فرويد - الخلاص في الإختيار



ترجمة عبد الهادي الفقير 

مقابلة مع فرويد أجراها الصحفي روبير دو طْراز، نشرت في اسبوعية "الأخبار الأدبية" (بالفرنسية)، بتاريخ مارس- أبريل 1923، ص : 1 ـ 2.

زميلنا ومراسلنا المقتدر، السيد روبير دو طْراز، مدير "مجلة جينيف"، لم يتوان عن إرسالنا نص ما كتبه بخصوص زيارته للإستاذ فرويد، بڤيينا، وهو نص لسنا بحاجة للتشديد على أهميته.
يقطن الأستاذ سيجيسموند فرويد مدينة ڤيينا، في منتهى زنقة يتخللها انحدار. وهو يسكن منزلا بسيطا المظهر، يستقبل فيه زائريه بسرعة بين جلستين من جلساته التحليلية.

ولقد كان علي، كي استجوبه بأحسن طريقة، أن أدعي نفسي مصابا بعصاب : وبدخولي هكذا في "تحليل نفسي" على غرار الإنجليز والأمريكيين، الذين يلجؤون الى التحليل حشودا، سنتمكن من معرفة أشياء كثيرة حول المذهب الفرويدي. وبما أنني أشَد صدقا من أن أحاكي اضطرابا لن أتمكن من البوح به حتى ولو كنت أعانيه، فقد حصل لي معه استجواب قصير ومرح.

إذ أن هذا الرجل الذي نتصوره، انطلاقا من أقاويل بعض شارحيه وكأنه غريب الأطوار والتنبآت، يشهد بالعكس على طيبة قلب. بشرته داكنة ونظره ثاقب. لحيته مقصوصة رمادية اللون. يضحك فجأة وأخرى يبدي نفاذ صبره. لا يسعني هنا أنقل كل ما مدني به من شروحات، لكني أود على الأقل أن أعرض هنا لمسألتين. فعلى سبيل المثال، قلت له بأن كتابا فرنسيين، وعددهم في تكاثر، يهتمون باكتشافاته. في البداية، تقبل فرويد كلامي بنوع من التسلي :

  • حقا ؟ لكنني لم أترجَم إلا قليلا الى الفرنسية ! كنتَ تقول... الأوساط الأدبية…
  • لقد أعجبته الفكرة. لكن عندما أشرت الى أن هذا الإعجاب يحدث نوعا من سوء التفاهم، أضاف بسرعة :
  • بخصوص "الليبيدو"، طبعا، طبعا. أما أنا فلا أريد أن نعتبر نظريتي وكأنها هوس جنسي. فهذا خطأ ! إن "الليبيدو" في منظوري لا تُفسر كامل الإنسان الذي يتضمىن معطيات نفسية عدة أخرى. مع العلم أن الليبيدو في منظومتي الفكرية لا يقتصر على الرغبة الجنسية وحدها وإنما يعني الرغبة بصفة عامة. لقد تم تحديدها، يا سيدي منذ زمن من طرف أفلاطون وكذلك من طرف القديس بول. إنها مبدئا عبارة عن جاذبية. فهذا كل ما هنالك. 
وبنوع من الغضب، أعاد الكرَّة : 
  • "إن منهجيتي لا تنحصر في مسألة الجنس... 

بعد هنيهة، فرغ صبره من جديد، فطرحت عليه السؤال التالي : 
  • الكثير من العجبين بك يعتقدون بأنك عدو كل "كبت"، وبأنك تنزع عن الإنسان ليس فقط أثماله وإنما أيضا تنتزع منه قواعد وتعليمات سلوكه وإنما أيضا هواجسه. ثم إنك تحذف كل الإكراهات، كيفما كان طابعها وموضوعها. وكذلك تعتبر بأن سعادتنا تتحقق بواسطة التحرر المرح لغرائزنا. أليس هناك إذن كبوتات مستحسنة ؟   
ضرب الأستاذ بكفه على مكتبه وقال :
  • طبعا، إنهم يشوهون أفكاري. فالمكبوتات التي يلزم تحطيمها ماهي إلا تلك الخاصة بالعصاب. أما في الغالب الأعم، فهناك كبوتات سوية وجد نافعة. وبالفعل، فإن هاته لا تخلف انزعاجا، ولذلك ليس من الضروري معالجتها. فهناك أناس يدركون بوضوح ما يخالجهم، بدون أن يكون من الملح مساعدتهم.
  • لكن هل من فائدة أضاءة كل العميان ؟ لنأخذ مثلا عيبا ما لم يُسمح له بالتعبير عن ذاته. فإذا ما أخرجتموه الى واضحة النهار، ألا تسمحوا له هكذا بأن يفعل ما يريد ؟ ألسنا في حاجة، كي نحيا ونعيش، الى قدْر معين من عدم الوعي، كما تحتاج الأحواض كي تصبح مسمِكة، الى سُمْك من الوحل نتفادى تحريكه ؟
  • لا، لا. أنا أعارض ذلك تماما. إن الإنسان يعاني ويتألم مما يجهله من ذاته. أما التحليل النفسي فيعني بصفة مجملة، التمكن من اللاشعور. فهذا الأخير أقوى بكثير من الشعور ودائما على استعداد لاستعباده. فأنا أُعلم المريض أن يتعرف على ما هو في حقيقته : وهنا تحصل الأزمة. وأنا أستجدي حصول الأزمة. فإذا ما لم نتوفق في الحصول على معرفة مستوفية لذواتنا، فإننا نبقى عرضة لصراع داخلي. تصور حوت البالين وقد أقبل على مصارعة دب. إنه تصارع مستحيل، أليس كذلك ؟ أما دوري أنا هو أن أجعلهما يتواصلان. فالتحليل النفسي يخلق ويهيئ إمكانية المعركة. وهكذا تقوم الذات بالتصارع مع ما يبزغ من أعماقها.
  • لكن المعركة تخلق إمكانية الهزيمة.
  • بدون شك. فأنا لا أعِد بالنجاح مسبقا. لكن عوض أن يُبقي المريض على كبت ما، بمعنى أن يبقى في حالة جبن يتجاهل نفسه، أو يبقى متسترا وراء حجج واهية، فإنه يصبح على مقدرة لتقبل أو إدانة ما يكتنفه وينجم عنه. إنه سيصبح مضطرا لذلك. فأقول، ولو تقبل المريض عيبه أو عاهته، ولو أصبح ينصاع من الآن فصاعدا للصوت الداخلي الذي كان يحاول تجنب سماعه، فإن ذلك أحسن، إذ لم يبق هناك التباس. وسيتحقق الشفاء والسعادة، بحيث تحُل لديه سيرورة تفكير منطقي محل اضطراب متواتر. فخلاص الإنسان يكمن في الإختيار.

بعجالة، كتبت الملاحظات المختلفة التي أسداني إياها فرويد. وكنت أود لو أحظى بالإستماع إليه لمدة أطول. لكن زوارا آخرين، وهؤلاء من مريدي التحليل، كانوا في الإنتظار، ففسحت لهم الفرصة والمجال.