لا عيش مشترك بدون لغة وكلام - مقالة


لا عيش مشترك بدون لغة وكلام


لتمهيد حديثي، أود أن أذكر تبادلًا وجيزا قد يبدو عرضيًا من الوهلة الأولى، لكنه، عند التأمل فيه، يبدو أنه نموذجي من عدة جوانب. في إحدى جلسات الإشراف مع جاك لاكان، عرض مصطفى صفوان، الذي كان آنذاك محللاً نفسيًا شابًا، حالة مريض على لاكان وطرح عليه سؤالًا حول مكانة الأب في العلاج التحليلي لهذا الشخص: فأجابه لاكان قائلًا: «الأب هو من يحمل الميزان بينكما». إنها إجابة غامضة بالفعل، ولكنها ذات طابع برامجي للغاية في سياق العلاج التحليلي. ولتعزيز كلامه، أضاف لاكان فجأة: «بين ذاتين، لا يوجد سوى الكلام أو الموت». هذه أيضًا عبارة قد تبدو عابرة لكنها تحمل أهمية عظيمة من حيث طبيعة الرابط الاجتماعي البشري من منظور التحليل النفسي. سيتناول العرض التالي هذه الصيغ البسيطة إلى حد ما، وسيحاول توضيح الحجج النظرية وتفكيك عواقبها العملية.


1- الرابط الاجتماعي: من الحيوان إلى الإنسان؛ من الإشارة إلى الرمز

منذ العصور القديمة، حاول الناس تحديد الإنسان انطلاقًا مما يميز كينونته عن بقية أفراد مملكة الحيوانات. وقد تم التأكيد بشكل مبرر أن البشر كائنات اجتماعية، وإذا كانوا مرتبطين ببعضهم البعض، فإن الرابط بينهم هو في الأساس رابط اجتماعي. لذا، تُلخص الصيغة المتداولة هذه المسألة بالقول إن الإنسان حيوان اجتماعي.

لكن من المفيد أن نذكر أنه بين الحيوانات أيضًا توجد كائنات اجتماعية بشكل مؤكد، دون الإدعاء بأنها تتسم بالمستوى الاجتماعي الذي يميزالبشرية. على سبيل المثال، يمكننا التفكير في النحل والنمل وبعض القردة العليا التي تعيش في مجتمعات منظمة للغاية وذات هيكل هرمي.

لنأخذ أولًا مثال حياة القردة العليا التي تعتبر، إلى جانب الإنسان، من أقرب الحيوانات له من الناحية البيولوجية، إذ يبدو أنها تشارك الإنسان حتى 99% من حمضها النووي. بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات الإثولوجية إلى أن هذه القردة تظهر «تفردًا في السلوك يجعلها تشبه الإنسان بشكل ملحوظ». ومع ذلك، كما أشار ليفي-ستروس بشكل واضح، إن الحياة الاجتماعية لهذه القردة «لا تقبل صياغة أي قاعدة (…) ولا يمكن استخراج أي انتظام من السلوك الجماعي. وتظهر هذه الفوضى بشكل أكبر في الحياة الجنسية (…) إذ يمكن أن تحدث العلاقات الجنسية دون أي تمييز، سواء مع أفراد المجموعة العائلية أو مع الآخرين». بمعنى آخر، لا تثار مسألة المحرمات الجنسية، مثل المحرمات المتعلقة بالزواج أو المحرمات الأخلاقية، في حياة هذه القردة الاجتماعية.

من ناحية أخرى، لطالما تم التأكيد على أن هذه القردة أكثر قدرة على تعلم اللغة البشرية. ومع ذلك، رغم أن العلماء بذلوا جهدًا كبيرًا لتعليمها نطق بعض المقاطع الصوتية وربط كلمات معينة بأشياء أو مواقف، إلا أنه من المستحيل على هذه القردة أن تعطي لتلك الكلمات أي معنى حقيقي. كما أشار ليفي-ستروس، «إنها خطوة لا يتجاوزونها أبدًا». بعبارة أخرى، الكلمات لديها لا تتعدى أبدًا كونها إشارات، مع العلم أن الإشارة اللغوية، بحسب تعريفها، لا يمكن أن تتجاوز وظيفة تمثيل شيء واحد فقط بالنسبة لفرد معين.

