صفوان - مختصر سيمينار لاكان - تقديم




يحتوي هذا الكتاب على عرض للسيمينارات العشر التي قدمها جاك لاكان في مستشفى سانت-آن بين ١٩٥٣ و ١٩٦٣. إنه يتكون من ملخصات الكتب التي أعدها ونشرها بدار السوي، جاك الآن ميلر الذي خول له جاك لاكان مسؤولية نقل النص الشفهي إلى شكله الكتابي. وكي أوضح أسباب هذه المهمة التي أقوم بها هنا، أود أن أقول بعض الكلمات بخصوص تكويني التحليلي وكذلك بخصوص بعض المحللين من معاصري.

ابتدات تحليلي في مارس-أبريل سنة ١٩٤٦. ومن حسن حظي أن المحلل النفساني مارك شلومبيرجي كان يمتهن التحليل كفقيه لغة وليس كاختصاصي نفساني. فكان يعرف كيف يبين التباسا وكيف يوضح غموضا وكيف يلفت النظر لمعنى مزدوجا وكيف يُعلق يقينا، أما تأويله للأحلام فكان يتجسد في قراءتها وكأنها كناية. أتذكر مفاجأته الكبيرة عندما أتيته مرة بحلم لم يكن سوى صورة طبق الأصل لتعبير مألوف ومتداول لكني مع ذلك كنت أجهل وجوده كلية. كان يتخلص هذا الحلم في صورة شعرة نبتت في كف اليد. وما يزيد الوضعية طرافة هو أن أحد الأسباب التي قادتني للتحليل النفسي كوني أميل لكسل لا تحمد عقباه. من ناحية أخرى، كان شلومبيرجي يمتلك من الحذق المهني ما يجعلك تدرك بأنه ليس هو من تتوجه إليه بكلامك لكن من دون أن يدعي مع ذلك معرفة من تتوجه بكلامك نحوه في التحويل. إنه يستقبلك كما نستقبل شخصا نكون في انتظاره، من دون أن يتخلى عن ثباته ورزانته أمام طلبٍ ما قد يتطلب التحليل عدم ارضاءه، كما يحصل غالبا في كل تحليل نفسي. إلا أنه كان يفتقد النظرية التي قد تتناسب مع تقنيته التحليلية هاته، ما عدا فكرة « المحلل-المرآة » التي كان يقتاد بها لكنني لم أسمعه أبدا يتحدث بها صراحة. وبالإجمال، كي أتقدم في مساري التحليلي كان علي أن آخذ الأمور بطريقة مختلفة.

خلال تطوره، ارتقى تحليلي الذاتي إلى تحليل تكويني؟ لكن هل كان من الممكن الحصول على نفس النتيجة بطريقة مغايرة؟ ماكان بالإمكان معرفة ذلك. لكن من الأكيد أن تحليلي الشخصي قد اعدني إعدادا حسنا لاستقبال تعليم لاكان. إذ اخترت هذا الأخير كمحلل مراقب لممارستي الفتية وذلك لأسباب عديدة، أولها وأهمها هو أنه كان يأكد في مقالته المتعلقة بالعقد الأسرية، على وظيفة الأب «التنشيئية».

من المعلوم أن لاكان قدم تعليمه منذ سنة ١٩٥١ باعتباره عودة إلى متن فرويد. وهذا الرجوع لا يكتفي بمجرد قراءة بسيطة ولا بقراءة جديدة كلية لعطاء فرويد وإنما قراءة تستند دوما إلى الخبرة التحليلية باعتبارها خبرة الخطاب والقول. إن هذا التحديد من الوضوح والدقة ما يجعلنا اليوم لا نرى ما يمكن تحليله خارجه. أما فيما قبل، فقد كان التحليل ينصبُّ على أشياء أخرى متنوعة كالشخصية والطبع والتصرف والتحويل ودينامية اللاشعور، إلى غيرها من الأمور. وأيضا كان التساؤل قائما فيما قد يكون للقول من معنى إن لم يكن تعبيرا لأحد هذه الأمور الواقعية. لهذا كان لابد إذن من توضيح أكثر لأطروحة لاكان. 

