شابسال - النفس المطمئنة - فصول ٢٤ الى ٢٦

٢٤


وككل الناس، لقد كنت في صراع مع شيئ ما تضخم بداخلي ولم أكن انذاك قادرة على الافصاح عنه  : إنه قصة حياتي.


وهذا ما جعلني كلما تمددت على أريكة التحليل، انطلق في سرد حكاية حياتي مبتدئة من البداية. أصنف الحكاية الى فقرات وفصول وكأني كاتب سيرة محنك. كنت أظن أن هذا ما يلزمني فعله، مسلحة على الدوام بالمقولة المشهورة "أعرف نفسك بنفسك". كنت أظن أنه يلزمني الابتداء بمكان الولادة ثم بسرد أحداث الطفولة  وما تخللها من تسلط الأم وغياب الأب، وبعدها سنوات الدراسة تليها أحداث الزواج ثم الطلاق - فمالذي دفعني للطلاق ياترى! سؤال طفا للتو على ذاكرتي لكنني تعمدت صده.


كان بمقدوري شرح هذا الامر أو ذاك بكل بساطة وكانت قصة حياتي، حتى اللحظة التي أحدثتْ فيها حادثة المترو شرخا عميقا، تسري في استرسال وترابط لا مثيل لهما. كانت الكلمات تنساب كالماء من فمي فتتحول الى تعابير جميلة عما كنت أود البوح به ما جعلني أظنني طليقة اللسان، ذات موهبة لم تُتح لي في السابق فرصة مزاولتها أمام الملأ.   


وفي نفس الوقت الذي كنت أفسح فيه العنان لكلامي الطلق، كان يغمرني إحساس عميق من المودة نحو المحلل النفساني وهو صامت خلفي : كان هذا الرجل ينصت الي في صمت من دون مقاطعتي لذا أكن له كامل الاحترام والقدير. صرَّحت له بذلك، بل إنني شكرته على مواظبته المتواصلة لمواعيد جلساتنا لأنه سلوك غير معتاد بين الناس. فتصرفه هذا، لوحده، كان مُريحا لي ما جعلني اعتبره جديرا بالثناء. فهل لأنني افتقدت حضور الآخرين في حياتي الى هذا الحد ؟


زيادة على ذلك كنت اعتقد أن شخصا مثله، جد مثقف، أنيق ورائق الذوق، لا يمكنه إلا أن يقدر خِفّة تصرفي وقدرتي في بعض الاحيان على الاستهزاء من نفسي. وبالاجمال كنت اقوال في نفسي بأنني أقوم بمراودته عن نفسه بمجرد استرسالي في الكلام معه، وهذا ما اعتبِره مغامرة في حد ذاته.  


إنه يحلو لامرأة مثلي أن تُهيج عواطف رجل بمجرد الكلام وقد استدار ظهره في زمن تعودت النساء على استمالة الجنس الآخر بلعبة النظرات وتمديد الساقين وتوظيف الملابس والتصرفات


كانت الجلسة تدوم حوالي نصف الساعة، إلا أن مدتها كانت تبدو لي قصيرة جدا. وكلما اقتربتُ من نهاية هذه المدة كنت أسرِّع من كلامي كي أقول أكثر وأكثر. لكن المحلل كان يختم قولي هامسا في أذني : « اليوم سنكتفي بهذا القدر». 


آنذاك يكتنفني إحباط كبير إذ لا شيء من كلامه أو من تصرفاته يوحي أنه وقع تحت جاذبيتي. فهل كان يخفي لعبته نحوي أو كان لا يعير ذلك أي اهتمام؟


آنذاك كنت استجمع كل قواي كي أقوم من على الأريكة وأَفتعل سلوكا عاديا يحفظ ماء الوجه. يتجه المحلل توا نحو الباب مديرا ظهره نحوي. على مكتبه، أضع بعض الأوراق المالية. أستودعه الله على عتبة المكتب محاولة استراق نظرة منه نحوي. فبما كان يفكر ياترى، وبماذا كان يشعر ؟ لم تكن لدي أدنى فكرة عن ذلك، وما زلت لا أدري حتى الآن.


