ماري بونابارت:
«تقمص فتاة شخصية والدتها المتوفاة»
I - هلوسة طائر اللقلق.
عندما كنت في الرابعة من عمري، بعد يومين من عودتنا من البحر إلى باريس في سبتمبر، أصبت فجأة صباح أحد الأيام عند استيقاظي بنزيف حاد من الرئة. أثناءها شخّص الطبيب الحالة على أنها «احتقان رئوي». كانت رئتاي ممتلئتين بشكل خطير، وكانت حالتي حرجة لدرجة أن الطبيب صرّح في المساء بأنني لن أتمكن من تجاوز الليل. جدتي، والدة والدي التي كانت تربيّني بعد وفاة أمي أثناء ولادتي، أرسلت برقية إلى والدي، الذي كان في ذلك الوقت مسافرًا في البلقان، تطلب منه العودة فورًا.
لكنني تجاوزت الليل واستيقظت في صباح اليوم التالي. عندما عاد والدي، وجد طفلته الوحيدة على قيد الحياة، ولم يستغرق الأمر سوى بضعة أشهر في الجنوب الفرنسي حتى تعافيت تمامًا.
لا أتذكر حادثة النزيف الدموي، رغم أن أولى ذكرياتي تعود إلى ما قبل الرابعة من عمري. لم أعلم حتى طوال طفولتي أنني عانيت من نزيف في الرئة. كانت جدتي والنساء المسنّات اللواتي قمن بتربيتي، بالإضافة إلى الطبيب الذي كان يحمل أفكارًا تقليدية، يحيطونني برعاية مبالغ فيها وغير منطقية، فكانوا يحرمونني من الهواء الطلق النقي والخروج شتاءً، ويمنعوني حتى من غسل يدي بالماء البارد.
- «أنتم تعرفون ما حدث،» كانوا يهمسون، «نتمنى ألا تكون مثل والدتها!»
لكن لا أحد أخبرني بما حدث. لم يخبروا الآخرين خوفًا من أن يظنوا أنني مريضة «بالصدر»، ولم يخبروني أيضا حتى لا يصيبني الفزع. لكن كل هذا الغموض الذي كان يحيط بحدث مظلم وغامض أثقل حياتي، كان بالطبع كفيلاً برعبي.
أتذكر رغم ذلك شيئًا واحدًا، وهو حدث خيالي مذهل. ذات صباح، عندما كنت صغيرة جدًا، في الرابعة من عمري تقريبًا، استيقظت وأنا مستلقية في سريري الصغير على ظهري، فرأيت تحت ستائر الموسلين البيضاء التي تحيط بسريري طائرًا كبيرًا ومشرقًا، يقف فوق بطني. كان الطائر يقف على ساق واحدة طويلة وينظر إليّ برأس مائل بعض الشيء. كان لديه منقار كبير، سميك، طويل ومدبب. كان يشبه طائر البلشون، أو الإيبس، أو الفلامنغو، أو المارابو، أو اللقلق، أو الكركي؟ لست أدري بالضبط. لم أكن أعلم حينها حتى أسماء معظم هذه الطيور. لكنني لم أرَ في حياتي شيئًا أكثر جمالًا من هذا الطائر الكبير بألوانه البراقة التي تُذكر بقوس قزح، ومع ذلك، لم أرَ شيئًا أكثر رعبًا.
سرعان ما اختفت هذه الرؤية الرائعة والمخيفة. قضيت بقية اليوم في سريري الصغير، في ظلام دامس، لأنني كنت مريضة جدًا حينها. ما زلت أتذكر الأصوات والخطوات الخافتة للكبار في الغرف الأخرى، بدت لي بعيدة جدًا، بعيدة جدًا، كما لو كنت في عالم آخر.
بخصوص هذه الرؤية للطائر الكبير، تعلمت كلمة «هلوسة». فقد رَويت ما حدث، وكنت قد أدركت تمامًا، عندما تلاشت معالم الطائر البراقة مع استيقاظي الكامل، أنه لم يكن حقيقيًا. قيل لي إن مثل هذه الرؤية، التي تشبه الحلم لكن الشخص يراها وهو في حالة استيقاظ، تُسمى«هلوسة».
إلا أن الطائر الكبير، الذي بدا لي وكأنه رسول من عالم غامض ومخيف، احتفظ بسرّه لفترة طويلة.
لم أكتشف رسالة الطائر تلك إلا هذا العام، أثناء التحليل النفسي الذي أتابعه منذ عامين مع البروفيسور فرويد. سأعرض هنا لسلسلتين من التداعيات النفسية التي قادتني لفك لغز هذا الطائر.
1- كان الطائر طويل الساق يقف على إحدى قدميه. في اليوم السابق لهلوستي، بعد عودتنا من البحر مباشرة، زرنا حديقة حيوانات. كنت وقتها في فترة عناد شديد: أثناء عودتنا من دييب في القطار، لم يتمكنوا من جعلي أغادر النافذة المفتوحة للعربة حتى وصلنا إلى باريس، حيث كنت أستمتع بالهواء المسائي ورائحة القطار باستمتاع قوي.
وكذلك في اليوم التالي بالحديقة، لم يستطيعوا إبعادي عن المكان حيث كنت مدهوشة أمام قفص الطيور، أراقب طيور الكركي وهي تؤدي رقصاتها الغريبة. افترضوا أنني «أُصبت بالبرد»، سواء من نافذة القطار أو من الأرض الباردة في الحديقة، مما أدى إلى «الاحتقان الرئوي» والنزيف الدموي.
في الحديقة، كان هناك أيضًا طائر مارابو، وربما أيضًا طيور الفلامنغو الوردي من مصر، ذات الألوان البهية . كنت أقضي ساعات كثيرة لتأملها، وقد غاصت إحدى قدميها الرقيقة في مياه الحوض، في حين تبقى الأخرى مطوية تحت جناحها حيث تخفي أيضا رأسها وعنقها من حين لآخر.
