بيتي ميلان - رحلة مع لاكان في التحليل ١/٤


بيتي ميلان 

رحلة مع جاك لاكان في التحليل

(من جبل لبنان إلى البرازيل)



ترجمة: عبد الهادي الفقير




I

 توطئة  


قمت بتحليلي الشخصي مع لاكان خلال السبعينيات من القرن الماضي. في تلك الفترة، طلب مني أحد الناشر ين الفرنسيين أن أكتب حول هذا الموضوع لكنني لم استسغ الفكرة لكونها أخافتني آنذاك. لم أكن بعدًُ على قدر كافي من الحياد لأن تحويلي على شخص لاكان كان لا يزال قويا. لهذا السبب وبدلا عن ذلك فضلت تأليف قصة مستوحاة من خبرتي الشخصية للتحليل النفسي كي أستعيد فيها ذكرايات ما حدث أثناء هذا التحليل. فبعد أربعين سنة خلت، راودتني الرغبة في الرجوع إلى ما حصل خلال هذا التحليل الذي جعلني، من بين أمور أخرى، أغتنم الفرص السانحة. 

لكن إن لم يحصل أن خلصني عملي التحليلي هذا مع لاكان من القلق القاتل فإنه مع ذلك غير مجرى حياتي. فنظرا لاهتمامه البالغ بتحليلي وأيضا بفضل طريقته الخاصة في التحليل ، لقد سمح لي بتقبل أصولي وأنوثتي وكذلك رغبتي في الأمومة. لقد كانت له طريقة متميزة في التحليل لشد ما أثارت الجدال ومازالت تثيره حتى أيامنا هذه. لذا، أغتنم فرصة تجربتي التحليلية معه كي أركز الانتباه على هذه النقطة بالذات. وبهذا الخصوص سأبتدأ باستذكار مثال من الأهمية بمكان في هذا الصدد: ففي أحد لقاءات بعض المثقفين المنعقدة مؤخرا، قام أحدهم بالتعبير عن استيائه البالغ بخصوص ما حصل  لإحدى معارفه خلال جلسة تحليلية مع لاكان في الستينيات من القرن الماضي.  لقد قام هذا الشخص، وهو على أريكة التحليل، بالانتقال مباشرة من كلامه باللغة الفرنسية إلى البرتغالية من دون أن ينبس لاكان ببت شفة ولم يتدخل. لقد ترك المتحلل هكذا يتحدث باللغة البرتغالية رغم أن لاكان لا يفهم منها شيئا. وبعد لحظة أوقف هذا الـزخير الجلسة وقام بتوديع المتحلل. يبدو هكذا أن أهم شيء بالنسبة للكان في تلك اللحظة ليس هو مضمون خطاب المتحلل وما يتضمنه من مدلولات وإنما انتقال هذا الأخير من لغة إلى أخرى.

إن من يعلم قيمة اللغة لدى لاكان، وهو الذي كثيرا ما كان يتحدث عن كنز اللغة، لن يضيره تصرفه هذا. فما الفائدة من تلك الجلسة إذا؟ المقصود من صمت لاكان مع إيقافه المفاجئ للجلسة هو إبراز رغبة المتحلل في الحديث بلغته الأم. وهكذا فهو يعطي لفكرته القائلة بأن "الرغبة هي رغبة في الاعتراف بالذات" معنى مباشرا وفي نفس الوقت  يؤكد بفعله هذا على المقام المركزي للغة الأم.

كانت هذه القضية نفسها هي موضوع انطلاق تحليلي النفسي الذي امتد من ١٩٧٣ إلى سنة ١٩٧٧. كانت الحياة الثقافية بباريس آنذاك في حالة هيجان حول مفكرين من أمثال ميشال فوكو وميشال سير وجيل دولوز وجاك ديريدا…. حينها كان جاك لاكان يقيم سيميناره بالمدرج الكبير بكلية الحقوق في ساحة بونتيون. كانت الصفوف الأولى مخصصة للمقربين من لاكان ومن أتباعه. أما هو فلا يدخل قاعة المدرج إلا وقد ملأ الحضور كل جوانبه. 

في فصل الشتاء عادة ما كان يرتدي معطفا من جلد البقر الأسود تتلاعب فوقه أشعة الإنارة التي كانت أيضا تنعكس على شعره الأبيض الذي كان يعتني به عناية خاصة. كان دخول لاكان بمثابة ظهور مهيب. يسود أثناءه الصمت تدريجيًا، إذ كان المعلم يستعد للكلام، وكانت كل كلمة منه تُلتَهم بشغف، حتى عندما كان خطابه يبدو مفتقرًا إلى الوضوح. لم يكن لاكان ليهتم كثيرًا بأن يكون مفهومًا فورًا. كان يركز على مفهوم الـ «nachträglich»، وهو مفهوم فرويدي يُترجم إلى الفرنسية بـ «الأثر الرجعي». يشير هذا المفهوم إلى أن بعض الأحداث لا يمكن فهمها إلا بعد وقوعها، وكانت ممارسة لاكان تعتمد على هذه الفكرة في سيميناراته كما في عمله العيادي.

