لاكان ـ تحليل لشخص عربي - فصل



جاك لاكان



 مقتبس من تحليل 

لشخص عربي النشأة  
    



 


تقتصر هذه الترجمة على الفقرة الثالثة والأخيرة لدرس 19مايو1954 من سيمنار جاك لاكان، الكتاب الأول، بعنوان كتابات فرويد التقنية، لسنة 1953ـ1954،  المنشور بباريس بدار السوي، سنة الطبع والتوزيع 1975 

 الصفحات المترجمة : 219 الى 223 


.......
هناك وظيفة جد أساسية لدى الفرد في سيرورة إدماجه الرمزي لسيرة حياته. وقد لاحظ المختصون منذ زمن أن المحِلل النفسي يحتفظ لهذه الظاهرة التي سميت بالأنا الأعلى بمكانة ذات دلالة. إلا أنه يستحيل فهم أي شيء عن هذه الظاهرة إن لم يتم الرجوع الى أصولها. ففي تاريخ النظرية الفرويدية، تم تمظهر الأنا الأعلى في البداية على شاكلة الرقابة. وكان بودي أن أعطيكم حينه مثالا للملاحظة التي قدمتها لكم سابقا والتي مفادها أننا منذ المنشإ مندرجون تحت بُعد الكلام مع ما يلازمه ويوازيه من أعراض ومن وظائف لاشعورية للحياة اليومية. إن المهمة الملقاة على عاتق الرقابة تتلخص في الخداع بواسطة الكذب. لهذا لم يكن اختيار فرويد لكلمة الرقابة مجانا. فنحن هنا أمام وظيفة تشق عالم الفرد الرمزي جزأين : جزء يسهل التقرب إليه والتعرف عليه وجزء في غير المتناول بل ويستحيل على الإطلاق. فعلى مستوى الأنا الأعلى، نجد نفس هذا المفهوم وإن لحقه تغيير طفيف وتم التعبير عنه بنبرة متقاربة.

سأركز مباشرة على ما يجعل مفهوم الأنا الأعلى، بتذكيري لكم بأحد وجوهه، مناقضا للكيفية التي يتم استعماله بها عادة. فقد جرت العادة بالتفكير في الأنا الأعلى على مستوى توتر كاد رده الى مرجعيات غرائزية كالمازوخية البدئية مثلا. ولقد ذهب فرويد الى أبعد من ذلك في هذا الإتجاه. ففي مقالته "الأنا والهو" نجده يصر على أن المرأ إن بالغ في قمع غرائزه، أو إن شئنا، كلما تضاعفت أخلاقية سلوكاته فإن الأنا الاعلى يغالي في شدته ويصبح قاسيا، ملزِما ومُصرا. فهذه ملاحظة عيادية غيرة حقة كلية إلا أن فرويد هنا إنساق مع العصاب الذي شكل موضوع اهتمامه. إنه ذهب الى حد اعتبار الأنا الأعلى كإحدى هذه المواد السامة التي، خلال سيرورتها الحيوية، تفرز مواد سامة أخرى من شأنها، في ظروف معينة، إيقاف دورة إنجابها. قول كهذا يدفع بالأشياء الى مدى بعيد. إلا أننا مازلنا نعثرعلى نفس الفكرة كامنة في هذا المنظور السائد حاليا داخل التحليل النفسي حول موضوع الأنا الأعلى.

فخلافا لهذا المنظور، يجب توضيح مايلي : إن اللاشعور لدى الفرد يشكل بصفة عامة إنشطارا في النظام الرمزي. إنه يشكل لديه انحصارا بل واستلابا ناتجا عن هذا النظام الرمزي. فالأنا الأعلى هو بمثابة انقسام شبيه يحصل داخل النظام الرمزي الذي تم للفرد إدماجه. 

إلا ان هذا النظام الرمزي لا يقتصر على الفرد فحسب، بل إنه يتجلى ويتحقق في اللغة باعتبارها لغة مشتركة، بل إنها نظاما رمزيا شموليا لما تحظى به من سطوة تفرضها على الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. فالأنا الأعلى هو ذاك الإنشطار الذى يحدث لدى الفرد ـ وإن كان يتجاوز ذا الأخير ـ بخصوص علاقاته بما نسميه بالشرع.

