صفوان - في الاختلاف الجنسي - تقديم الكتاب

 تقديم

 

منذ أن نشر فرويد كتابه «ثلاث مقالات في نظرية الجنس» أصبح المحللون النفسانيون وبالخصوص الأوائل منهم، متفهمين للمفارقة التي تميز موضوع النزوة: فبين تنوع هذا الموضوع تباعا لحيثيات لقيا ه من طرف الذات وبين كنهه كموضوع مفقود أساسا من لدنها، فإنه يبقى هو نفسه أثناء كل لقيا مستجدة. ولقد سمى فرويد هذا الموضوع باسم «موضوع الإشباع الأول»، وكأن هذا الإشباع ذاته يترك بصمة تُشَكل عصارة كل الإشباعات اللاحقة مع تحويل هذه الأخيرة الى مجرد أوهام.

وبالرغم من كون فرويد في مؤلفه القيم «تفسير الأحلام» قد أبان التلاحم العميق، إن لم نَقُل الجوهري، بين الرغبة اللاشعورية وبين الدال في وظيفيته الأكثر ارتباطا بالذات، (أي تلك الوظيفة التي لا تنحصر على إيصال ما نعرفه الى فرد آخر ولكن تلك التي تجعلنا نتعرف على ما تعمل المعرفةُ جاهدة على تجنبه وتفاديه)، فلا أحد من المحللين قبل لاكان قد فكر في تقريب هذا الالتباس السالف الذكر، والذي هو فضيحة بيولوجية حقا، مما يميز الإنسان بصفته كائناطق.  

إن ما يشكل اكتشاف لاكان، أو قُل اختراعه بلا منازع، فهو «الموضوع ا» الذي مهد لاختراعه نصف قرن من التنظير وهو سيحاول المقال الأول من هذا الكتاب على إعطاء فكرة موجزة عنه. 

لنترك ما يتعلق بالمواضيع ما قبل-تناسلية ونركز انتباهنا على المرحلة اللاحقة وهي المرحلة «التناسلية». فبما أنه من غير الممكن الحديث هنا عن اشباع أو إرضاء أولي للنزوة التناسلية، بحيث أن إشباعا من هذا القبيل يستحيل في عمر تبزغ الجنسية الطفولية أثناءه، فإن بعض المحللين وفي مقدمتهم رانك، اعتبروا النزوة التناسلية لدى الرجل بمثابة تعبير عن ميل لديه للرجوع الى بطن الأم. أما بخصوص النزوة الموازية لدى المرأة، فإن هذا المنظور، إن لم يضعها في مرتبة ثانوية، فإنه لا يستوفيها حقها من الشرح. وهذا بلا ريب ما دفع فرينشزي الى إضفاء بُعد كوني على فكرة رانك بخصوص صدمة الولادة. فهو يرى أن انفصال الجنين عن محيطه البيولوجي يكرر صدمة أكبر شمولية وأكثر عمقا حيث يرجع أصلها الى الفترة التي اضطرت فيها الكائنات الحية مغادرة أوساطها المائية واستبدالها باليابسة.  

إلا أن فرويد، رغم ميله للجدال الفكري، فإنه اقتصر على تشكيك غير رافض لفكرتي كل منهما، واكتفى بالتشديد على وظيفة تحريم الأم التي تغرس لدى الابن حنينا لا حد له الى متعة قد انتزعت منه على الدوام. لكن فكرة فرويد هاته، تترك هي أيضا ركائز النزوات التناسلية لدى البنت بدون تفسير. إلا أن فرويد سوف لن يتأخر عن اكتشاف ما يلي: لا يوجد لدى البنت ولا لدى الولد ما من طبيعته أن يشكل تآزرهما المرتقب من أجل التناسل الجنسي. أما ما هو موجود لديهما بالأحرى، فيكمن في ظاهرة لا يمكن تصورها إلا لدى مخلوقات تتحد لديها الكينونة بالتفكير لأن الأمر يتعلق بمسألة اعتقاد. إنه الاعتقاد في وجود عضو جنسي واحد هو العضو الفالوسي وهو لفظ أُطلِق بداية على العضو الذكوري باعتباره دالا يسمح بتصور مسألة الاختلاف الجنسي. 

ليس هذا كل ما في الأمر. لقد اكتشف فرويد كذلك أن ارتباط الطفلة الأولي بأمها، هو نفس ارتباط الطفل بأمه، شريطة أن تُدرك البنت نقصان الأم القضيبي. وهذا الادراك هو ما يمهد لديها أرضية تماهيها بأمها بصفتها راغبة ويحفز نقل استثمار الموضوع لديها نحو الأب. من المعلوم أن الطفل يتخلى هو أيضا عن أمه كموضوع، لكن هذا التخلي يحصل لديه تحت طائلة تهديد الاخصاء الناجم عن تنافسه مع أبيه. مع ذلك، إن الأهم في عرض فرويد هذا يكمن في الخلاصة التي يستنتجها هذا الأخير بخصوص الجنسية الانثوية  موضوع الفصل الثاني من هذا الكتاب  والتي مفادها أن الأنثى لا تولد امرأة وإنما تصبح كذلك. وقد صدم هذا الاستنتاج اعتقاد جونز الثابت في أن «الرب خلقهما أصلا رجلا وامرأة» لدرجة دفعت به لتقديم تأويل بخصوص المرحلة الفالوسية يؤدي الى إنكاره لهذه المرحلة. 

