صفوان - ملخص سيمينار لاكان - ١



١ - كتابات فرويد التقنية (١٩٥٣ - ١٩٥٤)


لقد خصص جاك لاكان السنتين الأولتين من تعليمه (١٩٥١ - ١٩٥٣) لشرح كتاب فرويد "خمس تحاليل نفسية". ولقد مكنه هذا الشرح من تمييز مستويات الرمزي والخيالي والواقعي، لأول مرة، ثم تطبيقها على مسألة الأبوة بالخصوص. 

بعد انشقاق رابطة التحليل النفسي الباريسية، وبعد تأسيس رابطة التحليل النفسي الفرنسية من طرف دانييل لاغاش، انخرط جاك لاكان مباشرة في هذه الرابطة فانتقل بتدريسه من منزله الى مستشفى سانت-آن. وهكذا عرف مجلسه الذي كان يقتصر بالأساس على محللين في طور التكوين، توسعا كبرا. فلم يكن من المدهش إذن أن يخصص السيمينارين الأولين في إطار هذه الرابطة الجديدة، الى تعميق عواقب ما أدخله من تفرقة بين الرمزي والخيالي والواقعي على مستوى الممارسة التحليلية بالذات. من أجل ذلك، قام بالتعرض لكتابات فرويد التقنية لهدف محدد جدا: التمكن من فهم ما نفعله عندما نقوم بتحليل نفسي٠


إن تحليلا نفسيا في منظور فرويد يتمثل في "بناء" تاريخي للذات بالمعني الذي يشرحه في بداية الفصل الثالث من مقاله "مابعد مبدأ اللذة" والذي سيتعرض له مطولا فيما بعد، في مقاله "البناء في التحليل" سنة ١٩٣٥. وهو ما سيستند إليه لاكان ليثبت أن التحليل بهذا المعنى لا يعني فقط التذكر أو استحضار الذكريات من طرف المتحلل وإنما أيضا وقبل كل شيء، إعادة كتابة ما حدث. ففي هذا الاتجاه إذن، يتمحور مركز الثقل لدى الذات على هذه التوليفة الحاضرة للماضي والتي نسميها تأريخا. 

أما بعد فرويد فلقد عمد المحللون التركيز على تغيير العلاقة الهوامية بالعالم وخصوصا بشخص المحلل، الى علاقة واقعية. إن تحويرا كهاذا لتقنية فرويد "المؤرخِنة" إن أمكن القول، الى تقنية همها الأساس هو إدخال تعديل في العلاقة بين المحلل والمتحلل، يرجع بحسب لاكان الى تغليب الأنا من بين الهيئات الثلاث التي أدخلها فرويد في كتابه "الأنا والهو"، ألا وهي الأنا والهو والأنا الأعلى. 

في حين إذا ما قرأنا كتاب آنا فرويد "الأنا وميكانيزمات الدفاع"، نجد، كما يذكرنا به لاكان، بأن كل تقدم في دراسة الأنا يؤدي بنا الى نتيجة مفادها أن هذا الأخير مبنين كعرض. ومع ذلك، يعمد المحللون القبلاكانيون الى إعطائه دورا أساسيا بجعله الهيئة التي ترجع إليها مهمة "فهم معنى الكلمات" كما يقول أوتو فينيشال. إن المشكل بكاماه يكمن هنا، بحسب لاكان، إذ من الواجب معرفة إن كان المعنى يتجاوز الأنا أم لا. لكن فينيشال وصل به الأمر الى الادعاء في آخر المطاف بأن الهو والأنا ما هما الا نفس الشيئ لا غير. أما بحسب لا كان فإن هذا إما أمر غير معقول وغير مقبول بتاتا وإما أنه ليس من الحقيقة في شيء أن يكون الأنا هو الوظيفة عينها التي من خلالها تفهم الذات معنى كلماتها.  

