسر. وهكذا شرعتُ في المزج بين قاراءتين لهذا النص: قارءةَ مراهق في السابعة عشرة من عمره وقراءة رجل احتفل للتو بمنتصف حياته. فغَلب علي الظن بأن هذا التمرين سيخلف بعض الشرارات (مِن اللذة إن لم تكن من قبيل الذكاء)، تمرين سينتج عنه شيئ ما لا محالة

إن كلمة "موزي لاور" في اللغة العبرية، تدل علي مهنة الناشر وهي نفسها التي تطلق على القابلات. بمعني أنها تخص من يقوم بإخراج كائن ما إلى النور. إن الإعتناء بولادةِ نص كما يتم الإعتناء بمجيئ مولود إلى الحياة، هي صورة لشدما أعجبتني. وباستعمال هذه الاستعارة، انتهى بي الأمر إلى تقبل كون بعض النصوص قد لا تنجح في تخطي مخاطر تزج بها في جحيم تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين، من دون رجعة ممكنة، تماما كما يحدث لبعض الأجنة التي لا تصل إلى أجلها المحتوم. فلا وجود لأورفي في أفقي كي يتسنى لي استرجاع زوريديستي للحياة الورقية. وبهذا الخصوص فإن رأي اختصاصيي الكامبيوتر قطعيٌّ ولا نقاش فيه

إن هذا الكتاب بمثابة عودة من نوع خاص إلى الحياة. والأكثر من ذلك، إنه يشهد على تغير عميق في طريقة حياتي، تغير تزامن مع لحظة كتابته الأولى وكذلك مع لحظة افتقادى ( أهو فقدان ضروري؟) لمخطوطة الكتاب،  ثم إعادة كتابته مرة ثانيةإن هذه المصادفات التي ليست  كذلك في الحقيقة، تزامنت وتماشى بعضها بجانب البعض مع أفكاري في هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ، حول أقصوصة الگراديڤا وحول عبقرية فرويد بشأنها. فأفكاري هذه تعبير عن صراعاتي ومحاولات ترتيبى بين الواقع واللذة أو قل بين الوقائع والملذات. وربما هي ليست إلا اعترافي بفقداناتي المتعددة وقد انقلبت إلى سعادة وربما إلى سعادات متنوعة.



عندما فقدتُ لغتي

قبل وفاته بفترة قصيرة، كان أبي يجد لذة في تذكيري بنادرة  تتعلق بطفولتي كنت قد نسيتها. لقد كانت تتعلق بأحد أكبر همومي آنذاك، على حد تعبيره. لم يعد يذْكر كم كان عمري بالضبط آنذاك، ربما ثمانية أو تسع سنوات، بلا ريب. لكنه يتذكر بأن المشهد حصل مساء يوم خميس، في تلك البلدة الألمانية التي كنا نقطنها آنذاك.  

وفي تلك الفترة وفي ذلك اليوم بالذات أصبحت الخزانة البلدية ملاذا حقيقيا بالنسبة لي. كل أسبوع كنت أطوف بين الرفوف التي امتلأت كتبا من طرف المتطوعين (من بينهم أستاذتي للناي التي كانت تشغل منصب أمينة الخزانة يوما في الأسبوع). كنت أجوب الرفوف بحثا عما يكفيني من كتب لمدة أسبوع فقط. ولست أدري إن كان هذا التقنين مسطرا بين بنود القانون التنظيمي للخزانة. لكن من الأكيد أن السيدة بيكر، عازفة الناي وأمينة الخزانة - والتي تتمتع م ين أسنانها بقواطع متباعدة بعض الشيء - لا تسمح لي أبدا باقتراض أكثر من ستتة كتب في الأسبوع، ستتة كتب مُسطرة تحت إسمي بكامل العناية منها على ورق بريستول.