لكن في اليوم السابق لمرضي، كانت طيور الكركي هي التي أسرتني. لم أكن أعرف اسمها في ذلك الوقت، وكنت أعتبرها نوعًا من اللقالق. لم أتعرف عليها إلا بعد فترة طويلة، عندما شاهدت رقصاتها مجددًا.
عن طيور اللقلق، لم أكن قد رأيت واحدة حقيقية من قبل، لكنني سمعت عنها. ربما كان ذلك من خلال معلمتي، وهي إيرلندية متزوجة من ألماني، انضمت إلى منزلنا في ذلك الوقت تقريبا. بدأت تعلمني الإنجليزية والألمانية، وكانت أيضا تعرض لي وتشرح كتب الصور. في أحد تلك الكتب، الذي ربما كنت أمتلكه حتى قبل أن تنضم إلينا، كانت هناك صورة ملونة على الصفحة اليمنى ما زلت أتذكرها حتى الآن.
تُظهر الصورة قرية من منطقة الألزاس، حيث يظهر على مدخنة إحدى المنازل في المقدمة لقلق يقف على ساق واحدة. قيل لي عندما عرضت الصورة علي – سواء من قبل معلمتي أو من غيرها فيما قبل – إن طيور اللقلق تقوم بمهمة استثنائية: تأتي بالمواليد الجدد. كنت أرغب بشدة في رؤية لقلق على المداخن. لكن على مداخن منازل باريس، لم يكن هناك لقالق أبدًا – كان عليّ السفر إلى الألزاس لرؤيتها – وكنت مضطرة إلى استبدال طيور اللقالق بطيور الكركي في حديقة الحيوانات.
2 - الطائر الكبير كان يحمل كل ألوان قوس قزح. هذا هو الجانب الأكثر غموضًا. فاللقلق، في الواقع، لا يمتلك ريشًا بألوان قوس قزح، ولا أي من الطيور الطويلة الساقين التي يمكن أن أفكر فيها، مثل الكركي، البلشون، المارابو، أو حتى الفلامنغو الوردي. رغم أنني كنت أسَمي الفلامنغو “الإيبس” وقتها، مما يشبه كلمة “إيريس” المرتبطة بقوس قزح، لا أعتقد أنني كنت أعرف اسم قوس قزح العجيب في الرابعة من عمري.
أفكر أولاً في قوس قزح نفسه عند الحديث عن انعكاسات الطائر الرائعة، فهو يبدو وكأنه نزل من السماء ليلامس الأرض. كنت أحب كثيرًا، عندما كنت طفلة، السماء، والنجوم، والظواهر الجوية. ثم أفكر في الطائر المتعدد الألوان وعلاقته بقصة سمعتها لاحقًا عن الرومان الذين كانوا، في العصور المتأخرة، يستمتعون بمشاهدة سمك “الروجيه” وهو يحتضر، للاستمتاع بالألوان المتغيرة التي يمر بها خلال احتضاره قبل أن يأكلوه. هذه القصة بدت لي مروِّعة ومليئة بالتأنق، لكنني لم أكن أعرفها في الرابعة من عمري.
ثم فجأة، أتذكر شيئًا. كان هناك أمر سمعت عنه بالتأكيد عندما كنت في الرابعة. وهو أن أمي – هذا الكائن المثالي الذي كانوا يمتدحونه دائمًا – توفيت وهي تعطيني الحياة. أمي المتوفاة، كنت قد رأيتها حتى على لوحة كبيرة معلقة في الصالون، حيث ظهرت مستلقية على ظهرها مرتدية ثوبًا أبيض شبيهًا بثوب الزفاف، وشاحبة جدًا.
ماتت أمي بعد شهر من ولادتي، في المساء الأول الذي قامت فيه من سريرها، بسبب “انسداد رئوي”، وهي كلمة كنت أشعر أنني أعرفها دائمًا. قيل لي إنها بالكاد تمكنت من العودة إلى سريرها وهي تنادي والدي قائلة إنها تحتضر. فكان موتها إذن حصيلة أمومتها، وأصبحت أنا أيضا سببا آخر في ذلك.
في البداية، تعرفت أمي على أبي وقابلته في منزل سيدة روسية أصبحتُ أزورها أحيانًا. كانت دائمًا مستلقية على سرير مغطى بالدانتيل، وتدخن سجائر. أثناء إحدى الزيارات قيل لي إنها تعاني من “فطر في الرأس”.
السيدة الروسية، كما قيل لي أيضا، حصلت من والديّ على هدية عرفان. حيث اشترى والديّ لها جوهرة روسية كبيرة، أوبال ضخم محاط بالماس، مقابل مئة ألف فرنك. لم أرَ هذه الجوهرة مطلقًا، لكنها كانت موضوع حديث متواصل في منزلنا.
قيل كذلك إن أمي كانت “ضعيفة الصدر” وتسعل الدم. ورغم محاولات جدتي لطمأنتي بأن الأمر كان “يصدر من الحلق”، فإن الهمس كان دائمًا مستمرًا حول هذه المسألة.
هكذا تبدأ هلوسة الطائر متعدد الألوان بالوضوح. كان الطائر يمثل اللقلق، رمز الإنجاب، وأيضًا رمزًا خاصًا لي، حيث انعكاسات ألوانه تذكرني بجوهرة الأوبال الضخمة التي جلبت الحظ السيئ لأمي.
والدي، الذي ترمل في الرابعة والعشرين، لم يتزوج أبدًا مرة أخرى، وكان يعيش مع جدتي التي تولت تربيتي. كنت أحبه حبًا كبيرًا، أشعر بالحزن كلما رحل، وأنتظر بفارغ الصبر عودته. وكنت أحلم أن أكون بجواره كعروس، وهو حلم تقليدي للفتيات الصغيرات.
