فرويد - مع محاور عنيد - فصل ٣ من ٧

   III

- انتظرُ منك ان تستنبط من نظريات التحليل التفسي كيف يمكن تصور منشأ الاضطرابات العصابية.

- سأحاول ذلك. يجب علينا إذن أن ندرس الأنا والهو من منظور جديد، المنظور الديناميكي. بمعنى أن نأخذ بعين الاعتبار القوى التي تلعب بداخلهما وفيما بينهما. وحتى الآن، لقد اكتفينا بوصف الجهاز النفسي. 

-،شريطة ألا يصبح ما ستقوله غير مفهوم كما سبق.

- أتمني ألا يحدث ما تخشاه وسيتبين لك ذلك بسرعة. إننا نسلم بأن القوى التي تعمل علي تحريك الجهاز النفسي، تنجم عن أعضاء الجسم وتعبر عن الحاجات الجسدية الكبرى. لعلك تذكرْ أقوال الشاعر-الفيلسوف: "الجوع والحب؛ زوج من القوى المهيبة". ونسمي هذه الحاجيات الجسدية، لكونها تحث علي النشاط النفسي، بلفظة "نزوة" وهي كلمة تحسدنا عنها كثير من اللغات المعاصرة. وهذه النزوات تملأ الهو. ونقول باقتضاب بأن كل الطاقات الموجودة في الهو تصدر عن هذه النزوات. وكذلك القوى الداخلية للأنا، فليس لها منبع آخر. إنها تنحدر من تلك النطلعات التي يحتويها الهو. وما تبغيه هذه النزواة؟ إنها تبغي الارضاء، بمعني اجتلاب مناسبات تتمكن فيها الحاجات الجسدية من الانطفاء. ويتم الإحساس بهبوط ضغط الرغبة من طرف عضو الإدراك الواعي، على أنه لذة. ثم يرتفع هذا الضغط ليخلف كدرا من جديد. من هذا التمايل ينتج تتابع إحساسات اللذة والكدر التي تنظم وتُرتب نشاط الجهاز النفسي بكامله. إننا نسمي هذه السيرورة بتعبير "سيادة مبدإ اللذة". 

إن بعض الوضعيات التي يصعب تحملها تجد منشأ لها عندما لا تجد تطلعات الهو النزوية إمكانية للإشباع. والخبرة تبين بأن هذه الإشباعات لا يمكن الحصول عليها إلا بمساعدة العالم الخارجي. آنذاك يتدخل الأنا الذي يمكن اعتباره جانب الهو المنفتح على العالم الخارجي. فإذا كان الهو يعطي كل القوة المحركة للبارجة فإن الأنا هو الذي يتكلف بالموجه لها والذي لا سبيل من دونه للوصول إلى أي هدف. إن نزوات الهو تتطلع إلى إشباعات فورية وعنيفة. إلا أنها هكذا لا تتوصل إلى شيء أو قد تُسبب ضررا ملحوظا. يصبح إذن من صلاحية الأنا التصدي لهذه الإخفاقات والتصرف كوسيط بين متطلبات الهو وبين الاعتراضات التي يواجهها من قبل عالم الواقع الخارجي. إن الأنا يوجه نشاطه في اتجاهين اثنين: فمن ناحية، إنه يراقب بواسطة أعضاء الحس وبجهاز الوعي، العالم الخارجي كي يحدد المناسبة الأصلح لتحقيق إشباع يخلو من أخطار. ومن جهة أخرى، إنه يتدخل في الهو، فيحد من شهواته ويدفع النزوات إلى تأجيل إشباعاتها. بل إنه، عند الضرورة، يجعلها تغير من الأهداف التي تصبو إليها أو حتى الإبتعاد عنها مقابل تعويضات. فعندما يفرض الأنا هذا التعنيف على تطلعات الهو، فإنه يعوض مبدأ اللذة الذي يكون المسيطر الوحيد في البداية، بمبدإ الواقع الذي يتبع هو أيضا نفس الهدف، لكن مع أخذه بعين الإعتبار الشروط المفروضة من طرف العالم الخارجي. وفيما بعد، يدرك الأنا، كي يحصل على الاشباع، بأن هناك سبيلا يختلف عن التوافق الذي تحدثنا عنه، مع العالم الخارجي. إذ في هذه الحالة يمكن التأثير في العالم الخارجي من أجل تغييره وخلق ظروف مواتية تجعل الإشباع ممكنا. فهذا النوع من النشاط يصبح الانجاز الأعلى والأفضل للأنا. وهو يتمثل في القدرة على اتخاذ القرار بخصوص متى يكون من الأفضل السيطرة على الشهوات والانصياع أمام الواقع، أو على العكس، متى يحسن الوقوف بجانب الشهوات والصمود ضد العالم الخارجي. فالقدرة على اتخاذ القرار هكذا هو، بالمجمل، فن العيش.

