ابن الأجنبي



بدأت دقات قلب جاك ترتفع فتهز قفص صدره وكأنه جلد طبل يرتج لشدة الضرب. أخذ جسمه يتصبب عرقا وأنطلقت أطرافه في ارتعاش شديد. إنخفضت حدة نظره وكأنما أُسدل على عينيه ستار سميك يحول دونه ورؤية المارة المهرولين يمينا وشمالا وسط الشارع المكتظ رغم شساعته. أصبحت العربات المتنقلة والمتتابعة من كل حدب تبدو له وكأنها أطياف تتمدد أحجامها وتحوم في كل صوب. أما مباني العمارات المتراصة بجانبي الشارع والمزينة بشتى اللافتات والأضواء الإشهارية فأنشأت تنتصب أمام عينيه الباهتتين وكأنها أدغال وكهوف تقطنها حيوانات بدائية عملاقة مكشرة الأنياب. إنتابه خوف شديد من أن يرتطم بعربة أو أن يصدم أحد المارة المترجلين. لم يكن الجو حارا أنذاك ولم يكن الباص الذي يقوده مزدحما بالركاب. فما سبب هذا الإضطراب الذي أخذ ينتاب جاك بشكل حاد متكرر الى حد يشل من تحكمه في حافلة النقل التي يقودها. إنه يعمل على سياقة هذا الباص بسلاسة ومرونة نالت استحسان مستقليها منذ سنوات، فلماذا إذن كل هذا الإضطراب المربك وكل هذا التخوف؟ فإن لم تكن حرارة الطقس ولا ازدحام الركاب هما مايسببان هذه الحالة التي أصبحت متواترة منذ مدة لديه، فما السبب إذن ؟

لقد راودته فكرة الإقدام على تحليل نفسي لاستفسار معاناته هاته واستنباط كنهها، إلا أنه لم يفعل حتى الآن. فلم يساعفه الحظ على القيام بهذه الخطوة إلا عندما أوقفه إسمي في دليل التيلفون. “إنها اللحظة المواتية” قال جاك في نفسه وهو يمسك سماعة التيليفون بيد وينقر رقم هاتفي باليد الأخرى. -"آلو، مساء الخير دكتور. هل من الممكن ان أحصل على موعد في أقرب وقت ممكن؟ لقد كنت بصدد البحث عن عنوان لمحلل نفسي فأوقفني إسمك ذي الأصل العربي؟ أنا الأن في استعداد للقيام بتحليل نفسي، فهل لذلك من سبيل ؟

لقد أجهد جاك عقله في التفكير في مسببات هذه الحالة وهو مستلقٍ على أريكة التحليل للمرة الأولى. وبعد تروٍّ طويل لم يكن ليرى سببا أقوى لما يحدث له سوى تخوفه الذي ينتابه بين الفينة والأخرى، تُصور له نفسه أثناءه أنه قد يصبح فريسة لاعتداء مفاجئ ولا مبرر له، يصيبه من أحد هؤلاء الأجانب الذين غالبا ما يقلون حافلته في تنقلاتهم. ولمذا لا وقد تراهم يتحادثون بأصوات مرتفعة ويتبادلون حركات متهورة فلا تعرف إن كانوا يتفاهمون أم يتشاجرون. فلقد تصور فعلا أن أحدهم قد يعتدي عليه وهو منكب على سياقة الباص. لكن هذه الفكرة التي حلت مكان الصدارة بفكره ولمدة طويلة، لم تعد تصمد أمام أبسط قوانين التفكير المنطقي لديه. إن علاقاته وديعة وطيبة مع كل الأجانب الذين يعرفهم. وكل أولائك الذين يقلون باصه صباح مساء، وإن كان لا يعرفهم، يعاملونه بكل احترام ومودة وهو يبادلهم كذلك نفس الإحساس ونفس السلوك. لا. ليس من الممكن أن يحدث له أذى أبدا من هؤلاء الأجانب رغم ما قد يغلب على قرارة نفسه من أوهام بهذا الشأن.

