لاكان - كتاب : ركائز التحليل - فصل ١٢ من ٢٥

الجنس في مواكب الدال

الواقع الجنسي لللاشعور 
في علم الفلك الصيني
نزع الجنس عن الواقع
باب الدخول الى اللاشعور
أنَّا أو. ورغبة فرويد

ختمتُ الحصة الماضية بعبارة ساعدني الحظ أن أدرك بأنه قد تمت استساغتها وهو ما لا يمكنني أيعازه إلا إلى ما كانت تَعد به، لإنه، بالنظر الى شكلها الجد مقتضب، لم يحصل  التفصيل فيها بعد. لقد قلت بأننا سنضع ثقتنا في التعبير  التالي: "إن التحويل هو تفعيل واقع اللاشعور". إلا أن ما تم التعبير عنه هكذا هو بالذات ما يتم تفاديه غالبا لدى المحللين أثناء تحليل التأويل. 

1

إلا أنني أجدني وأنا أطرح هذا التعبير في وضعية إشكالية، إذ مالذي قدمته تعاليمي بخصوص اللاشعور؟ إن ما قدمَته يتخلص في كون اللاشعور هو مجمل تأثيرات الكلام في الذات. إنه البعد الذي تتحدد الذات من خلاله أثناء تبلور تأثيرات الكلام فيها مما يفضي إلى فكرة كون اللاشعور مبنين كلغة. إن هذا المنظور من شأنه أن ينتزع اقتراب اللاشعور من جانب أي واقع كان، ماعدا واقع تأسيس الذات. ومع ذلك فإن تعاليمي في تبلورها، كانت تصبو الى إحداث حالة أَعتبرها حالة تحويلية لدى كل من يستمع إلي. وحتى أنبه من هم أغلى علي من بين مستمعي، وأخص بالذكر المحللين، إلى موقف يتناسب مع ما تتطلبه الخبرة التحليلية، أقول لهم بأن طريقة استعمال المفاهيم أيضا، انطلاقا من المقام الذي يصدر منه كلام المعلم، يجب أن تأخذ هي كذلك بعين الإعتبار مفعول الصيغ التعبيرية على المتلقي. إننا جميعا، وحتى من هو ف مقام المعلم، كلنا في علاقة مع اللاشعور الذي نعمل ليس فقط على إخراجه الى واضحة النهار وإنما أيضا نقوم بتوليده.

لندخل في صلب الموضوع: إن واقع اللاشعور - ويالها  من حقيقة لا يمكن تحملها - هو واقع الجنس. ولقد شدد فرويد على ذلك دائما وأبدا وفِي كل مناسبة. 
فمنذ ذلك الوقت الذي عمل فيه فرويد على ترتيب اكتشافه لللاشعور، حوالي 1900 أو ما سبقها بقليل، حصل بعض من التقدم العلمي بخصوص المسائل الجنسية. وهمها كانت درجة  اندماج هذا المنظور العلمي للجنس بداخل تصورنا الذهني، فلا يحق لنا اعتبار هذا التصور وكأنه وُجد منذ الأزل. فمنذ ذلك الحين إذن أصبحنا نعرف الشيئ الكثير عن الجنس. أصبحنا نعلم مثلا بأن التقسيم الجنسي، بكونه يسود الغالبية العظمى من الكائنات الحية، هو ما يضمن استمرارية النوع.

          وعلى هذا المستوى ليس من المهم أن نقوم، على شاكلة أفلاطون، بوضع الكائن الحي، بجانب عالَم الأفكار، أو أن نقول، مع أرسطو أيضا، بأن النوع لا تواجُد له إلا من خلال الأفراد الذين يجسدونه. لنقل إذن بأن النوع يستمر ويتواصل على شاكلة أفراده. لكن يبقى أن الحصان الفرد مثلا، ينضوي تحت نوع الحصان، بحيث أن كل حصان بحد ذاته هو عابرٌ وفانِ. إنكم تدركون هكذا بأن الرباط بين الجنس والموت، موت الفرد، هو شيئ أساسي.

