بذور الرغبة في التحليل النفسي : ملامح من تجربتي الشخصية - مقالة


 

 

أشكر جزيل الشكر منظمي هذه الأيام الدراسية للسماح لي بأخذ الكلمة حول موضوع يخص مسالة تلقين التحليل النفسي. وسأحاول إدراج كلمتي هاته من مكان الالتقاء لدي بين هذين المجالين: التدريس بالجامعة من ناحية وممارسة التحليل النفسي من ناحية أخرى. والأجل من ذلك، فإني أعبر لهم عن امتناني بإتاحتهم الفرصة لي كي أستجلي، بشكل تطبيقي إلى حد ما وللوهلة الأولى، جانبا من نظرية جاك لاكان المتعلقة بمسألة الخطاب. سأحاول هنا مع كثير من الاقتضاب، إعادة النظر في بعض عناصر هذه النظرية معتمدا ربط هذه العناصر ببعض الفصائل من سيرتي الذاتية، الشخصية منها والمهنية.

 

 

من زمن فرويد...

 

بادئ ذي بدء، أذكر بأن فرويد نفسه تطرق، في مستهل عمله التنظيري والمهني، لقضية العلاقة بين الجامعة والتحليل النفسي. فلقد تم فحصه لهذه القضية في مقال وجيز لا يتعدى أربع صفحات تم نشره منذ سنة ١٩١٩ تحت عنوان: «أمِن اللازم تدريس التحليل النفسي بالجامعة؟». إن صياغة هذا العنوان لكافية لإمدادنا بفكرتين عن موقف فرويد من هذه القضية والذي مفاده إجمالا:

 

١ـ أن التحليل النفسي لم ينتظر ولم يتوخ مساعدة الجامعة كي يتبلور في شاكلة خطاب مما يدل على أن التحليل النفسي مستقل تماما عن الجامعة.

٢ـ لقد أمكن للتحليل النفسي وبإمكانه دوما التخلي عن الجامعة ذلك أن لوازم ممارسته وضروريات تلقينه وحتى وسائل انتشاره لا تعتمد على هذه الأخيرة إطلاقا.

 

إلا أن فرويد في هذه الآونة، ورغم ما تم ذكره، لم ير مانعا من تدريس التحليل النفسي بالجامعة نظرا لحالة البؤس النظري والفكري التي أصابت الدراسات الطبنفسية في الجامعة الهنغارية آنذاك. فالطلبة أنفسهم قاموا بتقديم عريضة يطالبون فيها رئاسة الجامعة بتدريس التحليل النفسي كعطاء فكري مراسي قادر على إثراء حقل الأمراض النفسجسدية. 

 

ولكي تتم مَوقعة موقف فرويد هذا، يمكنني القول إننا نجدنا هنا بمستوى هذه المرحلة من الرأسمالية المتاخمة للثورة الصناعية والتي بلغت أوجها بالسيطرة على الطبيعة وما نتج عن هذه السيطرة من أنتاج جماعي لوسائل الترفيه ومن برمجة شاملة لمعالم الفردانية. تتميز هذه المرحلة بانتشار واسع لاقتصاد السوق المتوحشة وبسيطرة الإيديولوجيات العلموية. وقد عمل هذان الأخيران بكل تناسق على إبطال ما كان الكون ينعم به سابقا من قداسة وعملا أيضا على قطع ما بات يربط ما بين الأب والإله من أواصر القربى. إن جهود هذين العاملين تظافرت أيضا لفك سحر رُبع وافر من رياض الله وكذا لتدبير بيروقراطي محكم لشعور الإنسان بوجوده ثم لترتيب اصطناعي مبرمج لمسالك الرغبة لديه.

ففي مجال علم الأمراض العقلية، لقد تعمد الطب العقلي مسلك الطب العام الذي، كي يحظى بمرتبة العلم، طعَن بمشرطه قلب الشرائع السماوية الساكن في أحشاء الجثة.

