مسألة التحويل في نشأة التحليل
(الهوام كبديل لصدمة واقعية مزعومة)
ملخص
يقدم هذا الملخص لمحة عامة عن العلاقات المعقدة بين فرويد وفليس (طبيب صديق لفرويد)، وكيف أثرت هذه العلاقة في اكتشافات فرويد النظرية، خاصة فيما يتعلق بعقدة أوديب والجنسانية الطفولية. كما يسلط الضوء على أهمية التفاعل التحويلي في تطوير المعرفة الفرويدية.
ظهرت أولى القفزات النظرية لفرويد في إطار علاقة تحويلية وضع فيها فرويد فليس كأعزّ وأصدق أصدقائه. ولكن، أكثر من أن يكون هذا الأخير في محل شخصية أبوية (جونز) أو صورة أخوية (فرويد) أو زوجًا نرجسيًا (أنزيو)، كان فليس، منذ البداية، يُرى من قبل فرويد كمقام «الآخر»، أي المكان الذي يصل منه إلى فرويد مرساله بشكل معكوس، مما دفعه إلى إعادة زيارة لاوعيه وصياغة اكتشافاته، خاصة اكتشافاته المتعلقة بالجنسانية الطفولية والهوامات الأوديبية. في هذه العلاقة التحويلية، أبدع فليس أفكارًا جدالية، هي مزيج من الهلوسات بينما توصل فرويد إلى فهم علمي للنظريات حول الجنسانية الطفولية والظواهر الهوامية الناشئة عنها.
ولادة التحليل النفسي: اكتشاف دور الهوام في الاضطرابات النفسية
لم يكن التحليل النفسي ليولد مكتملا كما انبثقت أثينا مرصوصة البنيان من رأس زيوس، بل انتظم رويدا رويدا نتاجًا لعملية طويلة من النضج الفكري والممارسة التحليلية الدؤوبة. ذلك أن فرويد ككل المفكرين والعلماء كان بالطبع غير قادر على تقديم نظرية جاهزة للاستخدام فورًا. ذلك أن التحليل النفسي تطور تدريجيًا، بطريقة منهجية ودائمة غير مكتملة. تم تغذيته بالاكتشافات النظرية، وإعادة التعديلات، والتجارب الإيجابية والسلبية، والأهم من ذلك، التفاعلات الشخصية والمهنية المؤثرة. من بين الأحداث الكبرى التي ميزت ولادة التحليل النفسي، نجد تراجع فرويد عن نظرية الصدمة لصالح نظرية الهوام، والتي حصلت خلال تحليل فرويد لذاته بمناسبة علاقته التحويلية المتميزة مع صديقه وزميله فيلهلم فليس.
علاقة فرويد مع فليس: سياق مواتٍ لنشأة التحليل النفسي
إن الروابط التي نسجها فرويد مع بعض زملائه في بداية مسيرته العلمية والعملية كانت لها تأثيرات عميقة على مسار حياته الشخصية وعلى تطوراته الفكرية والتنظيرية. لكن العلاقة الخاصة مع فيليهلم فليس بين عامي 1887 و 1900 تميزت بدورٍ حاسم في بناء وتطوير التحليل النفسي. لقد لعب فليس، الذي كان طبيبا مختصًا في الأنف والأذن والحنجرة، دورًا محوريًا في فتح آفاق جديدة وأفكار مثيرة للجدل، والتي ستحفز لاحقًا نظريات فرويد. كانت هذه العلاقة تحمل بعدًا تحويليًا قويًا، حيث قام فرويد نفسه من خلالها بتحليل مرضه العصابي الذاتي، مما وفّر له أرضية خصبة للخطوات الأولى للتحليل النفسي.
كان فليس قد طرح عدة نظريات غريبة وصادمة، على الرغم من كونها غير مكتملة و مشكوك فيها علميا، إلا أنها لاقت صدى قويا في بداية الأمر عند فرويد. من بين هذه النظريات نذكر:
- ازدواجية الجنس الفسيولوجية: التي ترتكز على فكرة كون البشر يمتلكون فسيولوجيًا ازدواجية جنسية، وهي فكرة لم تصمد أمام النقد العلمي لكنها مع ذلك جذبّت انتباه فرويد أشد الانجذاب.
