فرويد - مع محاور عنيد - فصل ١ من ٧

                  
I

قد يكون المريض يعاني من تقلبات مزاجية لا يتمكن من التحكم فيها، أو من ثبط للعزيمة وانتكاسات تشل طاقته وتنزع منه كل ثقته في نفسه، أو من انزعاج قلِق عندما يتواجد بين غرباء. وقد يحدث له، من دون معرفة السبب، أن يحس بأن تحقيق مهنته أو وظيفته أصبح شاقا عليه، وكذلك حال كل قرار مهم في نظره وكل عمل يهم به. وقد يكون قد حصل له يوما أن أحس بنوبة حادة من القلق، ومنذ ذلك الحين، لم يعد بإمكانه، إلا بعد جهد جهيد، أن يقطع طريقا أو يركب قطارا. وربما قد تتْبع هذه الأفكار الغريبة التي تراوده، طريقها الخاص بها وتنفلت كلية من تحكمه. فتتثبت هذه الأفكار بأمور لا تهمه فعلا، لكن لا يمكن مع ذلك زحزحتها ولا انتشالها. أفعال سخيفة تفرض نفسها عليه، كحصْي عدد النوافذ علي واجهات المنارل، مثلا. أما بصدد إنجاز الأمور البسيطة، كحمْل رسالة إلى مكتب البريد، أو إقفال مخرج الغاز فإن الشك، بعد لحظة، يتملكه فيما إذا كان قد أنجز الفعل أم لا. إنها حالة مزعجة ولا جدوي منها. لكنها لا تطاق إذا ما أصبح المريض التعيس غير قادر فجأة على صد فكرة كونه رمى بطفل تحت عجلات سيارة، أو رمى بشخص ما في الماء من على جسر مرتفع، أو يجد نفسه مضطرا للتساءل بخصوص مرتكب جريمة تم الكشف عنها في ذات اليوم: "ألست أنا هو القاتل الذي تبحث عنه البوليس؟". إن كل هذا سخيف من دون شك، والمريض التعيس يعي ذلك جيدا، فهو لم يُحدث ضررا بأي شخص، إلا أن الإحساس بالذنب لن يكون أقوى لديه إذا ما كان حقا هو القاتل الذي يتم البحث عنه.

وقد يكون مريضنا - ولنقل هذه المرة مريضتنا - تعاني بطريقة مختلفة وفي مجال آخر. لنفترض أنها عازفة بيانو، وقد أصاب أصابعها تشنج ورفضت كل استجابة لها. فما إن يلزمها مخالطة الناس حتى تجد نفسها تحت وطأة حاجة طبيعية لا تتوافق تلبيتها مع مجالسة الآخرين. وهكذا فإنها تتخلى عن التردد على التجمعات والحفلات الراقصة والعروض المسرحية والغنائية. وفي لحظات غير مواتية، تنتابها أوجاع في الرأس أو إحساسات مختلفة مولمة. وفي آخر المطاف، إنها لا تتحمل أي انفعال، في حين من غير الممكن عادة تجنب الإنفعالات. وعندما يحصل أن تنفعل فإنها تسقط في نوابات غيبوبة، تكون في الغالب مصحوبة بتشنجات عضلية، موحية بالإضرابات المرَضية الأكثر خطورة. 

هناك مرضى آخرين ترتبط اضطرابتهم بمجال تكون فيه الحياة الوجدانية في ارتباط حميمي مع الجسد. فإذا ما تعلق الأمر بالرجال، فإن هؤلاء يكونوا غير قادرين علي إعطاء أي تعبير جسدي لأرق وألطف الاختلاجات الموحاة من طرف الجنس الآخر، في حين أن قدراتهم الجنسية لا تخونهم أمام نساء لا يُكنون الحب لهن. أو آن شهوانيتهم تربطهم بنساء يحتقروهن ويريدون الإنفصال عنهن. أو أن هذه الشهوانية تفرض عليهم  تلبية شروط يتقززون هم أنفسهم منها. أما بخصوص النساء، فإن القلق والقرف أو معيقات من منابع مجهولة تصدهن عن الاستجابة إلى متطلبات الحياة الجنسية. أو إذا ما أفسحن المجال للحب، فأنهن قد يُخدعن بالمتعة التي تهديها الطبيعة كمكافأة لمن خضع واستسلم لقوانينها.