- لكن كيف ينصاع الهو لأوامر الأنا إذا ما كان هو أقوى الإثنين، بحسب ما فهمت منك؟

-،نعم، يمشي الأمر علي أحسن وجه كلما كان الأنا يتحكم بكامل منظومته، وبكل قدرته على التصرف، وكلما بقي قادرا على الوصول إلي مجموع مناطق الهو وعلى ممارسة تأثيره بها. لا يوجد بين الأنا والهو أية عداوة طبيعية، كل واحد منهما يشكل جزءا من كل. وفي حالة الصحة، ليس من اللزم التفريق بينها. 

- أوافق. لكنني لست أرى بداخل هذه العلاقة المثالية، ولا أدنى محل لاضطراب مرضي.

- أنت علي حق. مادام الأنا، في علاقاته مع الهو، يستجيب لهذه المتطلبات المثالية، فلا وجود لأي اضطراب عُصابي. أما  الباب الذي يلج منه المرض، فهو يوجد في مكان لا يخطر على بال أحد وإن كان كل من له علم بالباطولوجيا العامة، لا يخالجه اندهاش في رأية هذا الباب يثبت هنا:  إن التطورات والفروقات الأكثر أهمية، هي تلك بالذات التي تحمل في طياتها بذرة الشر، وتَعطلٌ في الوظيفة.

- إنك تماديت في مجال العلم أكثر من اللازم، ولم أعد أفهم شيئا.

- سأضطر لتناول الأمور مبتعدا بعض الشيء. فالكائن الصغير حينما يأتي إلى الحياة، يكون في عوز كبير وفي عجز شامل أمام العالم الخارجي الجبار والطافح بالأفعال المدمرة. كائن بدائي، لم يطور بعد أنا منظما، يجد نفسه عرضة لكل هذه الصدمات. إنه، في هذه الفترة من حياته، لا يعيش إلا من أجل إشباع أعمى لغرائزه وهو ما يتسبب غالبا في قضاء حتفه. فانبثاق الأنا وتميزه هو تقدم لصالح الحفاظ على حياة الفرد، قبل كل شيء. من المعلوم أن الكائن عندما يموت، فأنه لا يجني أي فائدة من خبرته، لكنه، إذا ما تجاوز صدمة ما، فإنه يتخذ بعذ ذلك كامل الحيطة في مواجهة كل الوضعيات المشابهة وينبه الفرد إلى الخطر الذي قد يحدق به، باستعادة موجزة للإحساسات التي عاشها أثناء الصدمة الأولى وذلك بواسطة "انفعال" القلق. فردة الفعل هذه ضد الخطر تؤدي إلى محاولته الهروب، وهي شرط للنجاة، مادام لم يصل الكائن بعد إلى الوضعية التي يصبح فيها قادرا على مواجهة الأخطار المنتشرة في العالم الخارجي بطريقة نشطة، وربما كذلك باتخاذه موقف الهجوم. 

- إن هذا يقودنا إلى أبعد مما وعدتَني قوله.