كانت السيمينارات موجهة إلى المحللين النفسيين والمثقفين المهتمين بالنظرية التحليلية، أولئك الذين يمكنهم الانتظار لفهم الأمور. لهذا السبب، اتهم لاكان خطأً بنزعاته النخبوية. لكن، كيف يمكن لمعلم تتطلب ممارسته أقصى درجات الصبر أن يخضع في تعليمه لمتطلبات التواصل الفوري؟

كان لاكان يُعلّم بأسلوبه الخاص، المختلف عن الأساليب التي يوصي بها الأساتذة وخبراء التواصل، حيث يكون النقل لديهم واضحًا باعتباره تعبيرًا عن معرفة جاهزة ومحددة مسبقًا. أما بالنسبة للاكان، فإن اللا-معرفة هي بنفس قيمة المعرفة، ولهذا كان يشارك الحضور في بحثه عن الطريق لفهم ما يقصد. وهذا ما فعله في جميع سيميناراته من عام 1953 إلى عام 1980. وكما يقول أنطونيو ماتشادو: «يتكوّن الطريق بالمشي، وعندما تنظر إلى الوراء، ترى المسار الذي لا ينبغي أن تسلكه مرة أخرى. أيها المسافر، لا يوجد طريق، لا شيء سوى الأثر الذي يتركه المرء على مياه البحر».

لقد كان مفهوم «الأثر الرجعي» أيضًا أساسًا لممارسة الدكتور، إذ كان يوقف جلسة التحليل دون أي تفسير، معتمدًا على قدرة المُحلَّل بنفسه على اكتشاف سبب هذا التوقيف. فهو كان يشجع الآخر على تحليل ذاته بنفسه:«اذهب واكتشف بنفسك ما حدث، ثم عد وأخبرني بما وجدت. اذهب وفك رموز قصتك الشخصية». ومن هنا جاء استبدال كلمة «المريض» بـ «المُتحلِّل». فموقف المريض هو موقف من ينتظر، أما موقف المُتحلِّل فهو موقف من ينخرط في عملية التحليل.

في هذا السياق، تعتمد العملية العلاجية على المُحلِّل والمُتحلِّل معًا، ولا تكتمل الجلسة بدون المرحلة التي تليها. بالنسبة لي، كان تنقلي بين 5 زنقة ليل وشارع دي لا هارب، أو كما ورد في زلتي اللسانية: «بين حي لاكان والحي اللاتيني»، جزءًا أساسيًا من تجربتي التحليلية. كنت أُعيد التفكير فيما قيل خلال الجلسة أثناء الطريق، وغالبًا ما أتوصل إلى اكتشاف يؤكد لي أهمية العمل التحليلي. هذا الإحساس بـ «القدرة على الاكتشاف» كان يعزز تقديري لذاتي ويجعلني أتشوق إلى جلسة جديدة بشكل طبيعي.

كان لاكان يحافظ على استمرارية التحويل عبر عملية ايقافه الخاصة للجلسات، فهو يعتبرها وسيلة فعالة لنقل قدرة التحليل، أي سلطته الخاصة، إلى المُتحلِّل. بعبارة أخرى، كان يدعو المُتحلل إلى الانخراط في معرفة ذاته بذاته. وكان قطع الجلسات من لدنه تُجنب مقاومة التحليل التي قد تنشأ عن تفسير خطاب المُتحلِّل. ولأن الجلسة كانت تُختتم هكذا بناءً على توقيت الخطاب وليس اعتمادا على توقيت الساعة ، لم يصبح مضطرا للالتزام بمدة الأربعة وخمسين دقيقة لكل جلسة كما حددتها الجمعية الدولية للتحليل النفسي.

بالنسبة للاكان، بمجرد أن يتم التعبير عما قد يعتبر مهما، تنتهي الجلسة، ويكون المُحلِّل قد أكمل دوره. ولهذا السبب الرئيسي، في عام 1953، قامت إلا أن الجمعية الدولية للتحليل النفسي التي كان ينتمي إليها آنذاك لم تكن راضية على تصرفه هكذا فقامت بإقصائه عن صفوفها معتبرة ممارسته على هذا النحو  منحرفة عن المسار المألوف لديها.

