أمي حضارة




صباح الخير يادكتور
جئت إليك بشأن أمي
إسمها حضارة بنت عربي
أنا صغرى أبنائها 
ورغم صغر سني
           وقلة خبرتي
فإنه يؤلمني 
         ما لمَّ بعزيزتي. 

جئت إليك يادكتور 
من بلدي البعيد
بعد مشقة
        وجهد جهيد
جئت إليك خفية 
        من أبي العنيد
وها أنا بين يديك
بعد سفر مديد 

جئت إليك لإنني علمت 
بأنك العارف الوحيد
في خفايا مرض أمي الفريد


قاطعها الدكتور بلطف وقال :
"أحضارة إسم أمك ؟ 
إنه إسم جميل،
           وما أجمل اللقب !  
لكن ما لي كبير علم بهذا النسب
وبما قد يكون له من حسب".

"سامحك الله يادكتور
إن نسبها نبيل وحسبها أصيل
وما في ذلك عجب.

أما إسم حضارة
فهو اسم مألوف في كل حدب
ويعرفه لندينا كل من هب ودب 

لعلك تعرف حضارة بنت الرومي
وحضارة بنت القيصر
اعذرني يادكتور، 
            إنهما غريبتا الأطوار
أصلهما من رحاب غنية
إحداهما من غرب الغرب
والأخرى من شرق الشرق
يزوران حارتنا كل فصل
لتحصين منافعهما التجارية 
أو للتمتع ببرارينا النقية
أو لمزاولة مباراتهما الغبية : 
لعبة الحروب الدموية. 

وفي جوارنا بالذات يادكتور
تقطن الست حضارة بنت يهود
كانت الست منذ قديم العهود
تحلم ببناء نعيم أبنائها الموعود  
فشاءت الأقدار يادكتور
أن تحط رحالها بيننا
وتدق أوتادها عندنا.

لكنها صعبة المزاج يادكتور
فهي مريضة مثل أمي
وربما مرضها
         أعتى من مرض أمي
فهي عصبية المزاج يادكتور
فلا ترى في الوجود غيرها 
وحتى جيرانها
ما لهم حق في الوجود عندها
فكيف تسمون ذلك في علمكم،
                  يا دكتور ؟ 

إنها والحق يقال
لا تعرف معنى لحسن الجوار
بجبروتها ومكرها يادكتور
استحوذت على بيوت الدوار
وشردت أهلها    
         في الصحاري القفار
وخربت أرضه 
         واقتلعت الأشجار...
وغيرت مجارِ السواقي والوديان
وهدمت ألف دار ودار
وشتتت العشائر وفتتت الأسر
ورفعت بينها وبينهم ألف جدار...  

على كل، يا دكتور
ما هذا موضوع زيارتي
فأنا ماجئت الآن عندك  
إلا لأستجديك استشارة 
أو وصفة أو تحليلا
قد يعافي أمنا حضارة
ويعفينا نحن أولادها 
من مساوئ قلق شتت عقلها.

لقد قمت بزيارتها في الأمس القريب
فالتفتت إلي بعينين جاحظتين
وقالت لي بلسان مهاوس مكلوم : 
"يا بنيتي : 
      لقد نظرتُ إلى يساري وما رأيتُ
إلا جهلاء يتناطحون
على جمع الفلوس بالأكياس
ولا ينشرون إلا شتى أنواع الفلاس
رأيتهم كما أراكِ يابنيتي
فرادا وجماعات وأحزابا وطوائف
يتبارون على زرع أشجار المآسي
ويتفنون في ابتزاز اقوات الناس 

ثم نظرتُ الى يميني وما رأيتُ 
إلا وحوشا يتلاهثون  
ويتزاءرون بينهم ثم يتآزرون 
لذبح بني آدام كما يُفعل بالأكباش
ورأيت سادة القوم، جلهم من الأوباش"

ولما سمعتُ كلامها يادكتور
ظننت أنها تهلوس أو تهذي
أو أصابها مس من الجنون
فخفت على حالها وبكيت
ثم عزمت على المجيئ عندك
أقتسمك هذا المكنون

تفكَّر الدكتور مليا وقال بحنو :
« لا تيأسي ياأنيستي 
فالحالة معتادة والمرض مألوف
فربما في الشخصية انقسام 
وربما لا قدر الله،
              في الوجدان انفصام 
ومن الأرجع ألا يكون هذا ولا ذاك 
لكن لا سبيل للعلاج إلا بالكلام 
بالكلام المسترسل حرا بلا حد 
بكلام يسري في الفؤاد 
كإبرة تنخر ما تقيح من عقد 
وتخيط ما سقمته الأحقاد 
بخيط من الود بين الند والند،
لعل وعسى... ياآنستي..


30/10/2016