في ذكرى وفاة صفوان



مصطفى صفوان عمَّر طويلا، فكر وكتب كثيرا، حلل وعالج بالتحليل النفسي جما غفيرا، أنار طريق من يريد ممارسة التحليل ردحا مديدا. توفي مصطفى صفوان بمدينة باريس حيث كان يقيم ويعمل منذ أزيد من ستين سنة. وافته المنية هذه السنة بالذات وهو في عمر يناهز القرن. غادرَنا بعد أن ترك لنا إرثا دسما من العطاء الفكري والتنقيب التحليلي الممنهج، قد يستلزم استجلاءه والتمعن فيه قرنا آخر أو أزيد.

 

قبيل وفاته بسنة لا أكثر، أعد له «معهد الوطن العربي» بباريس ندوة تكريمية ألقت فيها بعض الشخصيات المقربة كلمات وخطبا تشهد على ما يتمتع به هذا النفساني والمفكر الفذ من شيم شخصية متكاملة ومن عطاء فكري جم وعميق، أشاد بقيمته واسترشف من عسله القريب والبعيد في شتى أرجاء المعمورة. بعد أربعة متدخلين فرنسيين، أعطيت الكلمة للسيد أحمد الشيخ الذي كان أخر المتدخلين والوحيد الذي تحدث باللغة العربية متطرقا للكيفية التي تلقت بها مصر خاصة والعالم العربي على العموم، عطاء مصطفى صفوان الفكري بمجمله. بخصوص هذا التلقي، يحدد أحمد الشيخ وأشاطره الرأي في ذلك - ثلاث مستويات:

 

- أولها يخص ما تم تلقيه إيجابيا من أعمال صفوان. ويتعلق هذا الجانب بترجماته المتميزة الى اللغة العربية. فلقد ترجم بلسان عربي أنيق وبأسلوب شيق رشيق وبذكاء متمكن، كتبا لمفكرين عظام في الفلسفة والسياسة والأدب والتحليل النفسي. ففي مجال الفلسفة، ترجم كتاب «علم ظهور العقل» لفريدريك هيجل (دار الصالح، بيروت، ١٩٨١)؛ وفي مجال السياسة ترجم كتاب «العبودية المختارة» لإتيان لابويسيه، (دار الأهالي، القاهرة، ١٩٩٠)؛ وفي الأدب ترجم رواية «عطيل»، لويليام شكسبير، (مكتبة الأنجلو أمريكية، القاهرة، ١٩٩٨)؛ أما في التحليل النفسي فقد ترجم كتاب «تفسير الأحلام» لسيغموند فرويد، (دار المعارف، القاهرة، ١٩٥٩)؛ 


- المستوى الثاني يتعلق بما يتم تلقيه من طرف المفكرين العرب بجدال كبير ويتم التعامل معه بمناقشته ومساءلته وربما بدحضه. ويتعلق هذا الجانب بكتابات صفوان السياسية: «لماذا العرب ليسوا أحرارا، سياسة الكتابة والارهاب الديني؟»؛ «نحو عالم عربي مختلف»، (دار التنوير، ٢٠١٧)؛ «إشكاليات المجتمع العربي، قراءة من منظور التحليل النفسي»، ألفه بمشاركة عدنان حب الله المحلل النفساني اللبناني، وقدم له الشاعر والمفكر السوري أدنيس (المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٨). 


- أما المستوى الثالث فيخص ما لم يتم بعد تلقيه من أعمال صفوان في حين يشكل هذا الجانب الغالبية العظمي من هذه الأعمال وأهمها. إنه الجانب المتعلق بالتحليل النفسي كنظرية وكممارسة. فلقد خلف صفوان في هذا الإطار مؤلفات كانت وماتزال مرجعا لابد منه لمن يرتاد هذا العلم ومن بينها: «البنيوية في التحليل النفسي» ١٩٧٣؛ «دراسات في الأوديب» ١٩٧٤؛ «جنسانية الأنوثة في النظرية الفرويدية» ١٩٧٦؛ «فشل مبدأ اللذة» ١٩٧٩؛ «اللاشعور ومُدوِّنه» ١٩٨٢؛ «جاك لاكان ومسألة تكوين المحللين» ١٩٨٣؛ «التحويل ورغبة المحلل» ١٩٨٨؛ «الكلام أو الموت» ١٩٩٦؛ «ملخصات سيمينار جاك لاكان» في جزأين، الأول تم نشره في ٢٠٠١ والثاني في ٢٠٠٥؛ «عشر محاضرات في التحليل النفسي» ٢٠٠١؛ «اللغة المتداولة والاختلاف الجنسي»، ٢٠٠٩؛ «التحليل النفسي: علم وعلاج وقضية» ٢٠١٣؛ «نظرة على حضارة الأوديب» ٢٠١٥؛ «بئر الحقيقة: التحليل النفسي والعلم» ٢٠١٧؛ «حضارة ما بعد الأوديب» ٢٠١٨؛ إضافة الى كتب أخرى كتبها بالمشاركة مع محللين نفسانيين آخرين لا تقل أهمية عن سابقاتها من حيث المضمون.


