يونيكا تسورن: «أكتب كي لا أموت» - مقالة

 


يونيكا تسورن: «أكتب كي لا أموت»


كتبه بالفرنسية ونقله الى العربية:

عبد الهادي الفقير


1- تمهيد 


من خلال مثال جيمس جويس، أوضح لاكان إلى أي مدى يمكن أن تعمل الكتابة كتعويض لهذا الشخص، حيث حمت جويس تمامًا من الوقوع في الجنون. جويس، الذي كان وفقًا للاكان ذو بنية ذهانية تُظهر بوضوح نقص اسم الأب عنده، لم يعانِ من أهوال نوبات الجنون بفضل الدور الرابط الذي لعبته كتابته بين سجلات الواقعي والرمزي والخيالي.


في مختلف مجالات النشاط البشري، وُجد أشخاص - فنانين، شعراء، مفكرين أو مخترعين - استطاعوا بدرجات متفاوتة الاستفادة من هذه الوظيفة التعويضية التي وفرها لهم عملهم الإبداعي. بعضهم نجح بشكل عملي من خلال هذا المسار في تهدئة التأثيرات المدمرة للانفجار الذهاني وتأخيرها إلى أقصى حد ممكن في حياتهم.


ترك بعض هؤلاء المبدعين خلفهم أعمالًا مكنتهم من تقديم شهادات حول ما عاشوه كتجربة فريدة،  تمكننا نحن القراء - إذا أبدينا شيئًا من التقبل لمرسالهم والانتباه إلى أقوالهم - العثور على المفاتيح والإحداثيات البنيوية للشغف الذي وضعوه في تجربتهم الاستثنائية.


استثنائية بالفعل هذه التجربة، لأن الشخص الذي يفتقر إلى دال اسم-الأب قد يتوجب عليه مواجهةالآخرالذي يفتقد لقانون تنظيم دواله. هذا الآخر الذي قد يترك الشخص في ضيق لا يوصف في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يغمره بحضوره المكثف لدرجة الخنق. وفي كلتا الحالتين، تلوح موت الذات في الأفق.


استثنائية أيضًا هذه التجربة لأن الشخص يجد نفسه في مواجهة دال جامح يعود إليه ويشير إليه في سجل الواقعي. هذا الدال يظهر معزولًا، متوقفًا، ومجمدًا في الهلوسة، ومع ذلك يكون محمّلاً بمعنى هائل وغامض في الوقت ذاته. يجب على الشخص أن يتحمل عبء التعامل مع هذا الدال فيحاول ربط هذا الدال الشارد والمنقطع عن السلسلة، من خلال محاولة إدخاله في دائرة الخطابات المشتركة وتحويله إلى رسالة موجهة للآخرين. ربما يتمكن الشخص بذلك من استعادة شيء من الاعتراف بذاته كذات، بعدما أصبح مجرد موضوع مهمل داخل بنية الإشارة التي تكون خاصة وشديدة التفكيك في الوقت ذاته.


مسار حياة وإبداع يونيكا تسورن ينتمي إلى هذا السياق. تقدم لنا، من خلال إنتاجها الأدبي بشكل خاص، كيفية اعتمادها بشكل كبير على فعل الكتابة في مواجهتها مع الذهان. لقد تم استدعاء الكتابة لإنقاذها في محاولتها العمل على هذه البنية، على أمل أن تتمكن من توفير مساحة للعيش والبقاء أمام المرض. لكن إلى أي مدى استطاعت مهارتها في الكتابة أن توفر لها الملاذ الذي طال انتظاره لإيواء ذاتها؟ وإلى متى استطاعت الكتابة حمايتها والحفاظ على ذاتها من التدمير الذي يحتمه الجنون؟


1- موجز سيرة يونيكا تسورن الشخصية والأدبية


قبل محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة، سأقدم أولاً عرضًا موجزًا عن الكاتبة. يونيكا تسورن هي فنانة وكاتبة ألمانية، ساهمت في الحركة السريالية بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي. يتكون إنتاجها من رسومات فنية ونصوص أدبية تجمع بشكل مدهش بين جماليات الإبداع والشهادة الشخصية على تجربة الجنون.


