شابسال - النفس المطمئنة - فصول ١٦ الى ٢٠

 

١٦


مر وقت وطويل وأنا أتردد على مكتب كريستيان ثلاث مرات في الأسبوع. لكن كل هذا الوقت تركز في ذاكرتي وكأنه يوم واحد. كل،شيء في ذهني كان يدور حول التحليل وحوله فقط. وكأن لا شيء أهم من التحليل كان من الممكن أن يحدث في حياتي آنذاك. لماذا لا  وقد وقعت الواقعة بداخلي فتفككت ذاتي وتفتت كينونتي


أحاول الآن أن أجد كلمات أشرح بها ما حصل من دمار مفاجئ حل بذاتي وبقي غير باد للعيان ولا أحد يراه. فإن صعبت علي استعادة صور تلك الحالة، فذلك لأننا غاير فادرين في المعتاد على إدراك كيفية سلوكنا وتصرفاتنا ونحن في حالة سواء، وحيث تمشي الأمور على أحسن ما يرام


ذاك ما حصل لي فهمه بكل جلاء بعد حادثة المترو التي شغلت فكري وكلامي خلال جلسات التحليل الأولى. فيما قبل هذه الحادثة، وحتى يتسنى لي الاندماج في محيطي الأسري والمجتمعي، أخذتُ منذ نعومة أظافري في تنظيم دفاعات نفسية لذاتي وكونتُ لها شخصية وأعددت صورة مكتملة لها وكأنها درع قد يحميني من أذى الآخرين. نعم لقد كان أناي العزيز علي عبارة عن كوخ منصوب من مخلفات أغصان ومن فتات حطب وعيدان مختلفة، جمَّعتها وشابكتها كما تفعل الطيور قيد بناء أعشاشها


لكن هاهو ملجئي وقلعة احتمائي قد تحطمتا واندثرتنا فوجدتني في رمشة عين بدون درع واقي وبدون وسيلة دفاع. إنها في الواقع لحظة رعب شديد، لكنها لم تكن تخلو من جمال لكونها لحظة الحقيقة. فكل دفاعاتي المعتادة وكل دروعي المتأبَّطة، ماكانت بالفعل إلا بهتانافكلما اقتربتُ من أحدهم وأنا كلي ابتسامة، وكلما صافحته أو شددت على يده أو قابلته بكلام حلو ماكان ذلك إلا من قبيل التصدي وإرسال علامات التنبيه وكأني أقول له: "حذار! لا تتقدم أكثرَ نحوي، خذ بالك! فأنا أيضا مدججة بأسلحة بقدر ما أنت عليه". 


أما بعد حادثة المترو، فإن كل دفاعاتي قد انهارت فأصبحتُ غير قادرة على مهاجمة أحد بل لم يعُد في إمكاني الاحتياط من أحد. بعدها أخذت أتجنب كل ملاقاة. إن توجب علي حضور جلسة عمل مثلا فإني أتحايل كي أتخذ لي مقعدا بالقرب من باب القاعة. كنت شديد الحساسية آنذاك. كلمة واحدة أو نظرة طائشة من شأنها أن تحدث زوبعة لا تحمد عقباها لدي.   


لكن مع ذلك، وكما كنتُ أقوله مرارا وتكرارا للمحلل من دون أن يبدي انفعالا ما، هو أنني كنت أشعر بنفسي محبوبة أكثر من ذي قبل. وهذا الإحساس كان يبدو لي غريبا ولن أنساه أبدا


نعم، لقد أصبحت أحس بأنني أنا نفسي حقا وصدقا، في الوقت الذي أخذتْ تتساقط فيه كل تلك الترسانة الدفاعية التي كنتُ أتدرع بها كلما أردت مقابلة الآخرين. وعندما بدت ذاتي هكذا عارية، أصبحت أجدني في أعلى دراجات رهافة إحساسي وشدة حساسيتي


نعم،  ما كان من الممكن تفادي كل تلك الدفاعات التي تقمصتها كما  لم يكن من الممكن تحمل كل تلك الجهود التي بذلتها كي أحمي نفسي من الموت الذي قد ينجم عن انفجار محتوم. لكن الأفيد والأهم من كل هذا هو أنني أدركت كل ذلك في وقته


