بيتي ميلان - من جبل لبنان الـى البرازيل: رحلتي مع لاكان في التحليل النفسي ٢/٤





II

 أريد أن أقوم بتحليل نفسي شخصي


في اليوم التالي لوصولي، اتصلت بالدكتور لأخبره بأنني في باريس. كان ردّه صادماً بالنسبة لي: « وماذا بعد؟ » كيف يمكن للاكان أن يتفاعل بهذه الطريقة؟ لقد عبَرتُ المحيط من أجله. والحقيقة أنني أجبته، مفصحة عن رغبتي: « أريد أن أخوض تجربة تحليل ». 

من خلال سؤال بسيط، دفعني إلى الجواب المنتظر. ثم حدّد لي موعداً على الفور. في اليوم التالي، أوقف المكالمة بطريقة مفاجأة

بقيت ممسكة بسماعة الهاتف حتى أدركت أن كل ما هو جوهري قد قيل. بإغلاقه المفاجئ للخط، جعلني أسمع رغبتي. ومن الواضح أن الدكتور تصرّف بهذه الطريقة لأنه ربما تأكد بأن الاتصال بيننا متواصل ولن تحدث قطيعة. وبفضل خبرته الإكلينيكية، جعل من الفظاظة ركيزة تحليلية فعّالة إلى حد مذهل

شكّل هذا الاتصال الهاتفي الجلسة الأولى من المرحلة الثانية للتحليل. وهو بمثابة برهان على أنه في وقت قصير جداً، يمكن أن يحدث ما هو حاسم. من خلال تسريع ظهور الرغبة وقطع الحديث في اللحظة المناسبة، وفي هذه الحالة، مباشرة بعد تحديد موعد الجلسة الثانية

لم يكن هم الدكتور إجراء فضفضة كلامية كما يحصل في الصالونات، وهو ما كان يسميه «كلاماً فارغاً»، بل همه أن أدخل في التحليل بأسرع وقت ممكن. كان فضاء العيادة مُعدّاً لكي تظهر فيه «الكلمة الممتلئة»، وتتم فيه معالجة سيرة حياة الفرد وكأنها ملحمة. فلكل امرء الحق في ملحمته الخاصة.

كان لاكان يُظهر تارة التعاطف للدفع بك إلى الدخول في التحليل، وتارة أخرى يتظاهر التباعد لاجبارك على التقدّم. كان أسلوبه بلا شك متناقضاً، لكنه متوافق مع منطق اللاوعي الذي يتجاهل التناقض. فيمكن أن تكون كلمات المحلل بمثابة الجزرة والعصا في آن واحد. وكل مريدِ تحليل يجد في ذاته المحلّل الذي يرتضيه ويستحقه.

في الجلسة التالية، وصلتُ في الوقت المحدد تماماً، لكن لاكان لم يستقبلني على الفور. وكيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، ما دامت مدة الجلسة تتوقف على خطاب المحلّل، لا على الزمن الكرونولوجي؟ لدى هذا الدكتور، كان للانتظار ما يبرره، ولم أصادف يوماً مَن أظهر امتعاضاً أو نفاذ صبر من ذلك. إذا أراد المرء القيام بتحليل مع لاكان، عليه إذن أن يتقبل أسلوبه. بهذا المعنى يمكن اعتبار الوقت الذي يقضيه المرء في قاعة الانتظار بمثابة تمهيد ضروري لما سيأتي لاحقاً. كنت الشخص الثالث الذي نودِي عليه

- تفضّلي .

في جانب من مكتب الدكتور، هناك أريكة، وخلفها مقعد ضخم بزخارف من عرق اللؤلؤ. وفي الجانب الآخر، أمام نافذة تُطل على ساحة، مقعدان صغيران من المخمل مخصصان للتقابل وجها لوجه وهي مرحلة تسبق التمدد على الأريكة. أشار الدكتور إلى أحدهما وجلس هو على الآخر

ما إن جلست حتى سمعت عبارة « قُولِ لي »، التي ستتكرّر طوال سنوات التحليل. المهم بالنسبة له ليس تجاذب أطراف الأفكار، وإنما إفساح المجال أمام اللاوعي كي يتجلي من خلال الكلام. كان لا بد من الانتقال من « أنا أفكر، إذن أنا موجود » إلى « أنا أقول، إذن أنا موجود ».


