الخطيبي - تحليلي الشخصي - فصل



(هذه بداية لترجمة أحد مؤلفات الكاتب المغربي الكبير، عبد الكبير الجطيبي. عنوان الكتاب : "من فوق الكتف". كتبه بالفرنسية ككل كتبه التي تفوق العشرين، ونشره سنة 1988. يتميز هذا الكتاب - وهو ما دعاني الى محاولة نقله الى العربية - بكون بعض فصوله تدور حول تحليل نفسي شخصي قام به الكاتب إباء نوبة من الحداد والقلق ألما به  بعد وفاة أمه).


يوميات موازية

أقوم هنا بنشر يومياتي السابقة والمتماشية مع تحليل شخصي ظرفي قمت به بين 9 شتنبر 1982 و13 يوليوز 1983. وبسبب أسفاري، فإنه تم تجميع الجلسات التحليلية في أربع فترات من مدة التحليل : في سنة 1982، من 9 شتنبر الى 14 أكتوبر ومن 3 ديسمبر الى 24 ديسمبر. وفي سنة 1983، من 28 فبراير الى 23 مارس ومن 30 ماي الى 13 يوليوز. وإني أنشر هذه اليوميات كما هي، بدون أدنى تغيير. 

6 أبريل 1982

أبتدأت هذه اليوميات في عمر متأخر. ويحلو لي أن أتصور بأنني في منتصف عمري. لكن يجب الدفع بهذا المنتصف صوب النهاية.  وفي كل الأحوال، هناك حتما انفصال بين الوسط والنهاية : فليس هناك خط ولا دائرة : كل ما هنالك هو أن أكتب على شفة من لا وجه له.

مشروعي : أن يبقى لدي أقل القليل من التوترات الوجدانية، وعلى الأقل، ما سُمح له بالتبلور بعد تمكني من الكتابة بنوع من اللامبالاة. إلا أنه من غير من الممكن لي أن أستعمل كلمة "هو" وأنا أتحدث عن نفسي، وكأن الأمر يتعلق بشخصية روائية تقوم بكتابة يومياتها. ويالها من فكرة غريبة أن أبتدئ هذه اليوميات معتقدا بأنها ستبقى في طي الكتمان ولن يتم تنشر. إنها لفكرة خاطئة، بحيث سبق لي أن نشرتُ ما قمت بكتابته. 

سأغامر وأدفع بكتاباتي كي تنشر - أو لا تنشر. فلا أريد أن أتهرب ممن ينظرون إلي من فوق كتفي. على كل. لنترك كل هذا جانبا ولنستمر. 

هاكَ حلم هذه الليلة. رأيتُني أمارس الجنس مع إحدى أوائل صديقاتي، مع العلم أنه لم يسبق لنا أن قمت بذلك في الواقع أبدا. فما أثار انتباهي لحظة الإستيقاظ، عندما وجدتُني قد قذفت وبللت لباسي الداخلي وكذلك أغطية الفراش، هو تذكري لعبارةٍ بالدارجة المغربية ترجع الى فترة مراهقتي : "ضربني الشيطان". إنها تعني (وهو تأويل مني)، بإن الشيطان غرر بي وجعلني في ضلل. إنني مارست الحب فعلا مع صورة حلُمية. لكن لمذا يتم اعتبار هذه الصورة التي مارستُ الحب معها، صورة شيطانية ؟ يحق القول بأن الشيطان، على غرار الملائكة، هو أيضا من أحلام اليقظة. إلا أنه لم يسبق لي أبدا أن رأيتُني في حلم وأنا أمارس الحب مع أحد هذه الأرواح. 

إضطراب أثناء اليقظة : هل حصل هذا الحلم البارحة أو ماقبل البارحة ؟ لا أذكر. 

إن كتابة المقتطفات تشكل ما هو أروع في اليوميات. فما نكتبه يكتفي حينها بنفسه ولا يبغى إرجاء إتمامه إلى الغد. فكل مقتطف يبقى منفردا وحدانيا، ليصبح تمثال اليوم. 

