كاردينال - الكلام الشافي - فصل ٢ من ١٨



II                                       

كانت الليلة التي تلت هذة الزيارة الأولى صعبة جدا. أخد "الشيء" يقفز بداخلي. لقد اعتدت منذ مدة طويلة ألا أرتاد النوم إلا تحت تأثير جرعة كبيرة من العقاقير، على الرغم من تحذيره إياي: "يجب عليك الإمتناع من تناول أي عقّار."

تكمشتُ في عُقر فراشي، مغمومة، منقطعة الأنفاس ومبللة عرقا. إذا ما فتحت عينَيَّ، أرى كل ما من حولي قد تفتت بما في ذلك الأشياء والهواء. أما إذا ما أغلقتها فإنني أرقب داخلي يتفكك بما يحويه من لحم وخلايا. إن كل هذا يخيفني. فلا أحد بإمكانه أن يصد عني هذا التصدع الشامل ولو لثانية واحدة. إنني أغرق ولم يعد بإمكاني التنفس. أصبحَتْ الميكروبات والزواحف والمواد السامة وكذلك المنتفخات المقيَّحة تملأُ كل رحبة من جسدي.

فلماذا هذه الحياة التي تحصل على غذاءها بأكل نفسها ؟ وما هذا الحمل الذي شبِع من الإحتضار ؟ ولماذا تنتاب الشيخوخة جسدي؟ لماذا يفرز سوائل ومواد نتئة ؟ لماذا كل هذا العرق وهذا التغوط وهذا التبول؟ لماذا كل هذه الأزبال ؟ ولماذا كل هذا التخاصم وهذا العراك بين كل ما هب ودب بداخلي، بين كل خلية وخلية، فتعمل الواحدة على الفتك بالأخرى حتى يتسنى لها أن تُشبع نهمها من جثة شبيهتها ؟ ولماذا هذه الدورة اللامتناهية والجبارة لكل هذه الخلايا التي تبتلع مثيلاتها ؟ فمن هو قائد هذا المِسخ المتكامل ياترى ؟ ومن هو هذا المحرك الأزلي الذي يحرك الغنيمة ؟ ومن الذي يهز ذرات جسدي بكل هذه القوة ؟ ومن الذي يراقب كل حَجرة، كل عشب وكل فُقاعة وكل رضيع، يراقب كل هذا بانتباه لا يشوبه خلل كي يقودهم الى عفونة الموت ؟ وما هو أكثر ثباتا من الموت ؟ وأين يمكن الحصول على الراحة إن لم يكن في حضن الموت إذ هي التحلل ذاته ؟ وإلى من يرجع مصير الموت ؟ وما هو هذا الورم المنتفخ والرطب، الغير مبالي بالجمال والغبطة والسلام والذي يتمدد على صدري فيخمد أنفاسي، فتراه يتطلع الى كل من الكراهية والحنان بدون تمييز ؟ وأين يجد الآخرون ما يكفي من القوة لتحمل عذاب "الشيء" ؟ وكيف يتمكنون من التعايش معه ؟ أهُمْ حمقى ؟ إنهم قاطبة حمقى بالفعل ! فلا يمكنني أن أختبئ منه، ولا يمكنني فعل أي شيئ قبالة هذا الوحش الذي وُضِعْتُ تحت تصرفه. إنه لا محالة آتي وبكل تأني. إنه يريدني أنا بالذات كي يجد لديَّ ما يشبع نهمه ويشفي غليله. 

إنه مجرى حياةٍ نتنة يجرفني، رغما عني، نحو موت محتومة تُشَكل الفظاعة عينها. كل هذا يلهمني خوفا لا يطاق ولا يحتمل. وبما أنه ليس لي قدَر آخر غير السقوط في بطن العفونة الخسيئ، فلْيحصل ذلك للتو. لقد كنت أنوي الإنتحار كي أختم حياتي هكذا. إلا أن النوم استغرقني حتى الضحى لكثرة تعبي، فاستيقظت منكمشة على نفسي وكأني جنين في بطن أمه. ولما استيقظتُ وجدتني أسبح في دمي الذي اخترقَ الفراش ليتساقط قطرات على الأرض.