وُلدت يونيكا في عام 1916 بعد شقيق ذكر، ونشأت في حي فاخر في برلين داخل منزل كبير ومريح مليء بعدد لا يُحصى من القطع الفنية التي جمعها والدها خلال رحلاته الطويلة والمتوالية إلى مناطق بعيدة. كان والدها في البداية ملازمًا في سلاح الفرسان في المستعمرات الألمانية، وبعد إعفائه من هذه الوظيفة، اتجه للعمل في مجال الصحافة والنشر. أما والدتها فتنحدر من عائلة ثرية جدًا.


بعد دراستها في مجال الأعمال، عملت يونيكا تسورن في برلين عام 1933 ككاتبة اختزال في استوديوهات السينما، ثم بين عامي 1936 و 1942 كمؤلفة نصوص ومخرجة أفلام إعلانية.


تزوجت في عام 1942 من رجل ثري وأنجبت طفلين: فتاة وصبي. خلال تلك الفترة بدأت يونيكا كتابة القصص القصيرة للصحف، والقصص الإذاعية، كما كانت على اتصال بالأوساط الفنية.


في عام 1949، انتهى زواجها بالطلاق وحُرمت من حضانة أطفالها لصالح والدهم. بعد الطلاق، انخرطت يونيكا في حياة البوهيميين في برلين بعد الحرب. وفي هذا السياق، وخلال معرض فني نظم في برلين عام 1952، تعرفت على الفنان السريالي هانز بيلمر، الذي رافقته في العام التالي إلى باريس حيث استقرت معه. قام بيلمر بتقديمها إلى مجموعة من السرياليين، وأصبحت جزءًا من هذا التيار الفني.


يُذكر أن أعمال بيلمر تضمنت رسومات ونقوشًا وصورًا فوتوغرافية تتناول موضوعات إيروتيكية، وركز جزء كبير من أعماله على تصنيع دمى كبيرة بحجم الإنسان. كانت هذه الدمى تُفكك ويُعاد تشكيلها، ويتم تصويرها في أوضاع إيروتيكية مختلفة.


بتشجيع من بيلمر وتحت إشرافه، بدأت يونيكا في إنتاج الرسومات، والكولاج، وكتابة الأناجرام (إعادة ترتيب الحروف لتكوين كلمات أو عبارات جديدة). وفي عام 1954، نشرت مجموعة بعنوان نصوص سحرية، تضمنت 10 أناجرامات و10 رسومات.


خلال السنوات التالية (بين 1957 و 1970)، ت تنقلت بين الإبداع الفني والأدبي وبين فترات الأزمات النفسية والإقامة في المصحات النفسية. وخلال إقامتها في هذه المصحات، كانت تمارس الرسم والتلوين وكتابة النصوص الأدبية.


في منتصف هذه الفترة الصاخبة، عُرضت رسوماتها في معرض هام بباريس في عامي 1963 و 1964، وكان الكتالوج مصحوبًا بمقدمة لأحد ممثلي الحركة السريالية.


قبل وفاتها مباشرة في عام 1970، كتبت ونشرت عملاً صغيرًا بعنوان ربيع مظلم، وأكملت عملها الرئيسي رجل الياسمين، وكانت تخطط لكتابة جزء مكمل بعنوان رجل القمامة.


في مجال الأدب، اشتهر اسم يونيكا تسورن بفضل هذه الأعمال، وكذلك بسبب اختراعها لشكل جديد من الشعر يُعرف بـ الشعر الأناجرامي. يرى بعض النقاد أن قصائدها تعد بداية هذا النمط الشعري، الذي أصبح له أتباع في فرنسا وألمانيا، حيث تم اعتباره أحد أشكال المستقبل للشعر.


علاوة على ذلك، تُقدم جميع أعمالها الفنيةمن رسومات ومجموعات شعرية ونصوص أدبيةشهادة مؤثرة عن تجربتها مع الجنون، وتوضح بدقة لحظات وأحداثًا أساسية في انفجار الذهان لديها. كما تُقدم فهمًا دقيقًا للحظات الحاسمة في بدء الأزمات، وتفاقمها، أو تهدئتها.