فبفظل التقسيم الجنسي، أصبحت الحياة ترتكز على التزاوج الذي عملت التقاليد المتراكمة على تثبيته في قطبين متباينين ومتباعدين، قطب ذكوري وآخر أنثوي. فها هنا يكمن بُعد الإنجاب. وحول هذا المعطى الأساسي تم منذ الأزل تجميع و ملاءمة خصائص أخرى، مرتبطة إلى حد ما بهدف الإنجاب. ولا يسعني هنا إلا أن أشير إلى ما يرتبط، على المستوى البايلوجي، بالتمايز الجنسي الذي يتخذ شكل خصائص ووظائف جنسية ثانوية. إننا نعلم اليوم كيف ينبني في المجتمع، ارتكازا على هذه المعطيات، تقسيما وتوزيعا للأدوار والوظائف داخل لعبة تناوبية. وهو ما تمكنت البنيوية المعاصرة من إعطائه تحديدا جيدا، عندما بينت بأن المبادلات الأساسية تبلورت على مستوى الدال، فتمحورت حول النسب بكونه لا يتطابق مع التوالد الطبيعي ومع السلالة البايولوجية. فها هنا نتوقف على البنيات الأولية للعملية الإجتماعية، ويمكن قراءة هذه البنيات بمثابة أنساق مترابطة ومتداخلة العناصر. إن ولوج هذه الأنساق بداخل الواقع الجنسي يؤدي بنا إلى طرح السؤال حول ما إذا كان هذا هو المسلك بالذات لولوج الدال في العالم، في عالم الإنسان.

هذا السؤال من شأنه أن يضفي الشرعية على القول بأن الدال قد ولج العالم مرورا بالواقع الجنسي. وهو ما يعني بأن الإنسان قد تعلم هكذا كيف يفكر. وهذا ما يشكل حقل دراسات مستجدة ابتدأت بدراسة جادة لانقسام الخلية الحية. فكان من نتائج هذه الدراسة أن توضحت السبل التي يتم من خلالها نضوج الخلايا الجنسية، وبالخصوص سيرورة التقليص المزدوجة. فما يتعلق به الأمر في هذا التقليص، هو ضياع وفقدان بعض العناصر الكروموسومية. والكل يعلم بأن هذا الإكتشاف قد أدى الى تكوين علم الوراثة. فما يمكن لنا ياترى  استنتاجه من علم الوراثة هذا إن لم تكن الفكرة المتعلقة بالوظيفة المركزية التي تلعبها التركيبة أو التوليفة النسقية في تحديد عدد من العناصر المكونة للكائن الحي، وذلك بعملها في لحظات معينة، على لفظ الباقي من العناصر؟

فإن طاب لي أن أشير في هذه المناسبة  إلى وظيفة الموضوع "أ"، فإني لا أتسارع مع ذلك الى الإنسياق في مقارنة جد تأملية، وإنما فقط لكي أشير إلى تناغم ألغاز الجنس مع لعبة الدال. أنا لا أفعل هنا سوى تسليط الضوء وإعطاء الحق للفكرة التي تؤكد بأن العلوم البدائية قد ترسخت منذ القدم في نمط من التفكير يلعب على تعاكسات عدة كتلك التي تقوم بين الين واليانغ، بين الماء والنار، بين البارد والساخن، وتجعلهم هكذا ينطلقون جميعهم في رقصة متناسقة. ولقد تم اختياري لهذا اللفظ ليدل على أكثر مما يحمله من استعارة ممكنة. لإن رقصة هذه التعاكسات ترتكز على رقصات طقوسية مرهونة أساسا بعملية التقسيم الجنسي بداخل  المجتمع.

وسوف لن أقوم بإعطائكم هنا درسا ولو مختصرا بخصوص علم الفلك الصيني. لِتستمتعوا بفتح كتاب ليوبولد دوسوسير، فسترون بأن علم الفلك الصيني يرتكز على لعبة الدَّوال التي يدوي صداها من أعلى الهرم الى أسفله، سواء في مجال السياسة وفي بِنية المجتمع وفي نسق الأخلاق وحتي في تسيير أدق الأفعال. إلا أنه مع ذلك يبقى علم فلك عِلما جيدا جدا. يحق القول إذا إن كل ما يحصل في السماء، وحتى منذ زمن بعيد، ما كان بإمكان إدراجه إلا بداخل تركيبة واسعة من الدَّوال.

هكذا وبشيئ من المبالغة، يمكننا اعتبار العلوم البدائية بكونها نوعا من التقنية الجنسية، إلا أنها مع ذلك كانت علوما حقة. إن الملاحظات الجيدة لهذه العلوم تبرهن لنا على ما كان للصينيين من نظام جد فعال، منذ زمن بعيد، بخصوص التغيرات التي تطرأ مثلا على تواتر الليل والنهار. فليس في هذه العلوم من فاصل بين الخبرات المجمعة والمفيدة في نظر الجميع وبين المبادئ التي كانت تقوم عليها وتوجهها. وبالمثل، لا يمكن القول إن العقلية البدائية هي مجرد خيال وسراب بل إنها كانت، كما أكد على ذلك ليفي ستروس، خزانا لتجميع هائل لخبرات جد نافعة ومفيدة للمجتمع.