أما الدكتور فقد قال لي : "لا تفعلي أي شيء. فأنا في انتظارك غدا." ست ساعات تفصلني عن الموعد وما أظنني قادرة على الصبر كل هذا الوقت. بقيت في فراشي ممتدة بدون حراك، جامدة وكأني مِتُّ، في انتظار الأسوء. رجع الى ذاكرتي حدثين مرعبين مع كامل تفاصيلهما. إنهما عبارة عن كابوسين خاطَراني وأنا في حالة يقظة.

ذات يوم إنهمر دمي أجلاطا سميكة يُخَيل للناظر أنها كِلْية أَعملُ بعناد شديد على تقطيعها إرَبا، تُحدث لدي أثناء انزلاقها مداعبة يملؤها الدفئ والنعومة. فتم نقلي بسرعة الى المستشفى كي يتم تنظيف رحْمي. ومرة أخرى سال مني دمي كحبل أحمر لا ينقطع سيلانه وكأنه صنبور مفتوح. أتذكر الذهول الذي أصابني من جراء ذلك، ثم الهلع الذي تلاه: "إن دمي سوف ينضب إن استمر الحال على هذه الوتيرة." ومرة اخرى تم نقلي الى المستشفى لإمدادي دما جديدا. وهاهم الأطباء والممرضات وقد انكبوا بإصرار على يديّ وذراعيّ ورجليّ يبحثون من جديد على وريد يضخون الدم من خلاله الى جسدي. وفي الصباح الباكر تم نقلي ثانية الى غرفة العمليات لتمشيط رحمي من جديد. 

لم أكن أدري أنذاك بأنني كنت أتخذ من دمي قناعا لنفسي حتى أفلح في إخفاء "الشيء". ففي أغلب الأحيان، كان هذا الدم الملعون يغمر كياني بالكامل، فيتركني منهوكة، لا حول ولا قوة لي في حضرة "الشيء". 

أتيت الى قعر الزقاق في الموعد المحدد. أتيت بجسدي ملفوفا ومعلّبا بطبقات من المنشفات ومن أحزمة القطن. انتظرت قليلا لكوني استبقت الموعد. خرج الشخص الذي سبقني. وكالبارحة سمعت فتح ثم إقفال الباب الأول ثم الثاني لمكتب المحلِّل. وفي النهاية دخلت المكتب وقلت للتو:

- "دكتور، إنني في منتهى الإنهاك".


أتذكر جيدا أنني استعملت هذه الكلمة للأنني وجدتها جميلة. وأذكر جيدا أيضا بأنني كنت أود أن يكون لي آنذاك وجه وهيئة يرثى لهما. أما المحلل فقد أجابني بكل لطف وهدوء:

- "ما هذه إلا اختلالات نفسبدنية وهي لذلك لا تهمني. حدثيني عن شيء آخر".

هذه المرة، تمنيت الأ أتمدد على أريكة التحليل ورجوت أن ابقى واقفة لأرُد وأقاوم. فهذه الكلمات التي فاه بها هذا الرجل صفعتني ملئ وجهي. لم يحصل أبدا أن تلقيت أعنف من تلك الصفعة. لقد تجرأ على القول بأن دمي لا يهمه ! إنها صفعة ويالها من صفعة. لقد تحطم كل شيئ. أثناءها تعطل نفَسي وكادت روحي أن تُزهق. إنه لا يريد أن أحدثه عن دمي، فعمّا يريدني أن أحدثه إذن ؟ عماذا ؟ فماعدا دمي ليس هناك إلا الخوف، ليس غير، ولا يمكنني أن أتحدث عنه ولا حتى التفكير فيه. 

