أخلاقيات التحليل النفسي - مقالة

 أخلاقيات التحليل النفسي




عبد الهادي الفقير


I- بين الأخلاق والأخلاقيات (الإتيقا):

بعض التحديدات


- الأخلاق هي مجموعة من المبادئ والقواعد التي تهدف إلى توجيه سلوكياتنا وقيادة تصرفاتنا نحو الخير لتجنب الشر. وهي تعتمد على التقاليد والمعتقدات المشتركة ويتم نقلها عبر التربية والتعليم. الأخلاق، التي هي بطبيعتها مشتركة، تفرض النموذج أو النماذج السلوكية التي يجب اتباعها عند التمييز بين الخير والشر. هذا التمييز يستند إلى قناعات كونية يتم تشكيلها ونقلها  ثقافيًا عبر الأجيال. وبالتالي، فإن الأخلاق استنتاجية لأنها تنطلق من مبادئ متعالية، لتعزيز الخير وتجنب الشر.

الأخلاقيات (الإتيقا) ليست متطابقة مع الأخلاق تماما بحيث تقوم في بحض الأحيان بمساءلتها  وربما بتحديها. الإتيقا تتعلق بتفعيل العقل أساسا، وبالتفكير والتمييز الذي يهدف التوصل إلى توافق. فإذا كانت الأخلاق مرتبطة أساسًا بالموروث الفكري وبالتقاليد، كما رأينا، فإن الإتيقا تتعلق أكثر بتنظيم السياسة في المدينة. على سبيل المثال، في كتابه «الأخلاق  في نيكوماخوس»، يعرف أرسطو السياسة بأنها «علم الخير الأسمى». وبالتالي، تتعامل الإتيقا مع علاقة الخير والشر بناءً على اعتبارات ومعايير تتعلق بإدارة المدينة. ولكن هذه المعايير والاعتبارات يتم تأسيسها في هذا الإطار على مبادئ عقلانية يتم مناقشتها وإعدادها جماعيًا لإيجاد أفضل حل لمشكلة معينة قد تكون معقدة أو غير مسبوقة. على سبيل المثال، قضية الموت الرحيم للأشخاص المصابين بأمراض مستعصية؛ قضية استنساخ الحيوانات أو البشر؛ قضايا التخصيب الصناعي، التلقيح الصناعي، الأمهات البديلات؛ التبني من قبل آباء من نفس الجنس… إلخ. هكذا يبدو أن الإجراء الإتيقي استقرائي لأنه يبدأ من التفكير في مشكلة معينة، يصبح من الضروري إيجاد حل لها، يضمن استمرار العيش المشترك.

 فإذا كانت الأخلاق استنتاجية في طريقة توليدها للمبادئ العامة للسلوك، لأنها تعتمد على التقاليد الدينية والثقافية المتوارثة، فإنه من الممكن أن تصبح أيضًا موضوعًا لنقاشات وإعادة تكييف تفرضها تحولات المجتمع وتقلباته الثقافية. بمعنى آخر، الأخلاق معنية أيضًا، وإن كان ذلك بشكل ثانوي، بالتفكير العقلاني حول هذه أو تلك من القضايا التي تخص «العيش المشترك» ويمكن أن تكون موضوعًا للنقاش.

بعد هذه الاعتبارات العامة حول الأخلاق والإتيقا، يجب أولاً ملاحظة أن عصرنا الحديث يشهد اهتمامًا متزايدًا بهذا البعد. ربما بسبب تآكل الأخلاق التقليدية وحتى المعاصرة. بل إننا نبصر في الوقت الراهن تضخما في الخطابات حول الإتيقا في جميع المجالات. نسمع في كل مكان حديثا عن الإتيقا ولجان الإتيقا. فيتم الحديث عن إتيقا علوم الأحياء، وإتيقا الطب، وإتيقا الأعمال، وإتيقا الممارسة المهنية… إلخ.

- أما مايسمى الإتيقا المهنية فإنها تقوم على كل من البُعد الأخلاقي بحيث لا يمكن تجاهل المبادئ المتعالية والعامة ، وعلى البُعد الإتيقي الذي يتطلب، بخصوص معضلة معينة، مناقشة واتخاذ القرار المناسب. وبالتالي، تصبح إتيقا المهنة بمثابة مدونة سلوك لمهنة معينة عندما يتم صياغة المبادئ والقواعد والتوصيات التي تدافع عنها ثم إصدارها كخطوط توجيهية من قبل الهيئات المهنية.

بالعودة إلي الإتيقا وانتشار لجانها، يمكن ملاحظة أنه في كل مرة نواجه فيها مشكلة محرجة، ومع تزايدها في العالم المعاصر، يتم تشكيل لجنة للتفكير ووضع توصيات حول السلوك الواجب اتخاذه. والأكثر من ذلك، أصبح من الضروري  إنشاء لجان إتيقا في المؤسسات الكبرى والشركات.

بشكل عام، تقوم هذه اللجان بتقديم توصيات، بل مشاريع قوانين للمساعدة في توجيه مختلف الأعمال، خاصة في مجال الحيويات كما أسلفنا، حيث أمسى مجال الإنسان حيث تلاشت حدوده فأصبح من الضروري تحديدها وإعادة تأطيرها.