هذا الجانب لم يغفله أصدقاؤها ومترجمو أعمالها، حيث كتبت إحدى صديقاتها بتمعن: “ما يجعل مصير هذه المرأة استثنائيًا ليس مرضها العقلي الذي استمر لسنوات طويلة وجعلها تقضي فترات في المصحات النفسية، ولكن قدرتها خلال فترات الهدوء والصفاء العقلي على تقديم وصف رائع لتجاربها غير العادية، وتحويل هذا الانهيار المتزايد في حياتها إلى عمل فني مذهل.”


2- الغاء اسم-الأب وتأثيراته على ذات يونيكا


تبدأ يونيكا تسورن رواية رجل الياسمين بسرد لحلم راودها في عامها السادس. في هذا الحلم، تجد نفسها واقفة أمام مرآة طويلة معلقة على جدار غرفتها. تتحول المرآة أمامها إلى باب ينفتح على ممر طويل ينتهي بمنزل صغير. تدخل المنزل، لكنها لا تجد أحدًا فيه. تصعد الدرج وتصل إلى طاولة عليها بطاقة صغيرة بيضاء اللون، تشبه بطاقة زيارة. تلتقط البطاقة لتقرأ الاسم المكتوب عليها، ولكن في تلك اللحظة ينقطع الحلم وتصحو من نومها.


تقول تسورن إن هذا الحلم أثر فيها بشدة وأرعبها لدرجة أنها نهضت فورًا وذهبت إلى المرآة، محاوِلة تحريكها للتأكد مما إذا كان هناك باب خلفها. لكنها وجدت، كما تقول،الجدار فقط، وليس الباب”.


ما يزيد الأمر إرباكًا هو ما شعرت به فور استيقاظها: “وحيدة بشكل لا يطاق”. يمكننا القول هنا إنها وجدت نفسها بدون دعم الاسم الذي كانت ستقرأه على البطاقة، وصرحت بشكل واضح بأنها أصيبتبشعور لا يُفسَّر بالوحدة”.


في عملها الآخر ربيع مظلم، تشير إلى أن هذا الشعور الشديد بالوحدة الذي عاشته بعد الحلم يرتبط بحنين غير قابل للتعزية لطفولة افتقدت أباها أثناءها. آنذاك تستعيد حدثين بارزين من طفولتها المبكرة يبدو أنهما هيَّآ لهذا الحلم وما تبعه من شعور بالضيق. لقد كانت تلك الطفلة تلاحظ بدهشة مؤلمة أن أباها نادرًا ما يكون في المنزل. تشتاق إليه. إنه غائب، وما هو غائب يصبح أكثر ألمًا”.


كما تستذكر ذكرى أخرى تعود إلى عامها الثاني تقريبًا. كانت في نزهة مع المربية التي كانت تدفع عربة طفلها، ومروا بجانب جنود يستعدون للذهاب إلى الحرب، يغنون أغنية قديمة ذات لحن حزين في يوم مطير. تأثرت المربية بالمشهد وبدأت بالبكاء، فتركت العربة. عندها،أخذت الطفلة تصرخ منادية أباها كما لو أنه في خطر مميت. لقد اجتاحها نذير كارثة”.


بعبارة أخرى، إن عدم قراءة الاسم على البطاقة في الحلم يبدو أنه يعيد إلى الحاضر تأكيد إحساس يونيكا المبكر بالتخلي عنها من قِبل الآخر الأبوي. في مشهد الحلم، تجد نفسها أمام محنتها الأصلية: ضيق لا اسم له. فها هي تعيش مجددًا في هذا الحلم الكابوسي الإحساس الكارثي بتخلي الآخر عنها.


تقول إنها وجدت نفسها أمام خيار أخير: العودة إلى أمها التي كانت نائمة في غرفتها،كما لو كان من الممكن العودة إلى السرير الذي خلقت عليه”. يبدو أن ما تبقى لها في مواجهة غياب اسم الأب هو الانسحاب إلى الحماية الأمومية والانغلاق فيها.