- إنك قد لا تعلم إلى أي حد سأفي بوعدي. فحتى لدى الكائنات التي ستكوِّن فيما بعد أنا منظما بمستوى النشاط المطلوب منه، فإن هذا الأنا في مرحلة الطفولة يكون ضعيفا وقليل الانفصال  والتمايز عن الهو. لتتصور الآن ما قد يحدث لهذا الأنا قليل القوة، عندما يصطدم بتطلع نزوي من الهو. إنه يريد أن يقاومه، معتبرا أن الإشباع الذي يطلبه من الممكن أن يكون خطيرا وقادرا على إحداث وضعية صدمية، وارتطام مع العالم الخارجي، من غير أن تكون له القدرة الكافية للسيطرة على هذا التطلع النزوي. إن الأنا يعامل الخطر الداخلي النابع من النزوة وكأنه خطر خارجي. فيحاول الهرب ويبتعد عن تلك المنطقة من الهو، فيهملها، تاركا إياها تمشي في سبيلها بعدما أن قطع عنها كل تلك الأواصر التي عادة ما يضعها تحت تصرف اختلاجات النزوة. آنئذ نقول بأن الأنا يعمد إلى كبت ذلك التطلع النزوي. فيحصل عن ذلك مباشرة  صد الخطر، لكن خلط الأنا بين ما هو داخلي وما هو خارجي لا يمر بدون عاقبة بحيث أنه من غير الممكن هروب الفرد من ذاته. فالأنا هنا، بلجوئه إلى الكبت، يخضع لمبدإ اللذة عوض أن يقوم بتعديله طبقا لمهمته المعتادة. وبهذا يصبح مضطرا لتحمل عواقب فعلته. وهاته العواقب تتمثل في أن الأنا سيكون ملزما بتقليص مجال مملكته. فها هو التطلع النزوي الممكبوت قد تم عزله الآن، وتُرك لسبيله، لكنه بهذا أصبج خارج كل تأثير، أصبح من الآن فصاعدا، يتبع مسالكه الخاصة، أما الأنا، ولو تم تدعيمه وتقويته، فلن يكون قادرا على رفع الكبت، وتنهار قدرته على التوليف. وهكذا يصبح جزءٌ من الهو أرضا ممنوعة عن الأنا. أما التطلع النزوي المنعزل، من جهته، فلن يكف هو أيضا عن الإنشغال، بل إنه يجد كيف يتوصل إلى تعويض الإشباع العادي الذي تم منعه عنه، فينجب فروعا نفسية تقوم مقام هذا الإشباع. ثم إنه يتواصل مع سيرورات نفسية أخرى، يغتنمها من الأنا بقوة تأثيره. وفي الأخير يقتحم الأنا ويقحم نفسه في الشعور متنكرا بشكل بديل ومشوَّه ولا يمكن التعرف عليه. وبالإجمال، إن هذا التطلع النزوي يقدم على تكوين ما نطلق عليه إسم "العرَض". يمكننا هكذا أن نلقي نظرة علي ما يشكل اضطرابا "عصابيا": فمن جهة، يجد الأنا نفسه وقد تمت إعاقة قدرته على التوليف وبقي منعدم التأثير على جانب من الهو، وأصبح أيضا مضطرا للتخلي على جزء من نشاطه كي يتجنب اصطداما جديدا مع ما هو مكبوت، وبات منهكا في صراع يائس ضد الأعراض التي تفرعت عن التطلعات المكبوتة. ومن ناحية أخرى، هناك الهو الذي استقلت بداخله النزوات المعزولة وانصرفت في تتبع أهدافها الخاصة من دون مراعاة مصالح الفرد العامة. فأصبحت هذه النزوات لا تطيع إلا قوانين السيكلوجيا البدائية التي تتحكم بأعماق الهو. فإذا ما نظرنا إلى الأمور من فوق، فإن منشأ الأعصبة يبدو لنا تحت هذا التعبير البسيط: لقد حاول الأنا خنق أنفاس بعض جوانب الهو بطريقة غير ملائمة. لكنه أخفق وأخذ الهو في الانتقام. فالعصاب هو إذن نتيجة صراع بين الأنا والهو، صراع يشترك فيه الأنا لأنه من غير الممكن إطلاقا إن يتخلى عن تبعيته لوقائع العالم الخارجي. فالتعارض الأساسي هو بين العالم الخارجي والهو. وبما أن الأنا، لكونه هكذا وفيا لطبيعته الحميمية، يقف بجانب العالم الخارجي، فإنه يدخل في صراع مع الهو. لكن انتبه جيدا: ليس هذا الصراع هو ما يسبب المرض - فصراعات من هذا القبيل بين الواقع والهو  لا مناص منها وأحد واجبات الأنا هو أن يتدخل ويشارك فيها. لكن ما يسبب المرض هو التالي: إن الأنا يستعمل الكبت كوسيلة غير كافية لتسوية الصراع. إن المسبب الحقيقي هو أن الأنا عندما توكَل إليه هذه المهمة يكون تطوره  ضئيلا وقوته منعدمة. لذا فإن الكبوتات الحاسمة تحصل كلها بالفعل إبان فترة الطفولة الأولى. 