عندما كنت في الرابعة من عمري، وكما هو الحال عادةً في هذا العمر، كنت أقترب من ذروة عقدة أوديب الخاصة بي. لكنني كنت طفلة محظية وهذا الحظ جعل جزءًا من رغباتها اللاواعية يتحقق. لقد توفت أمي، وهو ما جعل المكان المرموق - الذي عادة ما تجده البنات الأخريات مشغولاً بجانب الأب المحبوب - شاغرًا بالنسبة لي. صحيح أن جدتي كانت تعيش بيننا، لكنها لم تكن محبوبة مني رغم مزاياها الكبيرة، لأنها كانت صارمة، وأيضًا — كما أفهم الآن — لأن والدي، الذي كان ابنًا مطيعًا ومحبًا، كان يحبها كثيرًا. هذا ما جعل المكان شاغرًا بجانب أبي، وكنت ربما أستطيع أكثر من أي طفلة أخرى أن أحلم باحتلاله.
أما تماهي بأمي فقد واجه عقبة الموت التي لا تحصل عادة بالنسبة للبنات الأخريات اللواتي تكون أمهاتهن منافسات حيّات. والموت، كما نعلم، لا وجود له بالنسبة للاوعي؛ فالأنا فقط هو الذي يتطور ليبني فكرة ما عنه. الموت بالنسبة للاوعي هو النوم أو الراحة أو عالم آخر، لكنه ليس العدم المطلق، الذي لا يمكن للكائن الحي استشعاره. ولهذا يستخدم اللاوعي فكرة الموت عندما تأتي من الواقع الخارجي ويُضفي عليها طابعًا إيروتيكيًا. فالطفل، سواء شاهد العلاقة الجنسية بين الكبار أو استشعرها بذاكرة فيلوجينية، يربط بين فكرتي الحب والموت. وهذا الربط الذي يُفضله الشعراء أيضًا يعكس الواقع البيولوجي: الحب، عند كثير من الأنواع، يدفع ثمنه الموت.
بالطبع، مثل هذه التأملات الفلسفية لم تكن تدور في عقلي عندما كنت في الرابعة. لكن بدلًا من ذلك، كانت هناك حقائق ملموسة تدعم رغبتي الدفينة في أن أموت أنا أيضا. فرغبتي في الموت أصبحت السبيل لتحقيق تماهي بأمي حتى أكون في مكان زوجة أبي.
وفجأةً، بدا أن القدر يُحقق أعمق رغباتي. ذات صباح، عند الاستيقاظ، بدأت “أبصق الدم”. وهنا ظهرت دوافع اللاوعي، وأثارت هلوسة خيالية: أن اللقلق جلب لي، كما فعل مع أمي، طفلًا من أبي. وهكذا أصبحت بدوري زوجته وحبيبته، وفي نفس الوقت أمًا لطفله. لقد كان اللقلق “ملوّنًا”، تمامًا كما كان الزواج والأمومة بالنسبة لأمي ملوّنين، جالبين الحب والحظ السيئ والموت.
هناك تفاصيل أخرى في الطائر الكبير، مثل نظراته المائلة قليلاً تباعا لميلان رأسه، ومنقاره الكبير والطويل الحاد كمنقار “المارابو”. كذلك أبي، لقد كان قصير النظر، كان ينظر إليّ غالبًا بهذه الطريقة من فوق نظارته، وهذه هي نفس حركة الرأس التي ميزت الطائر الكبير المتوهج. أما المنقار الكبير، فهو رمز فالوسي كلاسيكي. ففي عمر الرابعة، يكون الطفل قد أدرك عادةً الفروق بين الجنسين. ولهذا فإن التأكيد هنا على الجانب الفموي الإيحائي في التجربة واضح: الطائر الكبير يقف على بطني، لكن ما يبرز فيه هو منقاره المهدّد.
أما ما يخص جسدي، فالرؤية المُرعبة لدمائي في الحوض تم قمعها بالكامل. لم أسمع مطلقًا عن حادثة بصقي للدم في طفولتي، وعندما كُشفت لي القصة لاحقًا في مراهقتي، لم تستطع إيقاظ أي ذكرى عن الحادثة في ذهني. فقط بعد ذلك أدركت الصلة بين نزيفي وبين الهلوسة المتعلقة بالطائر.
كان الطائر الكبير نتاج أعمق رغباتي: التماهي مع أمي التي ماتت وهي تُنجبني.
من هنا جاء مزيج المشاعر المصاحبة للهلوسة: الخوف من جهة، والفرحة الجمالية العارمة من جهة أخرى. كان الخوف نابعًا من الأنا الذي شعر بالذعر من عنف رغباته ومن الشعور بالذنب بسبب “قتلي” لأمي. لكن الشعور بالجمال كان أقوى من الخوف. كان جمال الطائر هو أول تجربة جمالية عميقة في حياتي. كان من الجميل أن أرى أعمق رغباتي تتحقق: أن أكون زوجة أبي، أن أكون أمًا لطفله، أن يأتيني اللقلق بطفل كما فعل لأمي. وقبلتُ الموت عن طيب خاطر مقابل ذلك.
لكن كان هناك شيء أساسي مفقود في هذا السعادة. أتذكر الخطوات البعيدة التي سمعتُها في الممرات والغرف المجاورة أثناء مرضي، حين كنت في غرفتي المظلمة. هذا الصوت كان مرتبطًا بالنسبة لي بشعور بالحنين العميق، بالوحدة.