إلا أنه حصل مع ذلك أن أتى زمن انقطعت خلاله أواصر الصلة بين الإيثار الجنسي وهذا الميكانيزم. لكن هذه القطيعة، لم تحدث إلا في زمن جد متأخر، في زمن أصبحت فيه وظيفة الدال جد مُضمرة، وأقل وضوحا. وسأمثل على ما أود قوله بمايلي: فبعد الثورة الديكارتية وبعد الثورة النيوتونية، لازلنا نلاحظ في قلب النزعة الوضعانية، نظرية دينية تَعتبر الأرض كصنم عملاق، وهي نظرية جد متناسقة مع ما قاله كونت جازما بأنه لن يكون أبدا بإمكاننا معرفة التركيبة الكيميائية للكواكب، وبأن هذه الكواكب ستبقى على الدوام قابعة بمقامها ومشدودة إليه. بمعنى أنها تقوم بوظيفة  دوال محضة، لا غير. إلا أن ما حصل أنذاك من تقدم في غلدراستةالعلمية للضوء، جعلنا نلاحظ دفعة واحدة أشياء جمة عن تكوين الكواكب بما في ذلك عناصرها الكيميائية. وهكذا حصلت قطيعة تامة بين علم النجوم وعلم التنجيم. لكن هذا لا يعني بأن علم التنجيم قد فقد فعاليته وحيويته بالنسبة لغالبية الناس. 

2

فإلى ما يصبو إليه حديثي هذا؟ إنه يصبو الى دفعنا للتساؤل فيما إذا كنا ملزمين لاعتبار اللاشعور بمثابة استمرار لهذا التقاطع الأصلي والأصيل بين التفكير والواقع الجنسي. فإذا ما كان الجنس هو واقع اللاشعور - لتنتبهوا الى ما يَلزم فيه الفصل هنا - فإن الغوص في هذه المسألة يبدو عويصا لدرجة تجعلنا غير قادرين على إنارتها إلا من خلال اعتبارات مستمدة من التاريخ.

إن استعادة المستوى الذي تبِع فيه الفكر الإنساني  منحدرات الخبرة الجنسية والتي عملت سطوة العلوم على محوه، قد حصل على إجابة له تشكلت في فكر يونغ، وهو ما أدى الى تجسيد علاقة الذات بالواقع تحت مسمى "النموذج الأصلي". إلا أن النزعة اليونغية، على الرغم من كونها تصبغ على هذه الشاكلات الأولية لترابط العالم، طابع نواة النفس في ذاتها، فهي بالضرورة مرفوقة برفض "اللليبيدو" وبفرض الحياد على هذه الوظيفة وذلك بالرجوع الى تعبير "الطاقة النفسية" الذي هو تعبير عامّ القصد وفضفاض المحتوى. 
وليس هذا مجرد فارق بسيط أو اختلاف في تأويل النصوص. إذ أن ما يود فرويد إبرازه من خلال وظيفة الليبيدو ليس أبدا كونها مجرد علاقة عتيقة أو طريق بدائي لحصول التفكير، أو كونها بقايا وظلال عالم قديم يطل من خلالها عبر عالمنا. إن اللليبيدو، في منظور فرويد، هي الحضور الفعلي للرغبة بحد ذاتها. وهذا ما يتطلب استجلاؤه الآن من الرغبة التي ليست من قبيل المادة وإنما تتواجد على مستوى السيرورة الأولية وتتحكم حتى في طريقة اقترابنا من هذه الأمور.

في أطار مداخلة قدمتها في مؤتمر تم عقده سنة 1960، أعدت مؤخرا قراءة ما قاله أحدهم من خارج خبرتنا حول اللاشعور، وهو يحاول، من موقعه العلمي، أن يتقدم الى أبعد ما يمكن في تحديده لمجالنا. وأقصد هنا بالتحديد السيد ريكور الذي ذهب بعيدا حقا في الوصول الى ما يصعب على أي فيلسوف آخر استجلاءه، بخصوص واقعية اللاشعور. لقد قال إن الللاشعور ليس هو التباس في التصرفات ولا هو بمثابة معرفة مستقبلية يتم التعرف عليها قبل معرفتها وإنما هو  عبارة عن ثغرة أو قطيعة يتم تسجيلها وكأنها نوع من النقصان. إن السيد ريمون يتفق على أن ما يحدث على مستوى اللاشعور هو شيء من هذا القبيل. إلا أنه بكونه فيلسوفا، فإنه يستحوذ على هذا الذي يحدث فيسميه هيرمينوطيقا. 