  • أستطيع البقاء في باريس لمدة أربعة أشهر.
  • ماذا؟  
  • أربعة أشهر، كما سبق وقلت لك.
  • عدم تمكنك من اللغة الفرنسية يطرح مشكلة.


انتظر الدكتور كل هذا الوقت ليقول ذلك؟ ألم يُبدِ بوضوح رغبته في عودتي أثناء لقاءاتنا السابقة؟ لكن عبارة « الفرنسية لديك تطرح مشكلة » جعلتني أشعر وكأنها تحدٍّ، فرددت بما يتناسب مع ذلك.

  • أعطني بعض الوقت

يبدو أن إجابتي لم تقنعه.  

  • يمكنني أن أرسلكِ إلى إحدى تلميذاتي البرتغاليات المقيمات هنا في باريس

ما كان للاكان أن يقوم بهذا الاقتراح إلا لجهله بالعلاقة السيئة بين البرازيليين والبرتغاليين الذين أصبحوا موضع رفض بسبب استعمارهم للبرازيل. لكن تبين لي أن منبع هذه العلاقة يرجع بالأساس الى كراهية بحتة نحو الآخر ما كنتُ أزن كنهها بهذا الشكل آنذاك. على أي، ما كان بإمكاني أن أقوم بتحويل على محلل برتغالي. يحتلّ المحلل موقع «الذات-مفترض-عارفة»، ولأسباب تاريخية، ما كان بإمكاني أن أضع هذا الافتراض في محللة برتغالية

علاوة على ذلك، وبصرف النظر عن البعد المعجمي، فإن اللغة المحكية في البرازيل ليست هي نفسها تماماً في البرتغال. فالبرازيليون يمططون الحروف المتحركة، بينما تتميز البرتغالية الأوروبية بنطق حادّ ومُقتضب. ومنذ الحركة الحداثية لعام 1922، أصبحت اللغة المكتوبة في البرازيل منسجمة مع اللغة المحكية، وأصبحنا نسخر ممن يحاول الاتصال هاتفيا بالبرتغال كي يعرف كيفية كتابة هذه الكلمة أو تلك. هكذا رفضتُ اقتراح الدكتور بشدة وتذمر:  

- إن لم تقبل تحليلي معك، فسأعود الليلة إلى البرازيل.

- حسناً، تعالي غداً.

لاكان، الذي كان شعاره المبدئي عدم قطع الصلة، أخذ على محمل الجدّ قولي: « سأعود الليلة الي البرازيل». لقد أدرك أن الشرط المطلق لرغبتي يتجسد في العمل معه هو وأنني لن أخوض تجربة التحليل إذا لم يحترم هذا الشرط. من ناحية أخرى، كان يعلم أنه ليس من اللازم ان تكون لغة الأم هي لغة اللاشعور، وأن اللغات تتداخل فيما بينها، وأن دال الرغبة يفرض نفسه في النهاية.

قد يجادل ممارس آخر لهذه المهنة بأن التحليل يجب أن يتمّ بالضرورة باللغة الأم. لكن لاكان، المخلص للتقاليد الإنسانية العريقة، كان بعيداً كل البعد عن الجمود الفكري. وبإعطائه مكان الصدارة للرغبة، نراه يتحمل مواقف وخبرات  غير مألوفة

فهاهو الآن يقبل أن أخوض تحليلا معه وفي نفس الوقت تقبل الهدية التي أتيته بها من البرازيل، وهي عبارة عن مشط صنعه هنود الأمازون. بالمناسبة، لما زرت المتحف الذي خُصص له في باريس بعد مماته، وجدت المشط نفسه في مكتبه

في الجلسة التالية، أراد أن يعرف ما إذا كنت أنحدر من الهنود. فاجأني فضوله إذ لم أكن قد رأيت الهنود من قبل، ولم أكن أهتم بثقافتنا الوطنية. لا يمكن فصل أصل ساو باولو عما حدث من تبشير للهنود على يد اليسوعيين، ولا عن حقيقة كون لغة التوبي-غواراني كانت متداولة هناك حتى القرن الثامن عشر. ومع ذلك، رغم غنى مدينتي الأصلية، لم أكن أشعر بأنني معنية بتاريخها. لطالما كانت ساو باولو غير مبالية بماضيها. بها حلت العمارة الجديدة محل الكلاسيكية. ثم حلت ناطحات السحاب، محل المباني الاستعمارية لعتيقة والجميلة لدرجة أن المدينة أصبحت ترى نفسها مساوية لنيويورك.