- نظرية «عصاب الأنف الانعكاسي»: التي كان فليس من خلالها يعتبر أن أعراض الأنشطة الجنسية لا تنبع إلا من منطقة واحدة في الجسم وهي منطقة الغشاء المخاطي للأنف ويمكن التخفيف من هذه الأعراض بوضع وصفة من الكوكايين على الألياف الداخلية للأنف.
- نظرية الفترات: وهي النظرية التي كانت تدعي أن الأنشطة البشرية، بما في ذلك النشاط الجنسي عند الجنسين، تتبع دورات مماثلة للدورة الشهرية عند المرأة، ما يسمح بتحديد دقيق لجوانب مختلفة ومتعددة من حياة الفرد، مثل انتمائه الجنسي أو تاريخ ولادته، بل وحتى تطوره الصحي أو لحظة مماته.
وكما قلت، على الرغم من أن هذه الأفكار كان مشكوكًا فيها منذ ذلك الحين، فإن فرويد أظهر اهتمامًا بالغا بها. ويعتقد بعض المحللين اللاحقين أن هذا الاهتمام ربما كان ناتجًا عن رغبة فرويد في فهم وتنظيم خصوبة المرأة، وهي مسألة طالما كانت تؤرقه في حياته الزوجية. وأيضا ربما كان رد فعل فرويد تجاه نظرية فليس عن “عصاب الأنف الانعكاسي” مرتبطًا أيضًا بحالة صحية شخصية، حيث كان يعاني من التهاب مزمن في الأنف وكان يستعد لإجراء عملية جديدة باستخدام الكوكايين على يد فليس نفسه.
لكن هذه الافتراضات العملية وحدها لا تفسر الاهتمام العميق والدائم الذي كان يحظى به فليس لدى فرويد. فالعلاقة بينهما كانت في الأساس علاقة تحويلية، حيث غذّت أفكار فليس تفكير فرويد وخلقت أرضًا خصبة لإرهاصات تصورات فرويد حول دور اللاوعي والهوامات والرغبات المكبوتة.
أحد التحولات الكبرى في تطور التحليل النفسي هو الانتقال من نظرية الصدمة إلى نظرية الهوام. في البداية، كان فرويد يعتقد أن سبب الأمراض العصابية يعود إلى صدمات حقيقية، غالبًا من مصدر جنسي. لكن مع مرور الوقت ومع تطور أبحاثه وتحليلاته الشخصية، تراجع فرويد عن هذا الموقف وبدأ يرى أن الأمراض العصابية تنبع في الواقع من هوامات لا واعية بدلاً من أحداث واقعية.
كان هذا التحول النظري حدثًا مؤسسًا للتحليل النفسي، حيث ابتعد فرويد عن النماذج التقليدية والمالوفة في التفاسير الطبية والنفسية ليقدم قراءة للنفس البشرية مؤسَّسة على اللاوعي، والكبت، والصراعات الداخلية.
بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن نظريات فليس رغم ما كان يعتورها من خلل برهاني ومن نقص منطقي، فإن تأثيرها على فرويد كان بالغًا في بداية مسيرته العلمية والمهنية. لم يكن الاهتمام الذي أبداه بهذه النظريات مرتبطًا فقط بمسائل شخصية أو عملية كما أسلفنا، بل كان أيضًا في سياق ديناميكيات تحويلية ساعدت في دفع تفكير فرويد نحو إعادة النظر في تصوره للطبيعة البشرية على مستوى الفرد أو المجتمع.
كانت العلاقة بين فرويد وفليس، المليئة بالتأثيرات التحويلية، أرضًا خصبة لأفكار جديدة أدت إلى تحول فرويد من نظرية الصدمة إلى نظرية الهوام. وبالتالي، يمكن القول إن التحليل النفسي لم يكن اكتشاف لحظة محددة، بل كان نتيجة عملية تطورية مستمرة، مرّت بكثير من الأخطاء والتعديلات والاقتراحات المتعددة، وكان تأثير فليس واحدًا من العوامل المؤثرة في تكوين هذه النظرية التي غيرت ومازالت تغير فهمنا للنفس البشرية.