         في الوقت الراهن يلقى ما يسمى بالهيرمينوطيقا اهتماما بالغا. فالهيرمينوطيقا لا تنوئ فقط ما أسميتُه بمغامراتها التحليلية وإنما أيضا تناوئ البنيوية كما يتمالتعبير عنها في كتابات ليفي ستراوس. لكن ما هي الهيرمينوطيقا ياترى إن لم تكن، في إطار تتابع التقلبات الإنسانية، قراءة العلامات والدلائل التي يبني الإنسان بواسطتها تقدم تاريخه. وهم تاريخ ممن المكن أن يتمدد الى ما لا نهاية. إلا أن السيد ريكور يكتفي بإضفاء صبغة الحدث العارض على ما يتعامل معه المحللون في كل خطوة من عملهم. وتجدر الإشارة بالمناسبة الى أن اتحاد المحللين المهني الحالي لا يتوفر على موقف نظري ركيز وموحد، من شأنه أن يشد انتباه فيلسوفنا. غير أن هذه الحجة لا تكفي لنتركه يظن أن كلمته هي الأخيرة. 

ففيما إذا كان من الممكن تحقيق خطوة الى الأمام في هذه المسألة، فإني أقول وأؤكد أن ذلك لن يحصل إلا على مستوى عملية التحليل النفسي حيث يتم استكشاف واستجلاء النواة العُقَدية التي يتم من خلالها ربط نبضة اللاشعور بالواقع الجنسي. وهذه النواة العقدية تسمى الرغبة. وكل الجهود النظرية التي قمت بها هذه السنوات الأخيرة كان مفادها أن تجعلكم تبصرون كيف أن الرغبة في تبعية كاملة للطلب الذي، بتركيبه من خلال دوال، يترك بقية مجازية تجري من تحته. وهذه البقية ليست بمنعدمة التحديدية بل إنها في نفي الوقت بمثابة الشرط المطلق الذي لا يمكن الإمساك به. وهو هكذا يبقى في مأزق بالضرورة، وغير قابل للإشباع التام، بل ومستحيل التحقيق الكلي وغير متعرف عليه في العادة، وهو بالإجمال ما يسمى بالرغبة. فها هنا يتم التلاقي مع المجال الذي حدده فرويد بكونه الهيئة الجنسية على مستوى السيرورة البدائية.

فوظيفة الرغبة هنا هي بمثابة المتبقي النهائي لمفعول الدال على مستو الذات. إن قولة "أنا أرغب" هي ركيزة الكوجيطو الفرويدي. أذ من هنا بالضرورة يتكون ما هو أساسي من السيرورة النفسية البدائية. ولتلاحظوا جيدا ما قاله فرويد بخصوص هذا المجال: إن النزوة تحصل على إشباع لها اعتمادا على الهلوسة بالأساس. 

        فإذا ما رجعنا الى خطاطة القوس الإنعكاسي، ليس هناك أية آلية-بيانية بإمكانها أن توضح ما تم اعتباره نكوصا. فمن خلال هذه الرسم البياني، ما قد يحصل على مستوى الإحساس يتم تفريغه على المستوى الحركي وفِي حالة لم يفعل هذا المستوى، يحصل التقهقر الى الخلف. لكن إذا ما تم تراجع العملية نحو الخلف، فما الذي يجعلنا نخمن بأن ذلك يخلف إحساسا؟ لن يحصل ذالك إلا في حالة تصورنا للعملية على صورة شيء ما، خلال تيار تم قطعه، يعاود دفع الطاقة من جديد، فيوقد مصباحا على سبيل المثال. لكن من أجل من؟ فها هنا يكون  للوسيط الثالث بعد أساسي بخصوص هذا النكوص المزعوم. فلا يمكن إدراك هذا الأخير إلا بالنظر أليه على الشكل المطابق تماما لما رسمته ذات يوم على الصبورة والذي يصور لنا ترادف الذات المعبَّر عنها مع الذات المعبِّرة. فوحده وجود الذات الراغبة، الذات التي ترغب جنسا، لقمين أن يمدنا ببعد هذه الإستعارة الطبيعية التي تتحدد من خلالها الهوية المفترضة للإدراك.

