٢١
أمي. من كانت ومن هي؟ أكانت سعيدة أم شقية؟ أحبتني كما أحببتها، أو أكثر أو أقل أو بطريقة مغايرة تماما، بمعنى أنها أحبتني لصالحها فقط ولا لأحد غيرها، كما يحب أبناءهن أمهات كثر؟
في يوم ما، قلت لصديقة تبدو على أهبة لفهمي أحسن فهم:
- إن الغريب في الأمر أن أمي يتملكها احساس جد فائق بخصوص جودة أثاث أو ثوب أو عمارة أو عمل فني أو أكلة أو أحد التوابل، لكن الأمر يختلط عليها بخصوص البشر. في الواقع، إنها تفتقر لأدنى قدرة للتمييز بين البشر. كل ما يقوله الآخرون وما يلبسونه يسلب عقلها، وكلما قال احدهم قولا طيبا في حقها إلا واستمالها ونزع عنها كل مقاومة وهو ما جر عليها كثيرا من المصاعب في مجال المبادلات والتواصل.
- إن أمك على دراية بتقييم الأشياء ولا تعرف كيف تقدر النفوس، اجابتني الصديقة.
قول صائب حقا ومدعاة للتفكير! فهل طيلة حياتها لم تحبني أمي إلا كشيء من الأشياء؟ وهل حدست يوما ما بأن لي ذاتا، أو علي الأقل شخصا ما يتوق للحصول على ذات؟
خلال السنوات الأولى من التحليل، تحدثك كثيرا عن أمي. ظننت أنه يلزمني فعل ذلك حتى أتمكن من فهمها وحتى أحدد موقعها بالنسبة إلي. تحدثت لسيرج في البداية عن اشتياقي الكبير لأمي، لأنها كثيرا ما كانت غائبة أو منهمكة في أعمالها الإبداعية. وفي النهاية تحققت بأنني كنت مهملة من طرفها وكذلك من نفسي. ومع مرور الوقت، عندما أنشأت أتساءل بصفة مسترسلة وممنهجة عن أصولي، تبين لي أن هذه المرأة التي تكبرني بثلاثين عاما، كانت تمثل كل الحب في نظري. بل كانت شغف حياتي الوحيد. وبتعمق التحليل أبانت شيئا فشيئا عن كونها الانسانة التي تفوقت في إيلامي. إنها لم تكن تحب إلا نفسها. لقد كانت سجينة نرجسيتها، ذاتوية السلوك ككل الموهوبين كانت، إذ هي بالفعل متخصصة في مجال تصميم أزياء الموضة.
بمساعدة الرجل الذي كان ينصت إلي بانتباه تام، اكتشفت بأن هذه المرأة التي جسدت الجمال والحب في نظري، لم تُعر انتباها لوجودي كذات مستقلة أبدا. لقد كنتُ أولا وقبل كل شيئ واحدة من بين حاجاتها، تُزينها كل ما تملك من أشياء أخرى لكنها ترفض رفضا باتا فتح مداخل ومخارج جوارحها.
إنما عندما فعل الوقتُ فعله وتقدم بها الزمن فتخلتْ بعض الشيء عن تفاعلها مع العالم، وجدتُ نفسي أَعلق بما تبقي لي من صورتها. أصبحتْ تراودني في أحلامي وفي أفكاري، وحتى في تصرفاتي اليومية إذ شرعتُ في تكويم ألبومات الصور التي ترجع إلى شبابها راجية الوقوف على كل ما يمكن أن يدلني على ما كانت عليه في سابق أيامها.
لكني لم أكتفِ بذلك. لقد حاولت قصارى جهدي الاتصال بسيدة في التسعين من عمرها كاتبتني قائلة إنها كانت تعمل مع أمي بإحدى دُور الخياطة المشهورة في العشرينيات من القرن الماضي.