هل فليس هو بديل أبوي أم توأم أخوي لفرويد؟
بمجرد لقائهما في عام 1887، بدأ كل من فرويد في فيينا وفليس في برلين يتبادلا المراسلات التي كانت في بدايتها تقتصر على تبادل آراء و أفكار بين زملاء. لكن هذه المراسلات، خاصة من جانب فرويد، أصبحت أكثر شخصية وعاطفية اعتبارًا من عام 1893. في تلك الفترة، بدأ فرويد يشعر باحتمالية حدوث قطيعة في علاقته مع بروير، بعيد انتهائهما من كتابة «دراسات في الهستيريا».
السؤال المطروح بهذا الخصوص هو كالتالي: كيف يمكن تفسير هذا التواقت بين تحمس فرويد الشديد نحو فليس، صديقه الجديد، وبين أحاسيسه العنيفة تجاه بروير؟ في جميع الأحوال، لم يتمكن المحللون النفسيون الذين كتبوا سيرته من مقاومة محاولة البحث في اللاوعي لدى فرويد لفهم هذا التحول في مشاعره، ومحاولاتهم ربط هذا التحول بالجانب النفسي. وفقًا لجونز مثلا فإن الضغينة المبالغ فيها من طرف فرويد تجاه بروير تستند إلى بيانات لاوعية تعود إلى طفولته، خاصة تجاه والده. بما أن فرويد كان غير قادر على التعبير عن عدائه لوالده مباشرة، فإنه، بحسب جونز، وجد حلًا لاواعيًا أقل خطورة من خلال تفكيك صورة الأب إلى صورتين: واحدة جيدة والأخرى سيئة. وبالتالي، توجهت الكراهية إلى بروير، بينما كانت المحبة موجهة إلى فليس، مما جعل كلا من المشاعر تتضخم بشكل مبالغ فيه مقارنة بجدارة الشخصين.
أما فرويد نفسه، فقد تحدث عن الطابع الأخوي في تحديد بعض من صداقاته. إلى فليس، كشف عن أن الولادة الصعبة لأخ أصغر منه بعام وابن أخيه قد حددت الطابع العصابي وكذلك شدة جميع صداقاته. في رسالة إلى فليس، قال إن هذه الأحداث قد شكلت علاقة فرويد بالآخرين بشكل عميق على الصعيدين العاطفي والنفسي.
أما ديدييه أنزيو من جهته، فيُرجع المحبة التي كان يشعر بها فرويد تجاه فليس إلى الطابع النرجسي لاختيار الموضوعات، إذ أن فرويد بحسبه كان يرى نفسه في فليس الذي يصغره بعامين، كما لو كان ينظر الى وجهه في مرآة. وأضاف أن فرويد كان يرى فيه صورة مثالية لنفسه إلى درجة أنه كان يسميه «أنا الآخر».
في نظر هذين المحللين إذا، يمثل فليس بالنسبة لفرويد إما صورة أبوية أو صورة أخوية. لكن لو نظرنا مليا في هذه العلاقة وحققنا النظر نجد أن هذه العلاقة تصبو لأكثر من ذلك. ففي وقت قصير، أصبح فليس الزميل الوحيد الذي وثق فيه فرويد، إذ أصبح يشاركه أسراره واكتشافاته وأولى خطواته نحو نظرياته الجديدة، بالإضافة إلى ماكان يتفاعل بداخله آنذاك من كفوف وإحباطات وآلام كانت ترافقه أثناء هذا التقدم. وهكذا يحق أن نتساءل: أليس هو من وضع فليس في مكان الآخر، هذا الآخر الذي يتلقى منه فرويد، وبشكل معكوس، المرسال الذي وجهه إليه؟ وهذا الإرجاع المعكوس من طرف الآخر لمرسال فرويد الخاص، مكن شيئا فشيئا هذا الأخير من استكشاف لاوعيه (في حضرة هذا الآخر، وكأنه مرآة). وهكذا فقد ساهم فليس جديا في تطوير اكتشافات فرويد وحتى في معالجته من حيث لا يدري.