  وفي مساء ذاك الخميس الذي يعنيه أبي، أعدت حصيَ الكتب التي اقتنيتها فور رجوعي إلى المنزل، وقد كنت تحت تأثير ملاحظات أمينة الخزانة أو أي مقترض آخر يحاول التشكيك في قدرتي على إتمام قراءة الستة كتب خلال ثمانية أيام. لقد كنت مغتاظا جدا، لأن القراءة كانت نشاطي الأساسي خارج المدرسة وخارج حصص تعلم الموسيقى. لذا فلا مشكلة عندي حقا في قراءة هذه الكتب الستة. ومن بإمكانه أن يجرأ على التشكك في ذلك؟ لكن عندما وضعتُ هذه الإغاظة جانبا، تبين لي بإن قلقي يرتبط بشيء مختلف تماما: عندما حصل وأدركت العلاقة بين الزمن والقراءة، انتابني قلق حاد مرافق لفكرة أنه قد ينقصني الوقت لقراءة كل الكتب التي أود الاطلاع عليها. فانطلقت أبكي بحرارة. إن لذتي في القرادة اصطدمت بواقع الأيام المعدودة لبقائنا على قيد الحياة

كم تجيش مشاعري وأنا أفكر في نية أبي آنذاك وهو يجابه الموت بكل تؤدة. لقد كان أبي أثناء هذا الحوار الذي دار بيننا، على حافة المنية من جراء مرض عضال لم يمهله إللا بضعة أسابيع. فهل كان ذلك من أجل تذكيري بطريقتي الخاصة التي اكتشفتُ من خلالها لزوم مماتي؟ أو ربما كان يعني بأن ما قد تُخلفه وفاته لدي من غيض، سيفوت كما فاتت تلك الإغاضة الكبري التي حصلت لذلك الطفل الصغير عندما تبين له بأن حياتا بكاملها لا تكفي لري ظمئه من الكلمات والحكايات؟

أما أنا فلقد نشفتُ دموعي واسترسلتُ في القراءة. وبعد سنوات قلائل، عندما أصبحت خزانة كتب مسقط رأسي حاجزة عن مدي بكنوز إضافية، اسطضم شغفي بالقراءة بحدودا أخرى، حدود مكتبات وخزانات المدن الكبري المجاورة.       

حتي سن السابعة عشرة من عمري، كنت أقرأ دائما بنهم كبير وبطريقة انتقائية، لكن لم يحصل لي بعد أن غامرت خارج حدود عالم القصة الخيالية. لقد كانت الفلسفة تستهويني من بعيد، وكذلك كان حال التحليل النفسي. كنت أعلم بأن أعمال الطبيب الفييناوي المشهور قد غيرتْق وجه القرن العشرين - إنها جملة بقيت تتصدر كراسات التاريخ حتى السبعينيات من القرن الماضي - إلا أن نوعا من الخجل كان يصدني عن الغوص فيها بنفس الحماس التي كنت أحسه وأنا أنغمس في قراءة جوزيف روث أو آرتور شنيدزلير أو ستيفان سفايغ الذين كانوا من معاصريه  ويقتسمونه المواطنه، وكذلك في قراءة فرانسوا مورياك أو گوستاڤ فلوبير أو طوماس مان. لكن عندما اكتشفت بأن فرويد قد ألف نوعا من التعليق خصصه لنص من كاتب ألماني إسمه ڤيلهيلم جِنسِن، تم نسيانه منذ ذالك الحين، أحسست وكأنني على أرض مألوفة فانطلقت في قراءته.

لم يكن المراهق، الذي كنته آنذاك، يقرأء ويطيل القراءة فقط ليشغل أيامه المشوبة بالعزلة وسط مدينة صغيرة من مدن الضواحي، أو ليحاول تناسي حالة حداد حلت به لبضع سنوات خلت، إثر وفاة أخته التي رمت بظل دامس على تلك الفترة من حياته. إنما كان يقرأ ويطيل القراءة لأنه كان أيضا قد قرر بأنه "سيصنع كتُبا" كي يكسب قوت يومه. لم تكن لدي فكرة دقيقة عن المهنة التي قد تستوعب هذا الميل، لكني لم أكن أشك أبدا بأن وظيفتي في المستقبل سيكون لها ارتباط وثيق بشغفي وولعي بالكتب. وليس لذلك من بديل