إلا أننا عندما نقرأ كتاب آنا فرويد "الأنا وميكانيزمات الدفاع"، نتبين بحسب لاكان بأن كل تقدم في دراسة الأنا، يؤدي بنا الى الخلاصة التي مفادها أن الأنا مبينين كعرض. ومع ذلك، يعمد المحللون القبلاكانيون إلى تخويل هذا الأنا مهمة كونه الهيئة الرئيسة في حيازته على مهمة "فهم معنى الكلمات"، بحسب تعبير أوتو فينيشال. فلب المسألة يكمن على هذا المستوى في نظر لاكان، لزمن يلزم معرفة ما إذا كان المعنى يتعدى إمكانية الأنا أم لا. إلا أن الأمر انتهى بفينيشال الى اعتبار أن الهو والأنا هما في نهاية المطاف، شيء واحد لا غير. لكن بحسب تقدير لاكان، إما أن يكون ذلك مستحيلا وإما أنه ليس من الحقيقة في شيئ أن يشكل الأنا تلك الوظيفة التي تتعرف بها الذات على معنى كلماتها. وبكلمة واحدة، إن المسألة بالنسبة للاكان تكمن في التعرف على بعد اللغة التي تنغرس فيه الذات أبعد بكثير مما تحوز عليه الكلمات من معاني. 

بهاذه المناسبة، لنرجع الى عرض قدمه ديدييه آنزيو حول تحاليل فرويد الأولى التي عرضها في كتابه "دراسات في الهستيريا". في هذا الصدد، يوكد لاكان على أن "فرويد يتقدم في بحثه الذي لم يكن موسوما بنفس أسلوب البحوث العلمية الأخرى، حيث أن مجال بحثه هو مجال حقيقة الذات" (ص ٢٠).

إنه من الجلي جدا أن لاكان هنا يفسح المجال للتفرقة التي سيحددها فيما بعد، بين حقيقة المقولة وبين حقيقة الكلام أو القول التي لا تتطابق مع واقع ما. ففي الحالة الأولى قد تصبح "حقيقة الذات" عرضة للاختزال بواسطة المنهجية العلمية في إطار البحوث التشييئية المتداولة. أما في الحالة الثانية، فإن حقيقة القول تتماشى مع "نقصان في الكينونة" وهو ما يعطيها بعدا "أخلاقياتيا". ففي التحليل بحسب فرويد ولاكان، يتعلق الأمر "بتحقيق حقيقة الذات فيما  يخصها من تميز بالمقارنة مع مفهوم الواقع" الذي تستند إليه حقيقة المقولة. إن التمييز بين الهوام والواقع، كما قال لكان حقا، يبقى سطحيا وبدون جدوى إن تم انتزاعه من التفرقة المشار إليها أعلاه والتي لا يمكن المغالات في قيمتها على مستوى التقنية التحليلية. فبداخل تحقيق الذات تندرج ظاهرة المقاومة. ولتوضيح ذلك، يستحضر لاكان ذاك الحدث الذي بإمكان أي محلل مراقبته، وهو حدث يتوافق بلا منازع مع ما عرضه فرويد في مقاله "دينامية التحويل": ففي الوقت الذي يكون فيه المتحلل على وشك النطق بفكره أكثر دلالية مما توصل إليه في كلامه حتى اللحظة، فإنه أحيانا يتوقف ليدلي بالمدلولة التالية: "فجأة أتبين وجودك" أو "أتبين فجأة بأنك هنا". إن هذا الحدث يسمح لنا، في نظر لاكان بالرد على سؤال "مَن المتكلم؟"، مع حرصنا على الابتعاد مسبقا عن فكرة كون المقاومة "تتناغم مع المنظور الذي يعتبر بأن اللاشعور قد تم تحجيمه، أو كما يقال، كبته بداخل ذات الفرد وفي لحظة ما". ص. ٥٧.

فالتحاليل الفرويدية التي أصبحت شهيرة لهلوسة صاحب الذئاب ولنسيان إسم الرسام سينيوريللي قادت لاكان للخلاصة التالية: "إن مجيء الكلام  للتوقف في التحليل من حيث أن شيئا ما يجعله مستحيلا بالأساس (الخصاء لدى صاحب الذئاب والموت في مثال نسيان الإسم)، يشكل النقطة المحورية التي ينقلب فيها الكلام بالكامل، خلال التحليل، علي وجهه الأول، وينحصر علي وظيفته كعلاقة بالأخر. فإذا ما استعمل الكلام كوسيطة للتواصل فلأنه لم يحصل على تحقيقه كوحي". ص. ٦٠.          