أما بخصوص عملية وصف المَشاهد، فإني لم أتمكن أبدا من استعمالها بدقة تضاهي الدقة التشريحية وذلك بإمعان النظر في كل جزئية ثم تركيبها في خيوط وخطوط فكرية. 

وحتى عندما يتمكن مني التعب، فإنني أحاول أن أسجل كتابيا ما يواصل حديثه في جوانبي وأطرافي. هكذا أحاول نسيان أنني أكتب، لكنني بذلك ومع ذلك أترجم نبضات وإيقاعات العياء لدي.

إنني لا أدري أين يسير بيٓ الدرب وأنا أكتب في هذا الدفتر. ولا أحد بإمكامه أن يهتم بهذا المشروع الكتابي، إلا وقد استولى عليه نوع من سوء النية.

البارحة. لا، بل ما قبل البارحة، أبلغني أحد الإصدقاء بأن كلامي لا ينضب بخصوص موضوع الموت. وكي أتحايل على جبروتها المخرب والجلي والمتواصل الى حد ما، قررت تأليف كتاب (إضافي) حول مسألة "الحمق" في الإسلام. "في" : في الحمق من منظور الإسلام وفي الإعتقاد من حيث هو حمق.                     

وفي ذات الحين، أنا أعرف جيدا ما يعانيه أخي من الحمق. فدراسة هذه المعاناة وهذه الخبرة، ومحاذاتها والتماشي معها بواسطة الكتابة، يهدف إلي محاولتي التخلص مما يراودني من حمق خافتٍ.

لكنني تسرعت بالنطق بهذه الكلمة. فأنا لست أحمقا ولا قابلية لدي كي أصبحه يوما. إلا أنني مع ذلك أؤدي بالغ الثمن بسببه.

فهذه السطور التي أسجلها هنا ليست بمثابة تحليل نفسي لذاتي بذاتي، وإنما هي مجرد معالم، أقوم برسمها خطوة خطوة لمساعدتي في التفكير. وأقصد هنا هذا التفكير الذي يتطور ويتواصل في نوع من المنطق أو العقل الفرداني والوحداني.    

في هذه اللحظة بالذات، خامرتني صورة متموجة لجسد امرأة تحسب نفسا وكأنها مٓوجة بحرية. إنني أراها من بعيد وهي تتضحرج فوق أجساد أخرى. فكيف يمكن لي وصف الجسد إذن ؟ إنه نقطة التقاء بين اللغة وبين العناصر الأربعة.  

لماذا كل هذا الإصار في التذكر ؟ علبة صغيرة للفودو Vaudou من معدن خفيف. على غطائها صورة ماعز ذي ذنبين معقفين، إنها صورة تترك إحساسا بطائر مجَنَّح. وهناك رسم آخر، رسم يحاكي شكل الأفعى. يبدو لي أن هذه العلبة تحتوي على روح الزلزال، على إله الرياح والمحيطات. 

أنا لا أعرف من اللامتناهي إلا إسمه الجميل. وهكذا، يلزمني المشي قدما والتعمق في عملية الإستعارة. فلا يجب تقبل استعمال استعارة ما إلا تلك التي لا مثيل لها. لا مثيل لها ؟

8 أبريل 1982

اليوميات : سرد الزمن الذي يحكي عن نفسه بنفسه. أما أنا فأضع يدي تحت تصرفه. يد الزمن : يالها من فكرة !

10 أبريل 1982

تقوم كتابة اليوميات بعملها انطلاقا من المواد التي تُعرض عليها : كلمات، مفاهيم، أحداث، وكذلك شخص الكاتب نفسه وحتى الآخرين. فكل شيئ لا يخلو من قيمة تدعو لتسجيله. تكفي لذلك جزئية من الجزئيات أو علامة تصر على الظهور، أو أثر من آثار يوم أو ليلة. فيتم قلب هذه الجزئية الى عقدة، ومنها إنشاء أشكال متناسقة. وفي اليوميات، يتم أيضا حرق كل ما نكتبه يوميا وذلك حتى لا نقع في مأزق. فالصمت لا يؤدي إلى مأزق ما، إنما في الحياء المترتب عنه هلاك واندثار. في هذه الحالة، يجب الإستمرار في الحرق كل يوم، ويوما بعد يوم.   

