صفوان - «المحلل لا يستأذن إلا نفسه» - مقالة




«المحلل لا يستأذن إلا نفسه»

دلالة هذا المبدأ وتبعاته المؤسساتية


مصطفى صفوان

ترجمة: عبد الهادي الفقير


المعنى الذي أعطيه لهذا المبدء القائل بأن «المحلل لا يستأذن إلا نفسه» يرتبط ارتباطا وثيقا بالخبرة التي تكونت لدي عن الاختلاف بين طريقة لاكان وطرق المهتمين بتكوين المحللين الآخرين الذين اتممت تكويني على أيديهم في إطار رابطة التحليل النفسي الباريسية. ابتدأ تكويني هذا في أبريل ١٩٤٦ مع انطلاقة تحليلي الشخصي لينتهي خلال اكتوبر/نونبر ١٩٥٣، بإعداد بحث اكلينيكي كما كان معمولا به انذاك في إطار الرابطة. إلا أنني لم أعمل على تقديم هذا البحث في إطار رابطة باريس وإنما في إطار الرابطة الفرنسية التي أسسها دانييل لاغاش وآخرون خلال فترة الانقسام الذي حصل سنة ١٩٥٣. فاعتبارا للمعنى الذي أعطيه لهذا المبدء من ناحية، وللخبرة التكوينية التي تلقيتها شخصيا من ناحية أخرى، لابد لي أن أدلي برأيي بخصوص هذا التكوين.

فكما جرت العادة، لقد بدأ تكويني هذا متمشيا مع تحليلي الشخصي تحت اشراف الدكتور مارك شلومبيرجير. وإن حاولت الآن، بعد ستين سنة خلت، الحديث عن منهجيته في التحليل، يمكنني القول أولا أنه كان يستدعي ما يسميه ستراتشي «التاويل المباشر»، على شاكلة التأويل الذي يستجلي الإسقاط التحويلي في اللحظة التي يطل فيها برأسه. أتذكر مرة كيف أنني أبلغته، وأنا على وشك مغادرة مكتبه بعد نهاية جلسة من الجلسات، مكنونا مُحرجا لم أتمكن من البوح به أثناء الجلسة ذاتها.  فما كان منه إلا أن رد باقتضاب : «أتقول لي هذا الآن؟». لقد كانت هذه الملاحظة المقتضبة من لدنه جد كافية كي تجعلني ألمس بأن كلامي آنذاك لم يكن موجه لشخصه بالذات وإنما الى هيئة «أنا عليا»أسقطتُها على شخصه. إضافة إلى ذلك، لقد كان حذرا بما فيه الكفاية كي يتنبه إلى كون الهُوام يلعب في صنع التأويل الذي يقدمه المتحلل أحيانا بصدد تشكيلة من تشكيلاته اللاشعورية، إن كان حلما أو فلتة لسان على سبيل المثال، نفس الدور الذي يقوم به هذا الهوام في ابتكار هذه التشكيلة. فما تحظى به هذه التأويلات من يقين، يشكل في الحقيقة مقاما يتحصن به الأنا، أو وقفة تتجمد بها الذات.  وإن لنا نحن المحللين طرائقنا في أستئصال هذا النوع من اليقين. وأكثر هذه الطرائق ألفة تكمن في كون المحلل لا يقدم للمتحلل، على أقل تقدير ، إلا صمته. 

إلا أن شلومبيرجير كان يمتلك أسهما عدة في جعبته. في يوم من الأيام أتيته بتأويل ابتدعته بخصوص أحد رموز حلم من أحلامي، فما كان منه إلا أن رد علي: « ولمذا لا هذا التأويل المغاير؟» والذي كان له معنى مناقضا تماما. كانت تلك وسيلة منه ليدلّني على أن التأويلات على هذا المنوال لا تساوي فتيلة. وفي مناسبة لاحقة، أصرّ بصريح العبارة على أن اكتفِي، كما اعتدتُه، بسر د الوقائع وترك التأويلات جانبا. فاهتمامه هكذا بمسألة الدال قد يبدو غريبا، إذ في تلك الفترة لم يكن الحديث يدور حول مسألة الدال بعد. لكن من المؤكد أن شلومبيرجير كان، ككل المحللين الآخرين، قد اطلع على الأدبيات المتعلقة بتقنية التحليل النفسي، ومن بينها أحد كتب لوفينشتاين الذي يحرص فيه على ضرورة اهتمام المحلل في البداية بالتأويلات التي تطفو على السطح قبل أن ينصرف إلى التأويلات الأكثر تعمقا.  التأويل على السطح يعني صياغة تأويل بذات الكلمات التي ينطق بها المتحلل، وهذا ما يمهد الطريق للتأويل المتعمق. إلا أن شلومبيرجير ، مع ذلك كان يكتفي بالتأويل على السطح.