من المهم هنا أن نلاحظ أن مواقف بروير وفليس تجاه أفكار فرويد كانت مختلفة تمامًا بل كانت على النقيض. ففي حين أن بروير تراجع تمامًا أمام جرأة فرويد في الاعتراف بالنصيب الكبير للجنسانية في إنتاج الأعراض الهستيرية، كان فليس، بالعكس. يدافع عن هذه الفرضية بالفعل وإن كان ذلك بطريقة مغلوطة بالأساس، وترتكز على مشاعر هذائية، أدت به في آخر المطاف الى مرض العُظام.
تأثير علاقة التحويل على تنظير التحليل :
فيما يلي، سنتناول تأثير هذه العلاقة التحويلية بين فرويد وفليس على اكتشاف الهوام وعقدة أوديب وعقدة الاخصاء من طرف هذا الأخير، وهي نقاط محورية في نظرية وممارسة التحليل النفسي. في الوقت ذاته، سنناقش استكشاف فرويد للاوعية الخاص، وهي تجربة جديدة ومبتكرة في عصره، والتي ستصبح شرطًا أساسيًا لتكوين أي محلل نفسي يسعى لممارسة التحليل النفسي.
كان هذا العمل الاستكشافي، جنبًا إلى جنب مع العلاقة مع فليس، عاملًا حاسمًا في تمكن فرويد من فهم آليات اللاوعي بشكل أعمق، مع توجيه أبحاثه نحو مفاهيم مثل الرغبة، والصراعات الداخلية، وآليات الدفاع. لم يكن التحليل النفسي الذي أنشأه فرويد وطوره ليأخذ نفس الاتجاه لولا هذه العلاقة المكثفة، المميزة بتبادل فكري وعاطفي عميق، والتي لعبت دورًا حاسمًا في ظهور منهجيته واكتشافاته.
كانت النظرية الأولى التي صاغها فرويد في الفترة بين 1893 و 1895 مبنية على مفهوم الصدمة الناجمة عن الإغواء الواقعي. وفقًا لهذه النظرية، كان كل مريض عصابي قد تعرض فعلاً في طفولته المبكرة إلى مشهد أو عدة مشاهد إغواء جنسي من قبل أحد الوالدين البالغين أو مت الأهل المقربين. توصل فرويد إلى هذه الاستنتاج من خلال تكرار تذكر هذا الصدام الجنسي في خطاب مرضاه الهستيريين. لكن هذه الفكرة لم تكن في جوهرها سوى مقاومة من جانب فرويد ضد الاعتراف بحقيقة الرغبات الأوديبية، سواء لدى المرضى أو لديه هو نفسه.
فمع مرور الوقت، ومع تقدم تنظير فرويد لفترات تطور الليبيدو الأساسية، بدأ يشعر بضعف الفرضية الخاصة بالإغواء وعدم ملاءمتها لفهم الهستيريا. ولكن بدلاً من رفض فكرة الصدمة الجنسية المزعومة هذه، احتفظ بها وأكد أنه ينقصها «أمر بسيط» قد يجعلها أكثر قوة؛ وهذا «الأمر» هو مفهوم الهوام، حيث قال فرويد: «لقد اكتشفت ما كان ينقصني في مسألة الهستيريا، وهو مصدر جديد يتدفق منه عنصر من الإنتاج اللاواعي، وأتحدث هنا عن الهوامات الهستيرية…» (4). ها هنا تظهر مرة أخرى مقاومة لاواعية من لدن فرويد الذي كان يطمح في الحفاظ على براءة الطفولة، مما دفعه إلى تفسير هذه الذكرى بكونها تصبح مرضية فقط عند البلوغ: «…إنه الهوام الهستيري الذي، كما ألاحظ، يتعلق بالأشياء التي سمعها الطفل في وقت مبكر والتي لم يفهم معناها إلا بعد فترة طويلة» (5).