ولتبرير طريقته الخاصة في توقيف الجلسات، قام لاكان في نفس العام  بكتابة مقالته  الشهيرة، «وظيفة وحقل الكلام واللغة في التحليل النفسي». كان أحد المتحللين معه يتحدث باستمرار  وبإسهاب عن فن دوستويفسكي، مضيعًا وقت الجلسات في تعليقات لا نهاية لها. وفي جلسة لاحقة تعمد لاكان توقيفه في مستهل حديثه، مانعا إياه من إكمال شروحاته. وخلال الجلسة التالية، ظهر لدى المتحلل هوام حول حمل شرجي ينتهي بعملية قيصرية. وهكذا كان قطع لاكان للجلسة بطريقة تخرج عن السيل العادي للزمن، تأثير في تعليق خطاب المتحلل الزائف وإفساح المجال لكلام مليئ بالدلالة.

كان لاكان يسعى إلى أن يتم مجرى التحليل النفسي دون تضييع الوقت في حلقات مفرغة. كان يستهجن الهدر، ولهذا رفض العمل وفق الزمن الكرونولوجي الذي عادة ما يتخذه المتحلل وكذلك المحل كذريعة لتفادي ما هو  غير متوقع ويخرج عن سطوتهما. وهكذا لم يكن الزمن الخطي الخاص بـ «كرونوس» هو الذي يوجه لاكان في عمله العيادي، بل زمن «كيروس»، زمن اللحظة العابرة التي قد تقدم فرصة يجب اغتنامها.

من خلال اتباعه درب «كيروس»، أحدث لاكان انقلابًا في التحليل النفسي وأعاد له حدته التي حظي بها مع فرويد في بداياته. فليست أهمية المُحلِّل في التزامه بالمواعيد، بل في استجابته الفورية لما يتجلى في خطاب المتحلل. بعبارة أخرى، ليس كافيًا أن يكون المحلل قد تلقى تدريبًا معينا أو أصبح معترفًا به من قبل أقرانه؛ بل عليه أن يثبت مهارته في كل جلسة من جلسات التحليل.

لقد أحدث نهج لاكان تحول جذريًا في ممارسة التحليل لدرجة أدت بالجمعية الدولية للتحليل النفسي إلى تشديد الرقابة على الدريب العملي الذي كان يشرف عليه ثم بعد ذلك تم إقصائه من مصاف المكونين بها. ولقد شبه لاكان وضعيته تلك بوضعية سبينوزا الذي تعرض للتكفير من طرف الكنيسة  في القرن السابع عشر.


في عام 1981، عندما توفي لاكان، اخترت اقتباسًا من سان جون بيرس كنص افتتاحي في مرثيتي التي كتبتها لجريدة برازيلية: «لقد نادوني بالمظلم، بينما كنت أسكن النور». أي والله، لقد أنار لاكان طريقي، مما سمح لواحدة من أحفاد المهاجرين اللبنانيين، التي كانت ضحية كراهية الأجانب سواء من الآخرين أو من نفسها، بأن تتقبل ذاتها أخيرًا.

لا أتذكر على الإطلاق ما حدث أثناء التحليل، لكن ما كان حاسمًا لم أنسَه أبدًا. لا زلت أحتفظ بذاكرة تكاد تكون فوتوغرافية عن بعض الأحداث، مثل صورة الدكتور وهو يقف عند مدخل قاعة الانتظار. كان نظره يتنقل بين الجالسين. بعد تردد خاطف يشير بيده إلى من أتى دوره قبل أن يدير ظهره ويدخل إلى مكتبه.

كثير من المتحللين يتحدثون عن تأثير الجلسة دون التفكير مليًا في هذا التأثير، إما لأن التحويل نحو لاكان لم ينتهِ بعد، أو لأن الانتقال من وضعية المتحلل الذي يكتفي بالتداعي الحر ويترك للمحلِّل مسؤولية التأويل، إلى وضعية من يأول بنفسه، هو انتقال صعب. هذا الانتقال يتطلب مواجهة الحقائق، وهي مواجهة غلبا ما لا يكون لدى المتحلل رغبة في خوضها. ما زلت أتذكر تلك الجلسة التي، كي يخرجنا من صمتي المطبق، وجد لاكان نفسه ملزما أن يطمئنني بأن ما سأقوله خلال الجلسة يبقى مكتوما بين جدران مكتبه. 

إذا كان المحلِّل لا يستطيع إفشاء ما يسمعه في الجلسة، وإلا فسيعتبر خائنًا، فإن للمتحلل الحرية في الشهادة. لكن غالبًا ما يتجنب المتحللون السابقون الذين أصبحوا محلِّلين لاحقا الإدلاء بشهادتهم، خشية أن يفقدوا هالة الغموض التي يعتقدون أنها ضرورية لممارسة سلطتهم الرمزية.