لكن، عندما عادت الطفلة إلى غرفة أمها،وجدت نفسها أمام جسد الأم، وغاصت فيجبل من اللحم الدافئ حيث  الروح النجسة لهذه المرأة محبوسة’. انهارت الطفلة المذعورة. هربت يونيكا، متخلية إلى الأبد عن الأم، المرأة، العنكبوت! لقد كانت جريحة بعمق”.


يمكننا أن نرى هنا كيف أن فشل الاستعارة الأبوية ترك يونيكا فريسة لتيار الدوافع الجامحة للأم. في غياب الأب كرمز مؤسس لذات يونيكا، هناك فجوة، وهذه الفجوة اجتاحها واقع الأم. تكرر يونيكا وصفها لهذه التجربة التي تركت أثرًا لا يُمحى، فتقول: في أحد أيام الأحد، عندما كان الأهل يستمتع بالنوم الطويل، ذهبت الطفلة إلى سرير أمها، ففزعت من ذلك الجسد الكبير السميك الذي فقد جماله بالفعل. انقضت المرأة غير الراضية على الطفلة، وفمها مفتوح، رطب، يخرج منه لسان متحرك، طويل مثل الشيء الذي يخفيه أخوها في سرواله. مذعورة، قفزت الطفلة من السرير وشعرت بعمق بأنها مُهانة. استيقظ فيها شعور لا يمكن التغلب عليه بالاشمئزاز من الأم، ومن المرأة”.


هكذا، يمكننا القول إنه في غياب الدعم الذي تقدمه الاستعارة الأبوية ودال الفالوس، بقيت يونيكا خاضعة تمامًا لاستبداد الأم ومتطلباتها الغريزية.


وعندما تعيد تقييم علاقتها مع والدتها، تستنتج أن أمها: لم تكن تلعب أبدًا مع أطفالها لأنها لم تكن قادرة على فهم عالمهم. كانت تُبعدهم عن طريقها كما لو كانوا أشياء مزعجة […]. عندما أخفت الطفلةسرًافي درج الطاولة المحاذية لفراشهاوهي رسائل لم تُرسل أبدًا إلى ممثل تعشقه وترسم صوره آلاف المراتقامت الأم، التي لا تستحق هذا الاسم، بفتح القفل ورمي هذه الكنوز الثمينة في القمامة”.


تظهر هذه الحادثة كيف أن المرأة التي كانت تنمو داخل يونيكا تُركت في فراغ بعد أن رُميَ مَثلها الأعلى الأنثوي في القمامة. لكن يونيكا لم تتوقف عند هذا الحد. فالرسائل الحميمة التي لم يعترف بها الأب كمرسال لها، والتي رمتها الأم في القمامة، جعلت يونيكا تعاهد نفسها على أن تجد لها وجهة جديدة.


3- هلوسة "الرجل" كبديل عن غياب الأب


عقب حلمها وشعورها بالوحدة الشديدة، تصف يونيكا تسورن رؤية نهارية فريدة لرجل، أو بتعبير أكثر دقة: “الرجلبألف لام التعريف. بهذا الشكل، يعود ما تم إلغاءه من الرمزي في هيئة حضور حقيقي على مستوى الواقعي. فالمسمّى الذي لم يُقرأ في الحلم يعود إلى الظهور في صورة كيان أطلقت عليه تسورن اسم الرجل-الياسمين.


عند النقطة التي لم تتمكن فيها من قراءة الاسم أو لم ترغب بذلك، قامت هي بإبداع هذا الرجل داخل رؤيتها ومنحته اسمًا بنفسها. تصفه بأنه كان عزاءً هائلًا، مؤكدة أن لقاءها الرجل-الياسمين يمثل البرهان على عبارة لاكان: المرأة لا تلتقي الرجل (بألف لام التعريف) إلا في حالة الذهان. وبالفعل،هذا الرجل أصبح بالنسبة لها صورة الحب […]. أجمل من أي شيء رأته من قبل. عيناه زرقاوان. وتزوجته”.