أتذكر بالخصوص ردات فعلي العنيفة أمام بعض الصور التي يتم عرضها على شاشة التلفزيون. أجدني بعض المرات وأنا منكمشة قبالة الجهاز، وقد انتابني إحساس عميق ملؤه التهرب والخنوع، من دون انذار سابق. وعندما أسائل نفسي أتبين بأنني أبصرت على الشاشة شجرة متيبسة أو ستار أمطار متهاطلة، على سبيل المثال. ومرة أخرى تملكني أحساس غريب من الهدوء والطمأنينة، في حين لم  أكن أرى على الشاشة إلا سلسلة متراصة من أعمدة المواصلات. فما كنت بحاجة إلا لفترة وجيزة كي يتبين لي بأن تلك الصورة كانت تحمل بالنسبة لي دلالة تتعلق بالتواصل، وبأن القدرة على ذلك كان أملي


كان ذلك من قبيل الوحي لدي: إن الرموز ليست في حاجة لاستشفاف كنهها كي تؤثر فينا وتفعل فعلها. إننا نتحصن ضدها لدرجة تجعلنا نفتعل عدم الحساسية لمفعولها. لكن إذا ما أمعنا النظر بعض الشيء فإننا نرى بكل بساطة بأن كل التصورات النابعة عن محيطنا، سواء كانت لغوية أو بصرية أو سمعية، لها تأثيرا بالغا علينا، فتفعل فينا خيرا كما قد تفعل شرا. وهو ما لا يجهله المربون خصوصا وحتى من نعتبرهم بدائيون. وهو أيضا ما استغله واستفاد منه صناع الرأي ومختصوا الإشهار. فبإسم حرية التعبير تبيح مجتمعاتنا المعاصرة بث صرو خاطفة بداخل منتجاتها الفنية، فتراها العين لكن لا يدركها الوعي فتأثر في الفرد بالغ التأثير على مستوى اللاشعور. لذا فإني لا أتوانى في تجنب هذا النوع من المخاطر. أتجنب رأية صور العذاب والرعب كما أتجنب خطابات الكذب والكراهية. يكفيني التعرف عليها ورفضها.


إننا نظننا الآن أكثر قوة من الرموز تحت ذريعة أن حضارتنا قاومت طيلة قرون  شتى أنواع المعتقدات الخرافية. لكننا في الواقع ضعفاء أمام جبروتها. إنها تفعل بنا فعلها من حيث لا نعلموفي هذه الظروف كنت أنا أيضا ضحيتها


كنت لا أرتاد الشوارع إلا من أجل زيارة المحلل النفساني، إذ كانت الأرض  تتموج تحت قدمي وكأنني تحت تأثير زلزال متواصل،. كنت أيضا أفعل كل ما في وسعي كي أتحاشى المارة خوفا من أن يسائلني أحدهم عن حالي. وحتى الآن، عندما يعاودني الاحساس بأن الارض كادت تنسحب من تحت قدمي، يقبض القلق علي ابتداءا من بطني. وهكذا يشد العَرَض دورته. لاحظت كذلك أن القلق يزداد حدة كندما أتوقف عن المشي، فكان يلزمني إسراع خطاي وكذلك الهرولة كي أقلل من حدته. وينزل التوتر الى أدنى درجاته عندما انخرط في شارع صاعد، أثنائها يجعلني المجهود العضلي الذي أبذله في الصعود وكذلك الألم الذي يترتب عنه، أقل خوفا وأثبَت قَدما


كان بطني أول من يتلقى الضرية، فأنحني الى الأمام مشابكة ذراعي حول معدتي. وبالفعل اكتشفت من خلال التحليل بأن الجرح الذي استبد ببطني مد عروقه بداخله منذ طفولتي الأولي حتى مراهقتي


أما ما أصبح يتعذر علي كلية  فهو تناول وجبات الأكل مع الآخرين. وحتى الجلوس على مائدة الإفطار كان يرعبني. ترجع الى ذاكرتي الآن لحظات تناول الغذاء أو العشاء مع أسرة زوجي قبل الطلاق. لقد كنت دوما محاطةً بكل علامات الحنو والعناية والاهتمام، لكن شغلي الشاغل آنئذ هو كيف أغادر المائدة كي أتخلص من  تلك الوضعية التي لا تطاق. وما هو أعظم وأهول في هذه الوضعية هو عندما يتوجه أحدهم نحوي بالكلام. فيصعب علي رؤية كل هذه الأفواه وهي تفتح، وكل هذه الأضراس الحادة وكل هذا الريق المتطاير والمتدفق