لقد حرص فرويد دائما على فكرة كون الليبيدو المكون الأساسي للسيرورة الألولية. على عكس ما قد تبديه النصوص التي يحاول التمثيل بها على نظرياته. وكما حصل لأنَّا الصغيرة وقد رأت نفسها وهي تحلم قائلة: "كعك، توت، بيض" وأشياء أخرى من هذا القبيل، فإن هلوسة الغذاء التي هي أبسط هلوسة لإبسط حاجات الإنسان، لا تتضمن بتاتا أي إحضار عيني لأشياء واقعية قد تشبع حاجة بعينها. فالهلوسة الحاصلة أثناء الحلم ليست ممكنة إلا من جراء تجنيس هذه الأشياء والمواضيع. إذ يمكنكم ملاحظة بأن أنَّا لم تهلوس إلا الأشياء التي تم منعها عنها. يجب مناقشة المسألة بخصوص كل حالة على حدة، لكن من اللازم والأساسي تحديد بُعد الدلالة في كل حالة هلوسة، حتى نتمكن من تحديد ما يتعلق به الأمر على مستوى مبدأ اللذة. إن إضفاء طابع الواقعية على ما يحصل في هلوسة ما ينجم عن مصدر الرغبة لدى ذات الفرد. فإذا كان فرويد قد عمد الى معارضة مبدإ اللذة بمبدإ الواقع، فذلك لإن الواقع يتم تحديده لديه بكون الجنس قد نزع منه.

يتم الحديث في التنظيرات التحليلية الجد حديثة، عما يسمى بالوظائف التي تم تحييد الجنس عنها. فيتم القول مثلا إن مثال الأنا يتكئ على اشتثمار ليببو تم إزاحة الجنس عنها. لكن يبدو لي من الصعب جدا الحديث عن ليبيدو تمت إزالة الجنس عنها. أما إن كان الإقتراب من الواقع يتضمن إبعاد الجنس، فهذا ما يؤسس تحديد فرويد المبدأين اللذين تتوزع حولهما التركيبات النفسية.

بمعنى آخر، يلزمنا أن نبصر بداخل التحويل، ثقل ومفعول الواقع الجنسي. جانب كبير من هذا الواقع يكون مجهولا ويكون مستترا الى حد ما، لكنه يسري ويجري تحت مايحدث على مستوى الخطاب التحليلي. وبقدر ما يتبلور هاذا الخطاب، يتضح بأنه حقا يتبلور على مستوى الطلب. لهذا فليس من دون سبب إن كانت كل الخبرة التحليلية قد أدت بالمحللين حتى الآن الى الدفع خطأ بمسألة الطلب الى جانب تعابير الإحباط والمكافأة.

لقد حاولت أن أرسم على السبورة الشكل الطوبولوجي للذات اعتمادا على ما أطلقت عليه سابقا تعبير "الثمانية الداخلية". إنه يذكرنا حقا بدوائر أولر الشهيرة، مع فارق بسيط هو كونكم ترون بأن الأمر يتعلق هنا بمساحة بإمكانكم فبركتها. حافة هذه المساحة متواصلة لكن سيتم تضليل وإخفاء طرف معين منها من طرف المساحة التي تم بسطها سابقا. إن النظر الى هذا الرسم من جهة معينة، يجعله يبدو وكأنه يمثل مجالين يتقاطعان.

في هذا الرسم أقدمت على تسجيل الليبيدو في النقطة التي يقوم فيها الفص المعرَّف بكونه مجال تبلور اللاشعور، بتغليف وإخفاء الفص الآخر الذي هو فص الواقع الجنسي. إن الليبيدو تبدو هكذا بكونها تنتمي الى كلا الفصين، فتكون عبارة عن نقطة تقاطع بينهما، كما يقال في مجال المنطق. لكن هذا ما لا يعنيه الرسم بتاتا، لأن هذا القطاع الذي يبدو فبه المجال في حالة تراكم المستويين، ما هو في الواقع إلا فراغ إذا ما نظرتم الى الشكل الحقيقي للمساحة.                                                     
  





الثمانية الداخلية
(رسم)
  
هذه مساحة تنتمي الى أخرى كنت قد قمت بعرض طبيولوجيتها في حينه على تلامذتي. إنها تسمى بمساحة الكروس-كاب، وبتعبير آخر: القلنسوة أو تاج الأسقف. لم أقم برسمها هنا، لكني أرجو منكم فقط ملاحظة ميزتها التي تسطع للعيان. يمكن الحصول عليها انطلاقا من الثمانية الداخلية. إعملوا على ضم الجانبين، كما يبدوان هنا، أحدهما نحو الآخر، بواسطة مساحة إضافية ثم قوموا بإغلاقها. فهذه المساحة المُضافة تلعب نوعا ما بالنسبة لمساحة الثمانية الداخلية، نفس الدور الذي تلعبه المساحة الكروية بالنسبة للدائرة. بحيت تقوم تلك المساحة الكروية بملئ وغلق ما تبدو الدائرة على استعداد لاستيعابه. فما ينتج عن هذا الرسم هومساحة موبيوس بحيث أن وجهها يواصل خلفها. هناك ضرورة ثانية تنجم عن هذه المساحة، بحيث يلزمها، كي تُكمل وتُغلق انحناءتها، أن تخترق في موضع ما المساحة التي تسبقها. يلزمها أن تخترقها في هذه النقطة بالذات، اعتبارا للخط الذي حددته هنا على رسم النموذج الثاني :