البرازيليون من الطبقة الميسورة في ساو باولو كانوا نادرًا ما يسافرون إلى الولايات الأخرى في البلاد. كانت ساو باولو تمثل البرازيل بأكملها بالنسبة إليهم. إنما كانوا يتوجهون إلى أوروبا للتسوق وجلب المهارات والمعارف، حتى لو كان مثل هذه السلوكيات قد تجاوزها الزمن في باقي أصقاع المعمورة

الدكتور لم يكن على علم بكل هذه الأشياء، إذ ليس بإمكانه ذلك. لقد أشبعتُ فضوله حول أصولي بتذكيره أن أسلافي كلهم لبنانيون، وجميعهم مهاجرون

  • وماذا أيضًا؟ 
  • أنا هنا وحيدة. لا أعرف أحدًا. أتعثر عند كل كلمة. لا أحد يفهم ما أقوله. إذا لم أتحدث بالطريقة الصحيحة لن يصل معنى ما أقصده
  • آه

انطلقتُ في التشكي منذ لحظة قدومي. عندها تدَخل الدكتور على الفور، مسلطًا الضوء على طابع كلامي الدرامي

  • إنها قفزة كبيرة حقا. لقد انتقلتِ من قارة إلى أخرى، وكأن الأمر بالنسبة لك يوازي «اكتشاف أمريكا». 

فها هو يمنح ما كان مجرد سفر إلى فرنسا بُعدًا ملحميًا، وحوّله إلى إنجاز كبير مشبِّها إياه باكتشاف. وفي الواقع، كنت على وشك اكتشاف «برازيل جديدة»، برازيل الثقافة الشعبية التي كنت غريبة عنها حتى ذلك الوقت. قبل تحليلي، كانت الثقافة الفرنسية هي وحدها التي تهمني، كما كان الحال بالنسبة لمعظم المثقفين البرازيليين من جيلي. لم تكن ثقافة بلدي الأم، بخصوصياتها، تعنيني. كان الأمر بالنسبة إلينا يتلخص في استهلاك كل ما يتم إنتاجه في باريس وتبادل ثقافة أوروبية يُعاد تسخينها.

لو لم أذهب إلى فرنسا للعمل مع لاكان، الذي لم يكن أي موضوع يتركه غير مبالٍ، لما غادرت عيادتي لأستمع إلى أصحاب الكرنفال. بدأت القيام بذلك عام 1979 لأن أحدهم، جواو زينيو ترينتا، صرّح في صحافة الواجهة قائلاً: « الشعب يحب البذخ، أما المثقفون فيحبون البؤس ». كانت هذه العبارة ردًا على الانتقادات التي استهدفت استعراض مدارس السامبا، بحجة أن البلاد لا يمكنها تحمّل مثل هذا البذخ. ولكي أفهم ما كان يقصده هذا الكرنفال، ذهبت لمقابلة ترينتا في ريو

سمعته يقول وبقوة، إن أولئك الذين يسكنون في القصور أو المنازل الشاهقة هم وحدهم الذين يشتكون من وجود عربات الاحتفالات في الشوارع. أما الشعب الذي يعيش في أكواخ ضيقة على طول شوارع ترابية، فقد كان يطالب بالفخامة، بأشياء ذات أبعاد أخرى لا يمكن العثور عليها إلا في الاستعراض.