ومع ذلك، تبقى الشهادة أمرًا بالغ الأهمية لنقل هذه الممارسة التي تستمر على الرغم من جميع معارضي التحليل النفسي والصراعات المستمرة بين المحلِّلين. عملتُ مع لاكان بشكل منتظم بين عامي 1973 و1977. أما فيما يتعلق بي شخصيا، أتساءل كيف تمكن لاكان من جعل تحليلٍ كان على حافة المستحيل أن يصبح أمرا ممكنا، بل واقعًا. أقول هذا لأنني حينها لم أكن أُجيد الفرنسية بطلاقة، وفي العمق، لم أكن أرغب فعلاً في الالتزام بتحليل نفسي، كما هو الحال لدى غابية الناس.

لو لم مضطرة لمغادرة الجمعية البرازيلية للتحليل النفسي بسبب خلاف مع أعضاء كنت من بينهم واعتُبروا غير مرغوب فيهم، فمن المحتمل أنني ما كنت سأذهب إلى فرنسا أبدًا. كانت رغبتي العميقة هي أن أحظى بالاعتراف كمحلِّلة نفسانية في الخارج حتى أتمكن من ممارسة المهنة لاحقًا في البرازيل. عندما كنت في الثامنة عشرة، أثناء دخولي كلية الطب بجامعة ساو باولو، كان التحليل النفسي يثير اهتمامي فكنتُ أختبئ في مكتبة الجامعة كلما سنحت لي الفرصة لأقرأ فرويد.

لقد كنتُ في تماهي كبير مع لاكان لأنه تحدى الجمعية الدولية للتحليل النفسي، لكن كون الدكتور كان فرنسياً لعب دوراً كبيراً أيضاً في توجهي نحو التحليل، لسبب غير واعٍ سأعود إليه بالتفصيل لاحقاً، وأيضاً بسبب الإعجاب الذي كان يكنه المثقفون البرازيليون في ذلك الوقت لنظرائهم من بلد ديكارت.

كان لهذا الإعجاب بفرنسا في البرازيل جذور عميقة. من ذلك، قصة الرحلة التي قام بها جان دي ليري إلى أراضي البرازيل وتجربته مع الهنود، وهناك أيضا الفصل الشهير من محاولات مونتين عن «آكلي لحوم البشر» الذي استوحاه من لقائه في روان مع ثلاثة من قبيلة التوبينامبا. كذلك، تأثير عصر التنوير على المتآمرين في حركة الإينكونفيدينسيا في ميناس جيرايس، وأيضا البعثة الفرنسية التي أرسلها لويس الثامن عشر إلى البرازيل، والتي وثّقها الرسام جان باتيست ديبريه في شهادات لا تُنسى.

إضافة إلى ذلك، هنالك تعاليم كلود ليفي-ستروس وفرناند بروديل في جامعة ساو باولو، والزيارة التي استمرت ستة أيام لميشيل فوكو إلى ريو وساو باولو. كل هذه الأحداث الأدبية أو الثقافية ألقت الضوء على علاقتي بتلك الأرض البعيدة الساحرة.

سمعتُ عن لاكان لأول مرة في ساو باولو عام 1968، خلال اجتماع للبعض المثقفين، كان من بينهم محلل نفساني فرنسي رفض مناقشة أحداث مايو، واكتفى بالحديث عن لاكان. بالنسبة له، الحدث الأهم لم يحصل في المظاهرات الباريسية، وإنما في الشقة رقم 5 بزنقة ليل. خرجتُ من ذلك الاجتماع بنفس القناعة، مصممة على استكشاف العلاقة بين التحليل النفسي واللغويات، وطبيعة هذه «الذات الدالية»، التي تحتل أهمية كبرى في النظرية اللاكانية.

مع بعض الزملاء، شكلنا مجموعة لتحليل كتاباته، وهو هدف لم نحققه إلا بصعوبة كبيرة. كنا نظن أن المشكلة تكمن في اللغة الفرنسية، بينما كانت تكمن في لغة لاكان نفسها. بهذا الخصوص، يمكن مقارنته بجيمس جويس، الذي، لعدم تمكنه من الكتابة باللغة الغيلية، وهي لغة لا يتحدث بها إلا قلة، اخترع في اللغة الإنجليزية أسلوبه الخاص، تلك اللغة التي تُستعاد كل عام في يوم «بلومز داي»، يوم 16 يونيو، حين يحتفل أهل دبلن برواية يوليسيس عبر استحضار مشاهد من حياة ليوبولد بلوم، بطل الرواية الرئيسي، في الشوارع والمسارح والحانات.