كل هؤلاء الأشخاص يشتكون من المرض ويبحثون عن أطباء يتوسلون منهم تخليصهم من اضطرابات عصابية من هذا القبيل. وكذلك فإن الأطباء هم من حدد الفئات التي يتم ترتيب هذه الإضطرابات بداخلها. إنهم يشخصون هذه الأمراض ويرتبونها حسب وجهة نظرهم: النوراستينيا، السيكاستينيا، الخوافات، الوساوس، الهستيريا. يُخضعون الأعضاء التي تحمل هذه الإضرابات إلى فحوص واختبارات: القلب، المعدة، الأمعاء، الأعضاد التناسلية فيجدونها سليمة. ينصحون المرضى بتعليق مهامهم اليومية وباللجوء إلى اهتمامات مُسلية واستشفاءات وعقاقير مُقوية، فيحصلون هكذا على تحسنات عابرة أو لا يحصلون على شيء. وفي آخر المطاف، يصل إلى علم المرضى بأن هناك أناسا مختصين أكفاء في علاج تلك الإضطرابات فيبتدؤن معهم تحليلا نفسيا. 

إن مخاطبي العنيد الذي أتخيله هنا، قد بدت منه علامات نفاذ الصبر عندما شرعت في تعداد أعراض العصابات. أما الآن فهو أكثر انتباها، وكله إنصاتا: 

- هكذا سنعلم ما يقوم به المحلل النفسي إزاء المريض الذي لم يسديه الطبيب أي معونة. 

- إن أما يدور بين المريض والمحلل لا يعدو أكثر من كونهما يتحادثان. فالمحلل لا يستعمل أدوات - ولو في فحص المريض - ولا يقرر أدوية. بل إنه يترك المريض أثناء التحليل في بيئته وفي وسطه كلما كان ذلك ممكنا. طبعا هذا ليس شرط ضروري للعلاج ولا يمكن تحقيقه على الدوام. قالمحلل يطلب من المريض المجيء في ساعة محددة من النهار، يتركه يتحدث وهو يسنصت إليه، ثم يتحدث إلى المريض الذي يستمع إليه بدوره. 

يُبدي مخاصبنا العنيد راحة بال كبيرة واسترخاءا أكيدا، لكن مع ازدراء أكيد وواضح. فيبدو وكأنه يريد أن يقول:

- "هذا فقط؟ كلام وكلام ثم كلام"، كما قال هامليت! ثم دار بخلده أيضا خطاب ميفيسطو المتهكم: "الكلمات تصلح لكل شيء". وأضاف أيضا: "أنه إذن نوع من السحر؟ تتكلمون فقط وهكذا تتطاير الإضطرابات". 

- حقا: قد يكون التحليل سحرا بالفعل لو كان التأثير سريعا! إن السحر يتطلب - وهو مطلب أساسي - السرعة، بل ويمكن القول، النجاح المباشر. إلا أن المشافاة بالتحليل النفسي تتطلب شهورا، بل وسنوات، أما شفاء سحري متباطئ فإنه يفقد روعته. علاوة علي ذلك، يلزمنا أن نكفَّ عن تبخيس الفعل/الكلمة. إنه أداة جبروت. إنه الأداة التي نوصل بها إلى الآخرين أحاسيسنا وهو الوسيلة التي نكتسب بها تأثرنا وسطوتنا على الاخرين. فكما يمكن للكلمات أن أن تفعل خيرا فبإماكنها أيضا أن تخلف جروحا هائلة. طبعا، في البداية كان الفعل/الحدث، أما الفعل/الكلمة فيأتي فيما بعد. وعندما تَمكن الفعل/الحدث من أن يتحول باعتدال إلى الكلمة، حدث من جراء ذلك تقدم حضاري من جوانب عدة. لكن في البداية، كانت الكلمة عبارة عن فعل سحري ومازالت تحتفظ بكثير من قوَتها الأصلية.