وهذا التوضيح، كما نعرفه اليوم، هو كالتالي: إن «التجاهل» الذي يميز وظيفة الأنا لا يمكن تعديله بالاعتماد على الواقع المألوف. ففي أطروحته حول «الذهان العظامي في علاقته بالشخصية» انتقد لاكان فكرة كون الأنا يشكل وظيفة ربط الشخصية بالواقع، ولم يحتفظ الا بالتحديد الذي أعطاه فروبد للأنا معتبرا إياه موضوعا نرجسيا للشخصية. أما في سنة ١٩٦٤، في مقالته «أقوال حول السببية النفسية» فقد كتب ما يلي: «لا أحد من اللغويين ولا من الفلاسفة يمكنه، من الآن فصاعدا، الدفاع عن نظرية لغوية تعتبر اللغة مجرد نسق من علاماتٍ تُرادف عوالم الواقع التي حددتها باتفاق مشترك، عقول سليمة في أبدان سليمة».

إن انتباهه إلى تعدد مدلولات كلمة «ستار» مثلا أدى به إلى الخلاصة التالية: «ستار! إنه صورة للمعنى من حيث هو معنى، إذ كي يتم اكتشاف المعنى يلزم كشفه». من هنا يتضح بأن «التجاهل» يفترض «التعرف» الذي يحصل التدليل عليه بداخل اللغة على شرط الا يتم اختزال وظيفة هذه الأخيرة في تبادل النوايا الواعية، بل ويلزم اعتبار الكلمة عبارة عن صورة المعنى بما هو معنى قبل أن يتم اعتبارها كصورة لواقع ما. 

تجدر الإشارة إلى أن لاكان بنى نظرياته الخاصة حول أعمال فرويد سنة ١٩٥١. لهذا ليس من الغريب أن نقف لدى هذا الأخير على نص يدعم أقواله وتحديداته بهذا الشأن. فلننظر إلى هذه الفقرة من كتاب «دراسات في الهيستيريا» حيث يعرض فيها فرويد تجمع الذكريات في مضامين متمحورة ومتراصة حول نواة مسببة للمرض. فكلما عملت خيوط «التسلسل المنطقي» المتشعبة والمتمحورة على تعمق الطبقات الداخلية، كلما تداخلت معها خيوط أخرى، تلك التي تنطلق من مقاومات متصاعدة وذات أشكال مختلفة كتلك التي تتمثل بالخصوص في ظهور العرض الذي لابد «له ما يقوله» في الأمر. 

إن هذا المنظور للخبرة التحليلية غير متوافقة تماما مع نظرتنا للتقنية المتعلقة بتحليل المقاومة. فتمظهرات هذه الأخيرة بما يتخللها من صمت أو انقطاع في خيوط التفكير أو إحساس مفاجئ بحضور المحلل النفسي الخ، لم يعد يتم إرجاعها إلى تأويلاتنا كمحللين وإنما الى خطاب المتحلل وما يشغله في اللحظة. في حين كان التحليل، - والمحلل كذلك - يستمد هيبته آنذاك من كونه طريقة تفدي الى استكشاف «الحقيقة المتسترة»، الى استشفاف «الحقيقة الحقة». هكذا ندرك إذن كل تلك المقاومة التي خلفها لدى المحللين هذا المنظور الذي يستلزم قطيعة مع كل تصارع مع الحقيقة والتخلي عن كل ادعاء بالمعرفة. وبالمجمل، طرحت هكذا أمام المحلل ضرورة الاختيار بين رغبته وبين نرجسيته. 

وبالفعل كان هذا الاستنتاج المتعلق بتحليل المقاومة يرتبط بتصور غير مسبوق لمسألة الغيرية. ففي أطروحته حول الذهان العظامي، بين لاكان بأن المعرفة بالنسبة للأنسان هي معرفة تتعلق بشخصه قبل أن تتعلق بالموضوع. زد على ذلك أن اكتشاف مرحلة المرآة كان من حصيلته أن يجعل من الأنا منبع ومركز تماهيات تخيلية مع ما يميزها من انزلاقات تماثلية لا يمكن استئصالها من العلاقات الانسانية بالكامل. وانطلاقا من هنا فإن معرفة شخص الإنسان، إذا ما كنا نعني به شخص الشبيه، تصبح متساوية مع ما حدده لاكان بتعبير «المعرفة العظامية». بالمقابل وبما أن خطاب الفرد يسمح بسماع دَوال الرغبة المكبوتة لديه، فإن أفقا آخر يتم انجلاءه، وهو أفق مقام ينبني فيه كلام الذات ليرجع لها منه هذا الكلام وكأنه آت من « حلبة أخرى ». إن إدخال لاكان في التحليل مفهوم الآخر- الآخر بألف ومد لتتمييزه عن الأخر الذي يرمز الى الشبيه - كان له بدوره عواقب عظمى في تحديد موضوع الرغبة، وهو موضوع التحليل بالذات.  