وقد يؤدي التضخم في تكاثر هذه اللجان، إلى تحوير مسألة الإتيقا، حيث يتم إعادة توليدها في شكل أخلاق شكلية أو أسوأ من ذلك، في شكل عرائض معدة مسبقا لتوصيات عامة، فارغة المحتوى والمعنى والفعالية. فتصبح توصيات توهم مُروّجيها وحتى مستقبليها بأن الأمر قد حسم سبقا وأن الإشكال بات من الماضي  وبالتالي تخلق لديهم نوعًا من التخلي الجماعي عن ضرورة مساءلة مسؤولية كل فرد على حده. وهي المسؤولية الأساس التي من شأنها أن تحافظ بالفعل على يقظة السؤال حول مدى صحة قرارات كل فرد ونجاعة أفعاله الشخصية.

فمن خلال تكاثر هاته اللجان، قد يتم إيهام كل شخص على حدة وإقناعه بأن التساؤلات الأخلاقية يمكن أن تُحل من خلال توصيات اللجان، وفي النهاية نصل إلى التخلص من المسؤولية الفردية في الأفعال ونتائجها.

وهكذا قد تدفع بسهولة فردا ما  أو مهنيا يكون بصدد اتخاذ قرار معين في موقف معين، إلى التنصل من مسؤوليته الشخصية، والقائها على عاتق الآخر ، محتميا بتبريرات عامه تم تسطيرها وفي نص كتابي لا يتوخى إلا التوافق العام.

بعد هذه الاعتبارات التحديدية  الموجزة، سنرى، من خلال التحليل النفسي وانطلاقا منه، أن مسألة الإتيقا تطرح نفسها بالفعل في العديد من اللحظات التي تتطلب القيام باختيارات واتخاذ قرارات. هذه الاختيارات والقرارات السريرية لا تقتصر فقط على استدعاء معرفتنا ومهاراتنا، بل، والأهم من ذلك، تُلزم رغبتنا الخاصة ومسؤوليتنا الذاتية. إنها اختيارات وقرارات يتحتم علينا تحمل عواقبها شخصيًا، نظرًا لما لها من تأثير مباشر على الفعل التحليلي  وعلى النتائج المتوقعة والمتحصلة.

يفتتح لاكان الدرس الرابع من سيميناره «السينتوم» بقوله: « يكون المرء مسؤولًا بقدر مهارته. وما هي المهارة؟ إنها الفن أو الوسيلة الفنية التي تمنح الفن الذي في حوزتنا قيمة استثنائية، لأنه لا يوجد آخر الآخر الذي بوسعه إصدار الحكم النهائي. وهذا على الأقل، ما أعلنه أنا بهذه الصيغة». (ص. 61)


II - علوم النفس ومسألة اللاوعي  


منذ ظهور الخطاب العلمي في القرن السابع عشر، وخصوصاً مع الثورة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر، بدأ العالم المغلق الذي كانت تهيمن عليه منذ القدم الكوزمولوجيات الميثولوجية والدينية، حيث كان الكون مليئًا بالآلهة ومغطى بالمغزى، في التراجع لصالح كون متكشف يتكون من ذرات مترابطة بواسطة آليات وقوانين يمكن صياغتها في معادلات رياضية.

أصبح هذا الكون الآن مفتوحًا بلا حدود، مُفرغًا من سحريته وشاعريته، يتحدث لغة لا تتعلق بالحقائق العميقة بقدر ما تتعلق بالوقائع الدقيقة، لغة لا تتوقف عن أن تكون أكثر استبعادًا للذات عموما، ومنقطعة كذلك عن ذات العالِم التي يصدر منها خطاب العلم. إن الرياضيات المستخدمة لتفسير الطبيعة، وهي التي تحل محل الافتراضات والمعتقدات الميثولوجية والدينية، تستبدل الروح الأصيلة والعتيقة بشكل مستحدث لها، شكلا يجسد ويكرس الانفصال بين اللغة والكلام، بين المعرفة  والعرفان، حقل الحقائق اللاواعية. المعرفة الحديثة، التي تتشكل من خلال التخصصات المعرفية المنفصلة والمستقلة، ترفض الحقيقة اللاواعية التي تقوم عليها. بمعنى آخر، كلما تم بناء المعرفة وفق معادلات قابلة لترييضها، كلما قلت فرصة الحقيقة الذاتية في الحصول علي حيز لاستقبالها والتعرف عليها.

تتمثل هذه الفجوة المتزايدة بين اللغة والكلام، وبين المعرفة والعرفان، حسب لاكان، «في أعمق اغتراب للذات خلال هذه الحضارة العلمية»، وهو اغتراب نتوقف عنده لما تبدأ ذات الفرد في التحدث لنا عن نفسها. ومع ذلك، من هذه الفجوة المتزايدة بين المعرفة والحقيقة الجوانية، يظل لدي الناس طلب متزايد وغير مشبع أبدا من أجل معرفة أكثر. لماذا؟ لأن الذات لا يمكنها بعد الآن أن تضع حقيقتا أو الألغاز المتعلقة برغباتها بين يدي «آخر» متسامي، كالإله أو المبادئ النهائية أو حتى المثل العليا (مثل التفوق العرقي، أو الحرية، أو الثورة…).