فكر ثم فكر. وهاهو يتذكر ثم يبوح. كان جاك أصعر إخوته وأخواته الخمسة عشر. كانوا كلهم يتقاربون في السن إلا معه حيث كان بينهم وبينه فارق كبير. الأب والأم كذلك قد تقدم بهما العمر مما جعل جاك يتوجس موتهما وهو مايزال في بداية طفولته. فخشية منه فقدانهما المبكر، كانت تنتاب جاك منذ نعومة أظافيره، حالات من والقلق والكدر، تنقلب الى نوبات شديدية من البكاء والنحيب يصعب ايقافها أو التخفيف من حدتها. كان يخشى أن يستفيق من نومه ولا يجدهما أحياء أصحاء. فَلَشدما كان يخشى أن يستيقظ فيتوارى الى مسامعه خبر ذهابهما الى غير رجعة. خوفه كان لا حد له من أن توافيهما المنية فيقفر رحبه ويصبح وحيدا مغولبا على أمره بين أخوان وأخوات كثيرين، لا يعبأون بوجوده ولا يحسون نحونه بعطف ولا حنان. فما سبب كل هذه القساوة وهذا الإزدراء من إخوة وأخوات تآزروا بالإثم والعدوان على طفل بريئ، لا حول له ولا قوة ؟

لقد أدار جاك هذه المسألة من كل جوابها بداخل طيات مخه الغض والذي لم يكتمل بعد تركيبه. ثم إنه استدعى كل إمكاناته المنطقية لاستتباب خبايا هذا اللغز، المحير لعقله الفتي والمقرح لوجدانه الملائكي. فكر ثم فكر تكرارا ومراراً، إلا أنه لم يجد ولو قيد أنملة من حل لهذه المسألة التي تتجاوز، لامحالة، قدراته العضلية منها أو الذهنية. إن جاك لا يختلف عن إخوته في شيئ، أو هكذا كان يعتقد. فأبوهم واحد ووحيد وأمهم هي عينها. ثم إنه يتكلم نفس لغتهم ويتصرف وفق معايير تصرفاتهم. فما الفارق بينه وبين إخوته إذن ما عدا السن، هذا الفارق الذي يجعله عرضة لكل عِتاباتهم وسخرياتهم المتواصلة؟ وما الذي يجعله منذ صباه موضع كل هذه القساوة وكل هذا الإزدراء من هؤلاء الإخوة الذين كان بودهم، بل ومن اللازم عليهم الإعتناء به والعطف عليه ؟

لا شيء حقا يفرق بينه وبينهم سوى شيئ بسيط يخص لون بشرته. لقد كان أسمر اللون داكنه. أما هم كلهم فكانوا بياضا على بياض. لكن تساءل جاك: هل من شأن هذا الفارق البسيط في لون البشرة من شأنه أن يحدث كل هذا الأسى والأسف، كل هذه المعاناة التي عاشها خلال طفولته مع ما ترتب عنها من تبعات في حياته اللاحقة ؟

يذكر جاك فيما يذكر، تلك اللحظات من صباه وطفولته الغضة التي كان فيها إخوته، فرادى أو مجتمعين، يلهون وهم ينعتونه بأشنع النعوت والأوصاف. سمعهم ورآهم يستمتعون وهم يقذفونه بأبشع الأسماء والمسميات. فهاهم مثلا يتغامزون ويتضاحكون منادين إياه بنعت “إبن العربي”. أليس من الممكن حقا أن يكون جاك من نسل ذلك الطالب التونسي الذي اكتراه الوالدان شقة في الطابق السفلي من المنزل قبل ولادته هو ؟ لذلك كان إخوانه ينادونه تحت تسمية “إبن العربي”. أليس من الممكن أيضا أن يكون أبوه الحقيقي هو موزع البريد ذو الأصل الكورسيكي ؟ فهو أيضا يقتسم مع جاك، كما هو حال الطالب التونسي أيضا، لون بشرته الأسمر الداكن.

إلا أن هذه التسميات المحقرة لذاته والناسفة لأصله، وهو الفتى الناشئ المستوجب لكل ما يدعم هذه الذات وهذا الأصل، لم تتمكن كلية من النيل من همتة وكرامته. لقد تمكن من الإعتلاء عليها وتجاوز مفعولها السلبي على ذاتيته. فرغم ما تكنه أو تعلنه هذه التسميات من عدوانية وكراهية أخوية، فإنه كان يستقبلها مضاضة بقلب رحب وبكثير من التسامح. ففي قرارة نفسه، كان جاك يحس كبير الإحساس بأن سلوكات إخوته المشينة والمهينة هاته، هي أفضل من عدمها. لأنها وسيلة يتلقف بها اهتمام إخوته به. لذا فتقبلها منه أجدى مما قد يحصل إن انعدمت. سيسقط أنذاك في العدم الكارثي الذي قد ينجم عن لامبلاة هذا الطابور العظيم من الأخوة و الأخوات نحوه.