لنأخذ أيضًا مثالًا على الحياة الاجتماعية للنحل، وهو مثال آخر يتسم بالاتصال الذي يميز حياتهم الاجتماعية. فلنتذكر بإعجاب، النحلة التي، عند عودتها من جمع الرحيق، تنقل إلى زميلاتها من خلال نوع من الرقص، الإشارة إلى وجود رحيق قريب أو بعيد. وتذهب النحلة أبعد من ذلك، حيث تحدد الاتجاه والمسافة بدقة للوصول إليه. أما باقي النحل فلا يتوانون عن الاستجابة لهذه الرسالة، «بالتوجه فورًا نحو المكان المحدد».

لكن، ما هي قيمة هذه الرسالة التي يتم تبادلها بين النحل؟ لاكان لا يعترف بكون هذه الرسالة لغة بالمعنى الصحيح للكلمة، إذ أن رسالة النحل تتسم بشيئين: أولًا، تتسم بوجود علاقة ثابتة لا يمكن تغييرها بين الإشارات والواقع الذي تشير إليه. ثانيًا، هذه الرسالة التي تحدد فعل مجموعة النحل، لا يتم نقلها من قبل المجموعة الى السلف بطريقة إرادية. بمعنى آخر، لا يمكن لمجموعة النحل أن تتبنى هذا السلوك وتكرره طواعية وبشكل مستمر من أجل مصلحة المجموعة.

بذلك، نخلص إلى أن لغة النحل ولغة بقية الحيوانات عمومًا ليست سوى إشارات. وإذا كانت هذه اللغة تتكون فقط من إشارات، فذلك لأنها محددة مسبقًا ومثبتة بيولوجيًا. بمعنى آخر، الحيوانات تستقبل معايير تواصلها وتنظيمها الاجتماعي من خلال الترميز الموجود في تكوينها الجيني.

الآن، نعود إلى الإنسان ونعيد طرح السؤال: ما الذي يشكل الرابط بين البشر وما الذي يميز اجتماعيته التي لا تقارن بتلك الموجودة لدى الحيوانات؟ الجواب لا بد أن ييتم البحث في ما يميز اللغة البشرية، وبكونها تختلف جذريًا عن ثبات الترميز في لغة الحيوانات. ولكن قبل أن نتابع هذا الاتجاه، لنلاحظ أولًا أن بعض الفلاسفة حاولوا إيجاد الإجابة عبر طرق أخرى وطرحوا افتراضات مختلفة: على سبيل المثال، إذا كان بيرغسون يعتقد أن الضحك هو ما يميز الإنسان، وإذا كان ديدرو يركز ما يميز الإنسان في العقد الاجتماعي، فإن العادة جارية حتى الآن على التأكيد، في أعقاب ديكارت، بأن ما يميزني كإنسان هو قدرتي على التفكير والتعقل: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، كما يقال في الأوساط المفكرة.

ثم جاء فرويد ليعترض على ذلك، قائلا أن الأنا المفكرة والعاقلة ليست هي المتحكمة في ذاتها. وأكد أن اللاوعي هو الخاصية الأساسية والضرورية للنفس البشرية، بينما يعتبر الوعي خاصية ثانوية، قد تكون حاضرة بدرجات متفاوتة.

جاك لاكان سيمنح هذه الفرضية الفرويدية صرامتها المنطقية، من خلال التوكيد على ما يمز الذات الإنسانية من انقسام بين الوعي واللاوعي: «حيثما أكون، يقول لاكان، فأنا لا أفكر وحيثما أفكر فأنا لا أكون». وبذلك، فإنه لا يعترف بوجود تماسك بين الوجود والتفكير، بل يؤكد أن التفكير لا يتم إلا في اللاوعي.