بالتالي، عندما غاب دور الأب كرمز يمنح الاسم، لجأت يونيكا إلى لقاء الرجل في الواقعي، في هيئة رؤية. كان ظهور الرجل في رؤيتها، كما تقول، لحظة حاسمة في حياتها، وقد بدا في حالة شلل وسكون. تصف ذلك بأنه كانسعادة كبيرة لها، موضحة أن الإنسان في هذا الوضع لن يغادر أبدًا الكرسي الذي يجلس عليه في الحديقة. “وجوده الساكن منحها درسين لا يُنسَيان: المسافة والسلبية”. ثم تضيف:

الأجمل أن لا أحد يعلم عنه شيئًا. كان أول وأكبر أسرارها”.


منذ ذلك الحين، أصبحت هذه الرؤية درعًا وحمايةً ودليلًا لها طوال حياتها. تصف هذا الإنسان بأنه كانفي أحلك الأوقات، نموذجًا مثاليًا لإنقاذها من عالم الكبار، ذلك العالم المريب وغير المفهوم بالنسبة لها”. عملت هذه الرؤية كوسيلة لتحقيق توازن نفسي وإعادة بناء الذات. كما خدمت الرؤية وظائف متعددة:

١- الحفاظ على وحدة صورة جسدها في المرآة:

عند مواجهة انحلال صورة جسدها في لحظات الذهان، كانت رؤى أخرى أكثر هدوءًا تساعدها. على سبيل المثال، أثناء معاناتها من ظواهر ذهانية تصفها بأنها مخلوقات بلا عيون ولا وجوه، لها أجنحة غير مادية تخترق جسدها، شعرت بالطمأنينة بفضل ظهور طائر أبيض (النسر الأبيض) بعيون زرقاء تغمرها بنظرة رائعة.

حتى في الرسم، كانت تعيش نفس التناقض: على ورقة الرسم البيضاء، تارة ترى عينا خبيثة تنتمي إلى الآخر العدواني، وتارة أخرى عينا مطمئنة تدعمها. وهكذاعندما يُظهر (الآخر العدواني) أول عين شريرة على الورقة، يدعو بقوة لظهور عين ثانية، ثم يكتمل وجه شيطاني أسود”. لكن في المقابل، قد يظهر لها ما يدعمها:

بعد تردد القلم فوق الورقة البيضاء، تكتشف مكان العين الأولى. وحين تلتقي بنظرتها من عمق الورقة، تجد التوجيه، وتتوالى الخطوط بسهولة”. هكذا، تصبح عيون الرجل -الياسمين الحاضرة دائمًا في الرؤية رمزًا للجمال والحب بالنسبة لها.

٢- تصويب بوصلة وجودية تنظم حياتها:

تعمل هذه الصورة المرئية كرادع ضد العالم الفوضوي. تمنح يونيكا إحساسًا بالثقة وتعمل كوسيلة لتنظيم واقعها.

منذ طفولتها، اختبرت ثقتها المطلقة في الرجال من خلال أصدقاء والدها الذين كانوا يدعونها أميرة ويلعبون معها بإلقائها في الهواء. تقول: شعرت بالثقة المطلقة في الرجل الذي يلتقطها قبل لحظة السقوط، وتحول الرجل في نظرها إلى ساحر عظيم”.


لاحقًا في حياتها، ظهرت هذه الثقة في لحظات حاسمة، مثل ولادة ابنتها، حيث رأت الله متجسدًا في هيئة طبيب بعيون زرقاء، أو في تفسيرها لميلاد ابنها، الذي زعمت أن الرجل الأبيض السماوي هو والده الروحي بسبب عينيه الزرقاوين.

٣- دعم فني وإبداعي لترميم وجودها

شكلت رؤية الرجل-الياسمين مصدرًا دائمًا لإبداعها الفني والشعري، حيث ساعدتها رؤيا هذا الرجل على تحويل علامات التجارب الذهانية إلى رموز وقصائد قابلة للمشاركة والتقدير من طرف الآخرين


باختصار، كان الرجل-الياسمين تجسيدًا للغياب الرمزي للأب، ومصدرًا للقوة والحماية التي استعانت بها يونيكا تسورن طوال حياتها.