كان الشعور الوحيد الذي انتابني وأنا أنزل السلالم هو أنني تصرفت تصرفا حسنا، إذ أنني قمت بما يجب أن تقوم به سالكة تحليل ممتازة ورائعة: أن أتكلم، أدفع الرسوم ثم انصرف، مع الحفاظ على أن تكون مصاحبتي ممتعةوكنت صادقة في ذلك، ومخلصة. ولم يحصل أن كذبت ولو مرة. وإن انتابتني فكرة من النوع العدواني أو الجنسي فإني أبادر للإفصاح عنها للتو وبتسرع، وهو ما كان يزعجني بعض الشيء. كنت دائما أترقب أشارات تهاني عندما أفصح بمثل هذه الأمور لكن لاشيء يصدر من طرف المحلل ولا حتى علامة اندهاش.


فهل كنا في عمل ثنائي أو في تصارع بين فردين؟


لم أقم بطرح هذا السؤال على نفسي لأنني لم أكن قادرة على طرحه آنذاك وربما أنني لم أكن أرغب في طرحه. أما ماكان يجعلني دقيقة في كلامي ثلاث جلسات في الاسبوع فيكمن في رغبتي التمظهر مثالية الدقة، تماما كما كنت أتخيل أسلوب تعبيري ومفرداتي المنتقاة بشدة. على هذا المستوى، ما من أحد يمكنه مؤاخذتي


اعتنائي البالغ هذا لإعطاء صورة مثالية بشأني، أخذ لدي شكل المقاومة في وجه التحليل. تماما كما لكل شخص مقاومته الخاصة تجاهه. رغما عني كنت أعمل كل ما بوسعي كي لا تبزغ أي ثغرة في حديثي أو في سلوكي، قد تتيح للمحلل الولوج ليزرع بداخلي إحساسا لم استبق التحكم فيه وضبطه.


وقد يبدو الحديث خلال التحليل ذو نكهة جنسية. ولمذا لا، إذ أن كل شيء في التحليل له هذه النكهة. وذلك لأن ما يلزم تغييره ليس هو ذهننا كما يعتقد البعض وإنما جسدنا. ففي الجسم حقا، وبالخصوص في التركيبة البدائية لشهواتنا ينبع الألم. في بعض الأحيان يحصل ذلك منذ البداية، انطلاقا مما يترتب عن الانطباعات الأولى للمولود ومن خلال شَهوَنة الجسد إبان العناية بالرضيع.


أما في مرحلة ما قبل الولادة، فإن الاخلاق تنحصر على مبادئ بسيطة للغاية: فما يصلح للحياة فهو جيد أما ما يفسدها فهو قبيح. انطلاقا من هنا ستنبني لدى كل فرد أهرامات من التعقيدات والتناقضات اعتبارا لخصوصية سيرة حياته وخصوصية طبعه. وكل ذلك لأن ابن آدم هو ذات من لغة وحب


فيما يخصني، ما جعل حاجتي الى المحلل تشتد أكثر فأكثر خلال التحليل، هو أنه كان، بدون علم مني، يمثل أمي، ذلك الوجه العريض والمطمْئِن، الملكة الفريدة، مالكة الكل التي اشرفت على نشأتي  الأولى

ولقد حصل مرة أنني حلِمتني بالفعل جالسة على ركبتي المحلل جاعلة منه ومن حيث لا أدري، رمزا لامي. وعوض أن أقول في نفسي: « ليكن! بما أن المحلل في هذه الآونة يحل محل أمكِ، اغتنمي هذه الفرصة كي تسْتجلين بعض الشيء علاقاتك المشحونة انفعالا مع أمك الحقيقية. لكن بما أنني كنت في مرحلة البداية من التحليل، توقفتُ عند حالة الارتباك الذي خلَّفه لدي هذا الحلم، وتساءلت فيما إذا كان قد أصابني نوع من الشذوذ حتى لا أميز بين ذكر وأنثى.


في الجلسة اللاحقة، تسارعتُ الى عرض هذا الحلم الذي اعتبرتُه حادثة بارزة، على آذان المحلل وانتظرت تعليقا منه. لكن بدون جدوى. فالمحلل لم ينبس ببنت شفة.