فهل تَمَلكني وأنا طفلةٌ هوامٌ كوَّنت من خلاله لهؤلاء الكبار صورة الغِيلان العملاقة التي لا هَمَّ لها سوي التهامي؟ إني مازلت حتى الان أتخوف من ذلك.


طبعا، لقد كنتُ أنجح في التستر عن كل هذا ولا أترك لأحد الفرصة كي يلمح ولو نتفة منه. ورغم تنامي ثقتي في المحلل النفسي، كنت مازلت أخشى أن أتسبب لدى الآخرين في نفس الإضطراب، لو حصل أن أطلعتهم على أحاسيس القلق والدوخة التي كانت تنتابني وأنا برفقة أمي. فقلقهم الناجم عن قلقي المرضي قد يدفع بي مباشرة ولا محالة الى الجنون، إذ كنت قاب قوسين أو أدنى من هذه الحالة. لهذا كان لابد مني أن ألعب لعبة الطمأنية الكاملة وراحة البال والاتزان النفسيفكنت أفلح في ذلك لأني حرزت على تأهيل مبكر في فن ستر معاناتي وإخفائها.  


خلال الجلسة الأولى اقترح المحلل وصفة مهدئات، لكني رفضت لأنني كنت عازمة على الاحتفاظ بكل قواي العقلية وكل قدراتي على التركيز كي أقاوم. كنت مصرة أن أبقى تحت تصرف ذاتي


وبعد مضي الوقت، أُدرِك الان بأنني كنت في حالة يرثي لها. كنت أصارع الأهوال لوحدي بدون مُعين ولا صديق ولا رفيق، ما عدا قطة قبلت معاشرتي. فبعد الذي حصل، أنا لا أحاول الآن استجداء العطف على حالتي السابقة، لكنني، اعتمادا علي تجربتي في هذا المجال أصر على القول أنني تمكنت من فهم مسألة عادة ما تغيب عن أذهان الغالبية العظمى: كم من مرأة شابة كانت تعيش في رفاهية، وتعاشر أعلى القوم قد تجد نفسها في رمشة عين، في عزلة تامة، لا أحد ينتبه إليها أو يمد لها يد العون.


لقد كنتُ محبوبة مع ذلك، ولو حصل أن فقدت كلية ما يشدني الى الحياة، فإن أمي وأبي وربما زوجي السابق كذلك، قد يكونوا تعساء جدا لذلك، لكنهم لم يتواجدوا بجانبي عندما لزم الأمر ولم يعرفوا كيف يفوا بذلك نحوي. وهو بالذات ما فعله أيضا ذاك الرجل الذي أحببته وأحبني.  


       

١٧


فهذا الرجل لم يقل لي: "شأعيش بجانبك"، بل الأنكى من ذلك أنه لم يقل لي كذلك: "سأتزوجك". لقد كان في ما قاله نزيه في حقي وصادق في وعده. لكن ما قيمة الكلمات عندما نكون في حالة حب؟ لا نسمع منها إلا ما ما يمدح خصائلنا، تاركين غيرها لمهب الريح. لقد كان بجانبي وكنت أيضا بجانبه. كنا متحدَين في حاضرنا، في حركاتنا وإيماءاتنا وفي نظرات أحدنا للاخر. كان يقول لي إنه هنا معي وسيبقى معي، لكن لماذا كان ينهض فجأة ويذهب بعيدا عني؟  لأن كذا وكذا.. وهكذا ننطلق مرات ومرات في محاورات صماء.  


