ألف جلسة وجلسة ـ كتاب











 عبد الهادي الفقير 


ألف جلسة وجلسة 
لحظات مع فرويد في التحليل النفسي








فهرس

1 - تقديم 
     - في فن التحليل النفسي

2 - بين الكبت واللاشعور 
     - الحالة الأولى: بكارة لم تفض...  
    - الحالة الثانية: ... وبكارة يرجى ويخشى فضها

3 - بين التحويل والتأويل
     - الحالة الثالثة: الرسالة الملعونة
     - الحالة الرابعة: الشاب الأبله
     - الحالة الخامسة: ماري والأنوثة المجهضة    
                      
4- خاتمة

5 - إضافة 
سيجموند فرويد: صعوبة أمام التحليل النفسي (ترجمة)

6- مراجع 




1
تقديم
في فن التحليل النفسي

ثورات فكرية ثلاث هزة الإنسانية هزًّا وأسدت ضربات قسوى لتَجَبّرها وتعَنتها النرجسيين: فتلك أولا الثورة الكوبيرنيكية التي أنزلت الأرض درجات من مقام المركز بين السماوات. وبعدها ثانية الثورة الداروينية التي نزعت عن الإنسان تفوقه المُزعم والمفترى على سائر المخلوقات. وثالثا يأتي دور الثورة الفرويدية التي زعزعت ثقة الأنا العظامية بنفسه. فهذا الأنا الذي شد ما ادعى ويدعي بسيادته الواعية والمتعالية على كل أنماط وأشكال العطاءات الفكرية، هاهو ذا رقا لللاشعور، ذاك السيد الأجل والأعظم في دار الأفكار والأفعال والسلوكات الإنسانية؛ الطيب منها والخسيء، الرفيع منها والمتدني الشاذ منها والقويم.

إن اكتشاف فرويد لآليات اللاشعور وللقوانين التي تحركها وتنظم سيرها، فتح أبوابا ونوافذ جلى أمام الإنسانية، مكّنتها ومازالت تمكنها من تفقهٍ أعمق لمكوناتها الأنتروبولوجية ومن إدراك أدق لحوافزها النزوية، التدميرية منها والإبداعية، ومن استجلاء أفسح لإمكاناتها العقلية والفكرية. 

ومن ثم، فقد تبين إثر الإكتشاف الفرويدي بأن هذا الأنا العارف الذي يَتشدق به ويَستند عليه جل خبراء النفس والعقل والسلوك، التقليديون منهم والعصريون، كان ومازال وسيزال في مقام العبد المسود، يئن تحت سطوة اللاشعور الذى هو سيد الموقف في جل الأحوال والحالات. فلقد تبين بالفعل بأن اللاشعور هو الذي يسود ويقود هذا الأنا في أغلب توجهاته. إنه يتفنن في التأثير البالغ على وظائفه وما يرتبط بهذه الوظائف من عقل وذكاء وتفكير. 

فمهما وصلت اليه المعارف العلمية من دقة وعمق، يُعلِّق عليهما خبراء السلوك آمالهم للتضييق عن مفعول اللاشعور وللتبخيس من قيمته، ومهما بلغته المنهجيات العلاجية التطويعية منها أو الإنضباطية من جدة وتقنية لإغفال تواجده أو لإبعاده أو لإغلال وتكبيل سيروراته، فاللاشعور يبقى دائما وأبدا أعوص من حساباتها وأبعد عن متناولها. إنه يمازحها مرة ويناورها أخرى ويوقع بها مرات في أفخاخٍ وزلاتٍ ينصبها لها فوران الدوافع النزوية وتتفنن في ترتيبها أو خلطها الرمزية الدلالية وفق قواعدها  المحدَّدة.