من جهة أخرى، بما أن كل الخطابات الموضوعية والمتخصصة التي يتم عرضها على الناس، يعترضها الفشل الذريع في إفادتهم بخصوص حقيقة رغباتهم وذواتهم الحقة. ولأنهم لا يستطيعون التعرف عليها أو توثيقها، فإن هذه الحقيقة تجد صعوبة جما بل يائسة كي تُدرج ضمن المعارف المنظمة في إطار مايسمى «العلوم الإنسانية»، بما في ذلك علم النفس. وهذه المعارف تتوزع بين اتجاهين أو محاولتين، هما: الموضوعاتية والذاتوية.

في هذا السياق، يعبر لاكان عن موقفه القاسي تجاه العلم الانسانية قائلاً: لا وجود لعلوم تخص الإنسان، لأن الانسان كموضوع هذه العلوم لا وجود له، اما ماهو موجود فهو «ذات العلم». لق أصبح معروفا موقفي الرافض دائمًا لما يسمىالعلوم الإنسانية، التي لا أرى فيها إلا دعوة للاستعباد». أما علم النفس فلقد ذهب إلى أبعد من ذلك في نظره، إذ «اكتشف الوسائل للبقاء على قيد الحياة في الخدمات التي يقدمها لطبقة التكنوقراط».

منذ نشأته، كان لعلم النفس رغبة في أن يصبح علمًا، وأخذ لذلك نموذج العلوم التجريبية. وفي هذا المجال، اتبع في حقل العيادة اتجاهين مختلفين:

- الأول هو الاتجاه الموضوعاتي، حيث يبتعد الاختصاصي النفسي «العلمي» عن أي اهتمام بالوقائع الذاتية أو الفردية التي قد تكون غير متوقعة أو لا تتناسب مع البروتوكول المعد مسبقًا في بطاريته. فيهدف هكذا إلى تجنب أي عنصر ذاتي أو غير مخطط له.

- الثاني هو الاتجاه الديناميكي لعلم النفس العيادي، الذي يمنح مساحة كبيرة للذاتية، حيث يتيح للمريض التعبير عن مخاوفه، ومشاعره، وما إلى ذلك. هذا الاتجاه يشجع على التعاطف ويعزز الحدس في التفسير. وهو النهج الذي يطلق عليه «الإنسان الكلي في سياقه» بحسب تعبير دانيال لاغاش، الذي يعتبره منهجا شاملًا وذا طابع تفهمي. ومع ذلك، يقوم هذا النمط «العلمي» من من اقتراب الإنسان، كما يقول المحلل النفسي ماري-جان صوري، على تلفيق نظري وخلط منهجي، مما يحول دون أن يتمكن من امتلاك الأسس النظرية الصارمة أو المواقف المنهجية الدقيقة التي قد تسمو به الى مستوى علم من العلوم الدقيقة.


III- المعرفة، الحقيقة والرغبة


هذا الانفصال الحديث بين المعرفة والحقيقة جعل الإنسان أكثر ارتباكًا أمام سؤاله حول كيفية تعامله مع رغبته؟ أمام هذا السؤال، قدم الأخلاقيون الحديثون إجابات متنوّعة، يمكن تلخيصها في موقفين رئيسيين يبدوان متعارضين ولكنهما يلتقيان في الجوهر:

الموقف الأول: كان يرتبط، حتى وقت قريب جدًا، بالتيار الأيديولوجي الفرويدو-ماركسي. دعت هذه الأيديولوجيا إلى إشباع الرغبة التي كانت تخلط بينها وبين الممارسات الجنسية، كما كانت تخلط بين آلية الكبت النفسي التي  وآلية القمع التي ترتكز عليها بعض التنظيمات الاجتماعية.

الموقف الثاني: يشهد رواجًا واسعًا حاليًا بفضل التقدم في مجال علوم الأعصاب وتقنيات التواصل. يقوم هذا الموقف على أيديولوجيا علمية تتجلى في علاجات متعددة تعتمد على تكييف عمليات التفكير والأساليب السلوكية. فيختزل هذا التوجه مسألة الرغبة إلى مهارات يجب اكتسابها وسلوكيات يجب تبنيها بهدف التكيف مع معايير السوق الشاملة. الهدف الأساسي هنا هو تعزيز «أنا» الفرد لكي يتماشى مع متطلبات معايير الاستهلاك.

هاتان المقاربتان تتقاطعان في الالتباس الذي تُحدثانه بين مفهومي «الأنا» و«الذات»، وبين الحاجة والرغبة. وفي كلتا الحالتين، عادة ما يميل المتخصص أو المعالج إلى وضع نفسه كذات عارفة بما هو مناسب لمصلحة مريضه. لكن هذا الموقف ليس خاليًا من دوافع أيديولوجية؛ فقد لخّص لاكان الأمر بقوله: «السر السياسي لدى الأخلاقيين هو على الدوام دفع الذات إلى الانسحاب من لعبة الرغبة». (ملاحظة حول تقرير دانيال لاغاش، 1960، ص. 684).