٤- التمكن من القراءة والكتابة أو كيف اخترعت أبا منقذا على قدها

منذ طفولتها، كما رأينا، لم يكن من الممكن مواساتها بسبب الغياب الطويل لوالدها. كما أنها، بحسب قولها، كانت عالقة بين كراهيتها لأمها وعدم قدرتها على التواصل مع شقيقها. في هذا السياق، أصبح كل ما يحيط بها عدائيًا.


حتى الذهاب إلى غرفتها للنوم لم يكن أبدًا أمرًا سهلاً بالنسبة لها. كانت دائمًا تعتريها مشاعر الخوف. كان عليها عبور مساحة شاسعة مزينة بالأعمال الفنية التي أحضرها والدها من رحلاته البعيدة، لكنها بالنسبة لها كانت تجلب القلق والرعب فقط. كانت تشعر بالرعب من هيكل عظمي لغوريلا عملاقة تتخيل أنهموجود ليخنقها”. كذلك، كانت النساء العاريات الضخمة في لوحة روبنز اختطاف السابيناتتذكرها بأمها وتثير اشمئزازها”. الأسوأ من ذلك أنالخوف يصبح كارثة، إذا حدث بالصدفة أثناء ركضها المذعور على طول الجدار، أن تسقط السيوف المعلقة على الحائط، محدثةً جلبة معدنية مرعبة. في مواجهة هذه الكائنات الشريرة التي تبث الرعب بداخلها وحولها،كانت تتمنى أن تكون رجلًا بالغًا، كما حلمت. ولكن بما أنها ليست سوى طفلة صغيرةتتعرق خوفًا، فقد لجأت إلى قوى سحرية أخرى.


نظرًا لعدم قدرتها على إخبار أحد عن ثقلبؤس سنواتها العشر، الذي كان يثقل كاهلها، لجأت بعد العشاء إلى زاوية من مكتبة العائلة، وانغمست في قراءاتها المفضلة. وهكذا، بفضل جول فيرن، وقعت في حب الكابتن نيمو، الذي أصبح، كما تقول،أحد أبطالها الذين لا يمكنها العيش بدونهم. (وجدته) أقرب إليها وأكثر فهمًا من الأشخاص الذين يحيطون بها”. وهكذا، أصبحت كل تلك الأشياء والأثاث الذي أحضره والدها من رحلاته إلى الشرق، بفضل سحر القراءة،ليست مجرد متحف، بل كهف جميل حيث تبدأ خيالاتها بالعمل”.


تحولت بعد ذلك إلى الكابتن نيمو، وتوسلت إليه لحمايتها. كما كانت تصلي للغاصبين ذوي الوجوه السمراء في لوحة روبنز ليأخذوا النساء الضخمة، اللواتي كن بمثابة انعكاس مضاعف لجبال اللحم التي تمثل أمها. لم تتوقف عن استدعاء أبطال خيالها كل ليلة لتكليفهم بمهمة إنقاذها من موت محتم. وعندما تدخل غرفتها، كانت تغلق الباب بالمفتاح، ولكي تسلم نفسها للنوم، تجمع ما تبقى لها من قوة لتتصور حول سريرها، كما تقول،الدائرة المظلمة لحراسها، الذين يعود لهم الفضل في بقائها على قيد الحياة حتى صباح اليوم التالي”.


لاحقًا، ومن هذا الموقف كناجية من الموت، سمحت لها القراءة بالانتقال بدورها إلى دور منقذ من  الموت. خلال فترة دخولها مستشفى الأمراض النفسية، كانت تحكي لمريضتين عن كتاب مصور امتلكته عندما كانت صغيرة بعنوان "جان العجيب". احتوى هذا الكتاب على صورة كبيرة حمراء بالكامل تمثل الجحيم، حيث كانت مجموعة من الشياطين محبوسة. وسط هذه المجموعة، كان هناك طفل شيطان لم تحتمل رؤيته مستلقيًا في النار. أخذت المقص، وقصّت صورة الطفل وصنعت له مهدًا من قشرة جوز. “كم كنت سعيدة! كانت هذه المرة الأولى في حياتي أنقذ فيها أحدًا، 