فهل كان بإمكاني مذاك وعمري لا يتجاوز السابعة عشرة، وضع كلمات أنعتُ بها ما كان لدي من يقين دفين بأن الأدب (الحق والعظيم) سيمَكن القارئ من معرفة أفضل لذاته ومن غوص أعمق في قرارة روحه؟ وذلك حتى ولو لم تكن أية علاقة تربط بين مصائر هؤلاء الأبطال الورقية وبين حياة القارئ؟ ربما لا. ألا أن شعورا مسبقا وحدسا مكنونا تكون لدي بخصوص هذه الفكرة. ثم إن توقفي المندهش أمام كتاب لفرويد، طبيب الروح العظيم، وهو يتعامل مع قصة قصيرة، مع نص من طبيعة خيالية، كمعلِّق لها ومعقِّب متواضع، أثار فضولي أيما إثارة وفتح في وجهي أبواب الكون الفرويدي

وحتي هذا اليوم مازلتُ أتذكر بكل وضوح ما تركتْه من أثر في نفسي أقصوصة جنسن تحت عنوان "گراديڤا، استيهام في بومباي". لقد كنت مبهورا بغرابتها. قصتها عجيبة وبطلها نوربر هانولد، شخص غريب الأطوار. شاب مختص بعلم الأثار، أصبح مشغول البال بوضعية قدم رآها في منحدر. اشتد به هذا الوسواس لدرجة جعلته يغادر منزله بلباسه الليلي مهرولا في الشارع خلف نساء شابات كي يراقب الزاوية التي يرفعن منها أرجلهن أثناء المشي. اشتد به هذا الوسواس لدرجة جعلته يقوم بأحلام غريبة، اضطرته للسفر إلى بومباي - وكأنه الإله مارس گراديڤوس أثناء اندفاعه نحو المعركة - معتقدا بأن هناك مسقط رأس الفتاة الشابة التي رأى إحدى قدميها في المنحدر.

لكن الأكثر غرابة يكمن في أن وسواسه سيؤدي إلى نتيجة معينة: ففي شوارع المدينة الأثرية، سيلتقي بامرأة تتطابق مشيتها تماما مع تلك المشية التي تخيلها انطلاقا من الصورة التي التقطها بالمنحدر، ثم علقها بمكتبه بضعة شهور خلت. وبعد فترة من الخلط المتعمد بحذق ودهاء من طرف الفتاة التي وقع عليها اختاره، فإنه لم يتبين فقط بأنها هي زوي بيرتگونگ، التي كانت جارته أثناء طفولته ورفيقة ألعابه، وإنما أيضا قد حصل له فيما بعد أن وقع في حبها وغادر بومباي برفقتها.                                       

من الأكيد أن اضطرابا حصل لدي عند قراءة حكاية نوربير هانولد وزوي بيريگونگ وهما قي شوارع بومباي. فرغم كل الاختلافات البينة بيني وبين نوربير هانوالد هذا وما يخصه من نزوات مذهلة، ورغم الطابع المضحك لهذه الحبكة القصصية التي ينقلب فيها فيها تمثال إلى الحياة على شكل امرأة شابة تسمى زوي ( وهي كلمة تدل خصيصا على الحياة في اللغة الإغريقية)، فإنه لم يكن لي أن أبق غير مبال بقصة رجل تمكن من التغلب على إحساسه العميق بالوحدة ومن طمْر شعوره بالنقصان، وهو شعور لم يتمكن حتى من تسميته

"وذلك لأنه يتحتم على الفرد أن يموت كي يعود إلى الحياة". بهذه الكلمات علقت زوي بيرتگونگ گراديڤا عندما أصبحت حية ترزق، على رفاق اللعب القدامى (هي وهانولد) وقد أصبحا الآن عشيقين. وهكذا يكون الموت هو الممر الإجباري قبل إمكانية الحب. لكن عن أي موت يتم الحديث هنا في الحقيقة؟

في هذه النقطة بالذات، أتوسل السماح لي بالرجوع إلى النص الأصلى - مع عدم مؤاخذة المترجم - لأن النص  ألماني يحتوي على فارق بسيط لا يمكن إظهاره من خلال لغة فرنسية أنيقة. إنه يعني بالحرف: "علي الفرد أن يموت كي يصبح حيا". ففي حين تقترح الترجمة الفرنسية هنا: "كي يعود إلى الحياة"، تستعمل الألمانية فعل "werden"، "أصبح" الذي يعبر عن سيرورة جد مختلفة، لأنها دينامية وإرادية، على ما يبدو لي. لقد كانت قراءتي الأولى للنص  باللغة الألمانية وليس بالفرنسية، وعلى غرار فرويد إذن، فهمتُ بأنه لا بد أن نموت أولا حتى نصبح أحياءا.