عندما قرأتُ مراسلاتي المتتالية، تبن لي موخرا بأننا، أنا والرجال الذين أحببتهم تباعا، كنا نعيش في عوالم مختلفة تماما. كنت كالمعتاد أتوصل منهم براسائل تسحرني بعباراتها الأولى: "حبيبتي"،  أما عندما يحصل أن تنتهي الرسالة بعبارة : "اشتقت إليكِ"، أعرف بنوع من البديهة بأن هذه العبارة إعلان عن قطيعة مرتقبة


فعندما لا يعطيك الرجل أي تحديد عن مشاريعه، وعندما يحادثك باشتياق عن سفر لمدينة ينوي الاستجمام بها من دون رفقتك، وعندما يصف لك حياته المهنية بدون إشراكك، فهذا يعني أنه لا يود أن يدفع بعلاقته معك الى أبعد. إلا أنه مع ذلك لا يود أن يتوقف عن معاشرتك، وإلا فما كاتبك قط. إنه يريد فقط أن تبقى العلاقة بينكما وتستمر على هذه الحالأما أنا التي كنت أفهم جيدا ما بين السطور على الأوراق المطبوعة، لم أكن لأفهم شيئا من نوايا الرجال الذين أحببتهم، رغم سطوع مغازيها.  

  • لقد قال لي... وأجبته... وبالأمس قال لي ثانية... فرددت عليه... وفي الحقيقة، لم أجد ردا مفعما إلا عندنا ذهب من دون رجعة... لابد أن أقول له ذلك....

وهكذا جلسة بعد جلسة، كنت أُفرِغ هذا النوع من الأقوال المتكررة والمضجرة والتائهة على مسامع المحلل الذي لا يجد ما يرد به علي سوى: "نعم"... فياله من صبر دووب ورائع من لدنه! ولقد حصل فيما بعد أن قاسمت صديقات لي الحديث في ما عشنه هن أيضا من  وضعيات من نفس النمط. لقد ردَّدن علي كل ما قاله لهن عشاقهن من كلام حلو وجميل لكنهم لم يريدوا البقاء معهن والعيش بقربهن، بالرغم من كونهن عبقريات وذكيات الى أعلى درجة


لقد كُن مثلي هن أيضا طفوليات التصرف، لا حول لهن أمام أمور الحب. أتذكر إحداهن وهي تردد علي: "لا بد لي أن أجد الكلمات التي لا محالة تقنعه بالبقاء بجانبي. أكيد إنها موجودة، لكني مازلت أبحث عنها ولم أقبض عليها بعد..."


المسكينة! تعتقد أن كلمة السر موجودة ويكفيها أن تفكر مليا، هي ذات الموهبة الفذة، كي تمسك عليها فتتمكن من فتح قلب عشيقها وتتحكم في إرادته. غريب هذا الاعتقاد الذي يستحوذ علينا بخصوص قوة الكلمات!


حقا للكلمات قوة، لكن ليس بالطريقة التي نتصورها. فالكلمات التي كنت أقوله لهذا الرجل لم يكن لها مدى ولا تأثير لأنني أيضا لم أكن أريد تغيير شيء في وضعيتنا، بمعنى أنني كنت لا أريد أن يبتعد عني. كنت لا أريد أن أصبح مهجورة


لشد ما كانت فرانسواز دولطو تردد أن أقصى بؤس يمكن أن يحصل لإنسان هو أن يتم التخلي عنه أو أن يتعرض لهجران. كل أولائك الذين حصل لهم أن تبنوا كلبا مشردا يعرفون حق المعرفة الى أي حد لن يفارقهم هذا الحيوان البائس ولو قيد قدم واحد. ألسنا نحن كذلك، نظرا لضعفنا النشئي، كلابا ضالة وتائهة؟ وعلى كل، إن أقسى رعب يمكن أن يحس به الرضيع هو إحساسه بالتخلي عنه لأنه يعرف بأن لا قدرة له في ذاته للبقاء على قيد الحياة


إن أبي لم يتخل عني، بطبيعة الحال، لكنه بطلاقه أمي، كان مضطرا ليغادرنا. لقد حدث ذلك كما في المعتاد آنذاك، ولا كلمة واحدة في صالح الأطفال كي نشرح لهم ما يحصل. وهكذا أصبحتُ متخوفة من  هجران مرتقب: "فمن سيهجرني ومتى؟". وتحسُّبا للهجران وتفاديا لعواقبه، حصل في بعض المرات أن سابقتُ الاحداث فقطعت العلاقة خوفا من أن يتم هجري.