لكن جاك، إن تمكن من تحمل هذه النعوت المحقرة عندما كانت تصدر من طرف إخوته، فإنه لم يجد عذرا ولا حيلة يمَكناه من التخفيف من مفعولها في الوسط المدرسي. فمنذ التحاقه بالقسم الأول ابتدائي، تكالب عليه زملاؤه الصغار، ممازحينه ثم معاتبينه ثم مهاجئينه بلون بشرته. ففي فترة الإستراحة وحتي بداخل القسم، تبخر إسمه الحقيقي من ذاكرة وأفواه أقرانه. كان يُنادَى عليه من كل صوب باسم “العرْبي”. وجد جاك نفسه ليس فقط بدون إسمه الحقيقي الذي انتُزع منه عنوة، وإنما ايضا تحت لقب يسبغ عليه أشنع الصفات والمعالم. إنه «العرْبي»، أي ذاك الإنسان الوسخ، عديم الأخلاق، المحتال، الشنيع، القبيح، الفاسد… والذي أرسى معالمه المخيال الجمعي الفرنسي، المشبَع حقدا وكراهية تجاه الآخر المتجسد في شخص الإنسان العربي، إبان الإستعمار وبعده.

إستمر الحال على هذا المنوال طوال سنوات الدراسة الإبتدائية ثم الثانوية، الى أن ضاق صدر جاك بهذا السب الذي كان مرة يهدأ فيريح باله ومرات يشتد ليخنق أنفاسه. كان هذا الشتم المتواصل والمجاني ينال من عضده ويفقده أعصابه لدرجة جعلته لم يتمكن من إتمام دراسته على ما يرام.

مرت الأيام ثم الشهور ثم الأعوام. بلغ جاك سن الرشد واشتد عضده، وككل الشبان من سنه، فكر جاك في إنشاء أسرة توفر له الدفئ والحنان اللذين لم يذق لهما طعما ولم يشم لهما رائحة طوال الفترة التي كان فيها تحت حماية الأبوين الفاترة وبين إخوته الأشراس. فكان من حظه أن يتزوج بامرأة طالق وأم لطفل يبلغ من العمر سنة لا يُعرف له أب، حسب قول الأم. إلا ان جاك، لم يَجِد في حال الأم الطالق وفي حال إبنها المجهول الأب ما يدفعه الى التراجع عن مشروعه. بل بالعكس، وحتى يَشُد من عضد أسرته الصغيرة، أسرع جاك في إعداد مراسيم الزواج بالأم وترسيم أبوته لهذا الولد الجميل البشرة وأسمرها.

ولتخليد ذكرى هذه المناسبة الفريدة، فكرا في قضاء شهر العسل بعيدا عن بيئتهما المعتادة مع ما يطبعها من رتابة وملل. وقع اختيار الزوجين على أحد البلدان السياحية بإفرقيا السوداء، فطارا اليه على جناحي الحب والحنان ثم حطا على أرضه المفروشة سعادة وهناءِ بال.


لكن، لم تمض إلا أيام قلائل حتى حدث مالم يكن في الحسبان. لقد كان من الزوجة أن تعلق قلبها بشاب من الأهالي. شغفت بحبه الى حد الجنون جعل عسل هذا الشهر ينقلب الى علقم في بلعوم الزوج. فأخذت سعادته منحى التعاسة. لم يعد بإمكانه أن يفهم ما يراه وما يسمعه. فهاهو في رمشة عين، ينزلق من مرتبة الحبيب المحب الى حضيض المبغوض المهمول. وإن لم يكن بمقدوره إخماد نار العشق في قلب زوجته لهذا الشاب أسود الجلدة، فإنه، على الأقل عمل على التخفيف من فورانه، محاولة منه تهدئة الأمور حتى نهاية فترة الإصطياف.

رجعا الى فرنسا ولكن الأمر لم يستتب بينهما وما كان من الزوجة ، بعد أسابيع من رجوعهم، ألا أن طارت مرة ثم ثانية الى السينغال للإلتقاء بعشيقها. فلم يعد الزوج يطيق صبرا فعزم على فراق زوجته وإبنهما رغم ما أكن ويكن لهما من حب. وأثناء الطلاق أخبرته الزوجة بأن أب إبنها أجنبي ومن أصل برتغالي تحديدا.