إذن، لا يبدو أن الغريزة الاجتماعية في مملكة الحيوانات، ولا حتى الأنا المفكرة والعاقلة الديكارتية، هما ما يحددان الرابط الاجتماعي البشري فيما له من خصائص. فما هي إذن خصوصية هذا الرابط الاجتماعي بين الأفراد والجماعة؟ تكمن الإجابة، كما بدأنا نقول، في العلاقة الخاصة للإنسان مع عالم اللغة.

إن اللغة البشرية تتميز بأن الإشارات التي تتكون منها «تكتسب قيمتها، كما يقول لاكان، من علاقتها مع بعضها البعض». نحن هنا في مستوى النظام الرمزي، وتحديدًا في مستوى المعنى الذي لا يقتصر على الشيء المُشار إليه، بل الذي يتوجه بالإشارة إلى معانٍ أخرى، ما يجعل للرمز وجودًا يتجاوز الإشارة الفردية.

بحسب لاكان، إن وظيفة الإشارة هي أساسًا أن تُحيل إشارة إلى إشارة أخرى. معنى الكلمة لا يمكن أن يُبحث في عنصر واحد فقط، بل في مجموع السياقات التي يمكن أن تُستخدم فيها هذا الكلمة. على سبيل المثال، كلمة «يد»، معناها لا يقتصر فقط على العضو الجسدي الذي يحمل هذا الاسم، بل يتحدد أيضًا من خلال سياقات متنوعة مثل «اليد العاملة»، «اليد العليا»، «مد اليد» أو «القلب على اليد»… وهكذا.

الأكثر من ذلك، إن الإنسان بكامله هو جزء من هذا الكون الرمزي الذي يخلق الواقع البشري. هذا هو البُعد الذي يوضحه لاكان من خلال مثال الجملة العاطفية: «أنتِ شمس قلبي». بفضل التعبير عن هذا الرابط بين الشمس وقلبي، كما يقول لاكان، لا يتعلق الأمر بما قد يعنيه الحبيب في عينيّ، بل يتعلق الأمر بشكل أعمق: «إنه أنا، إنه كياني وتوسلي، الذي يدخل في مجال الرمز». ويوضح لاكان أكثر ما هو أبعد مذ ذلك: «في هذه الصيغة، يتضمن المعنى أن الشمس تدفئني، تجعلني أعيش، وهي مركز جاذبيتي، وأيضًا أنها تُنتج نصف الظل الكئيب الذي تحدث عنه الشاعر فاليري، وأنها تمثل أيضًا ما يسبب العمى، أو ما يعطي الأشياء ضوءًا كاذبًا ومظهرًا مضللًا. وذلك لأن أقصى درجات الضوء هو نفسه مصدر كل ظلمة».

وبذلك، يخلص لاكان إلى أن «ظهور الرمز يخلق حرفيًا نظامًا جديدًا للوجود في العلاقات بين البشر».

تأثير هذا النظام الرمزي في خلق واقع جديد باستمرار بين البشر يترك بلا شك أثرًا متجددًا في تعدد لغات البشر. ولهذا السبب، يوضح لاكان أن «تنوع اللغات البشرية، تحت هذا الضوء، يأخذ كامل قيمته».


في هذا السياق، أعود إلى مصطفى صفوان وأقتبس منه، في سبيل التوضيح، قصة وجيزة وردت في كتابه «الكلام أو الموت». تتعلق القصة بوزير بريطاني في زمن الاستعمار، كان في زيارة رسمية للمستعمرات في أفريقيا. ولتقديم التحية المناسبة لرتبته، أعدت الإدارة الاستعمارية المحلية استعراضا لعدد من كبار السن والحكماء من شعب البوشمن. وفي هذه القصة، كان الوزير يعلم أن استخدام الأرقام لدى هؤلاء الناس لا يتجاوز الأرقام 3 أو 4.