"نعم" هكذا قال كعادته، معنيا بذلك: "واصلي، اتركي الأفكار تتداعى". لكن كلما حاول المحلل الخروج من صمته طالبا مني الاسترسال أتوقف مشدوهة وكان شخصا آخر بداخلي يصدني عن ذلك ويجعلني لا أتحكم في كلامي. فأين أنا ياترى ! وهل تتحسن أحوالي أم تفسد أكثر؟


لم يحن الوقت بعد كي أتمكن من معرفة ذلك. هذا يعني أني كنت، الى حد تلك الفترة أعيش وسط دوامة من العزلة الداخلية. تلك العزلة التي كان ألفريد دو فيني يمجدها في "موت الذئب". إنها عزلة مؤلمة كنت أنا أيضا أمجدها رغم أنها كانت كلها بؤسا وشقاء


       


٢٥


   حوالي الثلاثين من عمري حصلتْ لي رؤيا قلت أثناءها لنفسي إن قدَري قد تم ترتيبه بإحكام مسبق وبأنني سأبقى ما تبقى من عمري حبيسة جسدي. بنفس الدماغ وبنفس الشخصية أواصل إفراز أفكاري المرتبة سبقا.


أتذكر أنني يوما خلصت إلى نتيجة مفادها أن كل شيء قد أنتها بخصوصي وبأنني بلغت حدود تفكيري واستنفذت كل الأفكار بخصوص هذه الدنيا، بعد ذلك، على غرار أشعار بودلير، غلف عقلي الملل إلى حد الخمول.


إلا أنني أدركت من على أريكة التحليل بأنني كنت مخطئة في تصوري. تبين لي أثناء التحليل أنه يمكن أن أغيّر ذاتي وأغير حياتي وحتى جسدي يمكن أن أغيّره. فالعلاقة التي نعقدها مع جسدنا تتطور وتتشكل مجددا خلال التحليل. فقد يتغير في شكله الخارجي بحيث يبدو أكثر أنوثة أو فحولة، أو قد يشبه أكثر فأكثر شكل أحد الأبوين. وفي بعض الأحيان يبدو أكثر شبابا ونضارة. سأتمكن أيضا من تغيير وتحسين علاقتي بذاتي وبالآخرين وحتي من تغيير منظوري المنمط، رغما عني، بخصوص علاقاتي الحميمية


يالها من مغامره! لكنها مغامرة على المدى البعيد.


وبمرور الوقت، تبين لي أنني أعدت حول المحلل تشكيل المجال الوحيد الذي سيمكنني من البقاء على قيد الحياة: لقد أعدتُ تشكيل الفقاعة التي كانت تمكنني من المحافظة على علاقتي الرحمية بأمي. فخلال الجلسة الأولى مثلا، عندما مددت يدي إلى الخلف وأنا متمددة على أريكة التحليل، كنت أحاول التأكد من أن الحبل الذي كان يربطني برحم أمي مازال يفعل فعله على الدوام.


أما المحلل فلقد ترك الأمر يسير على هذا المنوال، طبقا لمهنته. كان بالفعل في انتباه تام وأنا أحَول إلى شخصه طريقتي المعتادة في التعامل مع الآخرين، حتى نتوصل إلى تحليلها وفهم مآلاتها، وهي عملية لا تحصل بسرعة وبوضوح كامل.


فمن غرائب التحليل - التي تجعل مناوئيه يسخرون ويستهزؤن - هو أن المتحلل لا يعرف أين وصل به الحال، وهل هو يتقدم في علاجه أو يتقهقر. إنه لا يعرف إن كانت بعض سمات شخصيته التي بدأ يتفحصها هي علامة من علامات مرضه النفسي أو من دلالات معافاته


فكلما وجدتُني فجأة أفكر في قول الشر في الآخر- وذلك ما كنت أتوانى عن القيام به اعتبارًا لتربيتي الكاثوليكية - كأن أفكر مثلا بأن الآخرين وبالخصوص منهم الأقارب، يجهدون في التهامي  ويتلاعبون بي ويحطمون قدراتي، بل إنهم قد تمكنوا من ذلك، كنت أتسال إن كان تفكيري هذا من قبيل البارانويا أم هو على العكس بادرة إدراك منطقي قد يساعدني على إعداد العدة للدفاع عن نفسي