كان لهذه الأطروحة أن تجد أحسن تمثيل لو أن لاكان اصطفى مثالا يتوقف فيه الكلام أثناء التحليل. ومع ذلك فإن خلاصته بحصوص المقاومة هي من الوضوح بمكان، على كل حال: إنها تتجسد في نسق الأنا وفي آخر الأنا. "لكنها تنطلق من مكان آخر، من عدم قدرة الذات على إفلاحها في مجال تحقيق حقيقتها". ص. ٦١. ونعلم فيما بعد بأن عدم القدرة هذا مصدره بنيوي لأنه ينغرس، كما قال لاكان بوضوح، في انقسام الذات. 

واعتبارا لهذه الخلاصة، ليس من المدهش أن نرى لاكان ينطلق في انتقاده الذي ل يتوقف عن تديده بخصوص "السفاهة" التي تقر بأن أحد الشروط الزولية للتحليل النفس يكمن في حصول الذات على نوع من تحقيق الأخر في حد ذاته - لكن المسألة تبقي في معرفة درجة تحقق هذا الأخر - وكذلك مفهوم بياجي للخطاب المتمركز حول الذات لدى الطفل - كما لو كان بإمكان الراشدين أن يسدون علما للأطفال بهذا الخصوص" ص. ٦٠.

أما ما هو أكثر أهمية فيتعلق بالسؤال الذي يطرح انطلاقا من هذا الاستنتاج: "كيف يمكننا التدخل تحليليا في إطار هذه البيسيكلوجيا، (بين الأنا وأخر الأنا)، والتي حجَّمنا بداخلها انحطاط سيرورة الكلام؟" ص. ٦٢. نجدنا هنا أمام نفس السوال الذي طرحه جامس ستراتشي فيما معناه: كيف يمكن التدخل تحليليا بواسطة تأويل التحويل، في حين لا يحصل هذا التدخل إلا من المقام الذي يضعنا فيه التحويل؟ إن الأفكار السابقة التي أوردها لاكان في هذا الصدد، من شأنها أن تفسح مجالا لجواب محتمل، لأنه من الممكن مع لاكان، طرح نفس السؤال كما يلي: "من هو هذا الذي، أبعد من أناي، يبحث عن التعريف والاعتراف بذاته؟".  

مافتئ لاكان يوكد إنه من غير الصحيح القول بأن المعنى يحصل للذات بواسطة الأنا. فمن ذا الذي بإكانه الإدعاء إذن بإن الأنا هو ضامن ومحدد ما تتضمه الكلمات من فحاوي؟ إن نسق اللغة الذي يتحرك بداجله خطابنا يتجاوز في الواقع كل النوايا التي نضعها في الخطاب والتي تكون لحظية فقط. وهكذا فإن لم ندرك جيدا استقلالية وظيفة الرمز في تحقق الانسان، يصبح من المستحيل تقدير الأمور من دون السقوط في أخطاء الفهم الأكبر جللا. 

وربما كان لاكان، من خلال رجوعه إلى نص فرويد حول « النفي »، يصبو إلى تبيان مختلف مستويات هذا التحقق الإنساني. فالشرح الذي قام به جان هيبوليت لهذا النص، مكن لاكان من التذكير بأن شرط وجود شيء ما بالنسبة للذات يكمن في تواجد « إثبات » لهذا الشيء. تواجد إثبات أولي وليس مجرد نفي النفي. فخلافا للنفي الذي يتم من خلاله إثبات ما تقوم الذات بإثباته لكن مع بقائه موسوما « برمز الرفض »، فإن «  الإلغاء » يوازي الانعدام الكلي لهذا الإثبات الأولي. وهكذا تمشي الأمور وكأن الشيئ المعني لا وجود له بالنسبة لذات الفرد. لكن لاكان يؤكد على أن ما تم بتره من الرمزي، يعاود التمظهر، إن أمكن القول، « تخيليا » على مستوى الواقعي. فما لم يتم الاعتراف به والتعرف عليه، ينبثق في الوعي أو الشعور على شكل مرئي. ولكي يبرهن على ذلك، يعود لاكان لمثال هلوسة صاحب الذئاب. وشرحه لهذا المثال يتطلب نلاحظتين:

قبل كل شيئ، إن الإشارة الى عقدة الإخصاء في هذا الإطار قد تثير دهشة القارئ عير المتعود إذ ليس من الجلي أن يكون مستوى تحقق الوظيفة الرمزية لدى الذات مرادفا للنقطة التي تتواجد عليها الذات  بالنسبة للإخصاء. لهذا يجدر التذكير بأن لاكان كان يتوجه بخطابه لمحللين حضر أغلبهم سيميناراته التي قدمهما في منزله من ١٩٥١ الى ١٩٥٣بجيث كانوا في الغالب متعودين عاى مفاهيم من قبيل مفهوم « الأب الرمزي » ومفهوم « الإخصاء كدَين رمزي ». 

ثم إنه لمن المدهش حقا الحديث عن إلغاء الإخصاء بخصوص صاحب الذئاب. وذلك أنه ما من حالة تُبرز الى حد كبير مفعول الإخصاء كحالة صاحب الذئاب. لذا فإن لاكان شدد على أن الأمر هنا يتعلق بمظهر ذهاني لدى فرد ليس ذهانيا بالكل. لكن السؤال يبقى مطروحا في معرفة السبب في بزوغ هذه الظاهرة في « تلك اللحظة » بالذات من طفولة هذا الشخص الذي ما من شيء يسمح باعتباره فصاميا. على كل، إن لاكان هنا يتبع، وبدون مناقشة، فرويد الذي يعرض لصاحب الذئاب في اللحظة التي يقف فيها أمام الإخصاء موقف إغفال، مع ذلك لم ينفِ فرويد وجود كبت أساسي لدى هذا الشخص. إلا أنه يشير بكل دقة الى أن هذه الهلوسة حصلت بعدما سمع الطفل حكاية طفلة ولدت ولها أصبع زائد، وتم بتر هذا الأصبع بضربة فأس. يتعلق الأمر هنا إذن بعملية إغفال أو بالرفض التام للاطلاع على هذا النص الذي يشار فيه للـإخصاء باعتباره عملية واقعية بإمكانها أن تحصل له فعلا على مستوى جسده. ولقد بات من المعروف أن هذيان صاحب الذئاب يدور بالفعل حول مشهد بتر أصبعه.                  

أما بخصوص عملية الإنكار، يعرض لاكان مثال أحد متحللي إرنست كريس الذي كان، في وضعيته كطالب، يآخذ على نفسه سرقة الآخرين في كل ما يكتب والذي كان، كما تبينه قصة حالته إلى حد ما، في حاجة الا يُظهر علاقته مع "مثال أناه" إلا على شاكلة معكوسة. وهكذا كان يتم الحصول من هذا المتحلل على خطاب تتخذ فيه عملية الانعكاس شكل "إنكار"، وبداخل خطابه هذا يتمكن  من تحقيق إدماج أناه.   

كل هذه الاعتبارات أدت بلاكان الى رفض التعارض الكلاسيكي القائم بين "تحليل المواد" و "تحليل المقاومات"، كي يضع مكانه تعارضا بديلا يحصل بين "تحليل الخطاب" و "تحليل الأنا". ذلك لأننا خلال التحليل نتعامل دوما مع الأنا بكل ما يتخلله من طبع وقصور ودفاع. لكن المسألة الأكبر تكمن في معرفة ما هي الوظيفة التي يقوم بها هذا الأنا أثناء عملية التحليل. 