لكن في تلك الفترة التي أدت بي الى التحليل، كنت على شفى حفرة ولم أقدر على المخاطرة بتخلي عشيقي لي. ولقد أحس المحلل بذلك مما جعله يتفادى حتى اقتراحه كفرضية.


فمع رفيقي، كما كان عليه الحال في السابق مع أمي، كنت أبذل قصارى جهدي كي لا أنطق إلا بكلمات ملساء، ولا أقول إلا ما لا يترتب عنه شر وما لا يغير شيئا فيما بيننا. فأصبحت هكذا خبيرة في فن المناورة وهو ما كان يتوخاه. نادرا ما بدت مني مشاكسة. وما إن تطُل برأسها حتي ألوي عنقها في مهدها. هو أيضا لم يكن يريد الانفصال عني حيث يتصرف وكأنه لا يسمع مآخذي أو أنه يتناساها للتو


كنت أذهب عند المحلل لتكرار تلك المآخذ وتلك الشكاوي. مع فارق مهم هو أنني قبالة المحلل كنت أترك العنان لآلامي كي تعبر عن نفسها الى أقصى حد، لأنني لم أكن أخشى من هجران المحلل لي لأنني كنت أقتضيه أجرة عمله. فأولائك الذين يستميتون في القول: "إن كلفة التحليل النفسي المالية جد باهضة. ثم، لماذا نحن مضطرين لدفع أجر لأناس يدعون أنهم يهتمون بمساعدتنا؟ ففي مجتمع خيري حقا، لن نكون ملزمين بأداء أجر المحلل، إنه سيعمل على علاجنا مجانا". إن أناسا  هذا القبيل لم يحصل لهم قط أن خَبِروا إحساس  الأمْن العظيم المترتب عن تسديد أجر من يقدم لهم خدمة


وعلى كل، فلو كان بإمكاني دفع ثمن الجلسات مع عشيقي، ماكنت أحسست بكل هذا القلق في إطار علاقتنا. لكن قضى العرف الا يتم دفع فلوس في علاقة عشيق بعشيقته



١٨


بعد بضعة شهور، قال لي كريستيان بصوت هادئ

- أظن ان الوقت قد حان لتتمددي علي أريكة التحليل، إن كنت ترغبين...

  • أي نعم، ولمذا لا؟ أجبته.

أحسست قدرا من النشوة لفكرة إحداث تغيير في وضعيتي التحليلية، لكنني لم أتمكن انذاك من ان أعتبر اقتراح كريستيان هذا بأنه كان يدل على أنني أصبحت في حالة لا بأس بها وأنني مستعدة لابتداء تحليل نفسي حقا. فليس من السهل على كل من يطلب التحليل أن ينخرط فيه دفعة واحدة. وفي لحظات معينة من حالته النفسية بالذات، يقد يكون ذلك من الصعوبة بمكان. من المعروف أن التحليل النفسي يجعل المرأ يجابه ذاته، وهو ما قد يجعله يشرف على حافة الجنون.  


  • لكن لست أنا الذي سأشرف على تحليلك.
  • كيف؟ لمذا؟


لم أتمكن من معرفة سبب رفضه. إن له حرية التصرف كما للمريض حريته أيضا. إلا أنه دلني على محلل نفساني آخر، ضالع في المهنة بحسب رأيه. يمكنني الاتصال به ومتابعة التحليل معه إن كان ذلك يرضيني


إسمه سيرج. مكتب عمله التحليلي على بعد ثلاث محطات مترو من منزلي. تذكرت فيما بعد بأن التقيت به مرة في مكتب لاكان. ذهبت إذن للقياه عقب اقتراح كريستيان. كنت انذاك في حاجة ماسة لأحد غيري أتكئ عليه وكانت ثقتي في كريستيان كبيرة جدا مما جعلني أواصل مسيرتي عند سيرج.