وبما أن سلطاته كوزير في الحكومة الملكية تسمح له الجرأة على أشياء كثيرة ، استدعى الوزير، من باب التسلية، أحد هؤلاء الشيوخ كي يعرفه بسنه، معتقدًا أنه سيحرج ويهين الشيخ عند الاجهار بجهله في استخدام الأرقام. لكن، جاء الرد مفاجئًا، حيث قال الشيخ، دون تفكير طويل: «أنا أصغر من أحلامي السعيدة، وأكبر من خيباتي المريرة!». صحيح أن الشيخ لم تكن لديه الأرقام اللازمة للرد على الوزير، لكنه، يقول صفوان، كان يمتلك شيئًا آخر، شيئًا لا يقل قيمة: كان يمتلك فن الاستعارة وفن التركيب الدلالي الذي يوفره له عالم الرموز. لقد استخدم هذا الشيخ استعارة فاجأت الوزير، وفي لحظة المفاجأة هذه، كما يعلق صفوان، « نجدنا دفعة واحدة،  متحدين في إدراك ما تحمله السلطة التي يمثلها الوزير، من سخف وغباء».

من خلال هذه الاقصوصة، يقدم صفوان مثالًا حيًا على قوة الرمزية ودورها في إنشاء معاني وأبعاد جديدة، حتى في مواقف قد تبدو بسيطة أو عادية.


2 - الرابط الاجتماعي: اللغة، الكلام، والخطاب

إن ترتيب الدال، كما يقترح لاكان، يفتح المجال أمام البشر للفرص الممكنة، ومن خلال القوانين التي يضعها، يخلق الشروط للعلاقات المنظمة والمقبولة بينهم. هذا هو ما يسمح للإنسان - وهو الكائن الذي لا يمتلك برمجة طبيعية لسلوكه - بالعيش مع بني جلدته بتوافق في غياب الروابط الغريزية.

بالنسبة للاكان، وتبعاً لفرويد، يُعتبر الإنسان كائناً رمزياً بشكل أساسي. «اكتشاف فرويد، كما يقول، هو اكتشاف مجال تأثيرات النظام الرمزي على طبيعة الإنسان، وتَتَبع معانيه حتى أعمق حالات الرمزية في الكائن».

لتأكيد بُعد الرمز بالنسبة لهؤلاء الكائنات الخاصة التي تميزنا، يبتكر لاكان مصطلحاً جديداً: الإنسان هو «كائناطق». بمعنى آخر، لا يستمد الإنسان مكانته من كائن متعالي أو إلهي، ولا من تركيبته البيولوجية (اللحمة والعظام)، بل من كونه خاضعاً لقوانين اللغة وكونه، على هذا النحو، قادراً على التعبير بأسلوب فردي بفضل الفعل الإبداعي للكلام. باختصار، الإنسان هو إنسان فقط لأنه يتموقع في اللغة ويؤدي وظيفة الكلام. «الإنسان يتكلم إذاً، كما يقول لاكان، لكنه يتكلم لأن الرمز هو الذي جعله إنساناً».


وهكذا، فإن لاكان يحدد بُعدين في الرابط الاجتماعي: اللغة والكلام. اللغة، التي هي المجال الذي يتحرك فيه الفرد، وهي الشرط الضروري لأي تفاعل. إنها المساحة التي تتكشف فيها حياة الإنسان. بالنسبة للاكان، لا  وجود إنساني خارج اللغة: بمعنى آخر، إن كل تصور للعالم أو الطبيعة أو للأشياء هو في حد ذاته بناء لغوي. من دون اللغة، لا أمكانية لتكوين أي مفهوم كان . «السماء» أو «الأرض» أو «البركان»، ...على سبيل المثال، ما كان له من وجود إن لم يتشكل في إطار اللغة. 