إن هذا الرسم يمَككنا من تصوير الرغبة على أنها نقطة التقاء وتقاطع لمجال الطلب الذي تتجلى فيه إغماءات  اللاشعور، مع الواقع الجنسي. وكل هذا يرتكز على الخط الذي سنسميه خط الرغبة المرتبطة بالطلب والذي من خلاله ينجلي المفعول الجنسي أثناء العملية التحليلية. 

فما هي هذه الرغبة ياترى؟ أتظنون أنني أعني بِها مفهوم التحويل؟ نعم ولا. وسترون بأن المسألة ليس بالسهلة، خصوصا عندما أقول إن الرغبة التي يتعلق الأمر بها هنا هي رغبة المحلِّل.  

3

وحتى لا أترككم مشدوهين تحت طائلة تعبير قد يبدو لكم مجازفا للغاية، فلن أفعل شيئا آخر سوي تذكيركم بباب الولوج الى اللاشعور كما تم تحديده في الأفق الفرويدي.

أنّٓا أو. - لنترك جانبا قصة أو. هذه ولنسّميها بإسمها الحقيقي: بيرتا بابينهايم التي تُعتبر من أكبر أوجه المساعدات الإجتماعيات في ألمانيا. في زمن ليس بالبعيد، أتتني إحدى تلميذاتي، كي ترفه عني بعض الشيئ، بطابع بريدي يحمل صورتها. وما هذا إلا للإشارة فقط الى البصمة التي تركتها هذه السيدة في تاريخ البشرية. لقد تم اكتشاف التحويل بخصوص حالة أنا أو. لقد كان بروير مغتبطا مسرورا بالعلاج الذي كان يقوم به إزاء هذه الفتاة. كانت الأمور تمشي على ما يرام. وفِي هذه الآونة ما كان بإمكان أحد أن يجادل في قيمة الدال لو تم إعادة بعثه آنذاك من القاموس السفسطائي Stoïcien. فبقدر ما كانت أنَّا تفصح به من دوال وبقدر ما كانت تبوح به من أقاويل، كانت الأمور تمشي على أحسن وجه. ولقد سمي ما كن يحصل من علاج بتعبير "تنظيف المدخنة". وفِي كل ذلك ليس هناك من أثر لشيئ قد يعكر صفو الأمور. إقرأوا المقابلة مجددا، فلا تجدون أثرا لمسألة الجنس، سواء استعملتم مِجهرا أو تلسكوبا.

ليكن في علمكم مع ذلك أن إدخال فاتورة الجنس في عملية العلاج قد حدث من جانب بروير، إذ ما لبث أن أتاه من جراء ذلك رد فعل من قبل زوجته. لقد ألبته هذه الأخيرة عن اهتمامه البالغ بمريضته : "إنك تهتم بها أكثر من اللزم" قالت له. أمام هذا الأنذار ما كان من ذلك الزوج العزيز إلا أن أوقف اهتمامه بمريضته وتخلى عن مواصلة العلاج. وعلى إثر ذلك، كما تعلمون، أبانت أو. عن تلك المظاهر المثيرة للإنتباه والدرامية والتي سُميت في اللغة العلمية ب Pseudosyesis. وهو ما يعني بكل بساطة "الإنتفاخ الصغير" الذي هو  عبارة عن حالة حمل يتم نعتها بالحمل العصبي.

فماذا تفصح عنه المريضة هنا؟ بإمكاننا المجادلة في المسألة. لكن يَلزم علينا عدم التسرع في التقاف فكرة "لغة الجسد" بشأنها. لنقل بكل بسطة بأن مجال الجنس يُظهر هنا حركيّة طبيعية للإشارات. فعلى هذا المستوى لا يتعلق الأمر بدوال إذ أن انتفاخ البطن الزائف هذا ما هو إلا عرض. وبحسب تعريف الإشارة، فهذا الإنتفاخ إشارة الى شيئ ما، وفي اتجاه شخص آخر. أما الدال، بكونه أمرا آخر تماما، فهو يقوم بتمثيل الذات تجاه دال آخر. 