بعدها انهارت اعصابي وانطلقتُ أبكي، وهو ما لم يَحدث لي منذ زمن. فهاهي دموعي التي تعلمتُ مقاومتها لشهور عدة، تهطل بغزارة فتخفف من ثقل ظهري وصدري وأكتافي. بكيت لحظة طويلة. تركتُني أقبع ذاخل هذه الزوبعة. وتركتها تخترق ذراعيّ وقفاي وقبضتيّ المشدودتين وكذلك فخذيّ الملتسقتين ببطني. منذ متى لم أحس بحنين الحزن الهادئ ؟ ومنذ متى لم يحصل لي أن تركتُ وجهي يتمرغ في حنان الدموع الممزوجة بقليل من الريق والرعام ؟ ومنذ متى لم أتذوق سيلان عرق الجهد الدافئ على يديّ ؟ 

وجدتُني هناك وكأني رضيعا في مهده تحنو عليه أمه وقد غلب عليه سبات الهضم وشفتاه ما تزالا ممتلئتين حليبا. كنت ملقاة بكل قامتي على ظهري وأنا طائعة راضية ومطمئنة. بدأت أتحدث عن القلق الذي ينتابني وتبين لي بأنني سوف أضطر للحديث عنه طويلا وربما لسنوات. وأحسست في داخل أعماقي بأنني قد أجد وسيلة للقضاء على "الشيء" الذي يكدر علي صفو حياتي. 

لكن ما إن انتهت الجلسة وأُقفل باب المكتب خلفي، حتي تذكرت فوران دمي وراودتني فكرة أن هذا الدكتور ليس إلا أحمقا أو مشعوذا من بين الحمقى والمشعوذين. فما هو هذا التنجيم الذي استحوذ علي ؟ يجب علي الآن أن أبادر بسرعة، أن أنادي طاكسي وأقصد فررا دكتورا حقيقيا. 

كان السائق لا ينقطع عن الكلام. فإما أنه كان ثرثارا وإما أنه لاحظ في هيئتي شيئا ما يثير انتباهه. كان يتكلم ويراقبني بدون انقطاع. ففي هذه الحالة، وبالخصوص نظرا للطريقة التي تقمطت بها قبل الذهاب عند الدكتور، لم يعد في مقدوري القيام بتلك التحريات الخاطفة والمستترة التي أخص بها ما ينهمر من دمي. وكلما كنا نقترب من عنوان الطبيب الذي دللته عليه، كلما اشتدت الحاجة لذلك التحري. إرتفعت لدي حدة الهيجان والعدوانية لحد أنني طلبت من السائق أن يستمر فى السياقة وفي نفس الوقت أن يوقف السيارة. لم يكن ليفهم ما بي.

في النهاية، جلست على حافة المقعد ثم أرخيت رأسي على ذراعي بعد وضعه على ظهر المقعد الأمامي. جعلته يظن أنني أنصت لما يقوله. وفي نفس الوقت، شرعت في التنقيب تحت جبتي. هتكت المناشف حتى وصلت الى منبع الدم. إلا أنني لاحظت أن ليس هناك شيء يذكر. فنزيف الدوم لم يرتفع الآن، بل يبدو وكانه أكثر استقرارا. على كل، كنت أنزف بقوة قبل ساعة، لحظة استعدادي للذهاب عند المحلل. لحظتها غيرت رأيي وأمرت السائق بالإتجاه نحو منزل ميشال. بعد ذلك انزويت في قعر المقعد الخلفي للطاكسي. ولربما قد يكون بإمكاني الإنتظار حتى بعد غد، يوم الجلسة المقبلة. 

صعدت السلالم جريا وأنا أقبض على أطراف ثيابي التي قمت بتمزيقها في الطاكسي. وبسرعة قذفت بنفسي في صالة الحمام. رميت بملابسي الداخلية المطلخة على الأرض ورميت بنفسي فوق المرحاض. لكن لا دم يسيل. إنه أمر غريب حقا ! لا دم يسيل. وفي هذا اليوم لم يكن بعد بمقدوري أن أعلم بأن الدم سوف لن يسيل أبدا بنفس الكمية التي كان يسيل بها فيما قبل، وبدون انقطاع مدة شهور بل وسنوات. فظننت أنه توقف عن السيلان لفترة وجيزة لن أُفَوت على نفسي تذوقها كما تَذوقتُ دموعي قبل برهة. اغتسلت ثم تمددت على الفراش فاتحة فخذي. أحسست بقدر عالي من الصفاء والنقاوة.

قال لي الدكتور : "حاولي أن تفهمي ما يلحق بكك، ما يخلق أو يخفف أو يرفع من حدة نوباتك. فكل ما يمنك تذكره له أهميته، سواء كان صوتا أو لونا أو رائحة وحتى الحركات والأجواء وكل ما يمكنك تذكره. أطلقي العنان في كلامك لتداعي الأفكار والصور".