وهكذا، تتقدم الأيديولوجيات دائمًا متخفيةً، متجذرةً في رغبة لاواعية تدفع الذات - سواء كانت ذات المعالج أو المتعالج - إلى البحث بلا هوادة عن «خير أسمى» تشعر أنه محرم عليها. وبذلك، تجد الأيديولوجيات في خيبة أمل المعالج من رغبته الحقة أحد أفضل حلفائها. وهنا يمكننا أن نستذكر تعريف لاكان لمفهوم «التحويل المضاد»، حيث وصفه بأنه: «مجموعة الأحكام المسبقة لدى المعالج».

ولكن منذ فرويد، أصبح من الواضح أن الفائض من الحقيقة اللاواعية هو ما يغذي لدى الذات طلبًا لا نهائيًا في المعرفة أكبر وأكثر. وهكذا، يميل الفرد إلى  تعزيز افتراض وجود «آخر» يدعي معرفة ما يجهله هو ذاته عن حقيقته اللاواعية. ويُعتبر هذا الافتراض الأساس الذي يقوم عليه مفهوم «التحويل» في التحليل، وهو علاقة حب تستند إلى المعرفة المفترضة لدى الآخر، في حين أن المعالج ليس سوى وسيط لهذه المعرفة التي تصدر من مريد التحليل وترجع إليه بشكل رجعي.


- IV إتيقا التحليل وفقًا لفرويد

1- التهرب الأخلاقي لدى العصابي

وفقًا لفرويد، يظهر الكبت في عملية الدفاع النفسي، كوظيفة تهدف إلى حماية الأنا. لكن التشكيل التوافقي بين الدفاع واللذة يمكن أن يضع الشخص العصابي في موقف يعجز فيه عن اتخاذ القرار، مما يؤدي إلى وضع رغبته في حالة من التعليق، وهو ما يكوّن شكل عصابه.

هذا التعليق، أو بالأحرى التخلي عن الرغبة، لم يعد من الممكن اعتباره فضيلة. يشير فرويد، (كما ذكر في كتابه دراسات حول الهستيريا، ص. 96)، إلى أن الآلية التي تؤدي إلى العصاب، والتي تبدو كفعل دفاعي يستخدمه الأنا للحماية، «يتوافق مع جُبن أخلاقي (افتقار العصابي للشجاعة).

بمعنى آخر، إن الدفاع العصابي الذي يبدو كوسيلة للحماية، هو في الأساس تراجع الشخص العصابي أمام رغبته اللاواعية، وافتقار للحزم الأخلاقي من جانبه. لذلك، يمكن وصف هذا الفعل بأنه جبن أخلاقي. بشكل أكثر دقة، يصف فرويد الكبت تحديدًا على النحو التالي: «جبن يجهل ذاته وذريعة كاذبة. (حديث أجري في عام 1923، نشر في مجلة Les Nouvelles Littéraires، وأعيد نشره في مجلة Pas-tant، عدد 13، 1986، ص. 4).

لهذا السبب يكتب فرويد (في عام 1912 في مقاله حول أنماط الدخول في العصاب، المدرج في كتاب العصاب والذهان والانحراف، ص. 178): «التغيير الذي يسعى إليه المرضى، ولكنهم لا يستطيعون تحقيقه إلا بشكل ناقص، أو ربما لا يستطيعون تحقيقه إطلاقًا، يمثل بانتظام تقدمًا في اتجاه الحياة الواقعية. ولكن الأمر يختلف عندما نستخدم معيارًا أخلاقيًا؛ إذ نرى أن الناس يصابون بالمرض بنفس القدر عندما يتخلون عن مثالية معينة كما يصابون عندما يحاولون تحقيقها».

استنادًا إلى قول فرويد عن «اختيار العصاب»، يمكننا تعميم القول بأن البنيات النفسية المختلفة هي في حد ذاتها خيارات أخلاقية، أي خيارات تقوم بها ذات الشخص، مما يؤدي إلى أنماط مختلفة فيما يتعلق بتحقيق رغبته ولذته.


2- الهستيريا والعصاب القهري كنماذج أخلاقية

الرغبة لدى الشخص الهستيري تتسم بأنها غير مُرضية بشكل أساسي. ففي ذروة حدة الأعراض، قد يحتج الهستيري ثم يغضب و قد يثور، أو ينهار  تمامًا. لكن لماذا يفعل ذلك؟ إنه يقوم بذلك باسم الأخلاق المادية وحقوق الإنسان العالمية التي تدعوه لاتخاذ القرار بشأن جسده (لأن الجسد ملك له، كما يُقال)، وتلك القوانين نفسها تدعوه أيضًا لاتخاذ القرار بشأن حياته وموته، جنسه، نوعه، واسمه، إلخ.

الهستيري، بسبب هذا السخط الأساسي الذي يميز رغبته، هو الذي يسقط أصحاب السلط من مناصبهم ويعيد تنصيب الشخصيات السلطوية على عروشها،

أما الشخص الوسواسي فمن المعروف أنه يشتكي من عجزه عن اتخاذ قرار بسهولة، لأنه دائم الشك في قيمة رغبته أمام الآخر. لكن، إذا شكّ، فهذا لتجنب اتخاذ القرار، وبالتالي الاعتماد على طلب الآخر. العصابي القهري يقدم خياراته كخيارات مفروضة عليه، ولكن في الحقيقة، هو ملتزم بها بكل كيانه، وحتى بحماسة مذهلة، يتظاهر هو نفسه بالدهشة منها. وهكذا يوحي العصابي القهري بأن الخيار المفروض الذي يشكو منه، أو يدّعي التشكي منه، هو في النهاية خياره الول والأخير.