إن هنا فارقا مهما يجب استجلاؤه بالمناسبة، وذلك لأن العادة جرت على اعتبار أن كل ما حصل، تكون بيرتا هي من تسببت فيه على خطأ. لكني أرجوكم أن تُعلقوا انتباهكم لحظة عن هذه النظرة وتطرحون السؤال التالي : إنطلاقا من تحديدي القائل بأن "رغبة الإنسان هي رغبة الآخر"، لماذا لا نعتبر بالأحرى حمْل بيرتا بكونه تظاهرا وتجليا لرغبة بروير؟ ولماذا لا تذهبون إلى حد التفكير في أن بروير هو من حصلت لديه رغبة في إنجاب طفل؟ فما أُقدمه لكم كبداية للبرهنة على ذلك هو أن بروير - بحسب رواية جونز - أسرع بتخصيب زوجته أثناء سفرهما الى أيطاليا مباشرة بعد الحادث السالف الذكر. وأضاف جونز لمتحدثه، بأن الطفل الذي نجم عن هذا الحمل وتم تكونه في تلك الظروف قد أقبل مؤخرا على الإنتحار في ريعان شبابه. 

لنترك جانباً ما بإمكانه أن يخطر ببالنا فعلا بشأن رغبة كان مآلها قَدَرا بهذا الخطْب. لكن لنلاحظ ما قاله فرويد لبروير: « ماذا! يالها من قضية! إن هذا التحويل ما هو إلا تعبير عفوي للاشعور بيرتا. إنه ليس تحويل منك، وإن هذه الرغبة ليست رغبتك، إنها رغبة الآخر". أما أنا فأعتقد بأن فريد بأقدامه على هذا الرد، يضع بروير موضع الهستيري بحيث قال له: "إن رغبتك هي رغبة الآخر". والغريب في الأمر أن فرويد، بقوله هذا، لم يعمل على إبعاد بروير من الشعور بالذنب وإنما جنبه الإحساس بالقلق. وبإمكان أولائك الذين من بينكم يفقهون الفرق الذي أضعه بين هذا المستويين، أن يجدوا في هذا المثال نبراسا لهم.

وهذا يقودنا الى طرح السؤال بخصوص رغبة فرويد وما أدت أليه لدى تابعيه من تحريف في تناول التحويل. ولقد وصل هذا التحريف في حصيلته الأخيرة الى حد عالي من اللامعقولية لدرجة دفعت أحدهم للقول إن كل تنظيرات التحويل ما هي في النهاية إلا حصيلة عملية دفاعية يحتمي بها المحللون. إنني أقوم بزعزعة كل هذه التنظيرات وأعمل بالتحديد على فضح الوجه الخفي منها قائلا إنه يتكون من رغبة المحلِّل نفسه. أتوسلكم المثابرة في تتبع ما أبغي الوصول إليه، فليس المقصود مما آتي به هو فقط قلب الأمور رأسا على عقٍب. وباعتمادكم على هذا المفتاح، اقرأوا إحدى الكتابات التي تعرض الى التحويل بصفة عامة، واستدلوا في قراءتكم هاته بالتوجيه الذي أمدكم به. ستتبينون بأن رغبة كل محلِّل على حدة، ممن قدموا مساهمات حول مسألة التحويل، بادية للعيان وجد مقروءة. فبإمكاني مثلا تحليل موقف أبراهام انطلاقا فقط من نظريته بخصوص المواضيع الجزئية. ففي عملية التحليل ليس هناك فقط ما يريده المحلِّل بمريضه، ولكن هنالك أيضا ما يريد المحلِّل أن يفعل به مريضه. لنقل إذن بأن أبراهام، على سبيل المثال كان يريد أن يكون قبالة مريضه أُما كاملة. ودواليك، بإمكاني أن أواصل تَلَهي في هذا المضمار، بألباس تنظيرات فرينشزي كلمات آغنية جورجيوس الشهيرة: "أنا إبن-أب". وكانت لنونبيرغ نواياه كذلك. ففي مقاله المتميز جدا حول "الحب والتحويل" نجده في موقف الحاكَم بين قوى الحياة وقوى الموت، بحيث لا يمكنا إلا أن نلمح تطلعه الى مقام رباني. 

وقد يبدو هذا التحليل وكأنه مجرد لهو، لكن تتبعنا للأمور على هذا النحو التأريخي، هو ما يمكننا من تحديد الوظائف النفسية كهاته التي أقوم بطرحها على السبورة.