كانت أذني الطفولية تنتظر خطوة واحدة فقط بين كل تلك الخطوات — خطوة والدي. لكن رغم مرور الساعات الطويلة وغياب الشمس، لم أسمع وقع خطواته الثقيلة والقوية بحذائه العسكري.
عندما شعرت أمي بالموت، نادت “رولاند، إني أموت!” فجاء والدي ليأخذ يدها. أما أنا، فكنت أموت ولم يأتِ والدي ليأخذ بيدي.
وحين عاد من البلقان بعد استدعائه من قبل جدتي، كنت قد شُفيت. ولهذا كانت عودته خيبة أمل بالنسبة لي. لقد عاد متأخرًا جدًا. اللاوعي لا يعرف الوقت ولا يعترف بمدة الرحلات، وظل بداخلي جزءٌ لم يَغفر أبدًا لوالدي غيابه عن “سرير موتي”
II - رُهاب أنوبيس
ظلّت رؤيتي للطائر الكبير أروع ذكرى من طفولتي. بالنسبة لمن يجهل قوانين اللاوعي التي كشفها لنا التحليل النفسي، قد يبدو غريبًا أن أجمل ذكرى من سنواتي الأولى هي ذاتها التي تخفي — كذكرى حاجزة — حقيقة أنني كنت في ذلك اليوم في خطر الموت. لكننا رأينا للتو كيف أن الموت في خيالي الطفولي كان يعني شيئًا مختلفًا عمّا يعنيه للعقل البالغ، إذ كان ببساطة يوضع بتواضع في خدمة رغباتي العاطفية الملتهبة لتحقيقها أخيرًا.
لهذا، أصبح العنصر الأكثر رعبًا في هلوسة الطائر، وهو “تلوّن” اللقلق، — عبر نوع من الإنكار أو قلب المشاعر — العنصر الأكثر جاذبية وجمالًا.
أما فيما بعد، في الفترات الأكثر رمادية من مرحلة الكمون، فقدَ تعلقي بأبي ورغبتي في التماهي بأمي الميتة بريقهما الأصلي واتخذا لونًا أكثر قتامة.
في سان ريمو، حيث تم نقلي للتعافي في بداية العام التالي، كانت لديّ رؤية أخرى أو بالأحرى خيال لم يكن يحمل نفس الجمال. ففي تلك السنة، ضرب زلزالٌ الساحل بأكمله. وفي الخامسة صباحًا، أيقظتني الهزة الأولى وأنا في سريري الصغير، وبين النوم واليقظة، تخيلت الشهد التالي: ذئب يصعد سلمًا مستندًا إلى نافذتي ويهز المنزل. صرخت “الذئب! الذئب” وهرعوا لإنزالي إلى الحديقة خوفًا من انهيار المنزل. هناك، أذكر نفسي بجانب أشجار البرتقال حيث كنت أحب فاكهتها الحمراء الجميلة، وأنا أستمع إلى صاحب المنزل وهو يخبر جدتي أن الأرض أثناء الزلازل قد تنفتح أحيانًا، فيسقط الناس في الشقوق التي تنغلق عليهم. ثم حكى قصة امرأة دُفنت حية بهذه الطريقة. عندها بدأت أنظر إلى الأرض بين الحصى الصغيرة في الممر بخوف، لكنه كان خوفًا ممزوجًا بجاذبية غريبة لفكرة الكارثة التي قد تحدث لي.
لكن في وقت لاحق، عندما كنت في حوالي الثامنة من عمري، أصبحت مخيلتي مظلمة حقًا. استمر الذئب في مطاردتي عبر قصة “الكيمونو الأحمر”، حيث يلتهم الذئب الجدة أولًا — وهو أمر ربما لم يزعجني كثيرًا لو حدث لجدتي الصارمة — ثم يلتهم الفتاة الصغيرة. لكن الذئب كان لا يزال حيوانًا ساحرًا مقارنة بالشخصية الكئيبة التي بدأت تطارد لياليّ في سن الثامنة: أنوبيس.
كان والدي حر التفكير، وكذلك جدتي، وكانا يمنعان مربّيتي العجوز من إرغامي على الصلاة. لكنها كانت ترغمني سرًا، وكنت أصلي ليلًا خوفا من أن تفتح جدتي الباب فجأة، تمامًا كما يسرق الأطفال المربى. صلواتي كلها كانت موجهة إلى أمي، “أمي العزيزة”.
وجدتْ مشاعري الدينية غذاءً آخر في الأساطير التي كنت أعشقها، إذ شعرت فيها بآلاف الروابط مع نفسي. وفي يوم من الأيام، وأنا أتصفح كتابًا عن الأساطير المصرية، اكتشفت صورة لأنوبيس، الإله المظلم ذو رأس ابن آوى، “حارس الموتى”، يقف أمام مومياء ممددة على طاولة حجرية. منذ تلك اللحظة، استحوذ أنوبيس على خيالي.
كل ليلة، بمجرد أن أستلقي في سريري الصغير على ظهري (في وضعية المومياء)، كنت أشعر برعب شديد من أن يبدأ أنوبيس، حارس الموتى، بالعواء في الليل، ويظهر بجانب سريري بكل عظمته المرعبة.
كان رهاب أنوبيس أكثر لا عقلانية من مخاوف الأطفال الأخرى: فمثلًا، الطفل “هانز الصغير” الذي تحدث عنه فرويد، كان من الممكن أن يتعرض للعض من قبل الحيوان الذي كان يخشاه، وهو الحصان، في حين لم تكن هناك أي فرصة فعلية لأنوبيس للظهور بجانب سريري. ومع ذلك، استمر هذا الرهاب في إرهابي لعدة سنوات من طفولتي، ولم أجرؤ أبدًا على البوح به لأحد.
كنت قد تجرأت في سن الرابعة على التحدث عن هلوسة اللقلق، لكنني لم أجرؤ في سن الثامنة على كشف رهابي من أنوبيس.