- ياله من التفاف غريب! سأتبع نصيحتك. فأنا لا أنتقد. إنك تريد فقط أن تبرز لي منظور التحليل النفسي حول منشإ الأعصبة، حتى نرد إليه ما يقوم به التحليل من أجل علاجها. لدي عدة أسئلة أود طرحها وسأقوم بطرح بعضها فيما بعد. بودي أولا أن أقتفي خطاك محاولا بدوري طرح تركيبةً فرضية، أو قل نظرية. لقد عرضتَ العلاقة بين العالم الخارجي والأنا والهو. ووظعتَ كشرط أساسي للأعصبة في ما يلي: يدخل الأنا، نظرا لتبعيته للعالم الخارجي، في صراع مع الهو. في صراع كهذا، ألا يمكن تصور العكس، فيكون الأنا هو من يستسلم للهو فيتخلي عن كل اهتمام بالعالم الخارجي؟ فمالذي يحصل في حالة كهاذه؟ إنني مجرد شخص عادي، لكن بحسب الأفكار التي اكتسبتها بصدد طبيعة الذهان، فإن قرارا من الأنا كهذا، ربما قد قد يكون المسبب له. إذ ما هو أساسي في المرض العقلي يبدو أنه الابتعاد عن الواقع بهذا الشكل.

- أي نعم. لقد فكرتُ في ذلك أنا أيضا. وأظن ذلك صحيحا وإن تطلبت البرهنة على هذه الفكرة وضع ارتباطات جد متشعبة موضع تساؤل. إن العصاب والذهان متقاربان جدا، لكنهما يختلفان حتما بحصوص نقطة أساسية. وقد تتعلق هذه النقطة بموقف الأنا بداخل صراع من هذا القبيل. أما الهو فيبقى في كلتا الحالتين، محتفظا بطابعه العنيد والأعمى. 

- تابع من فضلك. فماهي الإشارات في نظريتك بخصوص علاج الأعصبة؟ 


- هدفنا في العلاج هو الآن سهل التحديد. نصبو إلى إعادة بناء الأنا وإلى تخليصه من عوائقه وإلى إعادة تحكمه في الهو الذي انفلت منه من جراء الكبوتات المبكرة. فمن أجل هذا الهدف وحده، نقوم بالتحليل، وكل تقنيتنا تتظافر نحو هذا الهدف. يلزمنا البحث عن الكبوتات القديمة، مشجعين الأنا علي تعديلها، بفضل مساعدتنا وعلى حل الصراعات بطريقة أفضل عوض التهرب من موجهتها. وبما أن هاته الكبوتات قد حصلت في وقت مبكر من الطفولة، فإن العمل التحليلي يرجعنا القهقرى إلى هذا الزمن. فالوضعيات التي أحدثت هذه الصراعات القديمة تكون قد نُسيت في الغالب، أما الطريق الذي يرجعنا إليها فتدلنا عليه الأعراض والأحلام وتداعيات المريض الحرة والتي يلزمنا تأويلها وترجمتها وذلك نظرا لأنها، تحت سطوة سيكلوجية الهو، اتخذت لنفسها أشكالا غريبة، صادمة للعقل والمنطق. فالأفكار والذكريات التي لا يطلعنا عليها المريض إلا بعد صراع داخلي، تُمكننا من افتراض أنها ترتبط نوعا ما بالكبت وربما أنها إحدى تفرعاته. وعندما نشجع المريض على الترفع فوق مقاوماته وعلى إبلاغنا بكل ما يجول بخاطره، فإننا نقوم بتطويع أناه كي يتغلب على ميله الى التهرب ونُعَلمه تحمل الإقتراب من المكبوت. وفي الأخير، عندما يتمكن من تركيب الوضعية التي انتجت الكبت، خلال تذكره، فأنه ينال كل الخير من تصرفه المطيع. إن اختلاف الأزمنة يلعب كلية في صالحه: فالأمور التي تهَرب منها أناه الطفولة وهو في حالة رعب، تعود وتبدو غالبا لأناه الراشد والمقوى وكأنها مجرد لعبة أطفال.