وهذا ما يدلنا عليه الخطاب الهستيري الذي علا ويعلو صوته في كل الرحاب والأزمان وإن عمل ويعمل المتزمتون، سواء كانوا دينيين أو علمويين، بكل ما يملكون من قوة على تكميم فمه وتكتيم صوته. فالخطاب الهستيري هذا، بشكاويه المتعددة وطلباته المتكررة الى حد التشنج، يعمل جاهدا على الرفع الى أعلى القمم بسطوة السادة، فِعلية كانت أم خوخاء وكذا على إعلاء معارف الخبراء، دامغة كانت أم جوفاء، ليُلقي بها ثانية أسفل سافلين. فتراه داهسا لها بقدمي المتعالي المتكبر، فلا سطوةُ السيد كيفما كان علو مرتبتها، هي كفيلة بضبط وترتيب الجانح من نزواته ولا معرفُة الخبير، مهما كان علو مستواها في سلم المعارف، هي قادرة على تفهم وفك رموز ما تعقَّد وأُلغز في سراديب لاشعوره. 

فعلى إثر هذا الإكتشاف تعمقت في جل أنحاء الأرض البحوث الإناسية والإجتماعية وتعددت أبعاد ومجالات العطاءات الأدبية والفنية وتجددت بكثير من الدقة والجدية، النظريات ومناهج التنقيب حول مسببات الإختلالات العقلية والإنحرافات السلوكية، فردية كانت أم جماعية. ولم يكن مثقفوا العالم العربي في تراجع عن الاستفادة والإستنارة بهذا الإكتشاف، بل إن جمعا من بينهم قد حذا في ذلك حذو جل مثقفي الأقطار التي استنارت بضيائه واستفادت برشده.

فمنذ زمن كتُبُ ومقالات عدة نشرت وفرضيات شتى من هذا المنظور طُرحت وعُرضت وفحاويها نوقشت في مختلف أنحاء العالم العربي من مشرقه الى مغربه. فحاول بعض المجتهدين العرب التقريب بين النظريات والمفاهيم التحليلنفسية وبين المعطيات الإناسية والثقافية للأقوام العربية الإسلامية وبعضهم حاول تطبيق المفاهيم التحليلية على ما سموه بالشخصية العربية لدراسة مختلف جوانبها وأنماط علاقاتها بأوساطها ومرجعياتها الحضارية. 

أما البعض الآخر، وهو من فريق الممارسين العياديين لهذا الفن، فلقد قصد الإستعانة بما قدمه هذا المنظور من جدي وجديد في تفهم وعلاج الإضطرابات النفسية. وهكذا ومن هذا المنحى بالضبط، فإن التحليل النفسي ليس محض منظومة فكرية. فهو ليس من باب الوقفات التأملية أو الشطحات الذهنية وإنما هو نتاج خبرة دؤوبة ملتصقة بالواقع الحي، واقع الإنسان الذي يئن تحت وطأة الإضطرابات والأمراض النفسبدنية التي لم يجد في غير التحليل النفسي سبيلا لإستتبابها وفك رموزها وحل تعقداتها واستكانة قروحها. لذا فضّلتُ في هذا الكتيب أن أعرض لبعض ملامح التحليل النفسي انطلاقا من الجانب المراسي والعلاجي فقط، متجنبا كل تلك التنظيرات والنقاشات الفكرية السجالية التي قد لا تؤدي في بعض الأحيان إلا الى التعتيم والإبهام بخصوص هذا الفن المراسي.

وهكذا فإني سأعمد هنا الى التعرض لبعض المفاهيم الأساسية للتحليل النفسي مثل مفهوم اللاشعور ومفهوم الكبت ومفهوم التحويل ومفهوم التأويل. إلا أنني لن أعرض لهذه المفاهيم إلا من خلال أمثلة حية ومن خلال حالات مرضية تم علاجها بعد تحليلها بهذا الفن المراسي. وسوف أستقي  أغلب الأمثلة من عمل فرويد بالذات إذ هو الذي فتح أمامنا أبواب هذا المراس وهو الذي قاد خطانا بدربه.