كانت المكبوتات لديّ قد أصبحت أشد قسوة، وكذلك الصراع معها. ولو أردت تفسير هذا التحول في موقفي، سأحتاج لتحليل كامل لرهابي من أنوبيس، وهو ما سيأخذنا بعيدًا.
ما هو مؤكد أنني لم أفهم شيئًا عن رهاب أنوبيس حينها. لم أربط أبدًا بين المومياء التي في الصورة وصورة أمي في اللوحة المعلقة في الصالون، ولا بقصة أمي التي كنت أسمعها مرارًا بأنها “حنّطت” مثل المومياء، رغم أن هذا كان غير دقيق، كما عرفت لاحقًا، لكنه ظل حقيقة مصدقة في طفولتي.
لم أدرك أبدًا أنني بدوري كنت مومياء. لم تخطر لي فكرة أن أنوبيس كان يأتي ليرعبني كل ليلة بمجرد أن أستلقي في سريري، لأن هذا التمدد يجعلني في وضعية المومياء نفسها.
لم أكن أعي من الثنائية المرعبة (أنوبيس والمومياء) إلا العنصر الأول، ولم أدرك أبدًا أن أنوبيس كان والدي واقفًا بجانب الأم الميتة.
ظلت الأم الميتة، التي كنت أتماهى معها، غير واعية، سواء كفكرة أو كصورة، وكانت تمثل تمثيلًا غير واعٍ متكامل. يمكن ربط هذا الأمر بحالة النسيان التي رافقت نزيفي في الرابعة من عمري، حينما تم قمع مشهد دمي بالكامل، بينما بقيتْ صورة اللقلق المتلألئ، الطائر الأبوي الفالوسي، واقفًا على ساق واحدة.
ظهر رهاب أنوبيس أيضًا، جزئيًا على الأقل، بشكل شفهي، كما فعلت هلوسة اللقلق بشكل أكثر اكتمالًا. كان ابن آوى يتغذى بالجثث الميتة، وفي لاوعيي، كان أنوبيس، الذي يمثل والدي، حارسًا ومفترسًا للموتى — أو بالأحرى، للموتى من النساء.
حملتُ في أعماقي، طوال طفولتي، ذكرى سرية أخرى. كنت أتخيل أنني رأيت أمي الميتة بالفعل، لكنني كنت أكتم ذلك بغيرة شديدة — لم يكن أحد يعلم بذلك. كان ذلك في دييب، عند شاطئ البحر — الذي بقيت أحمله كحنين في داخلي! إذ بعد نزيفي الرئوي، لم أُوخذ إلى هناك سوى مرة واحدة، وتحت ذريعة أن البحر لم يكن يناسب صحتي، وأنني كنت على وشك الإغماء على الحصى في تلك السنة الأخيرة.
تم بيع المنزل الذي ورثناه عن أمي في دييب. وهكذا، بقيت أحمل حنينًا لمدينة دييب، ولحلوى التفاح التي كانوا يعطونني إياها أثناء المرور بمحطة روان، والتي كنت أتلذذ بها برهبة وخوف بسبب قصة الصبي الصغير الذي قيل إنه ثقب لسانه بسبب مصّ قطعة حلوى شعيرية بشغف زائد.
لكن ما بقي في ذهني أكثر من أي شيء آخر، كان لوحة رائعة ومؤلمة تملأني بالحنين، الآن بعد أن توقفنا عن الذهاب إلى البحر: لقد كنت، عند صعود عربة الأومنيبوس من محطة القطار في زقاق ضيق، أرى من البحر الذي يظهر فجأة بين جدران المنازل المتقاربة، جزءًا أزرق مخضرًا منقّطًا بالأشرعة البيضاء. ربما لن أرى ذلك مرة أخرى أبدًا. لكن دييب كانت بالنسبة لي مكانًا مقدسًا بسبب ذكرى أعظم بكثير. ففي الكنيسة المظلمة، التي كان يتردد عليها الصيادون، لم أكن يومًا، وأنا طفلة صغيرة جدًا، في مواجهة مشهد كهذا: كنت وحيدة مع أمي التي انصرفت راكعة على مسند صلاة، مرتدية السواد، تتضرع لله بصمت، شاحبة مثل تمثال من الشمع؟ هذا الخيال، الذي صدقته طوال طفولتي، احتفظتُ به عميقًا في داخلي ككنز ثمين لا يجب أن يكتشفه أحد أو يدمره.
كذلك حلمٌ يتكرر منذ طفولتي يرتبط أيضًا بالبحر. كان يبدأ دائمًا بالطريقة نفسها: كنت في غرفة وأسمع خطوات أشخاص، رجال، يصعدون السلم. لم أكن أستطيع الهرب عبر السلم. عندها، كنت أقفز من النافذة المفتوحة. أطير، أطير فوق حديقة، وأرتفع، بجهد كبير، فوق الأشجار العالية التي تحدها، وكانت قدماي أثناء الطيران تلامسان قممها. ثم يستمر طيراني فوق سهول واسعة تمتد حتى الأفق، حيث يظهر البحر، بعيدًا، متلألئًا. ومع اقترابي من البحر، يزداد طيراني سرعة وكأنني مدفوعة برياح خلفية؛ لكن هناك شيء غريب، مريع، كان يحدث: السماء كلها تصبح بيضاء، وعيناي المبهورتان تفقدان القدرة على الإنغلاق. وهكذا، أصِل في طيران مدهش إلى البحيرة الأولى، أتجاوزها؛ شريط ضيق من اليابسة، ثم بحيرة أخرى، وأخرى، والسماء تزداد بياضًا، وعيناي تغمرهما آلام لا تُحتمل، وأخيرًا أحلّق فوق البحر المفتوح.