فم خلال قراءة لاكان لمقال ميلاني كلاين "آهمية تكوّن الرمز في نمو الأنا"، تنضح ملاحظة مزدوجة: من ناحية يمكن القول أن ديك، ذاك الطفل الذي عرضت حالته ميلاني كلين في مقالها، كان له أنا لم يتكون بعد. وهذا ما تم استنتاجه من ملاحظة افتقاره للقدرة على التواصل. ثم إنه، من ناحية أخرى، فإنه بقي خارج أي ترميز، أيأنه بقي منحصرا بالكامل في عالم الواقع. وهكذا، فإن كان عالم الإنسان يتميز بتعدد موضوعاته وأشيائه اللامتناهية، فإن ديك كان يعيش في عالم لاإنساني. فلقد كان كله منغمسا في اللامحدد. 

إن هذه الملاحظة المزدوجة توحي بالأطروحة التالية فيما يخص وظيفة الأنا: إذا لم ينمُ الأنا إلا قليلا، فإن نموه يوقف بالكامل، وإن تقدم واسترسل في النمو فأنه ينفتح على عالم الواقع الإنساني. وها هنا يطرح لاكان السؤال التالي: كيف أمكن لهذا الواقع أن ينفتح من جديد بفضل نمو الأنا؟ وما هي وظيفة التأويل الكلاينية التي، رغم ما كان يطبعها من تدخل قسري، ومن إقحام لتفسيراتها فإنها خلفت مع ذلك آثارا حميدة يلزمنا التذكير بها؟ بكلمة واحدة، المسألة هنا هي مسألة ترابط الرمزي بالخيالي في تأسيس وبناء الواقع. 

للإجابة على هذا السؤال، قام لاكان، كما فعل فرويد في الفصل السابع من كتابه "تأويل الأحلام"، بإدخال نموذج بصري (أنظر بيان ص ١٦٠). يتعلق الأمر بالتجربة المعروفة بتجربة "الباقة المقلوبة"والتي، كي نكون محقين، يجب تسميتها "تجربة المزهرية المقلوبة" نظرا لما أدخله لاكان عليها من تعديل. ففي حين نقوم عادة بالمعارضة بين التخيلي والواقعي، يبين هذا النموذج اللاكاني بأن ليس هناك من واقعي لا يتكون بداخل الخيالي (وهكذا نرى لاكان لا يتوانى عن استعمال كلمة "صورة" كمرادف لكلمة "جشطلت")، إذ ليس هناك من خيالي لا يستند إلى الواقعي الذي يقوم الأول بضمه أو الإحاطة به (ونحن نعرف بأن كل التنظيرات التحليلية بخصوص المرحلة البدائية لتكوين الأنا، تضع مفاهيم الحاوي والمحتوى في الصف الأول). لكن، وحتى يتكون أمام العين المبصرة عالم يكون فيه الخيالي والواقعي يدا في يد، يلزم أن تكون العين في موقع معين بداخل المجال س' ش' - وهو موقع يمثل وضعية الذات متميزة بمكانها داخل العالم الرمزي. 

وبعد تطبيقه لنموذجه هذا على حالة ديك، رجع لاكان إلى مسألة التحويل ليرفع الغموض النظري الذي أحاط به إذ كان ينظر إليه بكونه  مقاومة في وجه تقدم التحليلي وفي نفس الوقت العامل الأهم في فعالية هذا الأخير. إن تضارب الاراء في هذا الشأن وعدم تمكن المحللين من حل هذا التناقض دفع لاكان إلى اعتبار أنه "من المحتمل أن استكمال النظرية وحتى تقدمهما قد تم الإحساس بهما وكأنهما خطرا". ص. ١٢٩. من الواضح أن تعبير "اكتمال النظرية" في هذا الإطار يدل على رفع تناقض قد يكفي لوحده بالفعل كي يقضي على النظرية التحليلية. لكن لمذا "كأنهما خطرا؟"، هذا ما تم ترك الاجابة عنه إلى القارئ.