 أذكر كيف أنه أوقفني مرتين أثناء سردي لصور حلمية كانت محاكاة لعبارتين دارجتين بالفرنسية («avoir un poil dans la main» و «un fil à la patte») لم أكن أعرف معانيهما في تلك الفترة. يمكنني القول إنه اكتفى بما يسمى الاستقلال الدلالي للدالّ، وبأنه كان يلفت انتباه الشخص إلى هذا الأخير، ما يتيح له بدوره فرصة فهم شيء من الحمولة الدلالية التي كان المحلل قد استقبلها. لكني لم أسمع أبدًا أنه انتقل إلى التفسيرات العميقة، بمعنى محاولة أن يعرض علي مضمون الهوام الذي يسكن لا شعوري. إذ هو فعْل محفوف بالمخاطر، شبيه بالمخاطر التي قد تعترض فيلاً يمشي متجولا في متجر للبورسلين. قد يبدو ذلك غريبًا لأنه في تلك الفترة، لم يكن أحد يتحدث بعدُ عن التمييز بين الحقيقة والمعرفة، بل كان الجميع يميل الى «تشييء» الذات، ويتم  التركيز على أن علم النفس هو علم يضفي على الذات سمة الموضوعية بجعلها موضوع للمعرفة. وهو ما يتوخى من المحلل ألا يقوم به. وهذا يعني أن شلومبرجر في جوهره لم يكن يخاطب ما كان يُسمى بـ أنت كما كان يُنظر إلى التحليل النفسي على أنه علم نفس ثنائي الأشخاص، ولكن كان يخاطب الموضوع لا شعوريا، أي الموضوع المطلق الذي لا يمكن جعله موضوعًا للمعرفة. كان ذلك في الواقع سابقة لأسلوب لاكان.

تذكّروا تعليق لاكان على الوليمة (Le Banquet) ؛ وعلى مدائح ألكيبيادس المبالغ فيها تجاه سقراط والتي كان لها غرض مزدوج: أولًا، منع سقراط من الرغبة في الموضوع الذي كان ألكيبيادس يرغب فيه أي أغاثون وثانيًا، أن يكون هونفسه، ألكيبيادس، موضوع رغبة سقراط. وسقراط، بدوره، لم يتردد في أن يوجه حديثه بوضوح، بل وبسخرية لاذعة. الآن، لاكان يقول إنه لا ينبغي لنا أن نتصرف بهذه الطريقة نحن المحللين. في الواقع، لو تصورنا أن لاكان كان في مكان سقراط، لكنت سأسمعه بعد تلك المدائح يتوجه إلى أغاثون قائلاً: « حسنًا، عزيزي أغاثون، هل فهمت الآن إلى من كان ألكيبيادس يوجه خطابه؟ »

بعد هذه الملاحظات، نعود إلى تجربتي في باريس والى مسألة التكوين الذي خضعت له. مع تقدم تحليلي الشخصي، كان لا بد لي من البدء بالتفكير في المسألة التالية: كيف يمكن للمحلل أن يبقى مخلصًا لما يسمى «مقام التحليل» دون أن يسقط في التفسير المبالغ فيه أو يضلل المريض بتفسير عاطفي أو شخصي؟ وفي هذا السياق، بدأ لاكان يظهر أكثر فأكثر تميزًا عن الأساليب السائدة في التحليل النفسي في ذلك الوقت، إذ أصبح يعتقد أن المحلل لا يمكنه أن يكون مجرد «مترجم» لتفسيرات أو أفكار مريضه، بل يجب أن يحافظ على مسافة تجعله يقف في وضع يتعذر فيه التفسير التقليدي.