 

3- البُعد الإتيقي للتحليل النفسي

العمل التحليلي يجب أن يعيد الشخص إلى هوامه المركزي الذي يربط هذا الخيار بعصابه. يتطلب ذلك بُعدًا تقنيًا يتعلق بتعامل المحلل مع خطاب العصابي من خلال عملية التحويل ولكنه يتطلب أيضًا بُعدًا إتيقيا يقود الشخص لفعل شيء مختلف تجاه أعراضه.

يؤكد فرويد أن «خلاص الإنسان يكمن في القدرة على الاختيار»، ولكن ذلك يتطلب وجود شخص قادر على دفعه نحو هذا الاختيار، وهو في هذه الحالة، المحلل النفسي الذي يُفترض لديه وضوح تجاه اختياراته الخاصة. «لكن «معركة» التحليل تفتح أيضًا باب الهزيمة؟» ردَّ فرويد على هذا الاستفسار قائلا: «بلا شك، أنا لا أعد بالنجاح مسبقًا. ولكن بدلاً من الكبت، أي الجبن الذي يجهل ذاته،  أو الذريعة الكاذبة، سيتمكن المريض من إدانة أو قبول ما يحتويه بداخله. سيكون مجبرًا على ذلك. أقول إنه، حتى لو قبل بعيبه، حتى لو أطاع الصوت الذي لم يكن يريد سماعه بشكل واضح، فإن ذلك أفضل. لن يكون هناك مزيد من الالتباس. سيكون فيه شفاء وربما سعادة، لأن منطق الحكم سيحل مكان الاضطراب الفوضوي. إن خلاص الإنسان يكمن في الاختيار».


V- إتيقا التحليل وفق جاك لاكان

عندما يناقش لاكان، في عودته إلى فرويد، مسألة نشوء التحليل النفسي، فإنه لا يتناولها من منظور تاريخي أو اجتماعي كما هو معتاد، مثل ربط ظهور التحليل النفسي بالأحداث التي وقعت في المجال الطبي في فيينا ولقاء فرويد مع الهستيريا. بل يعالجها أساسا من زاوية الأخلاق. فنراه يربط ظهور التحليل النفسي بما حدث على مستوى الفكر في القرن الثامن عشر، المسمى «عصر الأنوار». يكتب لاكان بهذا الصدد: «لابد أن هناك تطهيرا قد حدث و كان لابد من مرور مائة سنة في أعماق ذوق البشر كي تصبح منهجية فرويد قابلة للممارسة». بمعنى آخر، حدثت قطيعة إبستيمية خلال هذا القرن، فتحت الطريق أمام فهم الإنسان عبر العقل والمنطق الرياضي، بدلاً من الفكر السحري ثم الميتافيزيقي. وهذا التحول الفكري القائم على العقل هو الذي سيوفر التربة لاكتشافات فرويد.

وهذه القطيعة الإبستيمية ستحصل في مرحلتين:

أولاً في القرن السابع عشر على مستوى الفكر العلمي: فمثلاً، اختراع جاليليو للمنظار الفلكي لرصد النجوم سيبدأ في إزاحة الأرواح والآلهة التي كانت تعمر السماوات. ومن ناحية الفكر الفلسفي، قدم ديكارت مفهوم «الذات المفكرة»، مما سيخلق علاقة جديدة بين المعرفة والحقيقة. من خلال الشك المنهجي في معرفة الذات، أبتدع ديكارت يقينًا في الوجود لا يعتمد على السبب الإلهي، وصاغه بقوله: «أنا لا أشك في أنني موجود إلا في اللحظة التي أقول فيها: أنا أفكر، إذن أنا موجود». 

وفقًا للاكان، كانت هذه الخطوة التي اتخذها ديكارت كافية لتشكيل أول تصور عن موضوع العلم. في الوقت نفسه، يظهر مبدأ «أنا أفكر، إذن أنا موجود»  يقينًا وانقسامًا في آن واحد: إذ يصبح الوجود والفكر منفصلين. وهذا هو ما سيؤدي إلى مفهوم «انقسام الذات» في التحليل النفسي، أولاً مع فرويد في مقولته «حيث كان الهو، لازم يحل أناي»، ثم مع لاكان الذي يقلب المعادلة الديكارتية ليقول: «أنا أكون حيث لا أفكر، وأفكر حيث لا أكون». وهكذا ذاتُ العلم تصبح هي نفسها ذات التحليل النفسي: ذات منقسمة بين الوعي واللاوعي، بين القول والتعبير، بين المعرفة والحقيقة.

أما في المرحلة الثانية، فستحدث القطيعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على يد مفكرين من أمثال كانط وساد. وستتجسد في مجال الأخلاق تحديدًا. فكما قام ديكارت بفصل بين الوجود والفكر، ستقوم فلسفة «الأنوار» بالفصل بين الخير والسعادة، على عكس ما كان يُعتقد منذ العصور القديمة.