عناوين الكتب المشار إليها أعلاه تدلنا بكل وضوح على اهتماماته المتعلقة بالمسائل النظرية وبالمسائل المنهجية والتطبيقية في التحليل النفسي على حد سواء. فمن بين المسائل النظرية التي خصها صفوان باهتمام يمكن التذكير، على سبيل المثال لا الحصر، تلك التي تتعلق بالسير ورات اللاشعورية: عقدة أوديب، وعقدة الإخصاء، ووظيفة الأب، والتركيبة الجنسانية لكل من الذكر والأنثى. وكل هذه الإشكالات، يعرض لها صفوان وقد تم تأسيسها وتأطيرها، بحسب تعاليم جاك لاكان، بداخل وظيفة اللغة. إذ يرى بأن الذات الانسانية تتأسس في اللغة، في عالم الدلالة وعالم الرمزية وليس في التركيبة البيولوجية للكائن الحي. أما الكلام فهو ما يجعل التحاور والتعايش مككنا بين بني الانسان وخارج وظيفة الكلام لايبقى لبني البشر الا الاقتتال والتناحر.

 

وكذلك تدلنا هذه العناوين بكل جلاء على اهتماماته المتعلقة بممارسة التحليل النفسي وبالمنهجية الأفضل التي يجب اتباعها في العلاج التحليلي، أي في كيفية استتباب المكنونات اللاشعورية وفي علاج الاضطرابات النفسية سواء كانت من فصيلة الأعصبة أو الذهانات أو الانعطافات الجنسية. فعلى المستوى المراسي، إن ما يتم تحليله فهو كلام المتحلل بما يتخلل هذا الكلام من أنماط في القول: أقوال لا حد لها ولا حصر من قبيل القيل والقال. فهي هكذا أقوال فارغة لا تغني ولا تسمن الذات من تعطشها لحقيقة رغبتها الدفينة بين سطور خطابها المنسي. ثم هناك أقوال حقة نادرة تنبس ببنت شفة بين الفينة والأخرى لتدل المحلل على حقيقة رغبة الفرد المتقدة تحت ركام رماد الكلام الفارغ. فحقيقة الرغبة هاته هي ما يستجدي إنصات المحلل الدؤب وتأويله الصائب. ومن الحري بالمحلل على أقل تقدير- إن كان يريد أن يتحمل وظيفة المحلل بالفعل - ألا يعترض طريق هذه الحقيقة وهي تطل برأسها وتهم بالاشارة الى ذاتها.


عند نهاية حفل التكريم وعندما استدعي صفوان للمنصة لإلقاء كلمة تعقيب على ما قيل في حقه من طرف المتدخلين، أجاب بجملتين اثنتين قال في أولهما: « أريد أن أصلح خطأ، فما أنا بأستاذ ولا بدكتور»، مؤكدا هكذا على أنه لا يهتم بالألقاب ولا بالمراتب. لقد كان يفر من كل المناصب التي عادة ما تتحول من سلطة رمزية بالأساس إلى تسلط فعلي في خدمة متعة صاحبه النرجسية والتملكية والقمعية.

 

كان صفوان لا يطمع في سلطة ولا في التقرب من أصحابها. فلقد وقف موقفا محايدا بل ومنتقدا لكل التنظيمات المؤسساتية، مهما تعددت التسميات وتنوعت : جمعية كانت أو رابطة أو مدرسة ينتهي بها الأمر في آخر المطاف الى الاسطباغ بالطابع الأسري أو القبلي وهو ما يصدها لا محالة عن الهدف المنشود في التحليل النفسي.


لقد اتخذ صفوان موقفا محايدا بل ومتحررا من كل تلك التجاذبات المغرضة وما تخلفه، أرادت أم كرهت، من مغالطات وسلبيات بخصوص تفقد السيرورات اللاشعورية وتحليلها. وهو  ما يؤدي في النهاية الى تعطيل العملية التحليلية والوقوف ضد اكتمالها وبلوغ قصدها.فلشد ما انتقد صفوان ما آلت اليه الأمور في إطار هذه التنظيمات حيث تُختزل عملية تأهيل المحللين في ترتيبات تكوين مهني ليس غير. في حين أن التمكن من ممارسة التحليل لا يحصل كما هو العادة باكتساب معرفة نظرية وتقنية فقط وإنما يستلزم الخضوع لتحليل نفسي شخصي يختبر فيه مريد التحليل حقيقة رغبته اللاشعورية وما يتحكم فيها من نزوات ومن إواليات دفاعية ومن مقاومات نرجسية.


أما بخصوص كتبه المترجمة الى العربية فنذكر منها كتاب «الكلام أو الموت»، (دار المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٨)؛ وكتاب «التحليل النفسي: علم وعلاج وقضية»، (هيئة البحرين للثقافة والآثار، ٢٠١٦)، يعرض صفوان في هذا الكتاب بالخصوص، جوانب أساسية من التحليل النفسي؛ جانب الإنجازات النظرية التحليلية التي تتابعت وتراكمت منذ فرويد وجانب العلاج التحليلي وبما يتميز به من منهجية متفردة من بين جميع العلاجات، وكذا الجانب المؤسساتي للتحليل النفسي بما حققه من تنظيمات محلية أو دولية ساعدته على الانتشار كفكر وكمنهجية علاجية وكذلك بما اكتنفه من صراعات وهفوات كان من ضحيتها التحليل النفسي نفسه. هذان الكتابان المهمان تمت ترجمتهما من طرف الدكتور مصطفى حجازي الذي لا يتوانى في بذل كل جهوده - على غرار ما قام به المرحوم جورج طرابيشي بصدد كتابات فرويد - لنقل اختصاص التحليل النفسي إلى اللغة العربية وتقريبه من القارئ العربي.