في ذلك اليوم، وإن كنت لم أحصل بعد على مرونة كافية في مزاولة التحليل، فلقد تمكنت بسهولة من ملاحظة العلاقة التي حصلت بين نزيف الدم وبين توقف هذا النزيف بعد ذلك، مع ما توسط هذين الحدثين من أقوال الدكتور :"إن دمك لا يهمني، فحدثيني عن شيئ آخر". قول الدكتور هذا كان صفعة أسالت دموعي.

وفي تلك الليلة، احتفل ذهني بتحرره من وسواس الدم فانطلق يجول في أفكار وحسابات وعمليات عقلية يعمها الإرتياح والطمأنينة. كلها نشاطات ذهنية كنت فيما قبل أعتبرها ممنوعة علي. فكلما حاولت اقتفاءها إلا وأحسست بأن "الشيء" يحكم قبضته علي. ولكي أتمكن من مقاومته بعض الشيء، كان لابد لي أن ألوذ بكل حدة ذكائي وقوة تخيلي.

هكذا وبكل بساطة، تبين لي جليا بأنني تعرضت لعشرات وعشرات من الإختبارات والتحاليل وكانت النتيجة أن لا شيء يدل على أن هناك خلل يمس وظائف جسمي بمستوياتها المختلفة ؛ لا على المستوى الهرموني، ولا على المستوى الخلوي ولا على المستوى الدموي ولا على المستوى العضوي. لقد تجلى لي وبكل وضوح بأن سيلان دمي كان بالنسبة لي وكذلك بالنسبة للأطباء، بمثابة طافية إغاثة نستنجد بها حتى نطفو فوق أمواج بحر المجهول والغير المفهوم. "إني أنزف دما، إنها تنزف دما، لكن لماذا ؟ لأنها مصابة بمرض ما على المستوى الفيزيولوجي والعضوي، إنها مصابة بمرض خطير ومعقد، وقد يكون على شكل ورم أو انحباس أو تقطُّع... لذا فإن لم تدل نتائج الفحص الخارجي على شيء يذكر، يجب البحث والتنقيب بشكل معمق. يجب فتح جلدها جراحيا، ثم عضلاتها وشراينها وأحشائها حتي يتسنى الإمساك بالعضو المريض بعينه، وحتى يتم قطعه وحذفه بالمرة. وهكذا لابد أن ينقطع السيلان." وخلال كل هذه المسيرة، لم يحصل أبدا أن اعترف لأحد الأطباء، من اختصاصيي أمراض النساء ومن أطباء العقل والدماغ، أن اعترف بأن هذا السيلان قد يكون منبعه في "الشيء". بل بالعكس، إنهم صرفوا كل جهودهم في تفقيهي بأن "الشيء" يصدر عن الدم: "إن النساء غالبا ما يصبن بمرض الأعصاب لأن توازنهن الرحمي غير ثابت وغير صلب"، هاكذا يفترؤون.

في تلك الليلة، تبين لي بكل دقة ووضوح بأن "الشيء" هو صلب المسألة عندي وأن له علي كل السلطات. بت على مقدرة لقاومة "الشيء". لم يبق على نفس الغموض الذي كان عليه وإن كنت غير قادرة بعد على تحديد ملامحه بالكامل. لقد تقبلت ذلك المساء ولأول مرة تلك الحمقاء التي تسكنني وتقبلت أيضا وجودها الحقيقي ورغبت في تحمل مرضي كما هو. لقد فهمت بأنني أنا تلك الحمقاء بالذات. لقد كانت تخيفني لأنها كانت تحمل "الشيء" بداخلها. كانت تثير اشمئزازي منها بقدر ما كانت تجلبني اليها، مثلها مثل تلك الصناديق المرصنة التي يتم تجوالها محملة ببقايا أحد الصالحين. فَكم من ذَهَب ومن أحجار كريمة ومن زخارف، فقط لضم جمجمة ذات أسنان منخورة وعظام مٌصفَرّة ودم يابس ! وكم من مريد وقسيس حولها، مُحَملين مباخر وأعلام ولافتات ! وكم من أقوام بلهاء تردد ما حفظته من تعازيم، وهي تمشي محتفلة خلف بقايا جسمٍ حُطامٍ ! وكم من آهات وابتهالات تخرج من هذه الأفواه المتلعثمة ومن هذه الأنظار الغائبة، ومن هذه الأصابيع الملتفة والملتوية حول المسابيح ! هكذا كان حال الحمق عندي. 