ولكن، على الرغم من أن اللغة تشكل حياتنا، فإنها لا تقدم أبداً تعريفاً نهائياً أو جوهرياً لوجودنا. اللغة في جوهرها غير مكتملة ولا نهائية. يقول لاكان: «الإنسان هو ما يمثله دال من أجل دال آخر»، وهذه السلسلة من الدوال لا تنتهي أبداً، مما يعني أن المعنى دائماً في حركة مستمرة، دائماً في طور التحقق.


بهذا فإن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل. الكلام، بمعنى لاكاني، يتجاوز بكثير مجرد نقل المعلومات. يميز لاكان بين المعلومة ووظيفة الكلام الإبداعية. بالطبع، يسمح الكلام بنقل المعلومات، ولكن وظيفته الأساسية أعمق بكثير: فهي تسمح بالتعبير عن البعد الذاتي والشخصي للكائن، مما يوفر للمتكلم الاعتراف بوجوده في التبادل. يؤكد لاكان أن الكلمة هي كلام فقط إذا كان هناك من يؤمن بها: «الكلمة هي فقط كلمة إلى الحد الذي يؤمن بها شخص ما». لذا، الكلام ليس مجرد رسالة بل فعل رمزي ينقش الفرد في شبكة من المعاني المشتركة.

للكلام وظيفة تحويلية. ففي بعض الأحيان، يمكن أن يدمر شخصا ما، مثل الكلمات الجارحة التي تؤذي الأجساد أو تزعزع العقول أو تخل بالتصرفات والسلوكات. لكنه يمكن أيضاً أن يشفي ويفتح آفاقاً جديدة، كما في العلاجات التي يكون فيها الفعل البسيط للكلام، والاستماع، والاعتراف، تأثير تحويلي. هكذا يجادل لاكان بأن للكلام القدرة على تحويل الذات من خلال إدخال تأثير دال في علاقتها بالآخر. ليس المهم في ما يُقال هو المهم فقط، بل الأهم يكمن في أثر ما يُقال على لاوعي الشخص الذي يستمع ويتكلم.


وأخيراً، يسلط لاكان الضوء على الوظيفة الإبداعية للكلام. الكلام لا يسمي فقط ما هو موجود، بل يخلق الوجود؛ فهو يمنح ميزة الواقعية لما لم يكن حاضراً بهذه الصورة من قبل. «الكلمة هي موت الشيء، لكن الكلمة هي أيضا ما يعطي الحياة والوجود للشيء». فليس للكلام معنى واحدا أو استخداما واحدا. لا أبدا. إنه يحمل معانٍ متعددة وإمكانات مختلفة. فوراء كل نطق، هناك دائماً معنى شامل، وعدة معاني مقصودة لا يمكن فهمها بشكل كامل.

وهكذا فإن الخطاب، وهو الشكل الذي يتخذه الكلام في الرابط الاجتماعي، يشكل الوسيط الذي يتم من خلاله تسجيل الفرد في المجتمع. الخطاب هو ما ينظم العلاقات الاجتماعية، ويحدد الأدوار، ويوزع المتع (اللذات أو المعاناة) في سياق اجتماعي ثقافي معين. بل إن «الخطاب هو ما ينظم العالم الحقيقي» بحسب لاكان، مما يعني أن التبادلات الخطابية هي التي تحدد وتنظم العلاقات الإنسانية والاجتماعية.


الخطاب هو إذن ما يؤدي إلى تأسيس الذات في علاقتها بالآخر. فهو يلعب دوراً أساسياً في إنشاء العلاقات الاجتماعية. وحتى عندما يبدو الخطاب وكأنه لا يوصل أي شيء أو فقط ينقل تواصلاً بسيطاً، يشير لاكان إلى أنه يؤكد وجود التواصل ذاته. حتى في فراغه الظاهر، يستمر الخطاب في الحفاظ على الرابط بين الأفراد وضمان استمرارية الاجتماع. وبذلك، يبقى الخطاب، حتى عندما يبدو أنه يخدع أو يظلم، الأداة المنظمة للرابط الاجتماعي والانسجام بين الجماعة.