سوف أنام على هامش هذه اليوميات، إنها رفيق لي يجب الإعتناء به عن قرب. وإني أضع تحت تصرفه يدي. من أجل آيادي أخرى عاشقة. لكن ومن دون شك، تبدو لي بداية هذه اليوميات بدون مخرج. 

وهاهو الوهم : إحلال نفسي محل بطل هذه اليوميات. وهو وهم سيكبر وينامى : ونراه منذ الآن وهو يصدر أوامره نحوي، نراه وهو يحدد لي مبائ الحياة والسلوك الأخلاقي وتصوراتي الميتافيزيقية. وعما قريب، سنراه يقدم محاضرات عن ماهية "اليوميات الأخيرة". إنه سيُحِب، وسيجعلني أُحب بدوري، وسيحفزني ضد نفسي. إنه سيجعلي أشعر بالذنب والعار على الدوام. إنني أحس بذلك. وسيكون قاس معي إلى أعلى درجة. سأراهن على ذلك !

وبالإجمال فإن اليوميات تُكتب كي يقرأها قراء عندما لا يجدون ما ينشغلون به وكذلك في فتراة ما قبل النوم. يجب إذن أن تتوفر هذه اليوميات على بهجة المملل والضبابية. ويجب أيضا أن تحتوي على ما فيه الكفاية من العناء والمشقة حتى يتم الإنزلاق بها ومعها في عمق الليل.

11 أبريل 1982

مشهد بدون تعليق : في فراشي مع امرأة. إمرأة أخرى كلَّمتْ في التيليفون. خرجَت الأولى من الغرفة في عفة واحتشام. ثم رجعتْ بعد انتهاء المكالمة. تجردت من ثيابها. وتجردتُ أنا كذلك من ثيابي. مارسنا الحب سويا. سؤال : مع من مارسنا الحب ؟ أو مع ماذا، بالأحرى ؟

أول مقابلة مع المحلل حصلت في 9 شتنبر 1982. كانت مقابلة طويلة وشاقة. فأنا لم أكن أستمع "لدقات أجراسه". 

في 14 شتنبر، بعد أربع مقابلات، اقترح علي جلسة على الأريكة. قبلت لأنني كنت على وشك أن أقترح ذلك بنفسي. في هذه اللحظات، وجدته يدرك الأمور جيدا. إنه في إنصات كامل وهكذا فإنه كان يقوم بعمله. أما أنا فكنت أقوم أيضا بعملي، تاركا العنان لكل قول يود البوح. 

22 شتنبر 1982

وعدٌ : كيف أقطع عهدا على نفسي من دون أن أكتب شروطه أنا شخصيا ؟ يالها من فكرة ! ويكفيني أن أقرأ هذين السطرين في نوع من شرود الذهن. كل هذا يبقى مختلطا علي، وعلي أن أتعمق في مسألة علاقة النوم مع ما يشابه الثمل الخفيف.

الساعة الثالثة زوالا وأربعين دقيقة، بعد الجلسة. يستمر العمل التحليلي من تلقاء نفسه : أما الجديد بالنسبة إلي فيخص العلاقة بين إسمي العائلي، وبين تاريخ الأزدياد الوحيد الذي تم تسجيله من طرف أبي على صفحات دفتر. يتعلق الأمر بتاريخ ازدياد أخي الأكبر. إنه التاريخ الوحيد الذي تم تسجيله : أهذا من قبيل الصدف بالنسبة لي، أنا الذي أكتب هذه اليوميات ؟ لا بالطبع، أقول وأنا أوقع وأضاعف التوقيع. ثم هذه الكملة أيضا : "يجب قتله". 
  • "من ياترى ؟"، سألني المحلل ولم يجانب الصواب.