فإلى ما كانت تومئ إليه، زوي بيرتگونگ، البطلة التي خلبت لب فرويد؟ ما كان بإمكاني أن أفهم ذلك. لقد أرخى الموت بظلاله على عائلتي منذ بضع سنوات خلت عندما وافت المنية أختي الكبيرة إبان حادثة سير عنيفة ولم أكن أجد في ذلك ما بإمكانه أن يجعلني أكثرَ تمتعا بالحياة، لا أنا ولا أبواي. بل بالعكس، بدا لي بعدها أن حياتي تتلخص في شكل خاص من التمسك بالبقاء على قيد الحياة لا أكثر. ولم أكن لأجد أي ربح أو طائلة أغتنمها من فقدان أختي. ولما أسرتُ نفسي في حزني الذي أخذ يبرر لدي نوعا من الانعزال التام، أخذت أكتب في مذكراتي جملة من قبيل: "وحدها الكتابة الأدبية كفيلة لترويض الموت". أو من قبيل: "هل هناك أنفاق لا نور في منتهاها؟ وشرعت هكذا في تفضيل معاشرة  الكائنات الورقية على معاشرة الأحياء

كان أصدقائي آنذاك يسمون طونيو كروگر أو طيريز ديسكيرو. كنت أمشي في خطى أبطال جوزيف روث وأتطلع بانسجام تام مع إيما بوڤارى إلى حياة أفضل. وأكثر من كل شيء، كنت أحلم بالنزول إلى قعر بير مع يوسف الذي باعه إخوته، وكنت أبكي موت آنتينوس وأهيم علي وجه البسيطة مع العجوز لير. بل لقد حصل أن نمت ليالي صيف كامل على شرفة شقتنا راجيا من صميم فؤادي أن أصاب بمرض السل فتنطفئ شمعتي رويدا رويدا في إحدى مصحات داڤوس قبالة الجبل السحري. وخلال معاشرتي لأبطال الخيال هؤلاء، كنت أحفظ الجمل النهائية عن ظهر قلب، وكذلك الأمثال والحكم التي كانت تتقطر ألما فتحتضنني بدفئها. كنت أكرر علي نفسي ألفاظا غير ألفاظي كي أهرب من نفسي، وبالخصوص كي أنجو من لغة أبوي

كان في حسباني آنذاك بأنني لا أفهم زوي بيرتگونگ التي كانت تموِّت نوربير هانولد السابق كي يتسنى لهما تبادل حبهما فيما بعد. لكنني الآن لست متأكدا من ذلك. لقد كان ينتابنى شعور غامض بأن التأويل الذي أعطاه فرويد لهذه الأقصوصة الغريبة له علاقة وثيقة بغرابتي الخاصة أنا شخصيا، وهذا الاكتشاف شجعني على المواظبة في تنقلي وترحالي بين الكلمات. أخذت أقرأ كل ما يسقط تحت قبضتي، وبعد قصة گراديڤا، وقعت يدي على نصوص أخرى لفرويد أصبحت مذاك جزءا من قراءاتي المعتادة. وهكذا ابتدأ تعاملي مع التحلبل النفسي، إلا أن هذا التعامل سيتخذ منعرجا فاصلا وحاسما بعد بضع سنوات، لكني لم أكن علي معي من ذلك آنذاك. فلقد بقي علي أن أفقد لغتي كي ابتدأ من جديد ومن مقام آخر - وكي أصبح حيا.