حينها، يفقد طيراني زخمه شيئًا فشيئًا، وتضعف القوة التي تحملني، فأهبط، وأهبط، رغم محاولاتي اليائسة، حتى تلامس قدماي قمم الأمواج. وكأن الماء يمسك بي، يجذبني إلى أسفل، أشعر بالماء البارد يحيط بركبتي، ثم بخصري، ثم بحزامي، حتى يغمر كتفاي، وفي اللحظة التي تدخل فيها المياه المالحة إلى فمي، مختنقة، أستيقظ في حالة من الهلع.
كم ليلة بكيت تحت وطأة هذا الكابوس الذي كانت فيه البحر، الرمز الأبدي للأم، يمزقني كي يبتلعني، ويمتصني في أعماقه! والطعم المالح للمياه التي تملأ فمي ربما كان الذكرى اللاواعية، التي لا تُمحى، لطعم الدم، المالح والباَهت، الذي خرج أثناء نزيفي وكاد يكلفني حياتي.
أما البحر، فيذكرني بذكرى أخرى من فترة الكمون، ترتبط بدروس الجغرافيا. كنت أحب الجغرافيا بشغف، لأن والدي كان يكرس نفسه لدراسات جغرافية. ومن بين كل البحار التي تعلمت أسماءها، لم يبهرني أي بحر، أو يملأني برغبة لرؤيته والسباحة فيه مثل “البحر الميت”. هذا البحر الغريب، الذي قيل إنه شديد الملوحة لدرجة أن الأسماك لا يمكنها العيش فيه، وأنك تطفو فيه دون أن تغرق بسبب ملوحته العالية. هذا البحر “المحنّط” مثل المومياوات في حمام النطرون، كان يجذبني دون أن أعرف لماذا.
أعلم الآن أن اللاوعي معتاد على هذه اللألاعيب اللغوية الغريبة والمليئة بالمعاني العميقة. أذكر المدينتين الآثمتين اللتين غمرتا تحت هذا البحر. أسماؤهما الغريبة والمخيفة كانت تملؤني بجاذبية ممزوجة بالرعب. كنت أعلم، دون القدرة على التعبير عما يعنيه ذلك، أن سدوم وعمورة قد عوقبتا على خطايا غامضة ومروعة تُخفى عن الأطفال. زوجة لوط، ألم يُحك أنها، لمجرد أنها التفتت إلى هذه المدن الملعونة، تحولت إلى تمثال من الملح؟ كان يظهر هذا التمثال في خيالي، شاحبًا، أبيض، كجثة؟ كان هناك شيء لا يجب رؤيته، ولا معرفته. أمي — وهذا بقي غير واعٍ — ربما ماتت أيضًا نتيجة أسباب أو أخطاء غامضة، تُخفى عن الأطفال.
والملح! الملح كان يظهر لي كمادة مقدسة ومهيبة. كانت جدتي، إذا انسكب الملح على المائدة، ترميه خلف كتفها في حركة تعويذية. وكان والدي يمنعني من تقليدها، وقد أمسك مرة بيدي ليعلمني احتقار الخرافة، وهو ما كنت أفعله علنًا. لكن في أعماقي، كان الأمر مختلفًا؛ إذ تخيلت بلورات الملح على شواطئ البحر الميت وهي تتلألأ بشكل سحري. والتوهجات العجيبة التي تخيلتها كانت تذكرني، بلا وعي، بحجر الأوبال، الأوبال الذي كان لا يزال نائمًا هناك في أعماق خزانته، في البنك.
III- وهْم الإصابة بالسل
على الرغم من أن إصابتي بالسل الطفولي لم تعاود الظهور أبدًا، إلا أن حجر الأوبال، المدفون في صندوقه هناك في البنك، واصل ممارسة قوته المشؤومة. ففي سن السابعة عشرة، وبعد فترة مؤلمة من الصراعات التي أعقبت مراهقتي، والتي جعلت حياة والدي صعبة لبضعة أشهر، على الرغم من حبي الكبير له — وهو ما يعكس تناقضاتنا العاطفية — نشأت داخلي مشاعر حنان تجاهه. وفي الوقت نفسه، ولدت في داخلي فكرة وترسخت تدريجيًا: أنني، مثل أمي، كنت مصابة بالسل، وأن الجميع كانوا يخفون ذلك عني.
سرعان ما اكتشفت العديد من الأعراض التي بدت لي تأكيدًا لذلك. الجميع كانوا يخدعونني: أهلي، الأطباء الذين أكدوا أنني سليمة. وحدها خادمتي العجوز، التي كانت تعمل لدينا منذ أن كنت في الخامسة من عمري، وهي امرأة كورسيكية مخلصة، أثارت في طفولتي عبادة أمي الراحلة. وحدها كانت تهز رأسها وهي تنظر إلى وجهي الشاحب، والدموع في عينيها، وتقول: “كنت أخشى ذلك دائمًا". كنتُ أعلم ذلك، ولم يكن لدي أي أوهام بشأن مصيري. كنتُ مصابة بالسل، وسأموت بالكاد بعد تجاوزي سن العشرين، تمامًا كما حدث لأمي.
هل سمعتُ بما حدث لي وأنا في الرابعة من عمري؟ هل كشف لي أحد عن نزيف الرئة الذي ظل يثقل طفولتي، ويجبرني على البقاء في المنزل؟ أعتقد أن هذه الحقيقة كُشفت لي عندما كنت في السادسة عشرة، أي قبل ذلك بوقت قصير.
الأطباء، الذين كانوا في ذلك الوقت، كما نعلم، غير مهتمين بفهم الصراعات النفسية، تعاملوا مع حالتي باستخفاف. طبيبنا المعتاد، الذي كان يحبني كثيرًا، بدأ بمعاملة أفكاري المرَضية بازدراء متزايد. هذا الأمر أغضبني وجعلني أتشبث بمعتقداتي أكثر. كل مرة أحاول الحديث معه عن مخاوفي، كان يتجاهلني تمامًا.