- واصل المخاطب العنيد: لنفترض أن المريض لم يتم إعداده أكثر مني للتماشي مع عقلية التحليل النفسي، فكيف تريدون منه أن يعتقد بسحر الكلمة أو الخطاب، الذي يُتوخى منه إزالة أوجاعه؟"

- يجب بالفعل إعداده لتحليله النفسي، ومن أجل ذلك هناك وسيلة سهلة: نطلب منه أن يكون صريحا للغاية مع محلله، وألا يخفي عنه إراديا أي أمر يجول بخلده، ومن ثمة، عليه أن يترفع عن كل اكتتام يحاول به إعاقة إيصال فكرة أو تذكر ما. إن كل فرد يعرف كيف يحتفظ لنفسه بأشياء لا يريد إفشاءها أمام الآخرين، وخصوصا إذا كان التعبير عنها مستحيلا. إنها من قبيل "حميمياته". إنه يحس أيضا - وهو تقدمٌ كبير في تعرف الفرد على ذاته - بأن هناك أشياء أخرى لا نريد أن نفصح بها حتى لأنفسنا، أشياء نسترها بطيبة خاطر، أشياء نحبسها ونقمعها، بل ونطردها طرداً إذا ما أطلت برأسها في تفكيرنا. وربما قد يلاحظ الفرد الذي يراقب نفسه بأن مشكلا نفسيا جد غريب، يحصل بمجرد أن إحدى أفكاره الخاصة تلتزم البقاء متسترة في وجه أناه. وهكذا نرى بأن أناه لم يعد يتوفر على الوحدة التي يتسارع دائما إلى إضفائها عليه، ونرى أيضا بأن لديه شيئا أخر يقف حجر عثرة في وجه أناه. ويمكنه أيضا أن يُحس بنوع من الغموض، بتواجد مكنون نقيض لديه، يفصل أناه عن الحياة النفسية بمعناها العام والواسع. فإذا ما قبل المريض بقاعدة التحليل النفسي المركزية، بمعني البوح بكل ما يجول بخاطره، فإنه حينئذ يصبج وبكل بساطة، قابلا لفكرة أن ترابطات وتبادل أفكار في إطار ظروف غير مألوفة، من الممكن أن تودي بدورها إلى ردود فعل جد خاصة ومتميزة.

- أفهم ما تقوله، أضاف أضاف مخاطبي العنيد، إنك تنطلق من مسلمة فادها أن كل عصابي يخضع لشيء يقهر وجدانه، وبأنه يخضع لسر ما. وعندما تُيَسر له إمكانية الحديث، فإنك تزيل عنه حمولته وتفعل به خيرا. إن هذا هو مبدأ البوح الذي اعتمدَته الكنيسة الكاثوليكية كي تحصل على تحكمها في النفوس".

- يمكننا الرد بنعم وبلا. فالبوح يتدخل إلى حد ما في عملية التحليل، باعتباره مدخلا إن صح التعبير. إلا أنه يبقى بعيدا كل البعد عن أن يشكل كنه التحليل أو أن يفسر فعاليته. ففي البوح الكنيسي، يقول مرتكب الخطيئة ما هو علي علم به، أما في التحليل فعلى العصابي أن يقول أكثر من ذلك. ثم أيضا لم يحصل لنا أبدا أن سمعنا بأن البوح الكنيسي قد تمكن مرة من علاج أعراض مرضية حقيقية.