ومع إدراكه لأهمية الهوام في مسببات الهستيريا، أولى فرويد اهتمامًا كبيرًا بالتخيلات الطفولية، وحاول توضيح تكوينها وديناميكيتها الخاصة في رسالة أخرى إلى فليس (6) يقول فيها: «الهوامات تنتج عن مزيج لاواعي لأمور تمت تجربتها وأخرى تم سماعها، وفقًا لميول معينة. وهذه الميول تهدف إلى جعل الذكريات التي أنتجت الأعراض تبقى بعيدة عن متناول اليد…» (7).
في المخطوط المرفق بالرسالة إلى فليس بتاريخ 31 مايو 1897، يواصل فرويد تطوير نظريته حول الهوام دون أن يهتم بعدم التوافق بين ما اكتشفه مؤخرًا وبين ما كان يعتمد عليه سابقا لفهم الظاهرة الهستيرية، أي صدمة الإغواء. ويستمر في سرد اكتشافاته واستنتاجاته دون أن يهتم بالتناقضات التي تواجهها مع فرضية الإغواء: «الغرائز المعادية للوالدين (الرغبة في موتهم) هي أيضًا جزء من العصاب (…). يبدو أن الأبناء يحملون رغبات موت موجهة ضد الأب، أما البنات فرغباتهن موجهة ضد الأم»(8).
يشكل هذا التصريح أول تلميح من فرويد إلى عقدة أوديب، التي ستشكل الخطوة الأولى نحو الفهم التحليلي النفسي للجنسانية الطفولية. ومع ذلك، في نفس الرسالة، لا يلبث أن يتراجع عن شكوكه بشأن مسألة الإغواء. ولكي يبرر من جديد صحة وصلاحية هذه الفكرة، يبادر بحكي حلم حصل له، يكشف من خلاله عن رغباته المحرمة تجاه ابنته «ماتيلدا».
وفي فبراير من نفس العام، أي قبل الرسالة السابقة بأربعة أشهر، وأربعة أشهر بعد وفاة والده، اتهم فرويد والده بأعمال إغواء تجاهه. لكن مع تقوي نظرية الهوام، بدأ يظهر لدى فرويد أن المشاهد الصادمة التي رواها مرضاه كانت جزئيًا على الأقل خيالية، وأن الجنسانية الطفولية تشكل جزءًا من هذه التكوينات المتخيلة. ومع ذلك، ظلت حقيقة الصدمة كعامل مسبِّب ثابتة دون تغيير لديه حتى 21 سبتمبر 1897، حيث أعلن صراحة في رسالة إلى فليس أنه لم يعد يؤمن ب « فرضية الصدمة». إذ أدرك أنه بإن استمر في الاعتماد على هذه الفرضية، فإنه لن يفعل سوى معالجة الهستيريا كمرآة لانحرافات الوالدين فقط، مما يجعل عمل التحليل النفسي بالفعل مستحيلاً.
في مساهمته في تاريخ الحركة التحليلية النفسية، عاد فرويد إلى هذه المسألة ليذكر أن استبعاد سببية الصدمة الجنسية في ذلك الوقت كان يعود إلى استحالة التصديق بها وعدم توافقها مع الوقائع. بعد ثلاثين عامًا، يشرح هذا الخطأ بطريقة أخرى، موضحًا أنه كان التمسك بالصدمات الطفولية كعامل مسبب أساسي قد يكون قاتلاً لمستقبل عمله: “لقد قابلت هنا، كما كتبت، عقدة أوديب التي كان من المقرر لاحقًا أن تكتسب معنىً رئيسيًا، ولكنني لم أكن أتعرف عليها بعد تحت هذا القناع الخيالي” (9).