وكي ندمج نموذج السلَّة مع تلك النماذج التي أعددتها بمناسبة ردي على سوأل حول نظرية معينة قامت بقلب التحليل النفسي الى مجرد اقتراب سيكلوجي للشخصية، يكفي أن تجعلوا من المغلاق الذي حدثتكم عنه، مغلاق كاميرا مع تغيير بسيط يقلب هذا الأخير الى مرآة. وفِي هذه المرآة الصغيرة التي تعمل على إخفاء ما يوجد خلفها، يرى المريض حركيّة اللعبة التي بفضلها يمكنه - انطلاقا من الوهم الناتج عما يتم استخلاصه من تجربة الباقة المنقلبة، بمعنى الصورة الواقعية - ملاءمة صورته حول ما يحصل بروزه والمتمثل في الموضوع "أ". فمن خلال مجموع هذه الملاءمات، تحصل الذات على مناسبة أساسية لإندماجها. لكن ما يتحقق لنا معرفته عن كل هذا ؟ إن لم يكن هذا الذي نعرفه من شأنه أن يؤدي بنا، وفقا للتذبذبات في حركيّة عملية التحليل ووفقا للاندراج رغبة كل محلِّل على حدة، الى إضافة جزئية ما أو ملاحظة سلوك ما أو تدقيق في حدث ما، أي كل ما من شأنه أن يجعلنا نتدبر مسألة حضور المحلِّل على مستوى الرغبة. على كل، ها هنا ترك فرويد مجموعة تابعيه. وأقول أيضا إن أولائك الذين تبعوا المسيح لم يكونوا أحسن حظا. أما إن كان تشبيه فرويد بالمسيح غير وارد، فهو أقرب الى شخص من قبيل فريديانا. إن أولائك الذين يتم تصوريهم خلال الفلم بنوع من التهكم بألة تصوير صغيرة، يذكرنني أحيانا بتلك الصور التي التُقطت عدة مرات لمجموعة أولائك الذين كانوا لفرويد بمثابة الأتباع المقربين. أهَل يُنقص هذا من قيمتهم ؟ لا، لا أكثر ولا أقل من اتباع ورُسل المسيح. إذ من موقعهم هذا قد يكون في وسعهم وفِي متناولهم الإتيان بالرواية الأصدق. ولقد علَّمنا هؤلاء الأتباع الأوائل الكثير بما تمتعوا به من عفوية في التصرف ومن افتقار للمعرفة ومن براءة في الطبع. وتجدر الإشارة الى أن المجموعة التي كانت تجالس سقراطا كانت أكثر شأنا وتألقا، لكنها علمتنا هي أيضا الكثير بخصوص مسألة التحويل. ويمكن أن يشهد بذلك كل من حضر سيميناري حول هذا الموضوع.

فمن هذه النقطة سأتابع المرة المقبلة خُطايا محاولا التفصيل في أهمية وظيفة رغبة المحلِّل.

إجابات

جاك ألان ميلير: يُطرح السؤال بخصوص العلاقة المنميزة بين هذين الخطابين، الخطاب العلمي وخطاب الآخر، أي خطاب اللاشعور. إن خطاب العلم، بخلاف الخطابات التي سبقت نشأته، لا يرتكز على الإندماج اللاشعوري. إنه يتأسس بإقامته  علاقة اللاعلاقة مع اللاشعور. إنه في غير اتصال مع هذا الأخير. لكن اللاشعور لا يختفي مع ذلك وأثاره تستمر في ترك بصماتها في خطاب العلم. إن التفكير في الطابع العلمي للتحليل، كما تُسلمون بذلك، قد يؤدي الى تأريخ جديد للتفكير العلمي. أود معرفة قولكم في هذه المسألة.

جاك لاكان: إنكم تلمحون لدي تساؤلا مزدوجا. إذا ما ألحقنا التحليل بقافلة العلم المعاصر، رغم الثأير الأساسي والمتواصل لرغبة المحلِّل، فإننا نكون على حق في طرح مسألة الرغبة المتواجدة خلف العلم المعاصر. إن خطاب العلم ينفصل وينقطع بالتأكيد عن شروط وموجبات خطاب اللاشعور.  نلاحظ ذلك من خلال نظرية المجموعات. ففي زمن كان فيه عملية الإندماج عالقة بالإنجذاب الجنسي، ماكان لنظرية المجموعات أن تظهر الى الوجود. فكيف أصبح هذا الإنفصال ممكنا؟ بإمكاننا أن نعطي إجابة انطلاقا من مستوى الرغبة.


29 أبريل 1964