لقد دافع لاكان دوما على الأطروحة التالية: إن علاقتنا بالموضوع لا يمكن أن تستند على فكرة كون هذا الأخير مجرد نتاج معرفة موضوعية. فكثيرة هي المظاهر التي تتعارض مع هذه الفكرة، مثل نَوبات القلق والهولوسة وإحساسات الغرابة و «ما سبقت رؤيته»، إلخ. إنها ظواهر قد تبقى من باب الألغاز في هذا المنظور إذ تشير كلها نحو موضوع أكثر بدائية وهو الموضوع الذي حدده لاكان بكونه موضوع الرغبة. وهذا اليقين، إن لم نقل هذه الملاحظة، يستلزم رفضا للمنظور الذي يعتبر بأن موضوع الرغبة يتكون بكل بساطة على أساس كونه موضوع منافسة بمستوى السجل التخيلي. أما إن كانت الرغبة هي رغبة الأخر، بالمعنى الهيغيلي، فهو ما كان مهموما الى أبعد حد من طرف المحللين، ولم يكن هؤلاء في ارتياح كامل إلا في التحاليل التي تنضوي فيها المواد التحليلية بداخل الأطر الأوديبية المعتادة. لكن الخبرة التحليلية أبانت أيضا عن أهمية موضوع آخر يسمى « قبتناسلي » أو نكوصي أو جزئي. ويجب الاعتراف بأن هذا الموضوع كان يشغل بالناكمحللين لعدم تمكننا آنذاك من طريقة صائبة لمعالجته. بكل تأكيد، لم نكن لنتسارع للمساس بهذا الموضوع في التحليل. فهذا الحذر، كان بإمكان الخبرة التحليلية   نفسها أن تعلمنا إياه وما كنا هاكذا في حاجة لتعليم لاكان. لقد كان بالإمكان أن ننتبه الى مايلي: كلما اعتقدنا بأننا على وشك ضبط موضوع الرغبة لدى المتحلل، فإننا نجدنا أمام حالتتين، إما أن تدخلنا التأويلي يبقى بدون فائدة وإما أنها تعطي نتائج تختلف عن تلك التي كنا نتوخاها. ففي ظروف كهاته، عمل إدخال غيرية مختلفة، غيرية رمزية من طرف لاكان، على تجديد معنى المقولة الهيغيلية بالكامل. هكذا لم يبق الأمر يتعلق بموضوع يمكن التقاطه بأم العين، إن أمكن القول، بصفته موضوع تنافس أو تبادل أو تقاسم. إم الآخر الـأكبر يمتنع عن شفافية الصورة ويرفض اختزاله الى مستوى القيل وحده. فالرغبة لا يمكن أن تنبني إلا بموضعتها كتساؤل عن رغبة الآخر. فانطالاقا من هنا، أي انطلاقا من السؤال «ماذا يريده (الآخر) مني؟» وليس انطلاقا من «الصراع من أجل السمعة»، تبدأ جدلية مغايرة تؤدي، كما سنرى، الى توظيف موضوع يتميز بكونه لا يتوفر على صورة منعكسة وبكونه، عوض أن يشبع النقصان وكأنه موضوع الحاجة فإنه يعقد هذا النقصان ويبقى ممتنعا للهبة. 