- لكنني مازلت لا أفهم، رد صاحبنا، فماذا يعنيه قولك إن على المريض أن يقول أكثر مما يعرف؟ في حين يمكنني أن أتصور بأنكم كمحللين تحصلون على تأثير أكبر في مرضاكم مما يحصل عليه القسيس متلقي اعتراف النادم. إنكم تعتنون بالمريض وقتا طويلا، وبطريقة أكثر تركيزا على شخصه، وبإمكانكم هكذا استعمال تأثير أقوى يجعله يبتعد عن هذه الأفكار الموجعة ويساعدكم على الدفع به للتخلي عن مخاوفه، إلخ. إنه من غير المألوف حقا أن يحصل التحكم بهذه الطريقة في أعراض مَرضية ولو انحصرت على الجسم فقط كحالات التقيء والسهال والشلل، لكنني على علم بأن تأثيرا كهذا على شخص ما، يحصل عند إخضاعه للتنويم. ولربما قد تحصلون من خلال مجهودكم على علاقة بينكم وبين المريض الذي يجد نفسه مشدودا إليكم بقوة الإيحاء من دون أن يكون ذلك مقصودا منكم، وهكذا فإن معجزة علاجكم ما هي إلا نتاجا للإيحاد التنويمي. إلا أن العلاج التنويمي، بحسب علمي، هو أسرع من تحليلكم الذي كما قلتَ سابقا، يتواصل شهورا وسنوات.

إن مخاطبي العنيد ليس بالجاهل ولا بالمتضايق كما افترضناه سابقا. إنه بلا شك يحاول أن يفهم التحليل النفسي بمساعدة معارفه السابقة وأن يربطه بشيء ما يعرفه. لكن بقي علينا أن نجعله يعلم - وهو شيء ليس بالسهل - بأن هذه الطريقة لن تفيده في شيء وبأن التحليل النفسي طريقة جديدة وجد خصوصية، ولا يمكن اقترابه والتمكن منه كنهه، إلا بنظرات جديدة أو إن شئنا بفرضيات مستجدة. إلا أنه يلزمنا أن نجيب على ملاحظته الأخيرة. 

- إن ما قلتَه بخصوص تأثير المحلل هو، بالتأكيد، مهم للغاية. إن تأثيرا من هذا القبيل يحصل أثناء التحليل ويلعب فيه دورا مهما. لكنه ليس نفس الدور كما هو الحال في التنويم. ومن الممكن أن أبين لك بأن الوضعية هنا ومناك تختلف تماما. وفي هذا الشزن، بإمكاننا الإكتفاد بملاحظة واحدة: إننا لا نستعمل هذا التأثير الشخصي - العامل الإيحائي - من أجل إخماد الأعراض المرضية، كما يحدث في الإيحاء التنويمي. وأيضا نكون مخطئين عندما نعتقد بأن هذا العامل هو سند العلاج التحليلي الزوحد وداعمه الأساسي. إنه كذلك في البداية، لكن فيما بعد فإنه يقوم بمعاكسة طموحاتنا التحليلية مما يتطلب منا ردود فعل قوية. أريد أيضا أن أوضح لك بمثال إلى أي حد تبتعد التقنية التحليلية من تلك التقنيات التي تبحث فقط عن صرف نظر المريض عن أعراضه المرضية أو إقناعه بالابتعاد عنها. لنفترض أن مريضنا فريسة شعور بالذنب وكأنه ارتكب جريمة كبرى. إننا لا ننصحه بأن يترفع عن تأنيب ضميره شاهدين له ببراءته التامة: لقد حاول ذلك بذاته لكنه لم يفلح. لكننا ننبهه إلي أن إحساسا قويا وثابتا كهذا لابد أن يرتكز على واقع ما وبأن هذا الواقع لابد أن ينكشف. 


- ما أظن أنكم تتوصلون إلى تخفيف الشعور بالذنب لدي مريضكم، بمجرد التدخل في وجهات نظره، يضيف مخاطبنا العنيد. لكن ما هي نواياكم التحليلية وما تقومون به فعلا مع مريضكم؟