لقد أتاحت لي الموسيقى ملجأ أخر في هذه الفترة من حياتي. إن العزف على البيانو وخصوصا على المزمار يخلق عالما بدون كلمات، أو قل إنه عالم من لغة تتكون من نفَس ومن نوطات لا يمتلكها أحد غيري. إنها تقريبا حالة من اللذة. لكن كلمة  "لذة" هته تبدو لي وكأنها ما زالت عندي عرضة للمنع في عالمي الشخصي الذي يغلب عليه الغياب والحداد. ترجع إلي ذاكرتي أقوال معلم المزمار في تلك الوهلة. لقد كان مستاءا جدا من الشكل الأملس والفاتر لعرضي الموسيقي مما دفعه إلى وضع يديه على أسفل بطني وعلى ردفي وهو يصيح فائلا: "لعبُ الموسيقى وممارسة الجنس هما نفس الشيء".  لقد كان ينتظر مني صوتا موسيقيا أكثر امتلاء وأكثر دفئا. لذا فإنه أراد أن يدفعني إلى استخراج صوت تملأه الحياة وليس فقط تطبيق ما اكتسبته من تقنيةآنئذ احمر وجهي حتي الأذنين وانتابني ارتباك كدت من جرائه أن أهرب وأغادر قاعة الموسقى للتو. لكني أحسست بأنه كان على حق: فلو أني أدمجت ولو أقل القليل  من رغبتي ونزوتي الجنسية  الفائرة في نفَسي، فإنني  سأتمكن من جعل أداة الموسيقي تهتز بإحساس وقوة جديدين. لقد نسيت إسم هذا الأستاذ الذي كان من الممكن بفعلته تلك، لو أنها حصلت في أيامنا هذه، أن يُتهم بالاعتداء الجنسي علي الأطفال. لكن هذا الأستاذ بفعلته تلك، كان قد أسدى لي درسا لا مثيل له وفعل بي معروفا لا يقدر

لقد عمل فرويد في تعليقة على قصة گراديڤا بتلخيص نظريته في الكبت، من بين أمور أخرى. فنجده يرجع إلى فكرته حول "قمع الإحساس الشهواني" الذي يشكل منبع أغلب الاضطرابات النفسية. إنه وجد هذا القمع متجسد في شخص نوربير هانولد وهو يجوب شوارع بومباي. وأنا بدوري أجده يتجسد في شخصي وأنا أمام أستاذي. إن فرويد هنا يضرب مثالا على منظوره واضعا في نفس المستوى "حالات مرضى تم اختبارها فعليا وتمت مداواتها" وشخصية نوربير هانولد الخيالية. وهكذا نراه يتوصل إلى الخلاصة التالية: "كيف تم لهذا الروائي (جنسن) أن يحصل علي نفس المعرفة التي يتوصل إليها المحلل، أو على الأقل، كيف تم له أن يتصرف في كتابته وكأنه يتمكن من نفس معرفة المحلل؟". لم أكن انتظر أكثر من ذلك كي أقتنع بقيمة وفعالية المسلك الذي اتبعته، مسلك الكتابة الأدبية. لقد كنت تلميذا متميزا وكان الجميع يرغب في توجهي نحو دراسة الطب أو القانون. فيا لها من غباوة - كان يُرَدد على آذان أبوي - كي يكتفي هذا الشاب الموهوب بدراسة الأداب فقط.              لكن لا رجعة منى في ذلك. لقد أدركت بأن الآداب ستمدني بما كنت أحتاجه من كلمات كي أبقى على قيد الحياة، ولا أقل من ذلك. ولم أكن أدرك بعدُ بأن التحليل النفسي سياعدني عما قريب في أن أسكب في هذه الكتابة معنى جديدا وخصوصا لذة أخرى. إلا إن قولة فرويد هته بخصوص معرفة الكُتاب الأدباء لم تغادر ذهني أبدا. وحتى الآن، إنها لا تبرح فكري كلما ساءلت الجرائد أو المجلات بعض الأدباء بخصوص فائدة الكتابة الخيالية، طارحة عليهم السؤال المعهود: "ما جدوى الكتابة الأدبية". أما الأدباء فأغلبهم يرد علي السؤال بنوع من الفخر والاعتزاز: "لاشيء". لكنني أظن أنهم في قرارة أنفسهم يدركون الحقيقة المكنونة في قولة فرويد . إنهم يدركون بأن الآداب تساعدنا على تحمل حياتنا، وأن نلتقي بذواتنا وفي بعض الأحيان، تساعدنا على تضميد جروحنا وقروحنا. أن معرفة الكتاب الأدباء للنفس الإنسانية، ليست معرفة علمية ولا علاجية، إنما هي حدسية ولاشعورية٠ وفي هذا الصدد، لم يخطأ فرويد، هذا القارئ العظيم: فقد كان بإمكانه حقا أن يكتب مئات التعاليق الإضافية حول شخصيات خيالية وكأنها مرضى في حالة تحليل ومعالجة من طرفه