 

وهكذا، فالنداء الذي وُجه للتحليل النفسي في هذه الوهلة، مفاده إخراج علم الأمراض العقلية من حالة التحجر الذي أقحمته فيها العلوم الطبية أنذك. فكيف لا يرُد فرويد بالإيجاب على هذا النداء؟ إنه يعلم علم اليقين أن التحليل النفسي لا يوطد المعارف التي تبغي الاتكاء عليه بقدر ما يهدم ويهزم المعتقدات التي تنوي ترميم هياكلها به. إلا أن فرويد يتقدم متسترا. فهو لا يقَدم ويَعرض من التحليل النفسي إلا ما يرتضيه ويستسيغه سيد الآونة، ذاك السيد الرأسمالي والعلموي. فنجد فرويد يعرض عليه ما يميز التحليل النفسي من الجدة والجدية وما يصبو إليه من الرصانة العلمية. إلا أنه يعرف حق المعرفة أن ما يضمن للتحليل النفسي ثوريته الدائمة والتي تميزه عن سائر المعارف الأخرى هو اكتشافه لفعل الكبت في تكوين الحقيقة اللاشعورية. فلقد جرب بما فيه الكفاية فعالية سيرورة الكبت والتي كلما تمت معاينتها عياديا لدى شخص بالذات، فإنها تؤدي لامحالة الى تفسير وتأويل لكل مضمون ظاهر، عاديا تجلى أو مرضيا. وبالإجمال، يمكن القول بأن فرويد يضع في جهة خطاب التحليل النفسي وفي جهة أخرى كل الخطابات والتي يحظى التحليل النفسي بصددها بوظيفة المؤوِل.

 

 

... الى زمن لكان 

 

انطلاقا من ها ذا التقسيم المزدوج والبسيط والذي يضع فيه فرويد التحليل النفسي مقابل كل العطاءات الخطابية، نمر مع لاكان الى تقسيم أكثر تعقيدا. إلا أنه من اللازم، قبل التطرق الى منظور لاكان في هذه المسألة، التأكيد على أننا لسنا بعد في زمن فرويد المُؤطر بتسخير الطبيعة وإنما في زمن الثورة البيولوجية التي تقدم الكائن الحي مفصلا الى أقصى جزئياته وذلك بواسطة تقنياتها العلمية المسخرة لخدمة السوق العالمية. فالرأسمالية الآن قد تعدت مرحلة اقتصاد القيمة الزائدة وتقتير اكتساب الخيرات الذي كان مفروضا على الكافة لفائدة أسياد قلة، إلى مرحلة التوزيع الشامل لوسائل الترفيه المعَدة سبقا لإشباع حاجات كل واحد على حدة. وهكذا رويدا تنقلب عوالم الحياة الإنسانية الى مستوى كائنات يتم تعديلها بيولوجيا بعدما كانت في السابق متزنة ومتوازنة تحت تأثير قوانين اللغة والعمران الإنسانيين. فهذا الفرد الذي تمت ترقيته في ماض قريب إلى مرتبة الشخص المفكِّر، الحر والمستقل عن كل رباط، فإنه الآن يرقب بلا حول ولا قوة لديه، الإنتاج الصناعي والتوزيع التجاري لمختلف أعضائه وشتى نزواته. وهكذا حال الحياة الجماعية أيضا التي انحلت روابطها وتفككت عناصرها إلى عدد لامتناهي من الأفراد لم يعد بالإمكان التمييز بينهم إلا من حيث أساليب ووسائل إشباع ما يلح لديهم من رغبات ونزوات.

 

ولهذا فإن تقسيم لاكان لأشكال الخطاب لا يتسم، كما سبق قوله، بالتعقيد فحسب لكونه رباعي الأطراف وإنما لكون التحليل النفسي نفسه يشكل واحدا من هذه الخطابات وهو بذلك يعمل على تأويلها بقدر ما هو خاضع لتأويلات صادرة عنها. 

 

 

من الطالب مريد التحليل 

 

فهذا ما سأحاول تبيانه من خلال بعض الإشارات من حياتي الشخصية. يمكنني القول إنني منذ طفولتي المبكرة، اختبرت حدثا يمكن اعتباره الأن بمثابة انسلاخ مني عن الخطاب السائد والذي يمكن تسميته بعد لاكان بخطاب السيد. ففي خلال انخراطي في صلاة جماعية ضمت كلا من معلمي وتلاميذ المدرسة الابتدائية، أثار انتباهي، وعمري لا يتجاوز آنذاك السنة التاسعة، ما يعتور هذه العملية البالغة الأهمية في أنظار الكل من بهتان وتكلف واصطناع في نظري. بعد ذلك حدث لدي ما يثبت لي قطعا درجة هذا الاصطناع وهذا الافتعال وأنا منشغل بإقامة الصلاة منفردا من على سطح منزل أجدادي بالبادية. فماذا حصل يا ترى؟ وجدتُني أتوقف بتاتا عن إتمام صلاتي، ليس خوفا أو رعبا لوجودي بحضرة العزيز الجبار العلي القدير، وإنما احتشاما من النظرات المازحة لطفلة جيراننا المتربصة بسطح المنزل المقابل. أضف الى ذلك محاولاتي الأولى، والتي كللت بالنجاح أحيانا، أداء فريضة الصوم التي كان مفادها عندي منذ ذلك الوقت، ليس الأمل في احتجاز غرفة بنزل الفردوس الأبدي وإنما كل ما كنت أتوخاه بالأساس هو تفادي صدم ضمائر أهلي الموقرة واحترام اعتقاداتهم الراسخة.