النقطة المركزية التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار هي أن «المحلل لا يستأذن إلا نفسه». وهذه العبارة تعني أن المحلل يجب أن يكون واعيًا تمامًا لما يقوله وما يفعله أثناء الجلسات التحليلية، وأن أي نوع من التفسير، مهما كان دقيقًا أو عميقًا، يمكن أن يكون بمثابة تدخل يتجاوز مهمة المحلل. يمكن للباحثين أن يعطوا تفسيرات أو يضعوا تحليلات، ولكن المحلل، وفقًا لهذا المبدأ، لا يملك الحق في فرض تفسيره على المريض؛ بل عليه أن يتيح للمريض أن يكتشف بنفسه ما يكمن وراء كلماته وأحلامه.

هذا المفهوم يعيدنا إلى واحدة من أهم الأفكار التي قدمها لاكان، وهي فكرة «الـدال» الذي لا يرتبط مباشرة بالمعنى الثابت أو المحدد. فالمحلل، بدلاً من أن يكون مُفسِّرًا يحاول توصيل المعنى الظاهر للأشياء، يجب أن يترك المساحة للمريض لكي يكتشف ويعيد بناء معانيه الخاصة. هذا يعني أن التفسير لا يجب أن يكون خطوة سابقة على «الإفصاح» بقدر ما يكون وسيلة لتفكيك المسائل الملتبسة التي تعيق المريض.

ما تطرحه هذه الطريقة هو أن المحلل لا يقدم خطابًا نهائيًا عن الذات أو الشخص الآخر، بل يقدم حوافز تساعد في إبراز معاني مختبئة، مما يتيح للمريض أن يصل إلى فهم أعمق أو إلى نقاط تحَول في تحليله. وهكذا يصبح التحليل مجالًا للبحث المستمر، حيث لا توجد «نهاية» أو «تفسير» حاسم وقطعي، بل رحلة مستمرة من الاكتشاف.

من هذا المنطلق، تصبح المهمة الأولى للمحلل هي خلق بيئة آمنة تسمح للمريض بالتعبير عن نفسه بحرية، مع الاعتراف بأن هذا التعبير ليس دائمًا مباشرًا أو منطقيًا. وبالتالي، فإن المحلل الذي يستأذن نفسه هو ذك الذي يظل دائمًا يقظًا لما يحدث في الجلسة، والذي يمتنع عن فرض تأويلات سابقة، أو عن اتخاذ مواقف قد تكون خارجة عن نطاق الفهم الفعلي للمريض.

هذه العملية مستمرة وتستدعي من المحلل الحفاظ على فاصل بين ما يقوله المتحلل وبين فهمه الخاص، لكي لا يتداخل مع فهم المريض ولا يفرض عليه طريقة واحدة لرؤية العالم. هذا يضمن أن التحليل يبقى مجالًا للعمل المشترك بين المحلل والمريض، حيث لا يقتصر الأمر على نقل المعرفة بل على إعادة اكتشاف الذات والمعاني المخفية.

إن هذه الطريقة تجعل من التحليل مجالًا للبحث المستمر، حيث لا وجود لـ «نهاية» أو «تفسير» حاسم، بل هو رحلة مستمرة من الاكتشاف. المحلل، وفقًا لهذه الرؤية، ليس مجرد «مترجم» لما يقوله المريض، بل هو من يحافظ على المسافة الضرورية التي تسمح للمريض بالوصول إلى فهمه الخاص للعالم الداخلي. التحليل ليس عملية لتثبيت المعرفة، بل هو عملية لتفكيكها وإعادتها إلى شكل غير مستقر، كي يُتاح للمريض فرصة إعادة بناء معانيه الخاصة.

من هذا المنطلق، تصبح المهمة الأولى للمحلل هي خلق بيئة آمنة تسمح للمريض بالتعبير عن نفسه بحرية، مع الاعتراف بأن هذا التعبير ليس دائمًا مباشرًا أو منطقيًا. لذا، فإن المحلل الذي «يستأذن نفسه» هو ذلك الذي يظل دائمًا يقظًا لما يحدث في الجلسة، والذي يمتنع عن فرض تأويلات مسبقة، أو عن اتخاذ مواقف قد تكون خارجة عن نطاق الفهم الفعلي للمريض.