هكذا يصبح الخطاب، في وظيفته البنيوية، المكان الذي تتكشف فيه الهويات الاجتماعية، وتعرف الذات بذاتها، وتنقل المعاني الثقافية والنفسية ضمن النسيج الاجتماعي. من خلال الخطاب، يجد الفرد مكانه ويظل المجتمع قائماً كواقع مشترك ومنظم.


3- خطوة الذات نحو الرابط الاجتماعي وقرارها أو إجابتها المسؤولة

من وجهة نظر لغوية، تُعتبر الاستعارة هي ما يسمح في الخطاب بتثبيت المعنى. وظيفة الاستعارة هي إيقاف الانزلاق بين الدال والمدلول لكي يظهر المعنى. لكن بالنسبة لذات الفرد اللاواعية، التي تقوم على اللغة، وتستخدم الكلام وتُدرج ضمن نظام القرابة، فهي استعارة من نوع خاص ومميز :  إنها الاستعارة التي يسميها لاكان «الاستعارة الأبويّة»، نسبة الى وظيفة الأب والى الدور الذي يقوم به بصدد أو قبلة رغبة الأم. 

لفهم ما يتعلق بهذه الصيغة، يجب أن نميز بين شخص الأب أو ممثله الذي قد يكون مجسدًا جزئيًا أو كاملاً وبين الأب كرمز. يجب أن نميز بين الدور الملموس للأب داخل العائلة، إن كان له وجود فعلا، ووظيفته الرمزية كطرف ثالث في الرابط الاجتماعي وفي بناء الذات لدى الطفل.  إحدى أغاني ستروماي  توضح هذه الفكرة بشكل جيد: «الجميع، كما تقول الأغنية، يعرف كيف نصنع الأطفال، ولكن لا أحد يعرف كيف نصنع أبًا». في هذه الأغنية نفسها، تجيب الأم على سؤال ابنها بأن والده مُعد فقط للعمل وأن الأفضل هو أن يكون هذا الشخص مصحوبًا بشكل جيد. «هذا هو والدك» تقول الأم.

أما بالنسبة لوظيفة الأب الرمزية أو الأب كرمز، فذلك أمر مختلف تمامًا. إنها الوظيفة التي يشغلها الأب كرمز في ذاتية الطفل وكطرف ثالث في علاقة الطفل برغبة الأم. وهذه هي الوظيفة التي يسميها لاكان «اسم الأب».

لذلك، فباسم الأب، إن جاز لي أن أستعير استعارة مسيحية وأحوّرها قليلاً، تقع مهمة نفخ الروح القدس في الابن. لكن من منظور التحليل النفسي، فإنه يجب عليه أن يشير لذات الفرد، وبحسب تعبير لاكان، إلى «وجودها الحي» أو «وجودها الغريب والغبي». بشكل ملموس، تؤدي هذه الاستعارة الخاصة إلى تمكين ذات الفرد من بناء معرفة تخيلية تحاول من خلالها الإجابة على السؤال: «ما أنا هنا؟» في رغبة الآخر. وهي تتضمن، من جهة، استبدال رغبة الأم بدال الأب الذي يُسميه لاكان «اسم الأب». ومن جهة أخرى، تجعل هذه الاستعارة الذات تكتشف نوعًا من المعرفة الخيالية، الهوامية، التي يمكن أن تتكثف في معاني ودلالات، يجملها لاكان في تعبير «الرمزية الفالوسية». من خلال هذا المعنى اللاواعي حول رغبة الأم، تعطي ذات الفرد معنى لوجودها الحي وتوجها جنسانيا لرغباتها.

إن هذه الرمزية تهدف إلى حماية الذات، إلى حمايتها ضد الطلب الخيالي للآخر. لكن، ليس لهذه المعرفة نفس الوضع إذا ما كانت الذات تقف، من جهة، موقفا عصابيا مبنيا على ألية الكبت، أو موقف الشذوذ الجنسي المبني على الإنكار، ومن جهة أخرى، الموقف الذهاني المبني على آلية  إلغاء اسم الأب ورفض الخصاء.