 

وبعد سنوات خلت، حصل توقفي، في نهاية السلك الثاني للمرحلة الإعدادية، على مقرر الفلسفة. يا له من تأثير حازم أوقعه فحوى هذا المقرر في بنائي النفسي وفي مساري الفكري! فلقد شد انتباهي منه فصلان اثنان: فصل يتعلق بماركس وبمنظوره في الاقتصاد السياسي وفصل آخر يتعلق بفرويد وبنظريته في الجهاز النفسي. واهتمامي الخاص والمتميز بهذا الفصل الأخير يرجع بلا ريب الى ما طُبع به مزاجي من احتشام وتأمل، إضافة إلى ما كان يشغل بالي آنذاك من اهتمامات عقلية وشطحات فكرية، وما كان يدمي وجداني من أوجاع نفسية وتقرحات وجودية.

 

وعلى كل، فإن لقياي هذا بمقولة اللاشعور وبما انطوت عليه لديَ آنذاك من ألغاز ورموز، أَحالها منذ ذلك الحين مقياسا محددا وموجها لكل حساباتي واختياراتي الآنية والمستقبلية. ولقد علمت فيما بعد بأن مقرَّر الفلسفة هذا قد تم إنجازه وترتيب مضامينه من قِبل جماعة من الأساتذة الجامعيين المغاربة ذوي الاتجاه اليساري. فإنهم بذلك قد عملوا على غرس نقلة هذا النمط المعرفي برحابنا بعد أن قدِم به العهد، فتفرعت أغصانه وطابت ثماره في رحاب أخرى سميت عادة ببلاد الغرب. فهذا الخطاب الجامعي الذي عمل هؤلاء الأساتذة الأفاضل على إرساء مضامينه وتثبيت برامجه وتحديد قواعده وضبط مناهجه وإجلال فوائده، قد أتى في حينه، بالنسبة لي وبالنسبة لآخرين مثلي عدة، لتوكيد الإطاحة المبرمجة منذ مدة، برأس الواحد ـ القهارـ المتحدث باسم الكل. فهكذا تدريجيا، تحول لدي وجهُ الواحد الأوحد إلى وجه آخر لا يفوته غمضا ولا يدنوه جبروتا. ألا وهو وجه لاشعورنا الذي نجده امامنا أينما ولينا وجهنا.

 

إلا أن اجتيازي لشهادة البكلوريا رافق بل وسهل انتقال قسط من هذا اللغز الى عرَض نفسبدني من بين أعراض مرضية مختلفة لا يسع الحديث عنها هنا. وقد عمل هذا العرض، الذي واكب بدايات دراستي الجامعية، على إطلاق رقصة الخطابات المتزامنة آنذاك والمتواجدة في رحبة التطبيبات. وههنا نرى المريض يستدعي الحلول المختلفة بل والمتناقضة بصدد عرَضه المؤلم والذي لم يعُد له به طاقة. فها هو يستعطف ردود المختصين من مقامه كمريض، أي من موقع الخطاب الهستيري طبعا. فلقد رأيناه يجري نحو مصحات واختصاصيين عصريين كانوا أو تقليديين، راجيا شفاء مرضه من ِقبل أولئك اللذين جعلهم الخطاب السائد، قديمه أو حديثه، في مقام المفتَرض فيهم حل ما لَمَّ من مآسي بهذه النفس المكلومة.

 

لقد أُوتِيَت إلى المريض ردودُ وإجابات بقيت كلها واهية، لاحول لها أمام صلابة عَرضه المتعنت والممتنع عن كل المعارف والتقنيات المعدلة والجاهزة سبقا. إلا أن مريضنا هذا لم يقصر جهده في محاولته تحري موضوع رغبته الحق، الباني لعَرضه والمتستر خلفه في آن. وهكذا نراه قد استرسل بشغف في قراءات مسترسِلة لكتب عديدة يَذكر منها الأجزاء التي تفوق العشرة لكتاب ألف ليلة وليلة وكذا كتابات بعض من المختصين في علم الاناسة والتي تخص مسائل الحياة الجنسية لدى أقوام سميت عمدا وظلما بالبدائية والمتخلفة وأخرى سمَّت نفسها تيها وجبروتا بالمتحضرة والمتقدمة. ويذكر أيضا فيما التهمه التهامًا، كتاب فرويد المتعلق بمحاولاته الثلاث حول النظرية الجنسية الطفولية. ولقد شد فحوى هذا الكُتيب بال مريضنا آنذاك لدرجة جعلته يحلم بكونه أول من سيسعده الحظ بنقله الى لغة آبائه وأجداده.