وبما أنه ليست لكم بعد دراية بهذا النسق بسبب ما حصلتم عليه من تعليم في التحليل النفسي. فلربما تعتقدون أنني قد تجاوزت الحدود. إن هذا الاعتقاد واه بالأساس، وسأبين ذلك معتمدا مثالا يخص أحد مرضاي، جاء عندي بعد تحليل سابق قام به مع محلل آخر. لقد كان يعاني من أعراض فريدة من نوعها، تمس مجال نشاطات اليد، وذلك لما لهذا العضو من دلالة في مختلف الأنشطة الجد مسلية والتي سلط التحليل عليها أضواءا ساطعة. فالتحليل السابق لهاذا المريض، والذي تم تسييره على المنحى التقليدي، قد انساق ، وبدون جدوى، في التشديد على إرجاع هذه الأعراض المختلفة الى الممارسة الشبقية الطفولية وحول ما قد تستدعيه من موانع وقموعات من طرف الأهل. فهذه الموانع تكون قد حصلت فعلا لكونها دوما حاصلة إلا أن هذا المنحى، للأسف، لم يفسر شيئا ولم يقدم للمريض إسعافا يذكر.

إن هذا الشخص مسلم الأصل ـ وهذه مٓعْلمة من حياته لا يمكن تجاهلها وإن كان دوما من غير الصائب عرض حالات خاصة أثناء التدريـس ـ إلا أن أحد العناصر الأشد إثارة للإنتباه في سيرورة تطوره النفسي يكمن في ابتعاده عن التشريع القرآني بل ونفوره منه. في حين أن هذا التشريع يمتلك من الشمولية ما نعجز عن توقعه في إطار مجالنا الثقافي الذي تم تحديده بقولة : “أرجع لسيزار ماهو لسيزار ولله ماهو له”. أما في الوسط الإسلامي فبالعكس من ذلك، فإن للشرع من الشمولية ما يجعل فصل المستوى القانوني عن المستوى الديني مستحيلا كلية. يمكن القول إذن أن لدى هذا الفرد المنتمي لهذا الوسط الثقافي بأنسابه وبوظائفه وبمستقبله، تجاهلا بالشريعة القرآنية. وهذا شيء أثار انتباهي انطلاقا من الفكرة الصائبة، حسب اعتقادي، والتي مفادها أنه من غير الممكن تجاهل الأنتماءات الرمزية لأي فرد كان.

وهذا ما يؤدى بنا صوبا الى صلب الموضوع، ذلك أن الشريعة الإسلامية تنص فعلا بقطع يد كل من أُثبتت تهمته بالسرقة. فهذا الفرد وجد نفسه إبان طفولته وسط دوامة عارمة إذ أتى الى مسامعه ـ ويالها من كارثة بحيث أن أباه الموظف فقد منصبه ومكانته ـ بأن أباه سارق محتال مما يلزم قطع يده.

طبعا، إن هذا القانون لم يتم تنفيذه منذ زمن بعيد، مثله في ذلك مثل قوانين مانو القائلة بأن من اقترف غثيان المحارم مع أمه يَبتر بنفسه أعضاءه التناسلية ويتجه نحو الغرب حاملا إياها في يده. إلا أن هذا القانون لا يزال مسجلا في النظام الرمزي الذي يؤسس العلاقات الإنسانية والمسمى شرعا. فما سمعه هذا الفرد لم يبق لديه منعزلا بصفة متميزة عن باقي مضمون الشرع فحسب بل إنه استرسل في أعراضه المرضية. إن باقي المرجعيات الرمزية لمريضي هذا، مع كل تلك الخبايا البدائية التي تنتظم حولها علاقاته الأساسية بعالمه الرمزي، قد تمت زعزعتها بل وإسقاطها نظرا للبروز المتميز الذى حظي به لديه هذا القانون. فهذا الأخير يحتل عنده مكانة المركز لنماذج تعبيرية شتى، سواء كانت عرضية لاواعية، غير متقبلة منه ومتنافرة. فهي نماذج كلها مرتبطة بهذه التجربة الأساسية التي حصلت أثناء طفولته.

فمع تقدم التحليل، كما أشرت لكم، تتجلى تلك الثغرات ونقط الإنكسار في تركيب الذات ووحدتها كلما تم الإقتراب من العناصر الصدمية المبنية على صورة لم يتم إدماجها بتاتا. فهذا هو الحال بالنسبة لكل إنسان، إذ أن كل ما سيحصل له بصفة خاصة، يتموقع داخل العلاقة التي تربطه بالمجال الشرعي الذي ينخرط فيه. فتولفة حياته تتم بواسطة الشرع، أي بواسطة عالمه الرمزي الذي به ينفرد عن كافة الناس.