- هل لك أن تُذكِّريني، من فضلك سيدتي، كيف كان لون شعر أمي؟ لقد قيل لي إنه كان أشقر داكن يتخلله لمعان يميل الى الحمرة، أليس كذلك؟
ياله من تشوق كبير لهذه الجزية بعد كل هذه السنوات! وأخريات أكدن لي بأن أمي غالبا ما كانت ترتدي ثيابا خضراء، وهو اللون المفضل للشقراوات في تلك الفترة. أما أنا التي لَشَدَّ ما كرهتها، أصبحت من حيث لا أدري أعشق كل ما هو أخضر. فهل حصل وأنا صبية، أن وضعت رأسي بكل تعشق على كتِفها الأخضر؟ أو هل حصل أن فتحتُ صدريتها الخضراء وهي على أهبة إرضاعي؟ الفستان الوحيد الذي احتفظ به لها من تلك الفترة هو طبعا ذو لون أخضر ساطع وجميل جدا. وحتى شكسبير كان يضع تعبير "أيامي المخضَرَّة" بين شفتي كليوبترا، ملكة مصر، وهي تستحضر أيام شبابها. خلال التحليل، أخذ هذا التعبير، مرفوقا بسعادة تغمر قلبي، يراجعني مباشرة كلما تحدثت عن أمي. فالأهم ليس ما هو اخضر ولا حتى أمي وإنما هو الاحساس بالسعادة. فهذا الاحساس هو ما كان يلزمني الحصول عليه وذلك بإعادة بنيان سيرة لحياتي أشد قوة وأعمق تأصلا. ولكي أتمكن من أن أنتصب قائمة في الوجود، كان علي أن أتمدد على أريكة التحليل بداية.
٢٢
استمر الأمر هكذا شيئا فشيئا وأنا في حالتي الجديدة كمتحللة، من دون أن يشغل بالي كوني أعيش وضعيتين: وضعيتي في الحياة اليومية الواقعية ووضعيتي بين الكلمات في مكتب المحلل. وأصبحت هذه الأخيرة أكثر من عادة بل أصبحت ضرورة حتمية تجعل كل ما لم يتم الحديث عنه على أريكة التحليل وكأنه منعدم القيمة.
- "إنني لم أحكِ لكَ بعدُ كيف أن أبي قطع وعدا على نفسه أن يأخذني الى نزهة لكنه عدَل عن ذلك في اللحظة الأخيرة"، فتمنيت أن لو تكسرت ساقه". هكذا نقول في قرارة انفسنا خارج جلسة التحليل وبنوع من الأسى كأننا في وضعية تائب لم يعترف بكل أخطائه إبان الاعتراف. ثم نقوم بتدوين ما نسيناه لعلنا نبوح به في الجلسة التالية. وهكذا نحس بنوع من الارتياح عندما نقوم بعرض ذكريات وأحداث حياتنا الماضية والحاضرة. في حالات كهاته، وهي لحظات لا يستهان بها في التحليل، كنت أظن أنني قمت بما يلزمني القيام به من أجل عملي التحليلي. بعدها ينتابني نوع من الضبابية في التفكير ونوع من التراخي وكأنني أدخل في نعاس بطيء. في لحظات كهاته، لم يكن بإمكاني فعل أكثر من ذلك، فكان على التحليل النفسي أن يقوم بواجبه نحوي. ولقد قام فعلا بواجبه، بطريقة قد تكون غير محسوسة لدرجة قد تجعلنا نظن بأننا كنا هكذا دائما ولم يطرأ علينا تغير.
فلابد إذن من قدر كبير من التوكل على النفس كي نتذكر ما كنا عليه في السابق، وما كنا نقوله وكيف كانت الأمور ضبابية وثقيلة على أنفسنا. لابد من ذلك خصوصا وأننا نميل طوعا لاعتبار التغيرات التي قد تحصل من جراء التحليل، ما هي إلا حصيلة التقدم في العمر وحصيلة الخبرة المتراكمة. وفي الحاصل، كأننا نقول أن لا دخل للتحليل في ما قد نلمحه علينا من تغيرات مفيدة ومهمة.
على أي، إن ما قد يحصل من فوائد من جراء التحليل فمرده الى التحليل. أما المحلل النفساني، بخلاف الأطباء أو الأصدقاء فلا ينتظر منكم مجاملة. أو بالأحرى، إنه تعلم كيف يتجاوز نفع تلك المجاملة. كثيرا ما رأيت دولطو وهي كلها سعادة عندما تتوصل، بعد سنوات عدة، بخطاب من أحد متحلليها يخبرها كيف قلب تحليلُه معها حياته إلى أفضل، فأراها تقول:
- أتدرين، لقد حصلتْ منفعة معي!
إلا أن الفائدة بالمعنى التحليلي للكلمة لا تقتصر على اختفاء انفعال ما بحيث ما هو إلا عرض لمعانات أعمق. أما ما يدل فعلا على نجاح التحليل النفسي فيكمن فيما يفتحه من مجالات حيوية تبدأ في النشاط قبل الاندثار الكامل للقلق الذي ثبت مخاوفنا وثبط عزائمنا. إن الدملة تُراوح مكانها في حين يكون الجرح قد اندمل واسترجع العضو المكلوم ليونته. فهذا ما يجعل الحديث عن العلاج بالتحليل النفسي ليس بالأمر الهين، وهو ما يقوي أيضا كل الملابسات وكل الاعتراضات التي يلتقيها التحليل النفسي في طريقه.