وكمثل جويس، اخترع لاكان لغته الخاصة وقدم مفهوماً جديداً، «اللغو» «lalangue» في إشارة إلى اللغة الفردية لكل شخص، وهي خصوصية يدركها في العادة الكاتب وحده. كان لاكان، بطريقته الخاصة، شاعراً. وأصبح الرابط الذي رآه بين التحليل النفسي والشعر واضحاً عندما قال في أحد ندواته عام 1977 إنه ليس شاعراً بما في الكفاية حتى يصبح محللاً عظيماً.

بعد إنهاء تدريبي في الطب النفسي بالبرازيل، حصلتُ من خلال زميل على عنوان لاكان في باريس. في ذلك الوقت، كان أبرز التطورات في مجال عملي هي تحويل مستشفى الأمراض النفسية إلى اتلاف علاجي، حيث قابلتُ في ساو باولو مبتكر هذا المفهوم، ماكسويل جونز. تبادلنا بعض الرسائل، ورتبتُ زيارة للإتلاف الذي أنشأه في ميلروز، بإسكتلندا. وكان لدي أيضًا مشروع السفر إلى فرنسا وربما مقابلة لاكان. أقول «ربما» لأنني لم أكن قد حددت موعدًا، وكان من غير المرجح أن شخصية بمثل تلك الشهرة تستقبلني دون ترتيب مسبق.

من ميلروز، توجهتُ إلى باريس حيث أقمتُ في فندق بشارع المدارس. حاولتُ الاتصال عدة مرات بالرقم الذي حصلتُ عليه، لكنني كنت أتلقى الرد نفسه دائمًا: «لا يوجد دكتور هنا». اقترح رفيقي، وهو طبيب نفسي أيضًا، أن نذهب مباشرة إلى العنوان 5 زنقة ليل. عند باب المبنى، لم تكن هناك أي لوحة تشير إلى وجود عيادة. اضطررنا للانتظار حتى يخرج شخص ما ليساعدنا في العثور على المكان.


آنذاك بدت امرأة غارقة في أفكارها، ربما أنهت لتوها جلسة تحليل نفسي.

«عذرًا، هل يمكنك إرشادي إلى طابق مكتب الدكتور لاكان؟»

نظرت إليّ بتعجب: «ماذا؟ لم أفهم.»

قلت: «لاكان، مكتب الدكتور، أي طابق؟»

ردت بإشارة مقتضبة: «الطابق الأول.» ثم استدارت وتابعت طريقها دون كلمة إضافية.

صعدنا إلى الطابق الأول، وبتردد، قرعتُ الجرس. فتحت لنا سكرتيرة الدكتور، غلوريا الأبدية، وقالت بابتسامة خفيفة وبلكنة أجنبية واضحة: «مرحبًا.»

قلتُ لها: «لم نستطع تحديد موعد قبل قدومنا.»

سألتْ: «كيف ذلك؟»

قلتُ: « الذي حصلتُ عليه في البرازيل يبدو خاطئًا.»

رفعت حاجبيها بدهشة وقالت: «من البرازيل؟»

فتحتْ عينيها على وسعهما، وابتسمت قليلاً دون أن تطرح أي أسئلة إضافية، ثم قادتنا إلى غرفة الانتظار.

ظهر لاكان عند الباب، وبإشارة ترحيب بسيطة، أومأ لنا بالدخول.


على الرغم من الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، والاعتقالات، والتعذيب، لم أفكر قط في إجراء تحليل نفسي في الخارج. مثل بقية البرازيليين، كنتُ شديدة التعلق ببلدي. لم أتواصل مع لاكان إلا بهدف طلب توصية منه بمحلل نفسي يمكنه العمل مع مجموعتنا في ساو باولو، وتنظيم ندوة محلية، وتعليم نظريته. كان هذا الطلب نموذجيًا لشخص ينتمي إلى مدينة لم يظهر فيها شيء مستحيلًا يومًا، بما في ذلك جلب البحر، كما تخيّل ذلك أهل ساو باولو في ذروة مجدهم.


قبل تقديم طلبي، شرحتُ أننا لم نحصل على موعد معه لأننا لم نكن نملك رقم الهاتف الصحيح. فقال لي: في هذه الحالة، لماذا لم تأتوا مباشرة إلى هنا؟ أربكني سؤاله هذا إذ كيف يمكننا أن ندخل مكتبه دون إذن مسبق؟ منذ البداية، أوحى لي الدكتور بأنه كان بإمكاني، ولمَ لا، التصرف بناءً على دافعي الخاص. كان يقدّر الرغبة، لا التخيلات التي تحملها الشابة الأجنبية، تلك التي كانت ترى نفسها بلا قيمة تقريبًا.