23 شتنبر 1982

هذه الليلة، وأنا في منزل امرأة محللة نفسانية، حلَمت مايلي : كنت أنظر معها الى إسمي الشخصي مكتوبا بالخط العثماني. كنا ننظر إليه جانبيا، فيبدو الخط محجوبا شيئا ما. 

إنه حلم يومئ لما دار في أمسية البارحة من نقاش أقدمتُ فيه على تفسير قصة إسمي الشخصي. وخلال هذا النقاش، أوردت صديقتي خبر صديق لها يعاني هو نفسه من مشكل مشابه، مشكل يتعلق بتغيير إسمه الشخصي وبما صاحب هذا التغيير من  عدوانية تنافسية بين الأكبر والأصغر. 

24 شتنبر : كانت أخر جلسة تحليلنفسية، تلاها تحديد موعد مُقبل ليوم الإثنين، 28 فبراير على الساعة 3 و 40 دقيقة. أثناءها قام المحلل بتسجيل عنواني. 
ما أثار انتباهي هذا الصباح خلال الجلسة : 
1- "حفل البابا-نويل في السويد، الحفل الحق"، سمعتُني أقول. لكن ؛
2- كان يتوجب علي إغراء م. عن نفسها، عند لقيانا، مهما كلفني ذلك من ثمن. وكان ذلك إشكالا في الأصل، بحيث أن إرادتي سطت على رغبتي، بل يمكنني القول بالأحرى بأن إرادتي أرغمت رغبتي ؛   
3- قمت بالتلاعب ببعض الكلمات، كمثل nordre، n-ordre، hardoise : وهكذا فإن كلمة ordre (نظام) هذه، كانت تترد باستمرار وكذلك كان حال كلمات nibile، mobile، nibylle. الخ. فما الذي كان يُصر هكذا على الإسترسال بهذا العناد ؟ 
4- تحدثتُ مع المحلل عن الوضعية التحليلة بكلمتين. وقلتُ بأن لا موقف أورثوذكسي لدي بصددها : يمكنني اختبار كل المواقف. 
أحسست بعدها بفراغ وبارتياح في نفس الوقت.
وأحسست بهدوء. بنوع من هدوء الروح. 

29 ديسمبر 1982

حلم يتعلق برواق مطار. وأي مطار ياترى ؟ أراني قبالة المضيفة وهي تراقب بطاقتي للإركاب. الآن يمكنني الإركاب، لكنني أنتظر السيدة م. التي تأخرت في المجيء، مما قد يمنعها من الإركاب. فقمت بمناداتها. ناديت م. زوجتي، وقلت ذلك للمضيفة. فكانت اليقظة.  

30 ديسمبر 1982

الأحد الماضي، خلال نقاش دار بيني وبين إحدى صديقاتي، حصل لدي إدراك لتخوفي من الدوخة. لقد حكت لي بخصوص رهابها. إلا أنني لم أربط بين رهابي أنا (المتعلق بالمترو وبالأماكن الشاهقة) وبين مؤلفي "حبٌّ مزدوج اللغة" الذي يتطرق لحالة امرأة مصابة بالدوار، بكلا المعنيين للكلمة. 

للتأمل.
نعم. يجب إبطال بعض الإصرارات. لكن درجة قوة كل إصرار يرجع إلى العمق الذي يجلب منه شدة مقاومته. إن التخلص من الإنزعاجات البسيطة والمشاكل الصغيرة، هو انتصار لا بأس به على زمن الإرهاق وعلى الملل الذي يدور على نفسه.

بين المرأة وازدواجية اللغة، تكمن الرغبة في كون الواحد والثاني. يجب إذن الفصل في الخلوطات التي تغذي هذه العلاقة. وهكذا يجب شد الإنتباه حول استقلالية كل عنصر.

3 دجنبر 1983

حلم : أخي - الأصغر - رمى بنفسه من أعلى المنزل. إنه سقط. ظننته مات. بقيت هكذا أراقب، وأنا قلق، مسار الأحداث. ثم تم حمله على نقالة وبسرعة فائقة تم الجري به ووضعِه أمام عيادة طبية. 