لقد كان على نوربير هانولد إذن أن يتيه في شوارع بومباي قبل أن يصبح شخصا آخر. أيكون هكذا فقدان هانولد لطريقه موازيا لفقدان لغتي؟ علاوة على ذلك، إن بطلنا الشاب، عندما بدت له زوي-گراديڤا أول مرة، فإنه غمغم بعض الكلمات بالإغريقية أولا، ثم بعد ذلك باللاتينية، قبل أن يتوصل بجواب منها بالألمانية. وبخصوص هذا الانعراج الضروري، يقول فرويد: "إننا تركنا بطلنا وقد ناداه نشيد طائر كناري، مشجعا إياه علي ما يبدو للسفر إلى إيطاليا. إنه سفر لم تكن دوافعة واضحة لديه على ما يبدو". ومن المؤكد أنني لم أكن لأتذكر قولة فرويد هذه من جديد، بعد زمن على قراءتها، عندما غادرت ألمانيا ولغتها بصفة نهائية، معتبرا أن "شيئا ما ينقصني لكني ما كنت أعرف ماذا".  وكما حدث لمختص علم الآثار، فإنه سيتسنى لي فيما بعد الوقوف على الدواعي الحقيقية لسفري هذا

لقد غادر أبويَّ مسقط رأسيهما بأوربا الوسطي في خضم الحرب الضارية وتوقف ترحالهما بألمانيا. لكنني لم أعلم بأن أبي كان يحلم باللجوء في بلاد الألزاس - وهو بلد أجدادنا الذين خلفوا لنا إسما عائليا ستراسبورجيا - إلا بعد سنوات من استقراري النهائي بفرنسا. لكن حمى التيفوس ومختلف الحوادث المتفشية في تلك الظروف، حالت بينه وبين حلمه وحطمت مشروعة. فليس من المستحيل إذن أن يكون فقدان هذا الأفق بالنسبة لأبي من قبيل ما لا يطاق. أن ذاك على كل حال، كان من قبيل ما لا يقال، ذلك أنه لم ينبس ببت شفة ولو مرة واحدة بهذا الطريق المسدود وهذا المشروع الجهض الذي وجد إبنُه نفسه، من حيث لا يدري، مرغما على إتمامه عوضا عن أبيهولم يحصل لي أن أتعرف على الفحوى الحقيقي لصمت أبي المطبق إلا من خلال مقال بجريدة يتعلق بمصير مشابه، مصير بعض اللاجئين الروم الذين استقر بهم الحال في ناحية البروفونس. فقط في تلك المناسبة العارضة، حصل استجدائي وبطريقة عنيفة، لأتساءل عن الأسباب الحقيقية لاختياراتي الشخصية


إنها بصمة تتكون مما تم كتمانه، انطبعت في أعماق أناي، بصمةٌ تنطلق مما تكبده أبي من فقدان لتنقلب إلى نقصان ذاتي لدي قبل أن يتم تعديلها وإعادة ترتيبها من قِبلي. وهذا ما يسميه فرويد "التحوير بالتحويل". ولكن، على غرار نوربير هانولد الذي وجد في النهاية أنه من الطبيعي أن تخاطبه گراديڤا بالألمانية، فإنني أنا أيضا لم أجد ألا سعادة  في انتقالي إلى لغة أخرى. وكأنه يلزمني أن أستقر بعيدا عن مسقط رأسي وبلدي كي ألاقي ذاتي حقا وكي أستقي كلماتي في لغة أخرى، كلمات يمكنني من خلالها في آخر المطاف أن أفسح موقعا للآخر في ذاتي.