في هذه العملية، يجب أن يدرك المحلل أن الحقيقة النفسية ليست شيء ثابت يمكن اكتشافه دفعة واحدة، بل هي عملية مستمرة تكتسب دلالتها عبر الزمن وفي سياق التحليل نفسه. إذاً، المحلل لا يقدم فقط تفسيرات، بل هو يتيح للمريض أن يعيش تجربة فكرية وعاطفية تُمكّنه من الوصول إلى أماكن أعمق من تفكيره وأحاسيسه.

المحلل لا يعمل على تقديم أيديولوجيات أو تفسيرات جاهزة حول العالم الداخلي للمريض. بدلاً من ذلك، هو يُسهم في خلق الفراغ الذي يسمح للمريض بتشغيل مكنوناته الشخصية بنفسه، دون تدخل مفرط من قبل المحلل. هذا الفهم العميق لما هو «لا معقول» و «غير منطقي» في العقل البشري يجب أن يُحتَفظ به في مكانه الصحيح: ليس في تحكم المحلل بالتفسير، بل في قدرة المريض بنفسه على اكتشاف ما يخفيه عقله اللاواعي.

لكن، من حيث النظرية، يجب على المؤسسة التحليلية أن تتبنى هذا التوجه، لأنه لا يمكن تدريب المحللين كأشخاص قادرين فقط على تفسير الأنماط والرموز. المحلل يجب أن يفهم التحليل كعملية ديناميكية ذات مسار خاص بها، لا يمكن تقليدها ببساطة عبر اتِّباع مجموعة من القواعد أو الإرشادات السلوكية.

وبالتالي، فإن المعنى العميق لعبارة «المحلل لا يستأذن إلا نفسه» يتجاوز التأويل السطحي. فهو يفرض على المحلل أن يكون ملتزمًا بمسافة من تفسيرات الآخرين، ليظل محايدًا بحيث لا يفرض فكرته أو تفسيره على المريض. وبهذا المعنى، يصبح المحلل لا مجرد مُرشد بل هو مشارك في عملية الكشف عن الذات، وهي عملية تظل محكومة بالانفتاح على التعقيد الداخلي والفوضى اللاواعية التي لا يمكن اختزالها في تفسيرات جاهزة.

هذا المبدأ يوضح بكل جلاء كيف أن المحلل يجب أن يتعامل مع المريض، وأنه يجب أن يظل على دراية بحدود تدخلاته وتأويلاته. هذا يستدعي فهمًا أعمق للفكرة التحليلية التي تُقدِّر تطور المريض في سياق خاص، يتميز بالتفاعل بين المحلل والمريض، وفتح مساحة للشفاء من خلال الوعي بالديناميكيات الداخلية للمريض.

عنى هذا المبدأ وآثاره المؤسسات« المحلل لا يُصرِّح إلا لنفسه »Voici l

ومع ذلك، تبقى هناك نقطة فارقة. كان شلمبرجير، إذا صح القول، «لاكانياً» دون علم منه. وهذا يعني أنه لم يكن يمتلك تصوراً شاملاً عن التحليل كخبرة تتطور من خلال الخطاب، أي كخطاب له ديناميكية خاصة به، مع خطوطه القوية الخاصة به، ويمتلك بالتالي، توجهه الخاص. في الواقع، لم يكن هذا التصور عن التحليل كعملية ذات مسار داخلي واضح قد تم التعبير عنه صراحة قبل لاكان، في مقاله «إدارة العلاج والمبادئ التي تحد من سلطته»، والذي غالباً ما يُساء فهمه على أنه يتعلق بكيفية توجيه التحليل بدلاً من فهم هذا الأخير كعملية ذات اتجاه ومنطق يخصانها من الداخل. إن غياب هذا التصور عن التحليل كعملية ذات توجه داخلي يخصها، أدي بالمحللين نحو اللجوء إلى معايير خارجية لتحديد نهاية التحليل. لقد قدّم فرويد، بالتأكيد، معايير داخلية للتحليل،  بحيث أنه لا يمكن التحدث عن نهاية التحليل إلا إذا توفق التحليل في تحقيق استمرارية سيرة حياة الذات. معيار آخر يبرز في مقاله «تحليل متناهي وتحليل لا متناهي» هو أن التحليل ينتهي ليس فقط عندما يتقبل المتحلل تهديد الخصاء، بل عندما يتوقف عن محاولاته تأويل هذا التهديد وهو ما يتماشى مع ما يسمّيه لاكان «اختراق الهوام».