لقد واظب لاكان على تكوين هذا الموضوع الذي سماه بحرف أ، ابتداءا من سيميناره حول الرغبة وتأويلها وحتي سيميناره حول القلق (١٩٥٨ - ١٩٦٣). إن هذا الموضوع، قبل انبناء الشخصية، هو الشكل الذي يتخذه ما لا ينصاع من كينونة الذات للتسمية. إنها تركيبة عسيرة بلا شك، عسيرة على لاكان نفسه أولا وهو الذي كان عليه أن يقول ما يستحيل قوله. من هنا حزم لاكان وإصراره على الحرف المكتوب وعلى الرسوم البيانية وعلي الموديلات الطوبولوجية، وكأنه يحاول انتزاع خطابه مما يكتنف الكلمات دوما وأبدا من التباس في المعنى وكناية في المدلول. وكانت هذه الصعوبات لا تقل لدى مستمعيه الذين كانوا ملزمين على استيعاب فكرة موضوع لا موضوعيتة له ولا صورة انعكاسية، موضوع يسبب ويحدد الرغبة لكنه يمتنع عن والإرادة. وكمثال علي هذه الصعوبات زحيل رلى ما ال رليه التعبير الذي قدمه لاكان في نهاية سيميناره حول أخلاقيات التحليل النفسي، والذي يتعلق باليقين الذي يمكن الوقوف عليه بخصوص تواجد الإحساس بالذنب لدي الذات لحظة تخليها عن رغبتها. لقد تم قلب هذا التعبير الي قانون حادي عشر: يجب ألا تتخلي عن رغبتك! ثم إن تكرار التعابير اللاكانية بدون تمحيص ما من شأنه أن يقلل من هذه المعضلات. وكي أعطي مثالا يمس عن قرب مسألة تقنين التحليل النفسي من طرف الدولة المطروحة حاليا، يكفي أن أذكر بالمبدأ الذي يقول "إن المحلل لا يستأذن إلا نفسه" والذي مفاده أن يمنع المحلل من التستر خلف التمظهر كي يتخلي عن رغبته، وكيف أن هذا المبدأ صخب في اذان متلقيه وكأنه أمر هوسي بإلغاء كل تحكم الى سند.

وكي أساهم في التغلب علي هذه الصعوبات، بادرت بالقيام بهذا العمل الذي يهدف الي تتبع تتابع تعليم لاكان، على مر السنين، كي أوضح الطريقة التي أجاب بها عن المشكال التي طرحها الاكتشاف الفرويدي، بحيث تبدو التنظيرات اللاحقة والمتلاحقة قاصرة إزاءه، في حال ما لم تبطل كل فحواه. من هذه الزاوية، يشكل هذا الكتاب أيضا نظرة الى الوراء علي تكويني التحليل بالذات. فهو يشكل وماصلة جلية لذلك التكوين. لهذا آمل، موازاة مع أهميته كعرض لمساري الخاص، أن يفيد في تبيان كيف ترتبط النظرية التحليلية بممارسة تتحدد بكونها خاضعة وملازمة. للخطاب. 

فكرة هذا الكتاب كانت ثمرة عمل مشترك. مجموعة من الزملاء كنا  نلتقي من وقت لوقت حول عرض كان يقوم به أحد الزملاء بخصوص كتاب يقع عليه اختياره. أما أنا فقد اخترت سيمينارات جاك لاكان كما أعدها ونشرها جاك آلان ميلر. لكن عند إنجاز هذا العمل، تم تطويعه في نقطتين :

اولا، كان لابد من إعطاء عرض متسلسل للسيمينارات العشر الأولى، وذلك أننا قد لانفهم شيئا للسيمينار السابع المتعلق بأخلاقيات التحليل النفسي، إن لم تحصل لنا فكرة عن سابقه والذي خصصه لاكان للرغية وتأويلها. نفس الشيء بخصوص السيمينار الثامن المتعلق بالتحويل. فلن يتضح مغزاه إلا بربطه بالسيمينارين التابعين. 

إضافة الى ذلك، لقد شجع عرضي للسيمينارات العشر الأولى أعضاء مجموعتنا الآخرين لمتابعة هذا المشروع والقيام بعروض لباقي السيمينارات. وهو ما أدى الى إعداد مشترك لجزء ثاني لهذا المؤلف.

أما بخصوص السيمينارات التي لم يقم آلان ميللر بنشرها بعد (السادس والتاسع والعاشر)، فإنني استندت الى المسودة التي أعدتها الجمعية الفرويدة لاستعمالها الخاص. كذلك وجدتُ نفعا مهما في المسودة الممتازة التي أنجزها ميشيل روسان بخصوص السيمينار حول التماهي. وفي النهاية، أشكر بلاتييه-زيتون لمجهوده في تحضير وتنقيح نسخة الكتاب النهائية.