بادئ ذي بدء، يمكنني القول أن مهارة وكفاءة المحلل النفسي هي من الأهمية بمكان. فقد كان من المحتمل جدا أن أسقط في ظلمات الجنون لو تجرأ أحدهما على تبخيس متطلباتي الذاتية، إفراطا أو تفريطا. لكن لحسن حظي، كان الخيط الذي يربطهما كمحللين ويربط كل منهما بمهنته، كان رفيعا ومتينا. فيما بعد خصوصا، تبينت بما لا غبار عليه بأنهما، إن اختارا التحليل النفسي كمهنة، فلأنهما توصلا إلى يقين بأن ذات المريض لها قيمتها ومعاناته لها معناها ويمكن التخفيف من حدتها بتفكيك عقده الدفينة. لهذا أكن لهما كامل التقدير والاجلال. ولأنني أدين لهم بكبير الفضل وعظيم الامتنان، أكتب ما أكتبه اليوم  حتي لا ينسيا بأن وجودي اليوم على قيد الحياة رهين بما عملوه من فعل حسن نحوي


لو حصل أن قابلتهما اليوم وحادثتهما في الأمر من جديد فإنهما سيردان لامحالة علي: "نحن لم نفعل شيءا يذكر، أنت وحدك التي قمت بكامل العمل التحليلي". أي نعم! لكن ليس كل الناس قادرون على امتهان هذا "الحضور" بهذه القوة الداخلية. فيما بعد حصل أن رافقت بعضا من الوقت فرانسواز دولطو التي رفعت بل واستنفذت قدرتي على التعايش بسلام مع نفسي. فهذا "الحضور" التي كانت تتمتع به فرانسواز دولطو هو ما اكتشفتْ كل فرنسا لحظات ظهورها علي شاشة التلفزيون وهي تخاطب الجمهور، تارة تثير انتباهه وأخري للتنفيس عنه. وعلى كل، هي مسائل تلزم معايشتُها واختبارها بقدر ما يصعب تفسيرها فكريا


  

١٩

لم أجد صعوبة في تحديد موعد مع سرج لأن كريستان كان قد أعلمه بأنني سأكلمه في هذا الأمر. لم أكن أعلم ما قاله هذا الأخير لزميله الأكبر بخصوصي، لكن ذلك لم يكن يهمني


منذ علاقتي التحليلية الأولى التي حصلت مع كريستيان، تبين لي بأن المتحلل يقوم بالتحدث الى نفسه أكثر مما يتحدث الى المحلل النفسي. بدا لى إذن أن هذا هو الأهم وليس ما يشغل فكر المحلل النفسي. في الحياة اليومية قد يحدث أن نقول لشخص ما: "أسمعت ما تقوله؟". بعدها قد يدرك الشخص فظاعة أو حقيقة ما أتى على قوله. وهكذا فإن المحلل النفسي يقضي جل وقته في الترديد على مسامعنا: " أسمعت ما أنت قائله؟". وفي اليوم الذي نبدأ في الانصات لما نقوله، في سماع صوت الرغبة الحق، المدفون فينا تحت ركام أصوات الآخرين وكذبهم وبهتانهم، آنذاك تبدأ حالتنا وأحوالنا في التحسن


من أجل ذلك لابد من جلسات عدة، يصبح المتحلل فيها محلِّلا، محلِّا لذاته شيئا فشيئا، خطوة خطوة. إلا أنه في بداية الأمر لا يدري ما يحصل له، ولا يعرف لماذا يفعل هذا أو ذاك ولمذا يتصرف بهذه الطريقة أو تلك.


كانت قاعة انتظار سيرج نقية جدا وجد منظمة. كانت وافرة الأثاث  ومجهزة بذوق عادي ومحايد بحيث لا يمكن التفرقة بين ما تم إرثه أو ما تم اقتناؤه من طرف المحلل. وأثناء وجودي بداخل القاعة انتابتني فجأة نوبة من القلق. لم تكن من قبيل النوبات التي عرفتها حتي الآن والتي كانت تصاحب اندفاعاتي نحو الانتحار. لا، كانت تنبع هذه المرة من خوف دفين. كان بدني يتأرجح بين الحرارة المفرطة وبين البرد القارس وبين دافع قسري للهرب قبل فوات الأوان. قد يكون من المتفق عليه أن يحصل هذا النوع من الاحساس بقاعة انتظار طبيب جراح، لكن أن يحدث في قاعة انتظار محلل نفسي! فما قد يكون عظيم البأس هكذا حتى أخشاه بهذه الصورة؟ فهنا لا يمكن أن يحدث لي أمر خارج إرادتي، ولقد كنت أعلم ذلك حق المعرفة


في الواقع، كنت في حالة ضبابية بخصوص علاقتي مع إرادتي. فلم  أكن أعرف ما أريد وما لا أريد. كنت أحس بنفسي وكأنني عجينة رطبة وأخشى أن يبصر المحلل ذلك. ثم إني كنت مملوءة ألما على أهبة الانفجار بكاءا حالمَا أجدني قبالته. وهو ما قد يُضَيع قدري ويبخس قيمتي.