أما الأن فلقد أصبحتُ على يقين بأن "الشيء" يقطن بداخل ذهني وليس في جسدي ولا حتى في العالم الخارجي. كنت أنفرد به وينفرد بي. وما حياتي كلها إلا مسألة تتعلق بنا الإثنين. وربما لهذا أخذ سلوكي الإنزوائي السابق معنا جديدا: فهو قد يكون نقلة الى الأمام وقد يكون تطورا. وربما قد يساعدني الحظ للعودة الى الحياة من جديد؟ لقد تألمت وعانيت كثيرا من المرفئ الذي انزويت إليه واحتميت به. لقد كنت ممزقة مفككة، أنتظر من الآخرين حلولا لا تزيدني إلا إيلاما منهم وإبعادا عنهم. وكان كل شيء يفقد معناه لدي: فما معنى كل هذا الهرج والمرج الذي يحدث الآخرون حولي؟ وما دلالة كل هذه الأقوال المختلطة والمبهة وكل هذه الحركات وكل هذه الأفعال المقننة والمتحضرة وحتى تلك المتوحشة، التي تتخذ بصددي؟ لم أعد قادرة على فهم المراد من تقسيم الزمن الى سنوات وتقسيم السنوات الى شهور والشهور الى أيام والأيام إلى ساعات ثم الى دقائق ثم افى ثواني. ولماذا يقوم الناس بفعل نفس الشيء في نفس الوقت؟ لم أعد أفهم شيئا، فأصبحت معاشرة أهلي بدون جدوى ولا معنى. وجدتُني هاكذا في وسط، إن لم يكن معاديا لي فهو غير مبالي بي. ومع ذلك، كان يلزمني أن أبرر أفعالي لمن يحيط بي ويلزمني أن أتهم نفسي بالأعمال السيئة التي تنسب إلي وأن أطلب المغفرة عما بدر مني. ومع مر السنين كانت أفكاري تزيد اختلاطا لدرجة أصبحت أحس أكثر بانزلاقي نحو الأسوء والأقبح والشنيء والدنيء. سقط اعتباري لنفسي بالكامل، فأصبحتُ بمثابة نفاية في نظري، بمثابة شذوذ وذنب في الوجود والأخطر من ذلك أنني ظننت بأن خطيئتي تكمن في صلب كياني. وظننت أنه بمزيد من المثابرة والجهد، وبمزيد من الإرادة والتعقل، بالأنصات والإمتثال للنصائح التي تهطل علي، فإني لا محالة أكون من فصيلة الخييرين. إلا أنني، ونظرا لتخاذلي ولتكاسلي ولحقارتي، فإني اخترت البقاء في شلة الفاسدين وسقطت في الخساءة والدناءة الى أبد الآبدين. بدني أيضا انتفخ وارتخى. فلم يكن لي بد من أن أراني قبيحة في الناطن كما في الظاهر.

أما منذ ذلك المساء، لما حدثني الدكتور بطريقة صائبة ولما توقف سيلان الدم، أنشأت في تغيير اعتباري لذاتي ولم أتواصل في إدانتي نفسي. فما هو ياترى كنه هذه النقلة التي أنبثقت بفضل هذا الرجل القصير القامة؟ وما هو كنه هذه الرغبة التي تدفع بي. منذ ذلك الحين، وجدتُني مصرة على مواصلتي مشواري الجديد. كنت كتلك النحلات التي لا أحد يستطيع إزاحتها عن طريقها في بحثها الجاد عن الزهور اللائقة للرشف. أما ما سانتجه من عسل، فسيكون لامحالة توازني النفسي والبدني، ولا شيء آخر يهمني غير ذلك. لم أن أفكر في شيء آخر لدرجة أنني نسيت أن أكلم عمي بالتيلفون وحتي زوجي فإني لم أطلعه بالأمر إلا في لحظة جد متأخرة.