إحساس رهيب. إتكأ أخي بمرفقيه (على ماذا ؟ لست أدري). لم يكن بإمكاني التعرف على كنهه. وكأنه مكوَّن من كاغط أسود ؟ أكان أخي حيّا أم ماذا ؟

5 دجنبر 1983

أنه قول شد انتباهي أثناء جلسة تحليلية. إنها هلوسة : رأيت إذن تلك الكلمة. ربما هي كلمة "lettre". وفي كل الأحوال، هي كلمة تنتهي بحرف "e". لقد اعوجَّ هذا الحرف وتغير ليُكَون صورة قلب، كتلك التي نلمحها من على البطاقات البريدية القديمة. رأيت لمعانا ضوئيا، رأيت إشعاعا أو بالأحرى، خيطا من نور يسقط على ماء مسطح. هدوء تام. ولا ضوضاء. في هذه اللحظة قلت : إني أرى الله. ثم أضفت : إن له شَعر أجعد. ياله من تخيل غريب ! إله ذو بشرة سوداء : فهل سبب ذلك أن الليل شغل بالي أو أن ما شغل بالي هو كائن أسود ذي شعر أجعد ؟

إن إلهي، دائما وأبدا، من فصيلة الحرف.

14 دجنبر 1983 

قراءة الكف : فن التعبير بالأيدي.

17 دجنبر 1983 

حلمت بأحد الأصدقاء يقول لي بأنه سيبعث رسالة (بمعنى : رسالة طلاق) إلى زوجته.

31 دجنبر 1983 

توصلت بنسخة من كتابي "حب مزدوٓج اللغة" الذي تم نشره. بعد ذلك تحممت في مياه المحيط بعد توقف دام شهرين (شهر في الخارج وشهر هنا مع توعك في الظهر). وكأنني، بهذا الطقس، أود أن أحتفل بمناسبة نشر هذا الكتاب وبجملته المائية. إذ يشكل المحيط الشخصية المركزية لهذا "النص".

19 فبراير 1983 

حلم. رأيت امرأة ملففة ومعصبة بالكامل بأعصبة بيضاء (وكأنها ممرضة) لكن فرجها فقط كان عاريا ومفتوحا.
ملاحظة : عندما استيقظيت، فكرت بامرأة ثم بأخرى. 
كلمة "palandrome" تراودني بإصرار.
يلزمني إذن المحافظة على دقة الكلمات المقابلة للأشياء. يجب علي  التخلي عن كل تلاعب "سهل" بالكلمات. لكن أليست التداعيات التحليلنفسية نوعا من "الحرية" تحت المراقبة ؟ ألسيت نوعا من السهولة التي تؤجل الصعوبة، صعوبة عمل التأويل العنيدة ؟

  • "لنقم بعمل التأويل ؟ وأبعد من ذلك، لنعمل على التوجه نحو باب المخرج. فهنالك أبواب عدة"، قال لي.

سأكتب. نعم، وإن لم تكن هناك حاجة للكتابة. وسأعتمد على المعاناة بصفتها وسيلة بناءة وليس فقط كمتعة مَرضية. سأعتمد عليها كوسيلة بناءة في بناء مؤلفاتي. أما إن حصل وانقرضت الصحراء، فهناك دائما رحال ما، تحمل حكايته ذكراها. 
سأكتب من أجل لاشيء.

20 فبراير 1983 

سأُخلي التوقيع يعمل لوحده.

5 مارس 1983 

البارحة، قبل جلسة التحليل، قرأت هذه الجملة لبلانشو بخصوص كافكا : "ماذا قد يصير امتحان إبراهيم، في حالة ما لم يكن له إبن، وقد طُلب منه مع ذلك أن يضحي بهذا الإبن . إنه لغز كل كاتب. 

29 مارس 1983 

بين القلق والزمن، لنحافظ على أيقاع متباطئ.