فتح سيرج باب مكتبه لكني لم أنفجر بكاءا. إنه ليس الرب العظيم وإنما إنسان فقط. إنه لم يكن يعرف شيئا عني. أسئلته المتعددة منذ البداية برهنت لي على أنني في مأمن متسترة خلف جهله بي. وهذا ما سيعطيني وقتا لأطمئن نفسي ولاستئناسه. وهو ما سيمكنني من تحثث خطاي كما نقول بخصوص سبَّاق يستعد للجري. لم أحس بأنني انكشفت كلية وفجأة أمام ناظريه، بل كنت مرتاحة لعدم تسرعه لتورية خبايا النفسية. كان يبدو وكأنه ثقيل الفهم فلا يبذل أي مجهود كي يفهم من خلال أَنصاف الكلمات. كان ينتظر الكامات كاملة بل الجمل كلها، ولا يضيره أن أعيدها وأكررها. كان هكذا يضطرني كي أركز فآتكلم بأدق ما يمكن، وأقرب ما يمكن من أحاسيسي، وهو "عمل" شاق بالفعل. وبقدر ما كنا نسعى لذلك كنا لا نتيه كثيرا في كل الجهات وهكذا كان يتم تلميم الشتات وبداية تحديد البنيان النفسي. هكذا سمح لي سيرج بجلستين أو ثلاثة ونحن جالسان في وضعية متقابلة. الهدف من هذه الجلسات الأولى هو التأقلم مع المكتب ومع هالة ومحيا المحلل وكذلك مع صوته العذب والرصين. لقد كان يبدو متيقنا في مقصده على عكسي أنا التي كنت لا أدري الى أين ماشية.


منذ البداية حدثته عن ذلك الرجل الذي لم أكن قارة لا على العيش معه ولا على الانفصال منه. فتواجُد المحلل كشخص ثالث بيننا يشكل مرحليا نوعا من الحماية بالنسبة لي. وهكذا فإن التحويل الذي وضعته في شخص كريستيان سابقا أخذ ينتقل شيئا فشيئا الى شخص سيرج.


كانت كل هذه الأفكار تتطاير كالفراشات، فتحاول إخفاء ما يتعلق به الأمر فعلا: اكتشاف بواسطة الكلام كيفية التركيبة الوجدانية ومسببات المعاناة النفسية وأسبات تاجيجها حتى أصبحت أعتى من المعتاد.


بعدها قال سيرج:

- في الجلسة المقبلة، بإمكانكِ التمدد على الأريكة.                            

هززت رأسي موافِقة. فعندما أضع ثقتي في شخص ما فإن رغبته تصبح رغبتي. وهي تلك أيضا مشكلتي ومكمن ضياعي. أما لو كنتُ واضحة مع نفسي بعض الشيء، لكان من الأفيد، وأنا أستعد لتلبية طلبات سيرج من هذا النوع، أن أقول في نفسي: "غريب والله! إنك تثقين فيه إلى هذا الحد! لماذا؟". من المعلوم أن التساؤل حول أحاسيسنا بخصوص شخص المحلل يتطور مع تطور عملية التحليل، وما كنت في ذلك الحين إلا في البدايات، فكنت أكتفي بالقول لذاتي: " ركزي، تصرفي بهدوء ولا تقدمي على ما يزعج". فكل طفولتي وشبابي الأول كنت آمر نفسي: "خذي بالك! كوني عاقلة"، وهو ما يعني: "تصرفي وفق قواعد الآخرين. أطيعي الكبار وتقبلي ما يطلبونه منك. احتفظي برأيك لنفسك، ولا تقولي ما يحرج الاخرين وما ينم عن عدم الاحترام." في الغالب الأعم وخلال ثلاثين عاما من عمري وبمساعدة بعض المراوغات، تمكنت من الخضوع للقاعدة العامة. لقد كنت "امرأة معقولة"، بحسب تعبير أبي عندما يحصل لي الالتقاء به. لكن هل هذا كاف؟                      