من هنا، لدينا نوعان من التفاعل بين الفردي والجماعي:

النوع الأول: مبني على التدخل والعمل الاستعاري في السلسلة الدلالية للذات. بعبارة أخرى، في سلسلة خطابه وكلامه، تتخذ بعض الدوال مكانًا استثنائيًا، حيث يشغلون موقعًا مركزيًا ويحصلون على معنى مُميز. «اسم الأب» و حصيلته «الدلالة الفالوسية» هما الدالان الرئيسيان في هذه الدوال. بالنسبة للذات، إن فعل الاستعارة الأبويّة هو عملية استبدال دلالي يتم فيها استبدال دال رغبة الأم بدال «اسم الأب» (من خلال وضع حد لها). من جهة أخرى، فإن هذه الاستعارة تمنح الذات معنى لوجودها، وهو ما يسميه لاكان المعنى الفالوسي.

إذاً، يسبب تسجيل دال اسم الأب قبول الخصاء وكبت المعنى الفالوسي (كما في حالة العصاب) أو إنكار الخصاء (كما في حالة الشذوذ). ولكن في كلتا الحالتين، تندرج الذات في منطق الخطاب ومن ثمة في الرابط الاجتماعي. بالتالي، ينبني الرابط الاجتماعي، من الناحية السريرية، على المواقف الذاتية التي تتعلق بالعصاب والشذوذ.


النوع الثاني: مبني على إغفال دال اسم الأب. بمعنى آخر، رفض الخصاء، مما يترك فراغًا على مستوى المعنى الفالوسي. هنا، يترتب على ذلك عدم التسجيل في منطق الخطاب (أي خارج الخطاب). يحصل الذهان نتيجة انعدام فعل الاستعارة، خاصة الاستعارة الأبويّة، مما يترك الذات الذهانية خارج الرابط الاجتماعي.

إن الغاء لاسم الأب يعني أن الاستعارة الأبويّة لا تفعل فعلها في الذات، ما يعني أنه لا يتم إنتاج المعنى الفالوسي لديها. عندما تكون هذه الاستعارة غائبة وعندما تنكسر السلسلة الدلالية، يظهر في المقابل، ليس في المجال الرمزي بل في الواقعي، الهلاوس التي هي بمثابة دال أو دوال تفرض نفسه على الذات. وهكذا يظهر الدال في الواقعي عندما تنكسر السلسلة الدلالية.

إن التجربة الغامضة للذات الذهانية تتركز بالكامل على حقيقة أنه عندما يظهر دال وحيد في الواقعي، وعندما يظهر غير متصل بسلسلة الدوال الأخرى، فإنه ينتج على مستوى المعنى فراغًا غامضًا. هذا الفراغ الغامض يتحول لدى الذات الذهانية إلى يقين معنوي تصبح الذات من خلاله هي الكائن المُسمى والمُعين بواسطة الهلوسة.


المراجع:



DELRIEU Alain, Lévi-Strauss lecteur de Freud ; le Droit, l’Inceste,

  le Père et l’Échange des Femmes, Point Hors Ligne, 1993.

LACAN Jacques, (1953), « Fonction et champ de la parole et 

du langage en psychanalyse », dans Ecrits, Paris, Seuil, 1966.

LACAN Jacques, (1953-1954), Le séminaire, Livre I, Les écrits

techniques de Freud, Paris, Seuil.

LACAN Jacques, Le séminaire, Livre XII, L’envers de la 

psychanalyse, Paris, Seuil.

LACAN Jacques, (1955-1956), Le séminaire, Livre III, Les

psychoses, Paris, Seuil.

SAFOUAN Moustapha, Dix conférences de psychanalyse, Paris,

Fayard, 2001.

SAFOUAN Moustapha, La parole ou la mort ; comment une

société humaine est-elle possible ?, Paris, Seuil, 1993.