بجملة واحدة وبابتسامة واحدة، وجدتُني قد أُسرت تمامًا.

في الأثناء، أراد أن يعرف من أين أتينا. 

- من ساو باولو 

- من البرازيل، قال لاكان بحماس، مع كثير من الافتعال كما اعتدت أراه يفعل فيما بعد. أما التركيز على أصلنا فقد كشف لي اهتمام الدكتور. كنت أنا من أجاب أما رفيقي فبقي صامتًا. 

  • هل أجدادك أيضًا برازيليون؟
  • أجدادي من جهة أمي وأبي لبنانيون، مهاجرون.  
  • مثير للاهتمام، متى أتوا إلى البرازيل؟ 
  • في أواخر القرن التاسع عشر هربًا من الحرب، ثم في أوائل القرن العشرين.
  • وأنتِ، سيدتي، ماهو عملك؟ 
  • أنا طبيبة نفسية. قمت بتحليل نفسي والآن أتابع دراسة «لاكان».

- أحقا هذا؟ 

  • لدينا في ساو باولو مجموعة بدأت بقراءة كتاباتك. ورغم صعوبة اللغة، تمكنا من إنهاء النص الأول، «الرسالة المسروقة». نرغب الآن في دعوة محلل فرنسي توصينا به. معي رسالة من زملائي إليك. 

سلمته الرسالة. وضعها على مكتبه بعد أن ألقى عليها نظرة سريعة. 

- جيد جدًا، عودي غدًا واخبريني بشروط هذه الدعوة.

ثم نهض ورافقنا إلى الباب. عند خروجي من مكتبه، انقلبت رأسا على عقب. من خلال دفعه لي للتحدث عن أصولي، أعادني لاكان إلى ما أخفاه أجدادي من ماضيهم. بالنسبة لهم، كان اندماج الأحفاد في بلاد الهجرة يتطلب نسيان الماضي. في حين جعلني اهتمام الدكتور أتحمل ما كنت أحاول إخفاءه منذ المراهقة، أي كل ما يتعلق بحقيقة أصولي. باهتمامه هذا، منحني الإذن بأن أكون حفيدة مهاجرين. بمعنى آخر، خرجت من عند لاكان وأنا أحمل معي خجلًا من ذاتي. لم تبق لدي سوى رغبة واحدة: العودة إلى رقم 5 زنقة ليل، وهو الأمر الذي لم يغفله الدكتور الذي لا يتوقف أبدًا عن الرغبة في الشروع في عمل جديد.

لهذا ليس من قبيل الصدفة أن يلح لاكان كثيرًا في كتاباته على أهمية رغبة المحلل في فعالية التحليل وفي الوقت نفسه على فكرة أخرى، وهي مقاومة المحلل، في زمن كان الحديث فيه مقتصرًا على مقاومة المريض التي عادة ما تُعزى لها كل معوقات العملية التحليلية. 

عدتُ في اليوم التالي برفقة رفيقي الذي، في الحقيقة، كان بمثابة درع لي. وكما لا يصطحب أحد شخصًا معه لمقابلة محلله، فإن وجوده أكد أن حضوري كان نتيجة لمبادرة زملائي في ساو باولو. ولكن هذه المرة، عند ظهوره عند الباب، كان لاكان ينظر إليّ مباشرة وقال: 

- تفضلي، سيدتي.

دخلتُ وأنا عازمة على مناقشة شروط دعوتنا:

  • المحلل الذي يقع عليه اختيارك سيتكفل بشرح أفكارك في ندوة ننظمها. إنه لن يتحمل أي نفقات، حيث سيتكفل المشاركون بذلك. 
  • حسنًا، ضعي كل هذا سوادا على بياض وعدي غدًا.

بهذا التعبير: «عودي غدًا»، كان لاكان يضعني ضمنيا في إيقاع العمل التحليلي الذي كنت أرغب سرًا في خوضه، مستندًا إلى الأمر «عودي» وإلى انتظام اللقاءات بيننا ليفتح لي طريق التحليل. الكلام والزمن، وهما دائمًا محور اهتمام لاكان، يتجليان في كتاباته، لا سيما في مقالتيه «وظيفة وحقل الكلام» وكذلك «الزمن المنطقي».

ذهبتُ للمرة الثالثة والأخيرة الى رقم 5 زنقة ليل، ولكن هذه المرة كي أعترف للدكتور برغبتي في إجراء تحليل نفسي معه. وبنظرة الى الوراء، أستطيع القول إن ما حدث هناك في عام 1971 يمثل المرحلة الأولى من تحليلي، وهي المرحلة التي تُعرف بالمرحلة التمهيدية.