لقد كان يُعتقد أن هناك انسجامًا كاملًا بين الخير، الفضيلة، السعادة، واللذة. وهذا ما كان يسميه أرسطو «الخير الأسمى» أو الخير المطلق. كان هذا هو الهدف الذي يسعى إليه كل فرد عندما يحقق عددًا من الفضائل التي تقوده إلى الخير والسعادة.

أما إيمانويل كانط فلا يتجاوز «الخير الأعلى« الأرسطي، بل يعتبره نتيجة منطقية للقانون الأخلاقي، إنما يفصل بينه وبين السعادة التي لا تتحقق إلا من خلال خضوعها  لهذا القانون بطريقة غير ضرورية، بما أن القانون الأخلاقي قد يوصي أحيانًا بعكس السعادة.

هذا التحول الكانطي يُحدث «إزاحة» تُعتبر ثورة كوبرنيكية في حقل الأخلاق: بمعنى آخر، تمامًا كما أن كوبرنيكوس أبطل جميع النظريات الفلكية التي سبقته بالقول إن الأرض لم تعد هي مركز الكون بل الشمس، فإن كانط يزيح الإله كمركز للفكر والعقل ويحل محله الإنسان وحريته.

هدف كانط هو إلحاق الفلسفة بالعلم الذي، منذ أكثر من قرن، ومنذ أن أصبحت الحقيقة قابلة للقياس، غير تمامًا العلاقة بين المعرفة والحقيقة. وهذا ما جعل لاكان يقول إن كانط هو نقطة تحول في قلب الأخلاق، حيث استبدل «الخير الأعلى» الأرسطي بالقانون. فليست الفضيلة الطبيعية للإنسان هي التي تقوده إلى الخير الأعلى والسعادة، بل إن الإنسان إذا كان فاضلًا، فما ذلك إلا بفضل القانون الذي يفرض عليه أن يكون كذلك.

وفقًا لكانط إذا، يكتشف الإنسان في نفسه أمرًا ملزِما يمكن تلخيصه في الأمر «يجب عليك». هكذا يأخذ الواجب شكلًا قبليًا في كل حكم أخلاقي وكل تقييم أخلاقي.

أما من منظور التحليل النفسي، فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن فكر كانط، رغم ثرائه، يتجاهل تمامًا مسألة المتعة.يعتبر كانط، بحسب لاكان، أول من اكتشف حقيقة الأنا الأعلى، ولكن فقط في شكله الأمَّار. وبذلك، يذهب كانط إلى المبالغة في الأخلاق من خلال أفراغ الرغبة من موضوعها، مما يفسر اهتمام لاكان بفكر إيمانويل ساد. 

يرى لاكان أن الفضل يعود إلى ساد في إعطاء الأولوية لمسألة الرغبة التي أقصاها كانط  مجال الفلسفة. لكن ساد يقدم موضوع الرغبة عبر الانحراف، على شكل أمر باللذة. فبدلاً من الأمر الكانطي «يجب عليك»، يظهر الأمر السادي «تمتع».

بمعنى آخر، إذا كانت الرغبة عند كانط ترتبط تمامًا بالأخلاق والقانون الذي يفرِض ويمنع، فإن الرغبة عند ساد ترتبط تمامًا باللذة. فهو يقدم الواجب في التمتع كقاعدة إلزامية، أي كقاعدة كونية تفرض نفسها على الجميع: «لدي الحق في التمتع بجسدك، يمكن لأي شخص أن يقول لي، دون أن يمنعني أي حد في أهوائي. وبالمثل، يحق لأي شخص التمتع بجسدي بنفس الطريقة».


1- إتيقا الخيرات وإتيقا الرغبة

وفقًا للاكان، فإنه عند التقاطع بين هاتين الموقفين المتناقضين أو المتعارضين، وهما الموقف العصابي الوسواسي لكانط من جهة والموقف المنحرف لساد من جهة أخرى، سيظهر الموقف الفرويدي. على عكس الأول، سيقول فرويد إن القانون والرغبة المكبوتة هما نفس الشيء. وعلى عكس الثاني، سيقول إن الأخلاق في التحليل النفسي ترتبط بالرغبة التي تعارض المتعة المطلقة، حيث أن رغبة المحلل هي التي تمكن المريض من قطع ارتباطه بهوامه، وبالتالي بالموضوع الذي يجد متعته فيه داخل هذا الهوام. وإذا بقي المعالج مأسورًا في متعة هوامه الخاص، فلن يستطيع مساعدة مريضه على التحرر من المتعة التي يقوم هوامه الخاص باستلاب ذاته.

كتب لاكان: وتبرز أخلاقيات جديدة، متحولة إلى صمت من خلال مجيء الرغبة لا الخوف (إصدارات، ص. 684). وهذا يعني أن أخلاق التحليل النفسي ليست فقط غير صاخبة ومزلزلة، ولا تفرض قواعد، ولا تقدم مبادئ، بل تصمت.