إلى جانب هذه القراءات الداعمة والحامية، اتخذت خطوة أخرى وبدأت خطواتها الأولى في الكتابة. في المدرسة، في سن العاشرة، كان لديها معلم يفضلها على باقي الفتيات،لأنها كانت تقدم أفضل المقالات”. أحبت هذا المعلم أيضًا، الذي كانبصوت متناغم، يقرأ للتلاميذ قصائد شعرية مليئة بالعاطفة أو الدراما. كما تذكرت طريقته الفريدة فيالتمهل على الكلمات ودحرجة حرف الراء على لسانه. كان هذا يعطيه نوعًا من الطابع الأجنبي، وكل ما هو أجنبي كان يثير حماس الفتيات الصغيرات، كما قالت.


ومع ذلك، فإن التفوق في التعبير الكتابي في الفصل لم يكن كافيًا لها. كان عليها أن تخطو خطوة نحو ابتكار لغوي خاص بها للتعامل بشكل أفضل مع سجل الواقعي. وهذا ما فعلته عندما اخترعت، في نفس الفترة، قصة تتمحور حول ظاهرة لغوية تذكرنا بما وصفه شريبر بـمعجزة الصرخة”. بالنسبة لشريبر، كانت هذه عبارة عن مواقف يتم فيها قطع كلامه فجأة ليحل محلها صرخات مفروضة، وأصوات قلق لا إرادية خالية من المعنى. أما بالنسبة لأونيكا، فإن الصراخ كان فعلًا إبداعيًا ومحررًا. لقد كان وسيلة اخترعتها للتعامل مؤقتًا مع الجوانب المؤلمة من اللذة.




4- لقاءالرجل-الياسمينشخصيًا، بلحمه ودمه


من الضروري الإشارة إلى أن الأنسان الذي خلقتهالرؤية، الرجل-الياسمين، سوف يتضح تدريجيًا أنه يمثل صورة حب لم يستطع، إذا ما استعرنا تعبيرًا للاكان، أن يجعل اللذة تخضع للرغبة. وهكذا، اتخذ وجه حب ميت وقاتل. سوف تدرك هذا طوال حياتها: في طفولتها، في مراهقتها، وحتى في سن الرشد. وفي النهاية، تستخلص قائلة: «هناك مفاتيح تدور في داخلي، واحدة تلو الأخرى، لكنني لن أُفتح […]. لأنه في السنوات اللاحقة، لن ترى فوق أكتاف الرجال الذين تميل عليهم، سوى الرجل- الياسمين. لهذا ستبقى وفية لزواجها الطفولي». تلاحظ أنها لم تكن تهتم في حياتها البالغة بما تسميهالرجل العادي”. الرجال الذين بدت لمساتهم وكلماتهم بلا سحر، بلا مفاجأة،كلهم متشابهون، وأحيانًا فقط الذكاء يميزهم”.


إن تعلقها بهانس بيلمر، حتى نهاية حياتها، يعود إلى كونها وجدته شخصًا استثنائيًا للغاية. تقول إنها كانتأمام حب جديد قادر على تجديد حياتها ومشاركة أفكارها وعملها”. ومع ذلك، تؤكد أن هذا الارتباط لا علاقة له بالحب، بل يرتبط، على حد تعبيرها، بـالخوف العميق الذي لا يمكن علاجه والذي شعرت به عند لقائه، وهو اللقاء الذي هيأته رؤية الرجل-الياسمين بدقة […]. وإلا لما كان ممكنًا أن تمرض بشدة بعد أن ركزت تفكيرها عليه لسنوات طويلة”.


بعبارة أخرى، إن هذا اللقاء الجديد، المليء بالوعود على مستوى الإبداع الفني بالنسبة لأونيكا، كان أيضًا وقبل كل شيء فرصة لإعادة تنشيط خوفها العميق الذي لا يمكن علاجه، مما أدى إلى تفاقم حالتها النفسية.