بذريعة إنهاء أطروحة الدكتوراه في البرازيل، التزمتُ بالعودة إلى باريس خلال عامين والبقاء هناك لمدة أربعة أشهر. ربما كان العامان فترة طويلة، ولكن الأهم هو  وفاء العهد. ودَّعني لاكان قائلاً: 

  • أهم شيء، لا تنسي أن تكاتبيني. 

أظن أنه بقوله هذا لم يُظهر فقط رغبته في ألا يفقدني، بل منحني الحرية للعودة متى رغبتُ في ذلك. وكأنه يقول بمعنى آخر، «وقتكِ سيكون وقتي»، مما يذكرني بشاعر التروبادور الذي أطلق على سيدته اسم «سيسرين» واعتبر نفسه خادمها.

كيف كان يمكنني ألا أنخرط بكل جوارحي في هذا الاتجاه الجديد، وأنا التي أتيت من بلد ذكوري للغاية؟

لم أفهم إلا في وقت لاحق طريقة لاكان في العمل خلال المرحلة الأولى من التحليل. فلقد أخذ طلبي الصريح بعين الاعتبار ولباه تماما حيث دلنا على محلل يمكنه الذهاب إلى البرازيل، وفي نفس الوقت هيأ الظروف كي يعبر لا شعوري عن نفسه. بمعنى آخر، تعامل مع طلبي كأنه المحتوى الظاهر لحلم، يجب الكشف عن معناه من خلال تداعيات الحالم.


بالطبع، فعل ذلك لأنه أرادني أن أصبح متحللته. «لقد عبّر عن هذه الرغبة بعبارات مثل: «لماذا لم تأتِ هنا مباشرة؟»، و«عودي غدًا»، و«أهم شيء، لا تنسي أن تكاتبيني».

لقد أوضح لاكان بما لا يدع مجالًا للشك أن انخراطي في تحليل نفسي معه كان أمرًا ذا أهمية كبيرة. وهكذا تجسدَت فكرتي بعبور المحيط مرة أخرى للعمل مع لاكان. 


بدأ تحليلي النفسي الشخصي مع لاكان بثلاث جلسات قصيرة: الأولى استغرقت 20 دقيقة، أما الجلستان التاليتان فاستغرقتا أقل من 10 دقائق. مدة وجيزة للغاية لما سيمثل نقطة تحول جوهرية في حياتي، إذ لم يكن الزمن الكرونولوجي للجلسة هو ما يهم، بل الأسلوب التشغيلي الذي يعتمد على تعاطف عميق وجودة الاصغاء. لقد كانت عقارب الساعة تعني بالنسبة له أقل مما تعنيه لغة الشعر في القصيدة.


لم يكن هناك حاجة إلى أكثر من بيت شعري واحد من كامايوس لتعريف طبيعة الشعور العاطفي، ذلك «الرضا الناقم»، أو الألم الذي يؤلم لكنه لا يُحَسّ. ببيت واحد فقط، نصبح فيه غبارًا، لكن غبارًا عاشقًا. أما كيفيدو فقد أظهر كيف أن الحياة غير قابلة للانفصال عن الموت. وعلى غرار هؤلاء الشعراء، اعتمد لاكان على كنز اللغة ليحقق الكثير بالقليل. على سبيل المثال، ابتكاره لمصطلح hainamoration أكره-عشقا الذي يعني به تحول الحب إلى كراهية. إنها كلمة واحدة بال٬كان أن تكون عنوانًا فرعيًا لمسرحية عطيل لشكسبير، لتوصيف الاستبدال الجذري للحب بالكراهية، حين تكون الكراهية الوجه الآخر للحب.


عدتُ ورفيقي إلى البرازيل إذن، حيث انهيت كتابة أطروحة دكتوراه في الطب النفسي حول مرض «الإكلامبسيا»، وهو مرض نادر في الدول المتقدمة، لكنه كان منتشرا للغاية في البرازيل آنذاك بسبب نقص الإمكانات في مجال الرعاية قبل الولادة. وبما أنه كان يستحيل معالجة هذه الحالات أو تفاديها، لم يبق بيد الأطباء سوى كتابة أطروحات حول الوقاية من الموت في حالات الإكلامبسيا، وهو لبس كان يثير اشمئزازي.


في الواقع، لم أكن أرغب في مسيرة مهنية كطبيبة، بل كمحللة نفسية. كنت قد درست الطب استجابة لرغبات والدي، الذي كان هو نفسه طبيبًا ولم يرَ طريقًا آخر لحياتي. مثل كثير من الرجال في جيله، كان يرغب أن أمارس مهنة حرة، باعتبارها الخيار الوحيد المناسب في ذلك الوقت لامرأة برازيلية من عائلة جيدة. وهكذا سلكتُ هذا الطريق.