وهكذا مرت ثلاث سنوات عشت خلالها مع هذا الهوام بداخلي. شعرت بثقل في جانبي الأيمن، كنت أعاني من صعوبة في التنفس، أصبت بفقر الدم، فقدت الوزن، وشهيتي لم تكن كبيرة. وخلال فصل الشتاء، كنت أعاني من التهابات مستمرة في الحلق والقصبة الهوائية، مما أكد لي صحة أفكاري. كنت أقول لنفسي: إما أن الأطباء غير أكفاء ولا يستطيعون تشخيص حالتي، أو أنهم يكذبون علي.
رغبت حينها في دراسة الطب، لكن والدي اعترض، قائلاً إن ذلك سيضر بزواجي المستقبلي. استسلمت فورًا. لماذا أقاتل؟ كنت مريضة للغاية كي ألتحق بالجامعة، وفكرة معارضة والدي لم تخطر ببالي حينها! ومع ذلك، لم تكن حياتي خالية من الحماس و الحزن. لم أكن أبدًا أكثر اجتهادًا مما كنت عليه في تلك الفترة. كنت أدرس في المنزل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، وكنت أعمل بجد أكثر من والدي نفسه. فكنت أفتخر بمشاركته أحاديث عن الدراسات العلمية على مائدة الطعام.
رغبتي في دراسة الطب قادتني للاهتمام بعلم التشريح. في مكتبة والدي كان هناك هيكل عظمي صغير لامرأة هندية توفيت بسبب السل في سن العشرين. أقنعتُ والدي بنقله إلى مكتبي لدراسته، على الرغم من أنني كنت أشعر برهبة عميقة تجاهه. حاولت التغلب على خوفي، لكن وجوده أشعل في داخلي أحلامًا وكوابيس. الهيكل العظمي بات رمزًا لوالدتي المتوفاة، وها هو يعود ليذكرني بمصيري المحتوم.
وفي هذه الفترة، أهداني والدي ترجمة قصص إدغار آلان بو. كانت قصة ليجيا مروعة بالنسبة لي. لم أتمكن من إنهائها، إذ ذكّرتني بشكل غامض بأمي كروح عائدة للانتقام. بقيتْ هذه القصص، وهذه الرموز، تطاردني لسنوات عديدة.
ومع ذلك، عندما بلغت العشرين من عمري - السن الذي تزوجتْ فيه والدتي - اشتد “مرضي” فجأة. بدأت أفقد الوزن وأتدهور بشكل ملحوظ. وأصبحت آلام حلقي، التي لم تنقطع، مهددة بأن تصبح مزمنة خلال ذلك الشتاء. كنت أحيانًا أجد في حلقي مخاطًا ممزوجًا بالدم. قال البعض: “إنه أمر وراثي، فهي مثل والدتها؛ كانت تعاني من حبيبات سببت لها السعال الدموي”. ومع مرور الوقت، فقدت وزني وشحبت وتدهورت حالتي إلى درجة أن والدي وجدتي، وبعد مشاورة الأطباء، قرروا أخيرًا إرسالي إلى جنوب فرنسا. كان الغرض من ذلك أن أستعيد عافيتي وأتغلب على “فقر الدم”، كما كان الأطباء يسمون حالتي آنذاك.
كانت هذه رغبتي أيضًا. لم أزر الجنوب - حيث نشأت أمي - منذ أن كنت في الخامسة من عمري، عندما شفيت هناك بعد نزيفي الرئوي. لكنني شعرت وكأنني أعرفه كما لو كنت قد غادرته بالأمس. لا توجد كلمات تصف دهشتي وسعادتي وأنا أشاهد من جديد أشجار النخيل، والأوكالبتوس، وأشجار البرتقال والليمون، وأزهار الميموزا الصفراء ذات العطر الذي يشبه الشمس المزهرة.
عشت في الهواء الطلق هناك، وأجبرت نفسي على الالتزام بنظام غذائي مفرط لعدة أشهر، مما أدى إلى اقترابي من حدود السمنة. لكنني قللت من الأكل لاحقًا، واستعدت رشاقتي تدريجيًا، ولم يبقَ سوى لون وجهي الصحي، الذي أصبح مصدر ارتياح. مع ذلك، كان علي العودة إلى الجنوب لأربعة شتاءات متتالية قبل أن أقتنع بأنني شُفيت تمامًا. فقد كنت أنتظر تجاوز تاريخ معين في حياتي، وهو تاريخ وفاة والدتي. لم أكن لأشفى من وهمي بمرض السل قبل أن أبلغ الثانية والعشرين، وهو العمر الذي توفيت فيه والدتي.
لم يكن بإمكاني الزواج قبل ذلك؛ فقد كنت أخشى الحمل والولادة بشدة. وكان وهمي بمرض السل بمثابة توازن يحميني من الزواج والحمل، وفي نفس الوقت يبقيني وفية لذكرى أمي ولحبي الكبير لوالدي.
عندما بلغت العشرين أو الحادية والعشرين من عمري، عادت مجوهرات أمي من البنك حيث كانت محفوظة منذ وفاتها، وسُلّمت لي رسميًا. وبين كل ما كان في صندوق المجوهرات، لم يجذب نظري شيء بقدر الجوهرة الكبيرة “الأوبال”.