13 أبريل 1983 

حلم : رافقتي هذه المرأة قليلا. لم أكن بعيدا من "شقة" محللي النفسي. وعوض أن أصل في موعد الجلسة، كنت قد تِهت في شوارع جانبية. وها أنذا متأخر عن الموعد. إنتابني إحساس بالقلق. لم أتمكن من التعرف على الطابق الذي يوجد به مكتب المحلل. نزلت إلى أسفل العمارة ثم صعدت. ضغطت على زر الباب (وها أنذا من جديد في أسفل العمارة وكأنني أعاود الصعود والنزول من جديد، لكن في زمن آخر). دخل المحلل معي إلى مكتب عمله. شيئ ما كان على رأسي ويسقط عل عيني فيمنعني من النظر. كنا واقفين وكنت أبحث عن أريكة التحليل لكني لم أكن لأراها. وربما هنالك مسألة أخرى : وكأن الأوان قد فات (كان زمن الجلسة قد انتهى) وها أنذا أجيء لتحديد موعد آخر. كنا واقفين. أتذكر الآن ما نسيت ذكره : قبل مجيئي عند المحلل النفسي، في مكان ما من المشهد الأول لمنزله، كان هناك شخصان يتحدثان عنه بكل احترام ويقولان بأن المحلل مغربي. يالها من أعجوبة !

يتملكني الآن تعب من جراء استنساخ هذا الحلم بكامله.

13 أبريل 1983 

حلمت ما يلي : في مكتب المحلل، كان هناك رجل متمدد على الأريكة. أما أنا فكنت واقفا. لست أدري إن كان يلزم هذا الآخر الإستمرار في الكلام أم أنه قد لزم الصمت. إنه من الملفت حقا موقف كل منا، وكأننا على خشبة مسرح. كان المحلل واقفا أيضا، على الجانب. ومن المحتمل جدا أن يكون هذا الحلم قد تم تركيبه بكثير من العناية. لنستمر. 

19 أبريل 1983  

إلتحقت المرأة اليابانية ببلدها كضربة مروحة. 



في مابعد الأريكة


لماذا أنا الذي أمتهن الكتابة، استأجرت محللا نفسيا لينصت إلي ؟ فما هو هذا الدَّين الذي يفعل فعله بي ؟ وربما قد يتم أداء ثمن هذه السطور من طرف قارئ يبحث عن إستبدال دَين أخر بحبه للإستطلاع.

***

لقد "زلت قدمي"، على ما أظن : يالها من خطوبة تم فسخها مباشرة بعد عقدها. فَصَل بين العمليتين لحظات فقط كي يتم اختطاف مجوهرات وعطور وقبلات وتوقيعات.  

***

هذه الجملة، لم أبحث عنها اعتبارا من نظرية قوة التطاير. دوخة ؟ يجب أن انتظر كلمة أخرى، تلك التي تسافر مع نوطات الموسيقى التي مازالت تصل إلى أذني. 

***

الصمت من ذهب : هذا هو شعار التحليل النفسي الجديد. وكم أفهم الأن قيمة هذا الصمت ! وكذلك قيمة ترتيب حلم يقظة حول سر أبيض !

***

إني أنصت إلى ما يلزم على المحلل النفسي السكوت عنه (إلا في حالة خطئ تقني) ؛ إنه يراني أتحدث وأنصت إلى صدى كلامي. فالتكلم بغير كلام، هو قاعدة اللعبة، ويكون النظر بغير رؤية هو خشبة المسرح لها.

***

جلسة غريبة. رأيت أثناءها الملَك وكأنه مُشَغِّلُ رافعةٍ أثناء عمله وهو معلق بين السماء والأرض. نحن الإثنين كلانا مترجمان، هو بإعطائه للمادة شكلها وأنا بإعطائ شكلها لتخيلاتي الطفولية المقدسة. 

***

إن الحلم عتيق لدرجة تجعله لا ينتمي لللغة إلا بالنسيان. 

***
مخاطرة. كيف يمكن للمتحلل أن يتكلم من قلب الصمت عندما يعاني من فقدانه لقوة اللسان. إنها نشوة بما هو جد دفين، نشوة تنبع في صلب الذاكرة الأكثر ليونة والأكثر اختباءا. إنها رقصة ليلية على إيقاع قديم، تزينها ألوان وأضواء، لكنها لا تقصد شيئا في حد ذاته. 
إنني أكتب متناسيا الحواشي. لكني أتبين بأن هذه الحواشي تتناساني في ركن الصفحة. 