يؤكد لاكان على أن الحديث عن الحب في التحليل، هو الحديث عن الحب ليس بصفته أيروسا، أي حضورا كونيا لقدرة الربط بين الذوات، وإنما بصفته حبا-ولعا. لكن مالذي  يجعل هذا الحب-الولَع، في أساسه، يرتبط بالعلاقة التحليلية؟ يُذَكر لاكان هنا بالتفرقة التي حرص عليها فرويد بين النزوات الجنسية وبين نزوات الأنا. فإذا ما نزعنا عن الليبيدو طابعها الجنسي المتميز، مقارنة مع وظائف الحفاظ على الفرد، فإننا ننزع عنها في نفس الوقت طابعها المنحصر جدا، لكنه كما نقول اليوم، طابعها الفعال. يبقى مع ذلك مشكل الفصام مطروحا حيث يحصل بالفعل في هذا الأخير فقدان العلاقات مع الواقع بالكامل. في هذا الخصوص، جازف كارل غوسطاف يونغ بتبني حلا أحادي البعد حيث أغرق الليبيدو بداخل مفهوم « الفائدة النفسية » الضبابي. ولكي يرد على يونغ، اضطر فرويد، بحسب لاكان، لإدخال مفهوم النرجسية كسيرورة ثانوية في مقابل النزوات الشبقية المتواجدة منذ البداية. فلا وجود إذن لوحدة من قبيل الأنا منذ البداية، بل لابد للأنا أن ينمو. فهكذا إذن يتم الاحتفاظ على التفرقة بين الليبيدو الجنسية وبين وظائف المحافظة على الفرد. إلا أن الأنا يتم تحديده الأن، كما أوضح ذلك لاكان، ليس من خلال وظائف المحافظة على الفرد وإنما بكونه هيئة جديدة تظهر خلال النمو، وتكمن وظيفتها في تشكيل النرجسية.

وبالمناسبة، إن هذه النرجسية مزدوجة. أو إذا ما استعدنا تعبيرا قدمه أوكطاف مانوني ووافق عليه لاكان، من الممكن القول أن هناك « نرجسيتين » : نرجسية الأنا ونرجسية الأنا المثالي وهو ما عرض له فرويد طيلة مقاله « مدخل للنرجسية ». فيكفي أن يظهر فرد آخر في محل الأنا المثالي أو الأنا نفسه على الصورة التي يحلو له أن يظهر  من خلالها حتى تتجلى حالة الحب. إن نموذج الزهرية المقلوبة لا تصبو فقط لشرح هذه العلاقة (i(a) à i’(a التي تتواجد بها المحددات الخيالية للسلوكات الجنسية لدى الحيوان، بل وكذلك العلاقة التي تربط الذات بموضوعها الذي يتموضع في محل الأنا المثالي (وهو ما تعنيه i(à) au  point I ). وكلمة « رمزي » هنا، في كل احتمال، تعني اللغة بحيث أن العلاقات الاجتماعية تتحدد بداخلها. فيمكننا القول مثلا بأن ممارسا للرياضة لا يضع نصب عينيه نفس مثال الأن الذي يمتثله أَديب. فمثال الأنا يتموضع بالفعل بهذا السجل الرمزي وهو ما يجعله يتميز عن الأنا المثالي الذي ينتمي إلى سجل الخيالي. في هذ الصدد، يذهب لاكان إلى حد القول بأن مثال الأنا هو الأخر من حيث هو متكلم، في حين يتحدد الأنا المثالي بصورة الشبيه، وهي صورة تواصل صورة جسد الفرد التي تشكل الرحم الذي تنتظم بداخله وحدة الذات. أما ولع الحب فإنه يعبر عن الخلط والاختلاط بين هاتين الهيئتين. إذ عندما نكون في حالة حب، نصبح مجانين كما يقول الحكمة الشعبية. 

لكن في النهاية، ماهو المكان الذي يحتله المحلل في التحويل؟ إنه بالفعل السوال الذي يشغل بال لاكان. هو نفسه يعترف بأن ما يقوله بهذا الصدد ليس واضحا بالكامل، فنراه يستجدي مستمعيه ألا يندهشوا من ذلك لأن مشروعه يتوخى تحديد طبيعة التحليل النفسي، وليس أقل من ذلك. وبالفعل، بعدما ذكَّرَنا بالخطإ الذي اعترف فرويد باقترافه في حالة دورا، بمعنى أنه لم يتعرف على أن السيدة ك. هي من كانت موضع حبها، بل ورغبتها، أضاف لاكان في درس ١٢ مايو ١٩٥٤، بأن فرويد لو تمكن من تجنب ذلك الخطأ وذلك بجعل دورا تتوقف وتتعرف على أناها المثالي، قد يكون من الممكن له آنذاك "أن يحتل هو  مقامه على مستوى الأنا المثالي"خلال التحليل. إلا أن لاكان يختم درسه هذا قائلا "ّإنكم ترون هكذا بأن وظيفة الأنا المثالي، قد يشغلها المحلل بعضا من الوقت، عندما يقوم بتدخله في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، ومن نفس الموقع بالذات". لهذا يمكن أن نستخلص من دون شك بأن هذين الموقعين يختلطان بداخل التحويل كما في حالة حب. 