التحليل النفسي هو موقف إتيقي لأنه لا يفرض قواعد الأنا الأعلى. القاعدة الوحيدة التي تفرضها هي قاعدة الارتباط الحرّ والحالة الفردية. من خلال هذا المسار، يقوم التحليل النفسي بما يسميه لاكان التحويل الأخلاقي عند المريض. بمعنى آخر، يهدف إلى جعل المريض يتحول إلى شخص يريد ما يرغب فيه.

في نهاية نص كانط مع ساد، يشير لاكان إلى شخصية أنتيغون، التي تمثل رغبة شبه غير إنسانية. قررت دفن شقيقها مهما كان الثمن. وتعلم أنتيغون أن هذا الفعل سيقودها إلى الموت، لكنها تمضي فيه على أي حال. نحن هنا أمام رغبة يجب أن تتحقق بغض النظر عن الموت.

إن مفارقة التحليل النفسي وأخلاقيته تكمن في أنه، رغم المخاوف التي قد يراها البعض في آثار التحليل النفسي، مثل تحرير الغرائز الأدنى، فإن التجربة التحليلية تؤدي إلى مبدأ آخر: «الشيء الوحيد الذي يمكن أن نكون مذنبين فيه، على الأقل من وجهة نظر التحليل النفسي، هو التخلي عن رغبتنا (ج. لاكان، السيمينار السابع، أخلاق التحليل النفسي، ص. 368).

سؤال الأخلاق في نظر لاكان يرتبط بتعريفه للرغبة باعتبارها مستندة إلى النقص. كتب لاكان: التحليل النفسي يتعامل مع النقص المركزي حيث تختبر الذات نفسها كرغبة». من خلال تحديد النقص كأساس للرغبة، يثير لاكان سؤال الأخلاق فيقول: وهذا يتطلب مراجعة للأخلاق».

أي قانون يتعلق بالتحليل النفسي إذًا؟

هذه الإتيقا في التحليل النفسي لا تنبع من القانون الأخلاقي، الذي يصرح به ويصرخ من مكان الآخر، بل من قانون الدال، المدون في قلب الرغبة نفسها. تهدف هذه الأخلاق إلى تحقيق توافق الموضوع مع الرغبة التي تشكله.

كما رأينا سابقًا مع فرويد، فإن المعالج الموجه بالأخلاق التحليلية «ليس لديه سوى رغبة واحدة، هي أن يرى المريض يتخذ قراراته بنفسه». في هذه الصيغة التي وردت في «مقدمة للتحليل النفسي»، نرى هنا كيف كان فرويد يتنبأ بما سيسميه لاكان «رغبة المحلل».

هذا يتطلب من المعالج موقفًا يتناسب مع حقيقة اللاوعي التي «وضعها أخلاقي»، كما يقول لاكان (ص. 35 من سيمينار المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي). لكن خصوصية هذه الأخلاق تكمن في أنها «تتحول إلى الصمت من خلال مجيء الرغبة لا الخوف» (كتابات، ص. 684)، وبالتالي هي الوحيدة التي تتطلب من المعالج موقفًا يسمح له بمعرفة كيفية التعامل مع اللاوعي. هذه المعرفة لا يمكن أن تجد أساسها في الأكواد الأخلاقية ولا في أدلة الممارسات الجيدة، التي قد يسعى المعالج من خلالها، عبثًا، إلى الاسترشاد بها.


2- الإتيقا المفعَّلة في التحليل: حُسن القول

على عكس الفلسفة التي تفترض أخلاقًا عامة، أخلاقًا للجميع، لا يمكن أن تكون الأخلاق في التحليل النفسي إلا نسبية، وهي مرتبطة بالخطاب الذي يؤسسها: خطاب المحلِّل. يضع لاكان إتيقا التحليل النفسي في جانب الرغبة والكلام، وليس في جانب النواهي أو الأوامر.


في عام 1955، في «أنواع العلاج النموذجي» (الكتابات)، يقترح لاكان تعريف التحليل ليس بناءً على تقنيته الموحدة (الإطار)، بل بناءً على الصرامة الإتيقية، «خارج ذلك، فإن أي علاج، حتى وإن كان مليئًا بالمعرفة التحليلية، لا يمكن أن يكون إلا مجرد معالجة نفسية» (ص. 324). بمعنى آخر، يقلل لاكان من قيمة أي ممارسة علاجية لا تكون التقنية فيها مؤسّسة على صرامة إتيقية.

لكن ما هي هذه الإتيقا؟ لتعريفها، يقدم لاكان أولاً تعريفًا مبسطا للتحليل النفسي: «التحليل النفسي، سواء كان نموذجيًا أم لا، هو العلاج الذي نتوقعه من المحلل النفسي» (ص. 329). وما يميز عمل المحلل (كما يقول لاكان) «هو أنه يجعل من وظيفة مشتركة بين جميع البشر، استخدامًا ليس في متناول الجميع، عندما  الكلام محمل الجد.» (ص. 350). وعندما يجعل المحلل مكانا لاستقبال الكلام الممتلئ والفريد، يعير المحلل انتباهًا لفردانية الفرد ورغبته في الاعتر اف به وبها.