***

صوت محايد ومفتعل إلى حد ما. وفي صمت هذا الصوت بالذات تكمن شدته التواصلية، وكأنه صدى يأتي من غرفة أخرى. إنه صوت ذي نغمة آلية، كان فرويد أول من حدد معالمها.

***

المحلل النفسي يقترح، أما الكاتب فيتصرف فيما ما تم اقتراحه. 
***

إني استيقظت وحالي كالتالي : لقد نسيت حلمي ونسيت حتى تأويلي له وأنا أحلمه. كنت واقفا منتصبا تحت الضوء وكنت أضحك وأنا أكتب هذه الملاحظة المبكرة. 
    
***

ما أكتبه ليس بيوميات ولا بنقيض يوميات. إنما هو شكل ثالث. ما إسمه ؟ وما هو نموذجه الأدبي ؟ لنترك هذه المسألة لما بعد. أما الآن فيلزمني أن أحاول كتابة ما لم أصرح به إلا ما نادر.

***
علاقة أريكة التحليل بالفراش تكمن في مكانتهما العشقية في اللغة. فما منهما ظِلٌّ للآخر في تركيبة جلسة ما ؟ 

***
عندما يصبح أحد المحللين النفسانيين أكثر حساسية واستجابة لنداء الإغواءات، يجب على زملائه أن يربطوه إلى أريكته التحليلية، في قاعة فارغة يرن الصمت بين جدرانها. وهكذا قد يتوان قليلا عن انصرافه مضطرا الى القضاء شهور العسل مع مريضاته اللواتي يغطيهن بفسقه وبفحشه. فأنا أقترح أن نضع أمام هذه الأريكة، منصة عليها الإلهين تريتون وميلوزين، وقد تربع كل واحد منهما في إطاره الذهبي.

***

هذه السطور : وكأنها إيماءات رسّام.

***

كلما اتسم ما لا يمكن قراءته بالغرابة، كلما تركز انتباهي بخصوص الكتابة على نقطة عمياء. فليست هذه السطور من قبيل نتف لمضمون خيالي متكامل. إنما هي تنكمش على انفصالها. أحيانا أتساءل فيما إذا كان يلزم إيقاف موكب هذه السطور. لكن ما لا يمكن التحكم فيه، هو من سر الأيدي.   

***

إدارة خيبة الأمل : من أحسن دروس التحليل النفسي. نعم، لكن كيف يتم ولوج مرحلة الشيخوخة انطلاقا من هذا المبدئ، وهو أحد أجمل مبادئ الحكمة ؟

***

يبدو أن هناك أمراضا نفسية حقيقية لا إسم لها، تماما كهذه الدروب المسدودة التي يتم انتزاع إسمها كلما تم تقديس أحد موتاها.

***

التحليل النفسي : فكر مؤسِّس للإغتراب. قراءة اللاشعور وكأنه صفحات من كتاب آركيولوجيا، ياله من تصوف !

***

أهل أنهيتُ تحليلي الشخصي ؟ وهل أنهى محللي تحليله الشخصي ؟ إنني أنظر الى هذه السطور لاكنني لا أسمع دائما فكرتها العميقة. يحلو لي أن أرى في التحليل النفسي نمطا جديدا من الأنماط الأدبية، ليس أكثر وليس أقل.  

***
عندما يطلب مني "إسم" محللي النفسي، أرد بالقول بأن توازي عددين اثنين يشكل عنده إيقاع حروف متراصة حول سِر أبيض. إنها مسألة أسلوب في التحليل وكيفية للخضوع للتحليل. 

***

مازلت أتساءل فيما إذا كان تحليلي الشخصي هذا لا يعدو كونه يشبه لحظة الإستعداد للنوم. وأفترض أيضا بأن محللي النفسي قد سطر ملاحظاته بهدف التسلي. وكم أنا متفهم لحاله !