يقوم لاكان فيما بعد بتعميق دراسة العلاقة بين الرمزي والخيالي. ففي حين يجد الأنا المثالي منبعه في صورة الشبيه، كما يقول، فإن هذه الصورة تستقطب حولها، ليس فقط ولعاً حُبيا، إنما أيضا قدرا كبيرا من العدوانية قد تكون أكثر دمارا لكون الصبي يبصر موضوع رغبته وهو في حوزة شبيهه، خصوصا وأنه يراه هناك بدون أن تحصل له معرفة بذلك. فلن يكون التعايش بين الذتين ممكنا ما لم يسمح النظام الرمزي للرغبة أن تسلك سبل الكلام، وإن كانت هذه السبل خاضعة للرقابة وموسومة بالكبت، وما لم يجعل ذات الفرد على مقدرة لإثراء مثال أناها. ويضيف لاكان بأن ليس هنالك كل ما في الأمر: أن الرمزي يشرط ويحدد حتى البيذاتية التخيلية الملازمة للانحراف الجنسي والتي تتجاهلها نظرية مايكل بالينت بخصوص "الحب الأولي"، رغم أنه من المعروف أن جنسانية الطفل هي بمثابة "انحراف متعدد الأشكال". لذا فإن لاكان يوجه لهذه النظرية انتقادات قاطعة. أما جان بول سارتر فقد عرض لهذه البيذاتية بشكل رائع في صفحات مشهورة من كتابه "الكائن والعدم"، الذي يشكل "قراءة أساسية لك محلل نفساني" بحسب لاكان. 

أما البقية من السيمينار فإنها خُصصت لوظيفة الكلام ولفائدتها بخصوص التحويل. إن ما يتم تعمقه داخل خبرة الكلام في التحليل هو ما نسميه بكل دقة "كينونة الذات" بحسب لاكان. فهذا الكائن، بإمكان الكلام أن يقوله إلى حد ما، لكن ليس بالكامل. إن الكلام يحتفظ دائما بخلفياته الملتبسة، حيث لا يمكنه أن يعبر عن ذاته بنفسه، ولا أن يرتكز على ذاته من حيث هو كلام. إلا أن ما وراء الكلام هذا، لا يحق البحث عنه في تعابير وجه الفرد أو في تشنجات عضلاته أو حتى في الحواصل الانفعالية لكلامه. "إن ماوراء الكلام هذا الذي يتعلق به الأمر يخص بُعد الكلام بالذات". ص. ٢٥٦. إنها مقولة لا تطرح مشكلا بالنسبة لقارئ له علم بالتفرقة التي سيدخلها لاكان فيما بعد بين ما يتم النطق به خلال الكلام وبين ما يتم التدليل عليه وإن لم يكن من الممكن النطق به، أو بتعبير أوجز، بين القيل والقول.

أما الحاصلة التي تترتب عن ذلك بخصوص التحويل، يعبر عنها لاكان بما يلي: "يتضمن التحويل آثارا و إسقاطات وترابطات تخيلية، لكنه يتموضع كلية بداخل العلاقة الرمزية". هذا التعبير بدوره لا يطرح إشكالا لقارئ على دراية بفكرة لاكان بأن الرغبة هي رغبة في التعرف والاعتراف، فكرة قادته للتأكيد على أن الرغبة، نظرا لبنائها الرمزي، هي في حد ذاتها تحليل للتحويل، لكن بما أن هذه الأفكار قد تم وضعها جانبا وتم الاحتفاظ بها قيد التدقيق فيها مستقبلا، فإن لاكان قد اكتفى هنا بتعابير مختلفة، مطنبة في بعض الأحيان أو قليلة الفائدة لخفاء معناها. وهذا ما ترك إحساس لدى حضور السيمينار بنوع من عدم الرضى، وهو ما لم يفت لاكان من ملاحظته وأخْذه بعين الاعتبار.