إن التقاليد واللغة تعمل على تنويع مرجعيات الفرد. إلا أن تعبيرا متنافرا مع الشرع ومنسيا من طرفه، تعبيرا يحل محل الصدارة من طرف حدث صادم، تعبيرا يختزل الشرع في نقطة ذات طابع غير مقبول وغير مواتية للإدماج، يخلق تلك الهيأة العمياء والمتكررة التي ندرجها عادة تحت إسم الأنا الأعلى.

أتمنى أن يكون لهذه الحالة الوجيزة من الوضوح والتجلي ما يثير انتباهكم لهذه السمة التي يتركها اهتمام المحللين جانبا وإن كانوا غير قادرين على إهمالها كلية. فكل المحللين يشهدون بالفعل بأنه ليس هناك من اختتام ممكن لتحليل نفسى إن لم يتم عقده في نهاية المطاف حول هذه المَعلمة الشرعية والمشرِّعة والتي تسمى بعقدة أوديب. فعقدة أوديب من الضرورة بمكان في الممارسة التحليلية مما جعل مكانتها رفيعة منذ بداية نتاج فرويد وماتزال كذلك حتى النهاية. إنها لكذلك لكونها تحتل مكان الصدارة في هذه الآونة من ثقافتنا داخل إطار الحضارة الغربية.

إني أشرت قبل حين إلى انقسام مجال القانون في إطار ثقافتنا الى مستويات عدة. والله عليم بأن تعدد هذه المستويات ليس من شانه تبسيط الحياة للفرد لكون هذه المستويات في تنازع مستمر فيما بينها. فكلما تعقدت التعابير المختلفة لحضارة ما فإن ارتباطها بالأشكال الأكثر بدائية للقانون يتم اختزالها ـ وهذا ماتعنيه النظرية الفرويدية بالضبط ـ في هذه النقطة الأساسية، ألا وهي عقدة أوديب. فهذه على مستوى حياة الفرد بمثابة صدى لمجال القانون كما يتبين لنا ذلك من خلال العُصابات. أنها نقطة التقاطع الأكثر ثباتا والتي لابد من وجودها على الأقل. لا يعني هذا القول بأنها الوحيدة وإلا فسيُعتبر خروجا عن مجال التحليل النفسي الرجوع الى عالم الفرد الرمزي الذي من الممكن أن يكون على مستوى عال من التعقيد بل ومن التناقض، وكذلك الرجوع الى موقفه الخاص به والمرتبط بمقامه الإجتماعي، بمستقبله، بمشارعه حسب المعنى الوجودي للكلمة، وبتربيته وبتقاليده.

إننا لم نتخل أبدا عن القضايا التي تطرحها علاقات رغبة الفرد بكافة النظام الرمزي والذي هو مدعو، بكل معنى الكلمة، لإتخاذ مقام له بداخله. إن لزوم وجود بنية عقدة أوديب لن يعفينا عن ملاحظة بنيات أخرى بنفس المستوى في مجال القانون بإمكانها، في حالة معينة، أن تلعب دورا ذا تاثير مماثل. وهذا ما توقفنا عنده في هذه الحالة العيادية الأخيرة.

فإذا ما اكَتَمل عدد الدورات التحليلية اللازمة لإبراز المواضيع المستثمرة من طرف الفرد ولإستيفاء القصة المتخيلة لحياته بتسمية وإعادة إدماج الرغبات المتتالية والمتناقضة والمُعلقة لديه والمقلقة له، رغم ذلك لم يتم إنهاء الكل. [...] لكن هل نحن ملزمين بدفع التدخل التحليلي حتى مستوى الحوارات الأساسية حول مفاهيم العدالة والشجاعة وما إليها، كما هو الحال في إطار التقليد الجدلي الكبير؟ هذا سؤال لا تسهل الإجابة عنه لأن الإنسان المعاصر، والحق يقال، أصبح أقل مرونة في تناول هذه المواضيع الكبرى. إنه يفضل فك القضايا انطلاقا من تعابير مثل السلوك والتكيف وأخلاق الجماعة وغيرها من الخزعبلات، مما يرفع من جدية المشكل الذي يطرحه التكوين الإنساني للمحلِل.
.........