في الواقع، قدّم لاكان من خلال تعليمه، عدة معايير يمكن من خلالها فحص ما يربط بينها: تقبل الوجود من أجل الموت، تقبل تفسير تهديد الخصاء أو حتى الانقسام الأقصى، اختراق الهوام المركزي، سقوط «الذات-مفترض-عارفة» لما أخفيه، دون التحدث عن الحداد الذي يدل على المسافة التي تضعها الذات حيال الهوامات التي كانت تدعم  وترسخ يقينيات أناها. هذه المعايير لم تكن سائدة في ذلك الوقت، ولذلك كان من الضروري الاستعانة بمعايير خارجية للحكم على نهاية التحليل، مثل تعزيز الأنا، التكيف مع الواقع، أو حتى التكيف مع الواقع من خلال التماهي مع المحلل. كما تم الأخذ بالاعتبار اختفاء الأعراض أو على الأقل تخفيفها، وهو ما يعني رد المعاناة العصابية إلى بؤس معتاد ومألوف. فإذا كان هذا البؤس هو شرط حياتنا الضروري فهو كافي ليدفع بنا لإعادة النظر في مسألة الأعراض النفسية. لكن لا أحد في ذلك الوقت فكر في هذه المسألة. وهكذا بقيت مسألة  تكوين المحللين عالقة وغير مفكر في طبيعتها الحقة.

أفترضُ أن الدكتور شلومبيرجير قد يجيب بأن التحليل يمكن اعتباره تدريبيا إذا أعطى التحليل للمريض فرصة لمس حقيقة اللاوعي. كان هذا المعيار موجودًا دائمًا؛ بل إنه كان السبب الذي من أجله تم تأسيس التحاليل التدريبية. كان من المتفق عليه، كي يكون الشخص قادرًا على تحليل آليات اللاوعي، أن يمر بتجربة هذه الآليات في تحليله الشخصي. هذا المعيار لا يزال كافيًا حتى يومنا هذا. لكن سيكون من المضحك أن نطلب من محلل مبتدئ  يطلب اشرافًا مهنيا، أن يعرض على مشرفه ما أنجزه تحليله من تقدم على طريق المعرفة الذاتية، أو أن نسأله ما إذا كان قد اجتاز هواماته. فكل ما يمكن لمرشح ما قوله في مثل هذا السياق خاصة إذا كان يندرج في إطار مؤسسي هرمي التنظيم لن يكون إلا من نوع المعرفة المتكررة والمجترة. على العكس، يمكننا أن نطلب منه أن يتحدث عما يقوم به  أثناء ممارسته كمعالج وفي تحاليله، إذا كان قد بدأ بالفعل في ممارسة التحليل، وأن يوضح ما الذي دفعه للاعتقاد بوجود اللاوعي.

يبقى مع ذلك، إن فرضية ما قد تكون كافية لإحداث أثر معين، دون أن يكون هذا الأثر ناتج بالضرورة عنها. على سبيل المثال، يمكنني أن أقول إن النجاح في امتحان البكالوريا يتطلب العمل الجاد طوال العام الدراسي، ولكن يبقى أنه من الممكن أن أعمل بجد طوال العام دون أن أنجح في الامتحان. ولذلك، بجانب السبب الكافي، يجب أن نبحث عن السبب الضروري: وهو الذي ينتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه «العملية الداخلية للتحليل»، باعتباره التحليل تجربة خطابية. هذا البحث التحليلي يتطلب تجربة معينة لا تكتسب فيها الجمل والأقوال قيمتها مما قد يتراكم من معرفة، وإنما ما قد ينكشف ويتجلى من ذات ناطقة تشهد على ما تقوله. هنا يتعلق الأمر، كما ترون، بتجربة «العبور». ولهذه الكلمة معنيان: الأول يتعلق باللحظة التي يحدث فيها، أخيرًا، تحول المريض إلى محلل، أو بالأحرى انبثاقه. المعنى الثاني يبرز من التحليل كعملية متطورة في طريقها: فمع اقتراب هذه العملية من نهايتها، تظهر لدى المتحلل رغبة جديدة، لا علاقة لها برغبته الأولى (التخيلية) في أن يصبح محللا؛ وهذه الرغبة الجديدة تستحق أن تُسمى «رغبة المحلل». لتقديم تعريف أدنى لهذا المعنى، يمكنني التحدث عن رغبة لا تشارك في المكبوتات التي تختبئ فيها الهوامات الأصلية. لكن قبل ذلك، يجب أن أتحدث عن لاكان بصفته «مشرفا مهنيا» أو «مُحللا مراقبا».