 

وبعد ذلك وخلال بداية دراستي الجامعية، شاء الحظ أن يعترض طريقي مقالة بعنوان «فرويد ولاكان» كتبها لويس ألتوسير، أحد كبار أسماء الجامعة الفرنسية خلال الثلث الأخير للقرن المنصرم. فقراءتي لهذا النص جعلتني توا أحس بشدة ان اللغز/ العرض الذي شاء قدري أن أنوأ تحت ثقله، سوف يجد بين أتباع فرويد ولاكان من يفك كنهه ويخفف من وطأته على عاتقي المُرهق والمُضنى....

 

أثناء تنقلي بين حلقات الجدل السياسي التي شد ما عملت على هز أفئدة طلاب الحي الجامعي لمدينة فاس وعلى حفز قدراتهم النقدية والسجالية، وقع نظري، من بين الكتب المعروضة للبيع مفروشة أرضا، على كتاب للاكان عينه، كتاب اقتنيتُه بسرعة أذهلتني ووعدت نفسي بقراءته في الحين حتى أتفقه مكنونه فأجد لابُد ما يساعدني على فك ألغاز ما ينتابني من اضطراب وكدر. فما أسرع ما خاب أملي في سبر أغوار معانيه لما يكتنفه من غموض ظاهري ابتداءا من عنوانه: "كتابات". فوجدتني آنذاك مضطرا آسفا لِتركه جانبا مع أملي في أن تتوفر لدي في مستقبل قريب، كل القدرات والكفاءات اللغوية والمعرفية لتفكيك ألغازه واستبيان معانيه....

 

... إلى الأستاذ المحبِّب في المتحلل

 

فما عرضتُه حتى الآن بإجمال مفرط ربما قد يكفي لتبيان الكيفية التي تم من خلالها تواكب وتعاقب مختلف أنماط الخطابات في مسار حياتي الفتية. وإني كذلك في إطار وظيفتي كمحلل نفساني من جهة وكأستاذ جامعي من جهة أخرى، لأعمل جاهدا على أن تستمر حلقة الخطابات هذه في دورانها الدؤوب وفي تواترها المُنَشط لبعضها البعض.

 

يمكن القول إن الجامعة هي المؤسسة التي تعمل على جمع ثم تلقين المعارف والمناهج والتقنيات التي تم الاتفاق عليها ثم إبرازها من قبل الإيديولوجيا السائدة (خطاب السيد) بصفتها المعارف الأصلح والأكثر فائدة في تكوين وإعداد الأجيال الصاعدة. إلا أن الدور الأساسي لهذه المؤسسة ينحصر في تصنيف هذه المعارف رُزَما وأقساطا ثم عرضها على كل مُريد بشكل يجعلها تبدو وكأنها مستقلة في تكوينها ومضامينها ومبتغاها عن إرادة وسطوة سيد الساعة.

 

ولَكَم استفاد التحليل النفسي منذ أيام فرويد حتى الآن من هذا المنبر الأعلى للإدلال بفوائده الفذة ونشر تعاليمه المحكمة. فهن خلاله تم ويتم تدريس نظريات التحليل النفسي ومفاهيمه كما يتم تدريسها في المرافق المعدة خصيصا لذلك، معاهد كانت أم مدارس. 

 

إلا أنه إذا كان من الممكن تدريس هذه النظريات هنا أو هناك، فإن ما يتم استيعابه فعلا بخصوص كنه وحقيقة التحليل النفسي لا يحصل بتاتا عن طريق التلقين النظري المبثوث على العموم والجُملة وإنما يحصل بواسطة التجربة التحليلنفسية التي يخضع لها الفرد بحد ذاته والتي تؤدي به في آخر المطاف، زيادة على خفض الآلام العالقة بأعراضه، إلى مقابلة وتَحَمل وظيفة الإخصاء وما ينجم عنها من استجلاء للرغبة الحقة لديه. بمعنى آخر، إن تدريس التحليل النفسي خارجا وبعيدا عن واقع التجربة التحليلية ـ وإن كان هذا التدريس يقَدم من طرف محلل نفساني خبير ـ فإنه لامحالة ينضوي تحت راية الخطاب الجامعي الذي يُسخر نفسه لخدمة سيد الآونة.