لكن مظهرها خيّب أملي. لم تكن على شكل بيضة كما تخيّلتها طوال هذه السنين؛ بل كانت على شكل قلب. كما أنها لم تكن بحجم بيضة دجاجة كما حلمت، بل كانت بالكاد أكبر من بيضة حمامة. انعكاساتها الضوئية كانت أكثر لبنية مما توقعت، أقل بريقًا من الريش اللامع للطائر العظيم الذي لم أكن أعرف حينها كيف أربطه بهذه الجوهرة. باختصار، خيّبت “الأوبال” الكبيرة توقعاتي عندما رأيتها لأول مرة في سن العشرين.
مع ذلك، عندما بلغت الثانية والعشرين، قال لي والدي: “لقد حان الوقت. عمرك الآن اثنان وعشرون عامًا، ولا يزال الزواج غير وارد بسبب أفكارك السخيفة عن مرضك الوهمي. يجب أن تتخلي عن هذه الأفكار وتشفقي على نفسك”. شعرت بالغضب أولًا من كلماته، لكنه بدا لي وكأنه يعكس الحقيقة. بدأ وهمي بمرض السل يتلاشى تدريجيًا، ومع مرور الشتاء الذي تلاه في الجنوب، شعرت بتحسن كبير. عندها فقط استطاع أحد الأطباء إقناعي بأنني لم أكن مريضة بالسل أبدًا خلال السنوات الماضية.
وفي سن الخامسة والعشرين، تمت خطبتي. اقترح خطيبي بيع المجوهرات القديمة التي ورثتُها عن أمي وشراء لآلئ جديدة بدلًا منها. وافقت رغم شعوري ببعض الحزن. لكنني رفضت تمامًا بيع “الأوبال”، رغم إلحاحه. لم أكن أستطيع التخلي عنه.
ذات يوم، أثناء ما أعتقد أنه كان حمْلي الأول، شعرت برغبة في رؤية حجرة الأوبال مرة أخرى. فتحت صندوق مجوهراتي وبحثت عنها، لكن لم أستطع العثور عليها. اختفت الأوبال، التي قيل إنها تجلب سوء الحظ للنساء الحوامل، والتي رفضت بيعها، قبل أن أضع مولودي. بدا الأمر كما لو أن القدر أراد حمايتي منها رغمًا عني.
أنجبت طفلين، وعلى الرغم من المخاوف الرهيبة التي كانت تراود والدي حينها، لم أمت أثناء الولادة. وبعد مرور سنوات عديدة، وعندما فقدت الأمل تدريجيًا في أن أصبح أمًا للمرة الثالثة، ظهرت الأوبال مجددًا، دون أن أعلم كيف. وجدتها مخبأة في عمق صندوق قديم، ملفوفة بحزن في ورقة حريرية. لكن سرعان ما اختفت مرة أخرى، ليس فقط من بين أشيائي، بل أيضًا من أفكاري… حتى ظهرت بالأمس في جلسة التحليل النفسي، بكل أهميتها المشرقة.
حتى البارحة، كنت أعتقد أنني فقدتها نهائيًا، ولم أتذكر وجودها إلا هذا المساء حين سألت خادمتي عنها. فأخبرتني بوجودها في قاع الصندوق القديم. الآن، الأوبال الكبيرة، التي ظلت مدفونة في الظلال لسنوات طويلة، يمكنها أن ترى النور مجددًا. لقد فقدت أخيرًا قوتها الغامضة والمخيفة، لأنه - وكما يمكن أن يكون هذا شعارًا للتحليل النفسي - “الأشباح تتلاشى عند التعرض لضوء النهار”. لكن لا بد أولًا من امتلاك الشجاعة لاستحضارها تحت هذا الضوء.
خاتمة
قصصت هنا رؤيتي الهلوسية لطائر اللقلق عندما كنت في الرابعة من عمري، ورهاب أنوبيس الذي تلاها. والسبب هو أنني أردت تقديم مثال جميل عن التعرف على الأم من خلال الموت، وبناءً على حب عميق للأب، وذلك خلال فترة ازدهار عقدة أوديب في سنوات الطفولة المبكرة وما بعدها.
أضفت أيضًا سردًا عن هوامي بالإصابة بالسل عندما كنت في السابعة عشرة، لأنه ينبع من نفس الجذور، ويتصل بعقدة أوديب التي عادت للظهور بفعل البلوغ. تُظهر حالتي بين السابعة عشرة والثالثة والعشرين التأثير العميق للعقد النفسية على الحالة الجسدية وعلى مسار الحياة. لو كانت هناك إمكانية لتحليل نفسي حينها، لاستفدت منه أكثر من كل الاستشارات الطبية والإقامات العلاجية في الجنوب.
من خلال هذه التجربة، يمكن ملاحظة التناقض بين المواقف الواعية وغير الواعية تجاه الخرافة، وكذلك الدين بشكل عام. على الرغم من أن والدي كان يمنعني من إلقاء الملح المنسكب وراء ظهري، ورغم أنني كنت أتشبه به وأزعم أنني أرفض كل الخرافات وأحتقرها، إلا أن عقلي الباطن كان “يؤمن” بشدة بالقوة المخيفة للأوبال. وهكذا، كانت رؤيتي لطائر اللقلق اللامع في سن الرابعة تنبئ عن ذلك، كما فعلت اختفاءات وظهورات الأوبال على مدى عشرين عامًا، متزامنة مع الأحداث الكبرى في حياتي كأنثى وأم.
من خلال تناقض مماثل، كنت أنا، التي تباهت في بلوغها سن الرشد بكونها مفكرة حرة، ولا تؤمن بحياة ما بعد الموت، أحتفظ مع ذلك بخوف داخلي من الأشباح لدرجة أنني لم أتمكن من قراءة قصة لإدغار آلان بو إلا بعد أن تحررت أخيرًا من هذا الخوف بفضل التحليل النفسي.
وهكذا، في أعماق اللاوعي القديمة، تستمر الديانات البدائية للبشر في العيش، حتى عندما يرتفع وعينا فوق هذه المفاهيم الأولية.