جميع المدربين الآخرين الذين قضيت معهم تحليلات إشرافية كانوا يعتبرون مهمتهم تعليمك كيفية قيادة التحليل. بالنسبة لأحدهم، عليك أن تبدأ بتحديد التحويل، بمعنى مراقبة كيف يقوم المريض بإسقاط صورة  ما من وسطه العائلي على شخصيتك. بالنسبة لآخر، عليك أن تكتشف أولاً المعاني التي تختبئ في اللاوعي كان يُقال في ذلك الوقت عن بعض المحللين أن لديهم «حدسًا قويًا»، و:أنهم من فصيلة السحرة أو العرافين. بالنسبة لآخر، يجب عليك قياس المسافة التي قد تفصل أنا  المريض عن استثماراته للمواضيع  الجزئية مثل الثدي أو القضيب وكذلك قياس القلق الذي قد ينتج عن القرب من موضوع أو رغبة ما للاستحواذ عليه. باختصار، من المفترض أن يتعلم المرشح كيفية تطبيق النظرية الخاصة بالمشرف على التحليل. وهكذا يتضح كيف تتماشى هذه الرؤية للتدريب مع فكرة أن هذا الأخير هو نقل المعرفة من أجل اكتساب المهارة.

من ناحية أخرى، نلاحظ أن هذه الرؤية تقتضي بالضرورة تنظيمًا هرميًا: في أسفل السلم، يوجد المتدربون أو الطلاب، الذين سماهم لاكان في كتابه الساخر عن وضع التحليل في ١٩٥٦ «الأحذية الصغيرة»؛ ثم هناك الذين اكتسبوا المهارة، التي يكرسها لقب «الأعضاء المشاركين»، أو كما يسميهم «الكفاية»؛ وأخيرًا، هناك أولئك الذين يمكنهم نقل هذه المهارة، وهم المعلمون الذين سماهم لاكان «البركات». لكن لإظهار عيب هذه الرؤية بشأن تكوين المحللين، يكفي أن نُذَكر أن الأمر لا يتعلق باكتساب كفاءة أو معرفة، بل بافتراض حقيقة، وهي عملية لا يمكن قياسها بأي منهجية. لذلك، استنادًا إلى المبدأ القائل بأن الوظيفة تقوم على التشابه لا الاختلاف، حاول لاكان إيجاد شروط لتنفيذ تجربة «العبور» بحيث تظل محمية من اعتبارات الهيبة والنفوذ والشهرة.

وكلنا نعلم أن هذه التجربة فشلت. وقد نسب لاكان فشل مشروعه بهذا الصدد إلى غزو «علم النفس الجماعي». لكن علم النفس هذا يثبت حقيقة أنه عندما يتساءل الفرد عن وجوده، يتساءل أيضًا عن «مكانه» المقرون بالتصور الهرمي. قبل العودة إلى هذه النقطة في استنتاجاتي، أود أن أشير إلى أن لاكان لم يمارس أبدًا دور المشرف كما لو كان مجرد مهمة لتعليمك التقنية. بخلاف سيميناره حول الكتابات التقنية لفرويد، التي كان الهدف منها أساسًا إظهار أن هذه الكتابات لا علاقة لها بعلم النفس الخاص بالأنا، لم يكتب شيئًا في هذا المجال. هذا لا يعني أن المفاهيم والأسئلة النظرية كانت محظورة خلال العمل معه، لكنها كانت لا تُطرح إلا في ارتباط مع «المواد»التي تقدمها .