خلال العملية التحليلية، يُجبر الأفراد على مواجهة متعهم الدفينة وآثارها، ولكن بهدف تحويلها إلى إمكانيات للرغبة. ومع ذلك، قد يحدث أن تتضاعف هذه المتعة التي يعاني منها الفرد نتيجة حضور متعة المعالِج الشخصية التي قد تلح أثناء العلاج. بمعنى آخر، قد تؤدي المتعة الشخصية للمعالج، ورغباته التي تخدم نرجسيته الخاصة أو العامة، إلى تجميد المرضى حول متعهم، تجميدا قد تدفعهم إلى تصرفات مفاجئة ذات عواقب متباينة لكنها وخيمة.

هذه التصرفات المفاجئة هي، في الأغلب نتيجة لتصرفات المعالج وهواماته. فقد تكون مؤشرا لديه على حدوث خلط بين موضوع رغبة المتعالج ومن جهة أخرى، شخص المعالج الذي يفرض نفسه كموضوع مرغوب فيه. بسبب هذا الخلط، يجد المريض نفسه محرومًا من محاولة التعرف على ما يسبب رغبته. 

ما هو حسن القول إذًا؟ 

لنبدأ بالتأكيد على أن القول ليس هو الكلام، وأن القاعدة الأساسية في التحليل النفسي التي تتطلب «قول كل شيء» هي خيالية تمامًا. بمعنى أن هذه القاعدة، التي تهدف إلى التعرف على الفرد ورغبته اللاواعية، لا يمكن أن تؤدي إلى تطابق كامل وكلي بين الرغبة والكلام: بمعنى آخر، هذه القاعدة للقول الكامل تواجه القول الجزئي الذي يحدد الحقيقة اللاواعية. أذكر هنا الجملة التي يبدأ بها لاكان أحد استجواباته: أقول دائمًا الحقيقة: ليس كلها، لأنه لا يمكن قولها كلها. قولها كلها مستحيل ماديًا: فالكلمات غير كافية. وهذه الاستحالة هي التي تجعل الحقيقة مرتبطة بمجال الواقعي». (تلفزيون، ص. 9). يكرر لاكان هذه الفكرة نفسها في سيميناره «السنتوم» (ص. 30-31): «لا توجد حقيقة لا يمكن قولها إلا جزئيًا، تمامًا كما هو الحال مع الموضوع الذي تحتويه.

إذن، في الفعل التحليلي، لا يتعلق الأمر بتقليص استخدام الكلام إلى بعده البلاغي فقط، مما قد يحد من التحليل النفسي إلى العلاج النفسي. وفقًا للاكان، فإن التفسير في التحليل النفسي يتعلق أكثر بالجانب الشعري.

بمعنى آخر، فإن إتيقا الكلام ليست لها علاقة بممارسة البلاغة التي تركز على أشكال وأسلوب القول. إتيقا الكلام تتعلق بالقول من حيث أنه يؤسس  الذات فعلًا. بتعبير آخر، حسن القول ليس هو القول الجميل. وإنما هو القول الذي يؤسس لفعل و يُلزم الفرد باتخاذ خطوة ما. وبالتالي، فإن إتيقا التحليل النفسي، أولًا وقبل كل شيء، هي مرتبطة بمسألة التأويل، مع العلم، كما يقول لاكان صراحةً، أن «الرغبة هي تأويلها». وهذا ما يستدعي ما يسميه «رغبة المحلل» كمحلل يشغل وظيفة التحليل وليس كشخص. يقول لاكان إن «الخطاب الذي أسميه تحليليًا هو الرابط الاجتماعي الذي تحدده ممارسة التحليل. وهو جدير بأن يُرفع إلى مصاف أكثر الروابط أساسية من بين تلك التي لا تزال فاعلة بالنسبة إلينا». التلفزة، ص. 2 . فالكلام في التحليل النفسي ينطوي على تموضع ذاتي، اختيار، قرار والتزام، وبالتالي ينم مخاطرة يجب تحملها. وبالنسبة لممارسة لا تتم إلا عبر مسالك الكلام في حقل اللغة، لا يمكن أن تكون الأخلاق إلا إتيقا حسن القول.


 




Bibliographie

 

COTTET S., « L’éthique freudienne », in Freud et le désir du psychanalyste, Paris, Navarin, 1982, pp. 127-164.

DEMOULIN Ch., La psychanalyse, thérapeutique ? Paris, Éditions du Champ lacanien, 2001, 82 pages.

FREUD S, (1904-1919), La technique psychanalytique, Paris, PUF.

FREUD S, (1915-1917), Introduction à la psychanalyse, Paris, Payot.

LACAN J. (1959-60), Le séminaire, Livre VII, L’éthique de la psychanalyse, Paris, Seuil, 1986.

LACAN J., « l’acte psychanalytique : compte rendu du séminaire 1967-1968 » in Autres écrits, Paris, Seuil, 2001, pp. 375-383.

MILLER Jacques-Alain, « Pas de clinique sans éthique », Actes de l’ECF, Revue de psychanalyse, n°5, Publication de l’École de la Cause Freudienne, octobre 1983, pp. 28-32

SAFOUAN M., « L’éthique de la psychanalyse (1959-60) », in Lacaniana : les séminaires de Jacques Lacan, T1, Paris, Fayard, 2001, pp. 139-156.

 

،