البذخ بالنسبة للشعب ليس هو بذخ المال، وإنما بذخ الحُليّ. حتى لو كانت مزيفة، فهي الأكثر صدقًا بفضل شحنتها السحرية. «عندما ترتدي الخادمة ثياب دوقة عظيمة، فإنها تصبح جزءًا من النبلاء. وتصبح السيدةَ التي تقمصت شخصيتها. أما الحليّ الأكثر أصالة، فهي تلك التي تنبع من مخيلتها».

بالنسبة للكرنفالي، كما هو الحال بالنسبة لبودلير، الخيال بلا شك هو ملك الملَكات العقلية. الشاعر يفضّل وحوش خياله على كل ما هو موجود في الواقع.

الكرنفال هو طقس يحتفي بوهم، وهْم يُجسّد خيالًا كان وراء ليس فقط غزو البرازيل، بل أيضًا استعمارها، وهو خيال العثور على الجنة أو الاعتقاد بالوصول إليها بالفعل. وبهذه الطريقة، دون أن يكون أبدًا نفس الشيء، يعمل الكرنفال على استعادة خيال قديم، لا ينفصل عن جاذبية الغموض والروعة.

اكتشفتُ بفضل أهل الكرنفال أن استعراضهم هذا ليس فقط يوم النسيان، بل هو قبل كل شيء احتفال يتذكر البرازيلُ تاريخه من خلاله، ويعيد اختراع نفسه بلا توقف. يستحوذ على تمثلات الشرق والغرب عبر التهامها، كما يفعل «الأنثروبوفاجيون». فهم لا يقلدون، بل يلعبون بحرية مع هذه التمثلات ليخلقوا تمثلات أخرى، جديدة دومًا ومفاجئة على الدوام. إنه احتفال بالضحك وبكل ما هو زائل، ينشر الفرح في كل مكان كي يُمجّد الحياة.

قراري بإجراء تحليلي النفسي مع لاكان ولا أحد غيره، تطَلب مني أن أُعمّق معرفتي بالفرنسية وأتمكن من التحدث بها بطلاقة في أسرع وقت ممكن. لذلك بدأت أقرأ، ليلًا ونهارًا. بدأتُ بقراءة «البحث عن الزمن المفقود»، لكنني لم أتمكن من تجاوز المجلد الأول وبصعوبة بالغة. كان عالم هذا الكتاب غريبًا عليّ إلى حد كبير. لا أعلم كيف اكتشفت كتاب سيلين «رحلةٌ إلى آخر الليل»، لكن هذا الكتاب أسَرني على الفور. ربما لأن «باردامو»، هذا البطل النقيض، هو أيضًا طبيب، أو بسبب الشفوية المُصاغة بأسلوب مميز، وهو ما يُميز أدب بلادي منذ أن كسَّر كُتّابنا تقاليد البرتغال في مجال الأدب.


كي لا أبقى وحيدة في الفندق طوال الوقت، كنت أقضي ساعات طويلة أقرأ في الحانات، مع شعور مذهل بالحرية. أما في البرازيل، فمن المستحيل الجلوس وحدك في حانة دون أن تتعرض للمضايقة، إذ هي فضاءات مخصصة للرجال أو للأزواج.


كان التحليل النفسي هو السبب الأول لوجودي في باريس. لكن مع تحسن لغتي، أصبحتْ الحياة الباريسية عاملًا حاسمًا. الشارع خالي من أي خطر، والمدينة كانت تعرض نفسها علي. عند كل خطوة، اكتشاف جديد يدفعني للاهتمام بتاريخها. وبدون وعي مني، أصبحت أنفصل تدريجيًا عن البرازيل حيث كانت الديكتاتورية العسكرية لا تزال تسجن وتعذب وتقتل

آنذاك لم أكن أحن لبلدي. العديد من أصدقائي أُجبروا على المنفى بسبب النظام العسكري. في فرنسا، كنت أهرب من عبء أصولي واسلافي


 خلال طفولتي، كنت أشعر بأنني مندمجة تمامًا وسط عائلتي اللبنانية، محاطة بوالديّ، أعمامي الكُثر، وجميع أجدادي. وفي مراهقتي، كنت ضحية رُهاب زملائي ضد الأجانب منهم. كانوا ينعتونني بـ«التركية الحقيرة»، (وكأن الأتراك ليسوا السبب الذي دفع اللبنانيين للهجرة) وكانوا يستبعدونني من مشاركة الأحداث التي يزعمون أنها تقتصر على أحفاد المستوطنين البرازيليين الأوائل، منذ 400 سنة.