5- لقاء رجل الفن وازدياد وتيرة القلق المميت


أونيكا كانت ترى في بيلمر الرابط بين اللغة والجسد، بين الحروف التي تشكل الكلمات والأعضاء التي تكون الجسد. في بداية علاقتهما، قدم لها بيلمر كتابهلعبة الدمى، وهو كتاب مصور يتضمن قصائد نثرية للشاعر بول إيلوار. تقول إنها تأملت لفترة طويلة، بذهول، الصور المختلفة لجسد الدمية المفكك والمعاد تجميعه. لكنها تضيف: “هناك صورة واحدة أفزعتها: رأس الدمية وهو يقترب بفمه من أعضائه التناسلية، كما لو أنه يسعى لإثارة ذاته بلسانه”.


رغم هذا الخوف الذي واجهته، فإنها استمرت في الاقتراب من بيلمر، لأنه مثل بالنسبة لهاكاتبًا دقيقًا يمنح الفلسفة بعد المتعة”. بدأت فترة من التعاون الفني بينهما، حيث علمها بيلمر فن تركيب الكلمات عبر الأناجرامات، وهو نشاط سرعان ما استثمرته بشدة. ومع ذلك، أصبحت هذه العملية مرهقة ومسببة للقلق، حيث بدأت تفكك خطابها وتعزلها عن العالم الواقعي، مما أدى إلى أزمة جديدة.



6- الانهيار النفسي والمواجهة مع سجل الواقعي


في عام 1957، وصفت لقاءها ببيلمر بأنهالمعجزة الأولىفي حياتها، لكنها أشارت أيضًا إلى أن هذه المواجهة كانت بداية فقدانها التدريجي للعقل. الرؤية التي عاشتها في طفولتها تجسدت أمامها، لكنها أدركت الفرق الوحيد بينهما: “لم يكن مشلولًا، ولم يكن هناك حديقة تحيطها الياسمين”.


بحلول عام 1970، كتبت أونيكا رسالة إلى طبيب بيلمر النفسي، معبرة عن حبها الذي دام 17 عامًا لهنري ميشو، ولكن ليس كرجل، بل كشاعر. بالنسبة لها، كانت تسعى دائمًا لأن تكونأمًالعمل فني مستقبلي.


في مراحلها الأخيرة، بدأت أونيكا تشعر بآثار عقلية وجسدية مؤلمة. عانت من العمى الجزئي، فقدان التنسيق الحركي، والانفصال عن جسدها. وفي النهاية، أنهت حياتها بالقفز من نافذة شقة بيلمر، وكأنها تحقق أمام أعينهاالتخلص الذاتيفيقمامة العالم.




المراجع (بالفرنسية)


أندريه، سيرج، البنية الذهانية للكتابة، بروكسل، لامويت، 2001

بيلمر، هانز وتسورن، أونيكا، رسائل إلى الدكتور فيرديير، باريس، سيجيبه، 1994.

فرويد، سيغموند، «فقدان الواقع في العصاب والذهان»، ضمن الأعمال الكاملة في التحليل النفسي، المجلد السابع عشر (1923-1925)، باريس، المنشورات الجامعية لفرنسا، 1992.

لاكان، جاك، «سؤال تمهيدي لكل علاج للذهان»، ضمن الكتابات، باريس، السوي، 1966.

لاكان، جاك، التلفزيون، باريس، السوي، 1973.

مارسو، جان كلود، «أونيكا تسورن: الجنون حرفيا»، مجلة الممارسة العبادية البحر-متوسطية، العدد 77، 2008.

رابان، جان فرانسوا، «التسامي والتماهيات المتقاطعة: الألعاب المشتركة بين هانز بيلمر وأونيكا تسورن»، المجلة الفرنسية للتحليل النفسي، المجلد 62، 1998، العدد 4.

تسورن، أونيكا، الإنسان-الياسمين: انطباعات مريضة عقلية، باريس، غاليمار، 1991.

تسورن، أونيكا، ينابيع مظلمة، باريس، بلفون، 1985.

تسورن، أونيكا، عطلات في ميزون بلانش، باريس، جويل لوسفيلد، 2000.



(نشر هذا المقال بالفرنسية في كتاب جماعي بالانجليزية تحت عنوان:

 Narratives of the Therapeutic Encounter: Psychoanalysis, Talking Therapies and Creative Practice, Cambridge Scolars Publishing، 2019.)