ففي التحليل نمر بمراحل مختلفة، كل منها له منطقه الخاص قد لا نأبه إليه في حينه. وفي كل الأحوال كان تصرفي جد بسيط: تارة أزيح عن الناس جميعا قيمة وجودهم وتارة أخرى ألتصق بهم إلى حد ضياعي، تماما كما كنت في علاقتي مع أمي. إلا أن الرجل الذي كان يشاركني حياتي آنذاك لم تكن له أي رغبة في لعب دور أمي كما كنت استجديه. وظننت أنه كان يخص أبناءه وأمهم بكل ما يملك من اهتمام وحنو وذاك ماجعلني أشتعل حسدا وغيرة. لمذا كان يحنو عليهم أكثر مما يحنو علي، أنا التي كنت في أشد الحاجة إليه؟


لكن مأساتي أنني لم أكن أعرف إلا طريقة واحدة في الحب، وبدون وعي مني، كنت أطبقها مع كل من صادف طريقي وتعلق به قلبي.


لم يكن لدى هؤلاء النساء اللواتي تكفلن بتربيتي إلا تصرفا وحيدا نحو أبنائهن يتلخص في تعلق الأم الحميمي بمولودها مع ترك رجل الأسرة جانبا. كانت أمي تحب أمها حبا جما فأسكنتها بمنزلها حتى مماتها. لقد كانت تقول وتردد: "في هذه الدنيا لا وجود لحب يعلو على حب أم لأبنائها". وكل نساء العائلة كن يقدسن مريم العذراء، التي، كما يحكى، رزقت مولودا بدون أن يضاجعها زوجها يوسف. "إن أمي تبالغ - كنت أقول في نفسي - فهناك الحب بين الرجال والنساء وهو ماكنت أفضل". إلا أنني كنت أظن أن قولي هذا سوف يعفيني من السقوط في العُصاب العائلي. لكن في الواقع مازالت أمور كثيرة تفلت من فهمي بخصوص حيل اللاشعور. وهكذا لم أكن أدرك أنني عندما كنت أحب رجلا فإنني كنت أتعلق به تعلق طلفة بأمها وكنت أظن أنه يسحبني بصفة مطلقة وبدون تردد، تماما كما كانت أمي تحبني. وهكذا كنت أفرض على من كان يشاركني حياتي فترة من الفترات، ما يتطلبه مولود من أمه من انفراد بحنانها وحنوها التام. فهل كنت بذلك غير عادية؟ كان يجب على شريك حياتي أن يكون بجانبي على الدوام وإلا اعتبرته أكبر الخونة. أوليس من الضروري أن تبق الأم رهن إشارة أبنائها وأن تفرح بفرحهم وتبتهج بنجاحهم؟ لكن عندما اكتشفت أن رجلا ما يمكن أن يحسد شريكة حياته في نجاحها وتقدمها، وقعت في صاعقة


أما أنا فكنت أتصور أن شريكي في الحياة لا يمكنه إلا أن يكون سعيدا بنجاحي وتقدمي، حتى وإن توفقتُ عليه. هكذا كانت أمي نحوي في كل الاحوال والأحيان. وبما أن المحلل قد تقبل منذ الوهلة الأولى من التحليل النفسي،  تقمص دور أمي، فإنني كنت لاشعوريا أنتظر منه أن يتصرف بنفس الشاكلة. فكنت أكره مجمل أفراد عائلته ومجمل  مرتادي عيادته من أمثالي. كنت أتمنى لو  أني أنا الوحيدة التي يستقبلها وينصت لها ويعتز بها. وياما ترجيت أن تكون مواظبتي على مواعيدنا كافية لملئ حياته وتجميلها. ولماذا لا أستحق ذلك خصوصا أنني كنت أعمل كل ما في وسعي لإرضائه؟ هكذا نرى ما يكتنف العُصاب من هذيان وما يكتنفه من منطق محكم في آن.  



٢٦


لمدة طويلة، افتقدت العزاء في كل شيء: في ابتعادي عن أمي وفي فقدان زوجي وحتي في كسر بعض العلاقات التي تم لي ربطها مع رجال فيما بعد، وبالخصوص اضطراري للابتعاد عن شريك حياتي الحالي كل يوم وفي ساعات محددة. إنه ألم يلخص كل آلامي السابقة.