٢٣
في بدايات التحليل، أحد تساولات المتحلل تتعلق بكيفية استرساله في الحديث من جلسة لأخرى. أما فيما يخصني هنا، فهو مشكل انتقالي من فصل الي فصل في هذا الكتاب: إذ من غير الممكن لي أن أتعرض كتابيا لتحليلي النفسي بطريقة مسترسلة.
فعلى أريكة التحليل لا محل البتة للزمن المتتابع. هناك ندرك حقا أن التتابع الزمني لا وجود له وإنما هو مجرد تركيبة تجريدية على غرار ما يحدث في عوالم الرياضيات. فالزمن والغد والسنة المقبلة ماهي إلا مقولات تخيلية. نقذف بأنفسنا في زمان متخيل ونستضيف الآخرين لمرافقتنا به تماما كما يفعل عالِم الحشرات الذي يُثَبت هذه الأخيرة على لوحة. الشيء الذي يُسَهل عليه دراستها لكن بثمن إخماد حياتها.
أما في التحليل فعلى العكس، وداعا لزمن الساعات والأجندات. يالها من راحة ومن نفَس عميق! يتم البوح بالأمور حال حضورها وكيفما تحضر. نتنقل هكذا كالفراشة من موضوع الى آخر، ما يفدي في الأخير الى طريقة لا أفضل منها في استكشاف الذات.
وإذا كنا نعتقد بأننا هكذا سنرجع القهقرى في زمن الأحداث لنصل الى المنبع فإننا نخطئ. على كل، ما كان ذلك يتوافق مع ما أحسست به في تحليلي. إذ عندما كنت أتذكر طفولتي أو أستعيد مرحلة من مراحل شبابي أو فترات زواجي الأولى، لم أكن أتراجع الى الخلف وإنما كنت أسائل بعض الوصمات التي انطبعت في عقلي وبعض البصمات التي سُطرت على جسدي والتي شاء لها القدر إما أن تتصلب وتتحجر أو بالعكس أن تبقى حية مكلومة ودامية. وكلما حاولت أن أرتب تسلسل الأحداث بصددها، فإنها غالبا ما تختلط وتتضارب تماما كما أخلط التواريخ. أما عندما ندرك ذلك فإننا نتوقف عنده بابتسامة يملأها الانزعاج ونحاول تعديل الموقف على شاكلة: "أبي لم يولد في تلك السنة، بل هي سنة وفاة جدي، لست أدري لمذا قلت ذلك...".
أما المحلل الذي لم يبدو وكأنه لم ينتبه قط لتحديداتك الزمانية، قد يطرح عليك سؤالا يبدو لا علاقة له بالموضوع، من قبيل: "ألا يغسل جدك يديه قبل وجبات الأكل؟" وهكذا تجد نفسك قد انطلقت في منعرج مختلف تماما قد يؤدي بك الى اعتبار أن البدن وسخ بالنسبة لك، وأنه في لحظة الولادة....
إن من يخوض تحليلا نفسيا ليس من قبيل المؤرخ لأحداث حياته. فأنا أتصور المتحلل وكأنه جغرافي يستكشف حقلا من شتى جوانبه. فتراه ينظر إليه من أعلى ثم يقتحمه مشيا ثم يتعمق مهاراته ثم يحدد ترسباته وتضاعفه وتراتب طبقاته، من قديمها الى حديثها.
وأكثر الأمور غرابة في التحليل النفسي هو أن مجرد تساؤلنا بخصوص تكويننا النفسيي يؤدي الى تغييرها. فانهيار الارضية النفسية ثم تسويتها ثم إعادة تركيبتها يحصل خلال تقدمنا خطوة بخطوة في التحليل، مع ما قد يتخلله هذا التقدم بعض الأحيان من ضلال في الطريق ومن تراجعات مرعوبة.
فلا محل للإرادة القوية في هذا المجال. لقد حصل مرارا أن قلت في نفسي: "هذه المرة سأمضي قدما ولن أتراجع في قول ما أريد". لكن ما إن ابدأ الحديث حتي يتفكك سردي أمام عيني، وما كنتُ أظنه ذا دلالة لا يترك أثرا لدى المحلل. فيحصل بعد ذلك أن أقع في متاهات وفي حالات من اليأس. آنذاك لا أحصل على شيئ يعتد به في التحليل. لكن في هذه اللحظات بالذات، عندما يلقي الوعي والإرادة بما تدججا به من أسلحة دفاعية أو هجومية، تبزغ صورة ما أو نتفة جملة أو قولة مجانية وهاهو جانب عريض من حياتنا قد حصل على دلالته، أو ربما قد يحدث تغير في مجمل حياتنا بكاملها.