٢٠




لقد كنت بعيدة كل البعد أن أعرف وحتى أن أتكهن حقيقة ذاتي عندما تمددت لأول مرة على أريكة التحليل بمعية المحلل سيرج. كان ذلك في شهر ماي ٦٨ وهي مناسبة لا تُنسى. يحضر لي الآن عن تلك اللحظة تذكار دقيق جدا: ما إن تمددت على الأريكة حتي أرخيت ذراعى اليمنى ممتدة علي الوسادة الى أعلى وكأنني أحاول لمس المحلل. فهكذا كان فعلي الأول في التحليل يتوخى تجاوز القاعدة التحليلية الأساس. إنها القاعدة التي بمقتضاها يمر كل شيء في  التحليل من خلال الكلام ولا بواسطة أفعال. أما ما حصل مني آنذاك فقد حصل بالرغم مني. وعندما لم أتمكن من لمس المحلل أرجعت ذراعى الى مكانها المعتاد بجانب الجسد. لكن عوض أن أتساءل: "إنه من الأهمية بمكان، ما أتيت على القيام به! فما دلالة ذلك؟ حاولي أن تفهمي وأن تحللي ما حدث، فأنت هنا من أجل التحليل". عوض ذلك ولما اكتشفت بؤس حركتي اكتفيت بطلب المسامحة من المحلل

  • نعم، قال سيرج.

ما بقي لي حينها إلا أن أتعمق الأمر الذي حضر آنذاك ببالي بخصوص الإحساس الذي تملكني:

  • "لقد كنت خائفة، خائفة جدا من أجدني "وحيدة" في اللحظة التي لم أعد أراه بأم عيني. وبفعلي ذلك، حاولت التحقق من أننا كنا كلانا متواجدين بالفعل."
  • نعم، قال لي.  


الآن فقط أصبح بإمكاني أثناء التحليل أن أتبين بأن ما كنت أبحث عنه خلفي وأنا أمد ذراعى من على كتفي في اتجاه مخاطبي الذي غرب عن ناظري. كنت في حقيقة الأمر أبحث عن حبل السرة الذي ربطني وما زال يربطني كحبل سِري بأمي والذي من دونه لا يمكنني حتى البقاء على قيد الحياة. في الفترة السابقة والتي شكلتْ بداية التحليل حيث كنت أجلس قبالة المحلل، كان هذا الحبل نفسه يتجسد في نظراتنا المتبادلة بيني وبين المحلل.  


لكن ما كنت لأدرك كل هذا من قبل. ولا حتى كون المحلل، رغم كونه رجلا، سيصبح أمي لحظة ما من التحليل. الأنكى من ذلك أنني كنت في قرارة نفسي مقتنعة بأن أمي منذ زمن بعيد لم تعد تحظى لدي بما كانت تحظى به في سابق العهد من حب واحترام وتقدير


خلال السنوات الأخرة، ظننت أنه لم يبق لأمي من تأثير مباشر على حياتي. ولذلك لم أخبرها بطلاقي إلا عندما صدر الحكم. ثم إنني لم أطلعها فيما بعد بوضعيتي العاطفية ولا بالحالة التعيسة التي عشتها من هذا الجانب


إلا أنني، في هذه اللحظة من التحليل، كانت أمي هي بالذات من أناديها وأستجدي حضورها. كانت هي أول من أستغيث به، مما دفعني لتجاوز قاعدة التحليل، نصف ثانية فقط بعد تمددي على الأريكة. ذلك أنني لم أعمل على مناداة أمي وإحضارها في التحليل بواسطة الكلام. فهي لم تدخل بعد مجال كلماتي وأقوالي. لم يكن لي وعي حتى الآن بنمط علاقتنا المتصلب والمنغرس في لحمي وعروقي منذ نشأتي وكأن أحدا لم يتدخل أبدا في قطع حبل السرة العالق بيني وبينها. إنها بالمجمل كانت وبقيت عذابي وألمي.