أما أجدادي فكانوا من جانبهم يحتقرون السكان الأصليين. جدي من جهة والدي، المنحدر من قرية في جبل لبنان، لم يتوقف يومًا عن مواجهة قرونهم الأربعة، بحضارتنا التي تمتد أربعة آلاف سنة

كيف لي، وأنا التي أحب جدي كثيرًا، ألا أكون ناقدة تجاه مواطنيّ؟ أسلافي ظفروا بمكان تحت الشمس في أرض استقبلتهم، وورّثوني قيَمًا حقيقية، خاصة حب المعرفة. لكنهم لم يستطيعوا أن يتماهوا مع البلد الذي ورثوني إياه.

وصلت للتعبير عن هذه الأمور بشكل غير مباشر خلال إحدى الجلسات.

  • لست متأكدة من حبي لبلدي.
  • حقًا؟
  • نعم.
  • كيف؟ أنا أنصت لك.
  • في الحقيقة، لا أعرف لماذا آتي للجلسات.
  • آه
  • أشعر أنني مُجبرة على المجيء.
  • نعم، هو ذا! أجاب الدكتور وهو ينظر إليّ بتركيز.
  • ولكن من الذي يُجبرني؟
  • ما رأيكِ؟
  • لو كنت أعلم، الإرادة ليست القدرة.
  • هذا أيضًا صحيح.


عند هذه الجملة، نهض الدكتور قائلا:

- إلى الغد

سبقتني الكلمات ولم أدرك معناها إلا لاحقًا. بعد حين. Nachträglich. 


جدّتي من جهة أمي، (والدها أصبح ثريًا بعد هجرته)، أمضت عامًا كاملًا في باريس لتختار أثاث منزلها. ابتداءا من مدخل المنزل، يمكن العثور على بورسلين من نوع «سيفر» وأثاث مستورد من فرنسا. كان جميع أسلافي مارونيين، ولم يكن بإمكانهم إلا أن يُمجّدوا فرنسا.


بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، جعل انتداب عصبة الأمم لبنان تحت الحماية الفرنسية. منذ القرن السابع عشر، كانت العلاقات وثيقة بين المسيحيين المارونيين والفرنسيين. ففي عهد لويس الرابع عشر، كان معظم قناصلة فرنسا في بيروت من المارونيين. وبفضل ذلك، حصلوا على مكانة اجتماعية أرقى، ووجدوا في فرنسا بلدًا مثاليًا وحاميًا لهم.

لهذا السبب وجدتُني أنا أيضًا في باريس، لأحقق رغبة أجدادي. ومن هنا جاء التركيز على كلمة «مُجبرة» التي شدّد عليها الدكتور.


مرة أخرى، جسّدت تلك الجلسة صوابية العبارة: «أنا أقول، إذًا أنا موجود»، التي حلت محل «أنا أفكر، إذًا أنا موجود». فلو أن لاكان سألني لماذا لم أعد متأكدة من أي شيء، لقام بدفعي في اتجاه التفكير. لكن بدلًا من ذلك، ردّ بالسؤال: «حقًا؟». ثم أضاف «كيف؟، أنا أنصت لكِ».


وهكذا دفعني في اتجاه الكلام، لأن اللاوعي يتجلّى من خلال التداعي الحر، وليس من خلال ممارسة التفكير. وبكلمة «مُجبرة»، وصلتُ إلى التاريخ العائلي واكتشفت الدافع العميق وراء رحلتي.