إن هجري للآخرين أو إهمالهم لي هو بمثابة موتي ولم أكن لأتوقع حصيلةً مختلفة لشدة حساسيتي. كنت أظن أن لبِنة الحب تكمن في الإنصهار بالآخر ولا مانع من اندثاري إن كان ذلك يقرّبني أكثر ممن أحب. أضف إلى ذلك أنني كنت أجد رغبتي هذه غاية في الجمال والسمو لدرجة جعلتني أفضل أهل العشق وأنبذ ما عداهم من الوصوليين


لم يكن المحلل ليتأثر بإسهابي بخصوص علاقاتي الحميمية التي تصب كلها في طريق مسدودكان يواصل صمته في جل الأحوال، أما إن بادر إلى الكلام فلكي يطلب مني أن أحكي له من جديد عن طفولتي وأعود إلى ذكرياتي والى أحداث حياتي اليومية. إذ "في الكلام يتجلى الإنسان" كما كانت دولتي تقول وتكرر.


لكن كانت هناك أشياء كلما أحاول قولها إلا وتختنق أنفاسي وينقطع صوتي جاهزة في البكاء كما حدث لي بخصوص ذكرى حادثة موت قطي، على سبيل المثال. حوادث أخرى مماثلة كحادثة المترو، كنت كذلك أتفادى الخوض فيها حتى لا تعاودني نوبات القلق الحادة. وصل بي الحد، في حالة من الخواف، إلى عدم القدرة بالنطق ولو بكلمة بصدد ذكرى هذه الحادثة. فكنت أبقى حيالها مشدوهة بكماء. وخلال التحليل كنت أطرد كل فكرة تطل برأسها بخصوصها طالما كانت ترعبني، ولم أجرأ على إفشاء سرها إلى المحلل إلا عندما أخدت حدة تأثيرها في وجداني تقل وتتضاءل


لقد كنت أدرك أنني إن تكلمت في هذا الأمر بكل حرية فإنني لا محالة سأقتحم قسطا ليس بالهين من المحرمات الاجتماعية والأسريةفكنت أخشى وِزر الإحساس بالذنب على عاتقي إن أنا حاولت الخوض فيها.


كنت إذن أتأرجح بين القول والإحجام عن القول، بين البوح والصمت المطبق ومن دون أن أكون على وعي بأن كلامنا سيفشي ما هو أبعد مما ننوي الإفصاح به أو إسكاته ولو كنا في ذلك نحتمي بالكذب والبهتان


حتى أثناء التحليل كنت أعمد إلى النفاق والتضليل كى أحمي نفسي مما قد يلحق بها من معاناة إن أنا أفصحت. لكن ما يلبث الكذب أن ينكشف فيترك غصة في حلقي تمنعني من المثابرة على البهتان. إنني مع ذلك وخلال عدد لا حصر له من الجلسات، تعمدت التشكي مما لاقيته وألاقيه من ويلات ومآسي في مرافقة الرجال وأخص بالذكر منهم شريك حياتي. فكلهم خونة وكلهم جبناء.

وبخصوص هذه النقطة يمكنني أن أعمم: فنحن النساء عندما نسلم أمرنا لرجل تمكن من استمالتنا نعتبر انفسنا معصومات من اللوم والخطأ، وفي المقابل يلزم على شريكنا أن يستسلم لنا. كثيرة هي الرسائل التي أتوصل بها بانتظام من نساء يقلن لي: "بما أنني أسلمت نفسي له فكيف يحلو له أن يغدر بي ويهملني ويذيقني أقسى الآلام؟ أعطيني رأيك من فضلك". 


أنا أيضا كنت أعتقد أنه من غير المغتفَر ألا يكون الرجل الذي اخترته شريكا لحياتي في ملك يدي، كما لم أغفِر للمحلل أهتمامه بمتحللين آخرين غيري. فلقد كان هذان الشخصان مذنبان جدا في حقي.