خلال طفولتي ومراهقتي، علّمني والدي أن أهتم بجسدي وأشارك في المسابقات الرياضية، بينما أكرّس نفسي للدراسة. توفي وهو في الثامنة والأربعين، عندما كنت في السنة الثالثة في كلية الطب، ولم يرحل قبل أن يعلّمني كيفية العناية بمريض في حالة حرجة. أكثر من مرة، قمت بإعطائه الحقنة اللازمة، وفي النهاية كنت أنا من وصف له المورفين.


كان عليّ أن أتحمل موت والدي وهو لا يزال شابًا، تاركًا لي المسؤولية الأخلاقية عن العائلة. كنت طالبة في كلية الطب، وأيضًا الابنة الكبرى. هذا النضج المبكر منحني الجرأة للقيام بخطوات عديدة، منها الانخراط في عام 1969 في الحركات المناهضة للديكتاتورية العسكرية، ثم مغادرة البرازيل بعد أربع سنوات لبدء تكويني مع لاكان، وهو ما كان يعني الانفصال عن رفيق حياتي آنذاك. كان يعمل في مكان آخر، وكنت ألتقي به في مدينة لا أعرف ثقافتها، ولا أتحدث لغتها.


كان خياري إعطاء الأولوية للتكوين التحليلي دون أن أتخيل أن ذلك سيكلفني زواجي. لم يكن رفيقي من النوع الذي يمكنه الانتظار أو القول موعدكِ سيكون موعدي. اختار الجنس بدلاً من الحب، دون ارتباط حقيقي بي. لم يكن قادرًا على الرهان على حريتي. كان ذكوريًا دون أن يدرك ذلك، وأنا لم أدرك ذلك أيضًا.


الحب يحدث بين المتشابهين، أما الذكورية فتعارضه، لأنها لا تسمح بالرغبة الأنثوية. كما يقول كايتانو فيلوسو في أغنيته: «هو من يريد، هو الرجل، وأنا لست سوى امرأة». كلمات أخرى لتشيكو بواركي تصف بوضوح كيف يجب على المرأة أن تتصرف: «في حضورك أصمت، في النهار أنا زهرة، وفي الليل حصانك، بيرته مقدسة، وإرادته هي الأكثر عدلاً».


الثقافة الذكورية متجذرة في البرازيل، بلد لم يتوقف أبدًا عن احتلال مكانة متقدمة في معدلات الاغتصاب وجرائم قتل النساء. النساء والأطفال هم الضحايا الأوائل لهذه الثقافة، لكن الرجال يعانون أيضًا. فهم يطيعون بشكل لا واعٍ الأمر الشيطاني للانتقام ويصبحون مجرمين.

قبل رحلتي الى باريس، كتبتُ إلى لاكان مرتين لأخبره برغبتي في القدوم إلى فرنسا. حددتُ تاريخ السفر بعد استلامي لبرقيته: 

- موافق، سيدتي العزيزة. سأقوم من الآن باتخاذ الترتيبات لاستقبالكِ وفق رغبتك. مع أصدق تحياتي، جاك لاكان. ملاحظة: أرجو أن تحددي لي تاريخ وصولكِ بدقة ما أمكنك.


عندما قرأتُ البرقية، لم أدرك فورًا التكرار الغريب في الملاحظة الختامية. أكان ذلك يُفصح عن انتظار الدكتور؟ لم يزدني الأمر إلا استعجالًا للسفر. بدأتُ تحضيراتي بمساعدة والدتي التي، لأسباب مختلفة، كانت تحمل تصورات خيالية عن باريس. كانت مسحورة بمدينة الأنوار مثل كثيرين من أبناء جيلها، لدرجة أنها كانت ترى برج إيفل في سماء البرازيل وكاتدرائية نوتردام في كاتدرائية ساو باولو، التي تضم بدورها برجين قوطيين ووردة زجاجية.


لا شك أن هذا السحر كان مرتبطًا بتأثير الموضة الفرنسية التي كنتُ آنذاك غير مبالية بها تمامًا. ففي البرازيل، كان من يعدّون أنفسهم من اليسار لا يهتمون بطريقة اللباس. كانت انشغالاتنا ذات طابع آخر. ولم أكتشف الموضة إلا في باريس.


خلال استعدادي للرحيل، ورغم الصورة المشرقة التي كونتها عن الدكتور، كنت أشعر ببعض من الصقيع الروحي، أشبه بحنين مبكر إلى المكان الذي عشتُ فيه طوال حياتي، حيث لم يكن هناك ما هو غريب عني.