أما إذا استدرنا نظرنا نحو لاكان، يمكننا القول إنه لا يرى مانعا من اعتماد مقولة الانجيل هاته. لكن الأهم بالنسبة إليه يكمن في وظيفة «الوساطة الرمزية» - التي حظيت بمكانة حاسمة في تعاليمه وإن لم يقُم فرويد بتحديد معالمها داخل كتاباته - ما أدى بلاكان الى إعادة النظر بالكامل في مسألة الجنسية الأنثوية. فالمهم بالنسبة له ليس أن تولد الأنثى امرأة أو أن تصبح كذلك. المهم يكمن في معرفة كيف تمشي ذات فرد ما قدما في مسار الرغبة الذكورية أو الأنثوية، مهما تكن طبيعة أعضائه التناسلية.

من المعلوم أن إعادة النظر هاته مرتبطة بمحاولة لاكان إعطاء عقدة أوديب هيكلا منطقيا، وتحديدا، وذلك بطرحه لصيغ عقدة الإخصاء الأربعة والمسماة «صيغ التجنيس». من المعلوم أيضا وفي نفس السياق أن لاكان أدخل تعبير متعة «زائدة» كما سماها، تختلف عن المتعة «الفالوسية». ولقد أدخلها انطلاقا من تأويل منطقي يجعل من محدِّد الكم في علم المنطق: «ليس-الكل» غير متبوع لزاما بالمحدِّد الذي يناقضه: «واحد-على-الأقل». وأقل ما يمكن قوله هنا هو أن هذا التأويل لا يحرر المحدِّد المنطقي من تحيز أنطولوجي، وإن كان من اللازم التمييز بينهما. ذلك أن ما يهمنا ليس هو فقط معرفة ما إذا كان الاستثناء موجودا أم لا، وإنما أيضا التأكد من دلالته، بعدما يتم التسليم منطقيا بوجوده. فانطلاقا من هذا الاعتبار، لا غير، جعلنا لاكان نعتقد أنه من اللازم إعادة النظر في المسألة المنطقية: «واحد-على-الأقل»، وهو ما يتطرق له الفصل الثالث من هذا الكتاب. 

ورغم ما يتخلل المنطق من طابع «صوري» فإن القوة الفاعلة لقاعدة ما من قواعده تبقى رهينة الدلالة التي تُخصص لها سلفا. فليس هنالك ما يجعلنا، بصفة مسبقة، نفضل التأويل الحدسي الذي لا يشترط وجود «واحد-على-الأقل» بخصوص مقولة «ليس-الكل، على حساب التأويل الأرسطي ذي الارتباط الوثيق بمبدئ «الثالث المرفوع». في المقابل من الممكن اختيار أحد هذان التأويلان إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما ينجم عن كل منهما عند تطبيقه الفعلي. إلا أننا على دراية بما يطبع النزعة الحدسية من تقييد يضطرها للاكتفاء بلا نهائية النظام الأول. 

إضافة الى ذلك، بما أن أثبات الوجود الناجم عن «واحد-على-الأقل» يفرض نفسه منطقيا، باعتراف لاكان نفسه، كشرط لبناء المعطى الكلي الموجِب، فإن ما يطرح نفسه كسؤال يتعلق بما قد يعنيه هذا «الواحد-على-الأقل» بداخل مجال اهتمانا التحليلي. وإجابتي على هذا السؤال هي كالتالي: إن الأمر يتعلق هنا بالأب، موضوع «التماهي الأول»، وهو التماهي الذي ترك لاكان تفسيره عالقا في سيميناره العاشر، وذلك من دون شك، بسبب العرض المفصل والرائع الذي أخص به فكرة «السمة الأُحُدية» التي تقوم بوظيفة الوسيط، بحسب فرويد، في النوع الثاني من التماهي والذي يتعلق بالموضوع العشقي. 

أما أهم خلاصة يمكن استنتاجها من الفصل الذي يليه من كتابي هذا، والذي يدور بالأساس حول مسألة التماهي الأول بالأب، فمن الممكن إجمالها فيما يلي: إن علاقتنا بالحقيقة كمديونية يُفرَض من خلالها علينا الاعتراف بالحدود التي تؤسس الرغبة والتي إن انعدمت حتى الحب يصبح دون جدوى، يتم ربطها من خلال كذبة أولى إن لم نَقُل مخادعة أولية، تماما كما هو الحال بخصوص عملية الادراك الذي لا يتضمن أي علامة واقعية تمكننا من تمييزها عن الهلوسة، كما بين ذلك فرويد في مقاله «مختصر..». وهذا ما يضفي إنارة جديدة على وظيفة الأب الواقعي. أما إذا أضفنا فكرة أن «التماهي الأول» بالأب يسبق بقليل ويمهد تنظيم عقدة أوديب، سواء لدى البنت - كما سأبين ذلك  أو لدى الولد، فإنه من الممكن استنتاج خلاصة ثانية مفادها أننا لا ندرك ولا نعرف بخصوص مسألة المتعة إلا ما يرتبط بالوظيفة الفالوسية. 

أما الفصل الأخير الذي اختير عنوانه ليكون عنوان هذا الكتاب بكامله فإنه يتطرق لمسألة الرغبة من زاوية علاقتها بالدلالة الفالوسية لاستعارة الأب  مع عدم اغفال الاشارة الى ما قد يحصل عندما تنعدم هذه الاستعارة. وبالمجمل، فإن السؤال المطروح يتعلق بسبب اختيار مفهوم الفالوس كدال على الاختلاف الجنسي. وعوض أن أستعرض هنا مجددا أطروحة «نظرية الجنسية الطفولية» الفرويدية التي طال الحديث فيها الى حد الممل، فإنني لا أرى فيها إلا واحدا من الهوامات الناجمة عن اللغة المتداولة والذي بالتأكيد هو غير غريب عن المشاكل التي تعترضنا أثناء الحديث بخصوص الأنوثة.