ومع ذلك، في سياق إشرافي التدريبي، وقعت حادثتان خاصتان، مما جعل هذا الاشراف يتحول بشكل مباشر إلى إشراف نظري من طرف لاكان. المرة الأولى كنت مطالبًا بتقديم بحث للترشح لمنصب عضو مشارك وكان موضوع البحث يدور حول الغثيان. فكرتي هي أن هذا العاطفة التي أصبحت لدى مريضي في ذلك الوقت عرضًا، تمثل في الواقع انسحاب الاستثمار الليبيدي لموضوع  كان حضوره  لديه يكتسب طابع الاقتحام. في هذه المناسبة، أصر لاكان بشدة على أهمية تسليط الضوء على معنى هذه العاطفة باعتبارها «علامة» على انسحاب المعنى عند المريض. المرة الثانية كانت عند عودتي إلى فرنسا بعد خمس سنوات في مصر تحت حكم ناصر  (١٩٥٤- ١٩٥٩). قدم أثناءها لاكان رسمه البياني، الذي يعطي فيه ولأول مرة نظرية متكاملة حول مسألة الهوام ، حيث تعتبر  هذه البنية محاولة لإمساك الرغبة من ذيلها، محاولة فقط لأنه  من غير الممكن أبداً الإمساك بها ، إلا على حساب دمجها كلية في إطار الطلب. ومنذ لك الحين تكون لدي اعتقاد راسخ بأن أفكار لاكان طرأت عليها تطورات كثيرة وتوافقنا سويا على نعتمد «تدريبا نظريا» مما سمح لي و«قلمي بين أصابعي» كما يقال، بعض كتاباته التي نشرها في مجلة «التحليل النفسي» ومن بينها على الخصوص مقالتي «هيئة الحرف» والرسالة المسروقة». وعلى العموم، يمكن القول أن جل ما تعلمته من لاكان كان شفاهيا بالأساس. 

فبالنسبة للاكان إن انتقال المتحلل الى مرتبة المحلل لا ينجم أساسا عن عملية إشراف تدريبي وإنما ينبع من فعل تحليلي يتجرأ عليه المحلل المبتدء وترجع مسؤليته  إليه فقط ولا إلى غيره. أما ما يبرهن على مصداقية هذا الفعل فهو ما ينجم عنه من عواقب جراء التحليل.وهذا هو المعنى الحقيقي للمبدأ القائل إن «المحلل لا يستأذن إلا نفسه» ودقة هذ المبدأ لا تقبل أي تخفيف. إنه فعلا أضاف لاحقا لهذا المبدأ «…ولبعض الآخرين»، إلا أن هدف لاكان من هذه الإضافة كان أولا وقبل كل شيء، التخفيف من حدة القلق وسوء الفهم لدى أولائك الذين لم يرقهم سماع هذا المبدأ. والأهم من ذلك هو أن هذا المبدأ لا يمنع الاعتراف بصفة بعدية بأحقية محلل مبتدأ ما في ممارسة التحليل. ففي هذا المنظور يكتسب الاعتراف المؤجل بأحقية محلل في ممارسة التحليل، قيمة ليست من من قبيل الترخيص، وإنما من قبيل الأخذ بعين الاعتبار فقط.

فما قد ينجم عن كل هذا بخصوص مؤسسة تدعي كونها مؤسسة تحليلنفسية؟ 

بداية يجب على مؤسسة من هذا النمط أن تنأى بنفسها وبدون لبس عن فكرة التكوين: فهي لا تكون محللين. لكنها تنظم أنشطة تلبي طلب أيا كان مشروعه أن يصبح محللا نفسانيا. من بين هذه الأنشطة هناك التحليل النفسي الشخصي وكذلك الأشراف التدريبي ثم التدريس. بإمكانها أيضا أن تقوم بمراعاة جدية ممارسة محلل ما إذا كانت ممارسته مستوحاة من منظورها للتحليل كخبرة، حقلها من لغة ومبادئ تأثيرها هي نفس مبادئ الكلام، وحيث لايمكن للمحلل ، بحسب تعابير نظرية اللعب، أن مشاركة في لعبة التحليل إلا بواسطة الأوراق التي يعرضها المتحلل على انتباهه والتي بدونها لا يمكنه فعل أي شيء.      