لم يفسر لاكان كلمتي بإعطائها هذا المعنى أو ذاك. لكن عندما شعر بأن اللاوعي عبر عن نفسه، أعادني إلى عزلة الشارع كي أقوم بتأويلٍ من تلقاء نفسي. من خلال تعزيز التداعي الحر، تُبرز هذه الجلسة الطابع الفرويدي المميز لممارسة الدكتور، وتُظهر أيضًا صحة استبدال لفظة «مريض» بلفظة «متحلِّل». إذا لم يتأمل الشخص فيما يقوله، فإن التحليل لا يمكن أن يحصل. فكل شخص يلقى المحللَ الذي يستحقه


لم يكن التحليل دائمًا مشوارا سهلًا، فقررت ان أسافر، وآخذ عطلة من اللاوعي. لكن كيف أُخبر الدكتور بقراري؟ كنت في فرنسا لمدة أربعة أشهر للعمل معه، ولم يكن لدي أسباب جدية للابتعاد عن ذلك. ظننت في البداية أن الدكتور سيرفض طلبي، تماما كما كان والدي يفعل في مناسبات كهاته. لكنه لم يفعل.

  • حسنًا عزيزتي، ومتى أراكِ مجددًا؟

 لم أصدق أذني، وبصراحة، شعرت بالغضب. هل من الممكن ألا يسألني حتى عن سبب غيابي، وأن يُظهر عدم اكتراثه بهذا الشكل؟ بقيت فترة طويلة مشدوهة، غير قادرة على  شيء

  • سأعود بعد خمسة عشر يومًا.
  • خمسة عشر يوما؟

 عندها، نهض الدكتور من كرسيه. دفعْت ثمن الجلسة كالمعتاد، بوضع 200 فرنك على مكتبه، ثم خرجت. يجب أن أقول إنني فعلت ذلك دون أن أفهم شيئًا، ومنذ الآن فقط، وأنا أكتب هذه السطور، أدرك مدى صواب ردّه. لقد اكتفي بطرح  سؤال عن الوقت الذي سيراني فيه مجددًا، وبذلك اعترفَ في نفس الوقت برغبتي أنا وأعربَ عن رغبته هو في متابعة العمل. من مقامه كمحلل، لم يقم لاكان بالإجابة على طلب حب غير مشروط، بل بإيقاف المتحلل عن أن يكون ضد ذاته،  ودفعه لتحمل رغبته كي يصبح ذاتا لسيرة حياته الخاصة.


سافرت دون أن أغادر باريس، لاكتشاف المعالم التي أشار إليها دليل المشاركة في الزيارات التي كانت تقدمها «باريس سكوب». ما كان يثير إعجابي أكثر هو علاقة الباريسيين بماضيهم، وإبراز كل ما تحتويه المدينة من مآثر، حتى نظام مجاري المياه العادمة التي لجأ إليها جان فالجان، بطل «البؤساء». من جهة، كانت باريس تتركني مدهوشة بتاريخها وممتلكاتها الأثرية ومن جهة أخرى، كانت تجبرني على إدراك الاحتقار الذي يكنه البرازيليون لذاكرة مدنهم. من يوم لآخر، كانت المباني ذات التاريخ العريق تُهدم بلا رحمة لتفسح المجال لأخرى باسم المال والكفاءة. أو كانت تحترق وتندثر بسبب الإهمال، مثلما حدث في 2018 مع المتحف الوطني في ريو، الذي كان مسكنا لأباطرة البرازيل، حيث اختفت تقريبًا مجموعاته الأثرية التي تم اقتناؤها وتجميعها على مدار قرنين. كانت مجموعة هذا القصر تحتوي على «لوزيا»، أقدم حفريات بشرية تم العثور عليها في أمريكا الجنوبية، والتي تعود إلى حوالي ثلاثة عشر ألف عام


بعد انتهاء الزيارة، كنت أتجول في المدينة معجبة بواجهات المباني وبوابات الخشب المنحوت، مع محاولة فك رموز النقوش. لهذا كنت دائمًا أحمل معي قاموسًا صغيرًا في الأساطير. وإذا انتهيت من الشوارع انتقلتُ الى الأرصفة مستمتعة بمظاهر نهر السين وأشجار البلاطانات والصفصاف وكذلك البواخر التي حوَّلها بعض الباريسيين إلى مساكن. نهر السين يذكرنني بطفولتي في البرازيل بسبب لونه الذي يشبه عصير قصب السكر