لكن لماذا لم انفصل عنهما إذا، الواحد بعد الآخر؟ أوليس من المستحيل الانفصال عن الأم ما دمنا غير قادرين على الاعتناء بأنفسنا. كُثر هن النساء اللواتي كاتبنني قائلات: "أحبذ الانفصال عنه لكن ليس في مستطاعي. لن أقدر على فعل ذلك".


وهكذا، كما كان الحال بالنسبة لي، فإن شريك حياتهنّ أصبح يلعب دور الأم التي كانت تتحكم بكامل شخصيتهن. أتذكر بهذا الخصوص ما قالته لي دولتو عندما اشتكيت في حضرتها من سلوك شائن لرجل عاشرته وبقيت مرتبطة به مع ذلك: " ألم تقولي لي بأن أمك لم تكن لتنصت لرغباتك لكنك بقيت متقبلة خانعة؟"

  • نعم هو كذلك.
  • "ها هنا مربض الفرس. فكلما أساء رجل معاملتك، كلما ربطتِ ذلك بمعاملة أمك السيء لك. نعم، كلما عاملك رجل ما بسوء، كلما ذكَّرك بمعاملة أمك السيئة لك، وهذا ما يطمئنك مع ذلك ويجعلك تواظبي على الاستمرار بمعاشرته".


هل كانت دولتو على حق؟  كان بإمكاني أن أتصور الأنياب الحادة المتراصة على فكي هذا الفخ، لكنني لم أكن أدري بأن الأمر كان يتعلق برحم أمي. ألا أنني لم أقم بأية محاولة للخروج من هذا المأزق.


ما الممكن أن أقدمه أفضل من ذلك؟ ألم أكن أبذل كل ما في جهدي لإرضاء من أُحب؟ لقد كنت المرأة الأكثر حنانا في هذه الدنيا. وإذا ما  حصل مكروه بأحد أولائك الذين شاركوني الحياة، فإنه يستحيل علي أن أبقى على قيد الحياة ولو لعشر دقائق. فشرفات النوافذ أو حتى برج إيفل قد يفي بالغرض


أتذكر الآن بكل دقة شرفة المستشفى التى قررت رمي نفسي من أعلاها لو وافت شريك حياتي المنية من جراء النوبة القلبية التي قادته إلى هناك. وبالفعل، لم أكن أقدِر على الحياة أو الموت أكثر من الجنين في رحم أمه. لكن، بما أنه لم يكن بمقدور نرجسيتي أن تتحمل حقيقة مهينة إلى هذا الحد - وإن أصبحت تبدو لي الآن جد بسيطة - فإني بنيت بداخلي تمثالا أسطوريا للحب المثالي الذي لا يرضى إلا بالحب حتى الموت


وكم هن النساء اللواتي ينخرطن في هذا النوع من الحب بكل موافقة وإمعان. في حياتي اليومية وفي الواقع كنت أتصرف باستقلال عن أمي لكن على المستوى النفسي والوجداني لم يتم التخلص من هيبة جبروتها لأن ما من أحد تدخل أثناء طفولتي ليمكنني من ذلك. حتى أبي الذي كان من المفترض أن يتدخل بهذا الشأن لم يقم بوظيفته. لذا كنت طيلة حياتي أخشى وأرفض، في نفس الوقت، الانفصال الوجداني عن أمي


أمهات الحيوان تعرف تلقائيا متى وكيف تدفع بمولودها بعيدا عنها عندما تحس أن بإمكانه أن يجابه الحياة من تلقاء ذاته. لكن أمي كانت تفعل كل ما في وسعها كي تبقينا في حضنها بحجة حبها لنا، إلا أنه حب يصبح هكذا أبشع وسلة من وسائل الإكراه والإخضاع. اضطرَّت أن تفعل ذلك معنا ربما لأنها أمست محرومة من أي شريك في حياتها ولم يبق لها إلا أولادها كيد مواساتها.


كنت استعذب واستحلي حنو وحنان أمي الشديدين علي، ما جعلني لا أفطن لحالة التبعية النفسية وعدم النضج التي أوصلاني إليها. وهكذا، رغم شهاداتي الأكاديمية العالية، ورغم ذكائي وحنكتي الابتكارية، بقيت أشعر أنني مازلت لم أولد ولم أخرج الى دنيا الناس بعد.