وبما أننا لا نختزل رغبة المحلل أثناء التحاليل النفسية الى مجرد حدث ناتج عن التحويل المضاد لشخص نفترضه محللا لأنه خضع لتحليل شخصي، وكذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون الرغبة لدى الكائن الناطق ذات طابع تواصلي، فإن من واجب أية مؤسسة تحليلية أن تعيد اختبار تجربة «العبور». بالفعل، من طبيعة هذه التجربة أن تطلعنا ليس فقط  عما يمكن الإدلاء به من رغبة المحلل من أجل ممارسة التحليل، عند يصل تحليله الى حدود أبعد الحدود المتوخاة (وهي الحالات الأكثر إفادة)، وكذلك أيضا تطلعنا على سيرورة التحليل بكاملها أو على لحظة من لحظات ظهور الرغبة في مزاولة التحليل إذا ما اتضح أن هناك تحويل نحو الممارسة العيادية. وفي النهاية، ما بإمكاننا قوله بخصوص انتقادات لاكان اللاذعة التي خص بها فكرة تنظيم المحللين المشرفين في قوائم ترتيبية إلا كون الإشراف التدريبي الذي لا يستقيم إلا بالتضاد مع التحليل العلاجي ما هو في الحقيقة إلا أسطورة فصلت لتخدم مصالح الموسسة. 




وفي هذه المناسبة، قام لاكان بتوجيه نظرنا ألى أن مسألة الرغبة تتجاوز كثيرًا عملية الاشتغال على الأعراض أو حتى على التخييل. في الحقيقة، كانت محاولة استيعاب الرغبة بمثابة تحدٍّ دائم. إلا أننا، في الوقت ذاته، لا نقدر أن نغفل بأن هذه الرغبة عادة ما تكون مرتبطة بطريقة ما بما يود الشخص أن يقدمه، أي بتوقعات موضوعه الذي لا يسعى إلى تلبية أي حاجة محددة.

لكن لا يجب أن نغفل أن تحليلات لاكان لم تقتصر فقط على كونها عملية علاجية تجريبية. بل كانت طريقة في إعادة فتح «مسارات البحث» التي تتجاوز الممارسات السريرية. وفي أثناء العمل معه، أصبح واضحًا لي تمامًا كيف أن تحليله لا يقتصر فقط على مجرد استعادة بنية داخلية أو استخراج معلومات من عمق الذات، وإنما كان يشمل كل هذه الجوانب باعتبارها جزءًا من حوار مركب بين المحلل والمتحلل، وبين الموضوع المريض ورغبته المتجذرة في هذا الحوار.

ما استمرّ بالتجلي بشكل مسترسل ، هو أن الطريقة الوحيدة لتجاوز حدود العلاج المعتاد كانت عن طريق تشكيكه في العلاقات النمطية بين المحلل والمريض. كان لاكان يشير إلى أن تعديل هذا النوع من التصورات يتطلب تقنيات جديدة في سياق التجربة التي يجب أن يتم اختبارها. لذلك كانت تجربة العبور هذه مرتبطة بوجود تعدد مستمر لِما هو ممكن. إنها تتطلب شرطًا إضافيًا، شرطًا ليس مجرد وصف تقني لما يحدث في التحليل، بل التفكير المستمر في تدخلات المحلل المشرف وكيف يمكن أن تتطور مع تطور كل مرحلة في التحليل.

بإجمال، يمكن القول أن لاكان عمل على إعادة تأطير مفهوم التحليل لا من خلال تقديمه كطريقة بسيطة لتخفيف الأعراض، بل باعتباره تجربة محورية تحرك، من خلال تأملات داخلية ومعقدة، الكائن عبر رغبته العميقة في الخروج من الجمود الداخلي في علاقته مع الذات ومع الآخرين. وفي هذا السياق، كانت نظرية لاكان هي نظرة تتجاوز مستوى السيكلوجيا التقليدية في العلاج النفسي، وإنما تحتوي على بعد فلسفي نقدي يسعى إلى جعل الموضوع لا يتوقف عند البنية الذاتية فقط، بل يدفعه نحو فتح آفاق أخرى من الفهم التي تجعل العلاج ليس مجرد علاج لأعراض مرضية ولكن تجربة متجددة تعكس أعمق جوانب وجودنا.


(مقال نشر في مجلة «أوجه التحليل النفسي»، عدد ٢٠، سنة ٢٠١٠، صفحات: ١١-١٨.)