إلا أن قراءتنا اليوم لهذا السيمينار، تجعلنا نقر بكل يقين بأن أحهم، وهو لاكان بالذات، كان بالفعل يُعلم التحليل النفسي في باريس سنة ١٩٥٣-١٩٥٤. لكن من المعلوم أن المعلم لم يجب على سؤال "لماذا التحويل؟"، وذلك لأنه لم يُقدم بعد مفهومه "الذات-مفترض-عارفة". ومن المعلوم أيضا أنه لم يعطِ ردا قاطعا بخصوص موقع المحلل في التحويل ولا حتى حل التناقض المتعلق بوظيفة التحويل، (كعامل وكعائق في تقدم التحليل). لكن بما أنه حدد نصيب كل من الخيالي والرمزي في تأسيس الواقع على مستوى الذات، فإنه مهد للإجابات المقبلة عن هذه الأسئلة، كما أنه جنب التحليل النفسي من الدخول في طريق مسدود كان بإمكانه أن يثبط عزم كثير من المقبلين الجدد على التحليل، باقتراحه التفرقة بين تحليل الخطاب وتحليل الأنا عوض معارضة تحليل المواد النفسية مع تحليل المقاومات.


إن جاك آلان ميلر، بنشره هذا السيمينار، قد حرص على احترام الخط الذي سنه لمشروعه في النبذة التي تختم السيمينار الحادي عشر، أول السيمينارات المنشورة ولاكان مايزال حيا. لقد تم التقليل من علامات الربط الى أقصى حد ممكن، وجعلها تتبع إيقاع التنفس بدل الترابطات النحوية أو المنطقية للجملة. وقد يكون من المتوافق مع هذا الاختيار حذف تقسيم السيمينارات الى أجزاء، مع حذف العناوين الفرعية أيضا. وأيضا لقد عمل جاك آلان ميللير على إدخال هنا و هناك بعض التعابير المسلية التي قد تتجاوب مع طبع لاكان المرح، كما أن العناوين الفرعية أو الثانوية قد تساعد القارئ وتحفزه. إلا أنها قد توحي بوجود تصميم مسبق تم إعداد السيمينار من خلاله. لكن خطاب لاكان في الواقع ، مع ما يتخلله من تراجع إلى الوراء ومن قفزات مفاجئة ومن استطرادات ومن لف ودوران، ناهيك عن تعابير التكرار وأسالب الاحتياط "حتى لا تكونوا متسرعين في الفهم"، لا يخضع دائما للتسلسل البرهاني، عندما لا يفتعل مناسبة ما للتقدم مستترا. طبعا، إنه مسار فكري منطقي وممنهج، لكن على القارئ أن يتبن هذا المسار وأن يتحقق من صلاحيته. هذه الملاحظة لا تقلل، مع ذلك، من  قيمة خدمة كهاته، تضع بين يدي من يهتم بالتحليل النفسي خطابا ترك بصمة عميقة في تاريخ التحليل النفسي. 

وطبعا، ولا أحد يجادل بأن هذا الكتاب الأول من سيمينارات لاكان، بالشكل الذي تم به إعداده، يتضمن أخطاء عديدة، خصوصا تلك التي تتعلق "بمعسكر دانتيغ" الذي تم اقتياد تريستان بيرنارد إليه. ص. ٣١٥. هل الأمر يتعلق هنا بزلة لسن من قِبل لاكان، وفي حالة كهذه كان من الحري الإشارة إلى ذلك، أو هي زلة قلم وردت أثناء إعداد النص كتابيا؟ على كل حال، قد يكون من الغلو القول إن عدد الاخطاء  قد يؤدي إلى تشويه تعليم لاكان.