كلما مررت بساحة «شاتليه»، أستمتع بتمثال النصر الذهبي، تمثال أنثوي يقدم للناظرين ثدييه ووركيه الممتلئتين، وذراعيه المفتوحتين، وتاج الغار في كل يد. كنت أرى فيها تمجيدًا للمرأة ورمزًا لمدينة النور، ربما بسبب تذهيب التاج. كان هناك «نصر» آخر أثار خيالي لمعرفة باريس، في سن الثامنة عشرة،. إنه تمثال «نصر ساموثراكي»، تلك الشخصية القوية التي تتربع في متحف اللوفر على قمة درج ضخم. استفدتُ من عطلة «اللاوعي» لأزور مرة أخرى هذه المرأة المجنحة، حيث كنت أراها تمثيلًا رائعًا لحرية المرأة.


أثناء تجوالي في باريس، أدركت كل ما كانت تزخر به هذه المدينه وبقي عليَّ اكتشافه. ولكن قبل أن تنتهي هذه الفجوة من وقت التحليل، كنت قد عدت بالفعل إلى عيادة الدكتور. كان ذلك في اليوم التالي لحلم تكرر وكان عليّ أن أخبره به

  • أيوه، قولي
  • حلمتُ بكَ في بلدي
  • جميل.
  • وليمة حقيقية، مأدبة. كنتَ أنت وأنا جالسين في قمة شجرة مانجو
  • ماذا؟ 
  • شجرة مانجو. لكننا كنا نأكل فواكه سابوتي، وهي فاكهة لا وجود لها هناكنا ثلاثة، أنت وأنا وملَك أسوَد متوج بزهور اليبي Ipé، شجرة من هناك
  • آه.
  • كنتَ تنطق الكلمات على الطريقة البرتغالية
  • لذلك انتقلتُ من الفرنسية إلى البرتغالية!  
  • وعلاوة على ذلك، صعدتَ إلى السماء مع الملَك
  • في طريقنا إلى عالم أفضل... 

نهض الدكتور قائلاً «إلى غد» وتساءلتُ لماذا لم يطلب مني أن أبدأ في إجراء تداعيات لتفسير الحلم. في طريق العودة نحو شقتي، تذكرت جزءاً من كتاب تفسير الأحلام يتحدث فيه فرويد عن حلم لابنته آنا، التي كانت في عمر عام ونصف، حيث مرضتْ بعد تناول الفراولة ومُنعت من الأكل طوال اليوم. في الليلة التالية، أثناء نومها، رددت قائمة كاملة من الطعام: «فراولة، فراولة برية، عجة، بودينغ…» كان هذا الحلم بالنسبة لفرويد دليلاً على أن الحلم هو تحقيق لرغبة

الرغبة تُعبّر عن نفسها مباشرة في أحلام الأطفال وتأويل الحلم هنا لا يتطلب تداعيات الحالم. كان حلمي عن المأدبة مع الدكتور يشبه حلم الأطفال، لأنه يعبر عن الرغبة في مواصلة التحليل معه في البرازيل وبالبرتغالية. وهذا ما كان متوقعًا وقد توقعه لاكان نفسه. إنما كان هذا التوقع خارج نطاق الممكن لأن  العمل بدأ فعلا في باريس، ولا يمكن العودة إلى الوراء. وهكذا أصبحتِ اللغة الفرنسية لغة تحليلي لأنني لم أكن أتصور  محللا آخر غير الدكتور.


خلال الأشهر الأربعة التي كنت سأقضيها في فرنسا، لم يتبقَّ سوى شهر واحد. وبالإضافة إلى التحليل، كان عليّ قراءة سيمينارات الدكتور والمؤلفين الآخرين الذين كان يرجع إليهم. في تلك السنة، خلال درسه الأول، قال لاكان إن عنوان السيمينار يمكن أن يكون «من لا يؤمنون، أوليك هم الضالون» Les non-dupes errent»» أوأسماء الأب” Les noms du père. هكذا بدأ بتلاعب لغوي، مبرزًا غموض اللغة وما قام به فرويد من تركيز على العلاقة بين لعبة اللغة واللاوعي

في نهجه، كان لاكان يعود دائمًا إلى فرويد وإلى التداعي الحر، الذي يشجع المتحلِّل على قول ما يخطر في ذهنه بحرية، حتى لو أدّي به ذلك إلى التيه في كلامه. فهذا شرط من شروط تجلي اللاشعور. علاوة على ذلك، أذكر من هذه السيمينارات جملة ساعدتني على متابعة مسيرتي الخاصة: «يجب ألا نكون متسرعين في فهمنا». 

فعلى عكس المعارف الأخرى التي تستبعد الذات باسم الموضوعية، فإن معرفة اللاوعي ترتكز بالضبط على معرفة الذات لنفسها بنفسها. ومع ذلك، فإن اللاوعي يحتاج إلى فك رموزه. يقدم لنا اللاوعي ألغازًا ويتطلب الصبر لحلها. ولهذا السبب كان لاكان يوصي المحللين بمزاولة حل ألغاز الكلمات المتقاطعة

لا أذكر ما دار بيننا من حديث خلال جلسات تلك الأشهر الأربعة، لكنني لم أنسَ أبدًا الجلسة الأخيرة بفضل التدخل القوي وغير المتوقع من الدكتور

رغماً عني، كنت قد حزمَت حقائبي، وكان عليّ العودة إلى عملي في البرازيل حيث كان من المفترض أن ينتظرني شريكي. رغم البرد، كنت أتسكع قبل الجلسة. كانت الشمس الساطعة تدعوني للمشي والتأمل. عند وصولي ساحة «شاتليه»، توقفت مرة أخرى عند قاعدة تمثال النصر قبل مرورى عبر شارع «لي تويلري». كنت أود رأية تماثيل النساء في «مايول» من جديد، تلك التماثيل المعراة وبالخصوص تلك التي يبدو أن إيماءتها تدفع من يقترب منها بعيدًا

هذه التماثيل، سأفتقدها هي الأخرى عند رحيلي الي البرازيل ، حيث يُستخدم الجسد الأنثوي للتمتع فقط وليس للتأمل. فهل من مكان للاعتناء المتأمل للأنوثة في بلد لم يعرف قط حقيقة الحب العذري؟

مشيت من الحديقة إلى عيادة الدكتور. كانت قاعة الانتظار فارغة  للمرة الأولى فاستقبلني الدكتور بسرعة

  • تعالي، عزيزتي.
  • هذه هي الجلسة الثانية
  • آه..
  • إذا كان عليّ أن أُقيّم ما حصل، فليس باستطاعتي أن أتحدث عما حدث هنا، ولا لماذا أنا ذاهبة لحالي. ما الفائدة من العمل مع محلل شهير مثلك؟ 
  • قولي لي
  • لو كنت أعرف، لكنت أخبرتك

صمت

  • لا علم لي إلا بشيء واحد. إنه حُلم حضَرني أمس.
  • نعمأنا أستمع
  • حلمتُ أنني طلبت منك شيئًا
  • ماذا كان؟ 
  • طلبت منك أن تقرأ اسمَ (nom) زنقةٍ rue)) في البرازيل
  • مثير للاهتمام!…(renom) سمعة، اسم. ربما ستصنعي لنفسك اسمًا من سمعة اسمي

قام الدكتور هنا بإجراء تداعي انتهى بلعبة كلمات. كان دائما يلجأ إلى هذا الأسلوب في الجلسات التحليلية كما في سيميناره

الحقيقة أنني سافرت وأنا راضية. لم يكن لاكان يجهل مدى أهمية مسألة الاسم بالنسبة لي. أنا من سلالة مهاجرين، والمهاجر يبدأ حياته في مكان آخر باسم لا يعني شيئًا، إضافة إلى فقدانه أرضه الأصلية. إنه لم يعد سوى شخصًا مجهولًا

لقد راهن الدكتور على رغبتي في أن أصبح محللة نفسية معترف بها من خلال عملي، و بالذات من خلال عملي معه. أي أنه راهن على رغبته هو نفسه. بالنسبة للاكان، مثلما كان الأمر مع فرويد، كانت مسألة نقل التحليل النفسي أمرًا أساسيًا ويريد أن يكون له تلاميذ. إذًا، لماذالا في البرازيل؟