لماذا إذًا لم يحصل ذلك إلا في أواخر سبتمبر (الرسالة بتاريخ 21 سبتمبر 1897) عندما اتخذ فرويد هذه الخطوة الحاسمة التي تسببت في ثورة نظرية ومنهجية في حقل التحليل النفسي؟ ألا يرجع الفضل في ذلك الى تحليليه الممنهج لنفسه والذي خاضه خلال صيف وخريف 1897؟ على كل، رغم قصر المدة التي مرّت منذ بدء هذه التجربة، فإن الانتقال الكامل من نظرية الإغواء إلى دور الجنسانية الطفولية كعامل مسبب مهم قد تحقق وأدى إلى زلزلة كبيرة في أفكار فرويد. وفي ممارسته التحليلية.
التحليل الذاتي لفرويد واكتشاف هوامات أوديب
عندما اكتشف فرويد أن نظريته الأولى بخصوص صدمة الإغواء لم تعد صالحة، تخلَّى عنها لكن بشكل بطيء، صعب ومؤلم. بدأ يدرك تدريجيًا أن المقاومة التي كان يواجهها في تلك اللحظة، والتي كانت تعيقه عن الكشف عن اللغز الذي كان عليه حله، لم تكن تأتي فقط من مرضاه، بل أساسًا من نفسه.
في البداية، حاول عبثًا وبكل قوته إيجاد عنصر بديل. ثم عاد، في غياب بديل أفضل، إلى المواقف النظرية القديمة التي كان قد رفضها من قبل. فها هو يعترف لزميله: «الآن، لم أعد أعرف أين أنا (…) لهذا السبب يبدو لي أن عامل الاستعداد الوراثي أخذ يكتسب أرضية، بينما كنت دائمًا أحاول دفعه بعيدًا». وجد فرويد نفسه هاكذا عالقًا في شبكة من صراعاته الذاتية، حيث بدأ يجد أن الأدوات النظرية التي كانت بمثابة درعه الدفاعي ضد هواماته الأوديبية تتآكل بين يديه. «لم أتعرض أبدًا لشلل فكري مثل هذا الذي أعاني منه الآن. كتابة ولو كلمة أصبح عذابًا (…)، أشعر وكأنني في شرنقة. من يدري ما هو العفريت الذي سيخرج منها؟” (10).
في هذه العبارة الأخيرة، يبدو أن فرويد يعبر عن قلقه من العواقب التي قد تترتب على بحثه في طبيعة الظواهر النفسية وأصلها الجنسي، وهو البحث الذي كان يخشى أن يؤدي إلى نتائج مؤلمة على شخصه. ومع ذلك، أدرك العلاقة بين اكتشافه المستمر والصبور لحقيقة رغبته من جهة، ومن جهة أخرى، التوقف الفكري الذي كان يعيقه في تقدمه في هذا المجال. «ما زلت لا أفهم ما الذي حدث لي، يضيف فرويد، شيء ما جاء من أعماق عصابي الشخصي واعترض على تقدمي في فهم الأعصبة» (11).
في الواقع، لقد خانته الركيزة النظرية التي كان يعتمد عليها في زمن نظرية الصدمة، وفي نهاية المطاف، خذلته بشكل نهائي. طوال فترة غرقه في هذه النظرية، كان فرويد يعتمد بشكل كبير على عمله في الهستيريا لتلبية طموحاته المستمرة في الشهرة والثراء من خلال أبحاثه حول مفعول الكوكايين، التي كان قد تخلّى عنها في منتصف الطريق. من ناحية أخرى، كانت الهستيريا، سواء من الناحية النظرية أو العملية، قد دفعت فرويد إلى طرح أسئلة حقيقية حول رغبته الشخصية كذات متكلمة، وكطبيب نفسي في الوقت نفسه.
وكما يوضح حب الله بشكل دقيق، فإن الهستيريا قد عملت بداية كدعم لرغبة فرويد اللاواعية، وهو دعم له طبيعة معينة تتمثل في تجديد الرغبة بينما تختفي. لذلك، دفعته جهوده المستمرة، بعد التخلي عن فكرة الإغواء المريحة، إلى اكتشاف الهوام، ذلك «الخيط المتين والمبشّر» الذي سيقذف به في عمل نظري ومنهجي أوسع وأشمل.
ولكن، كيف يمكن تفسير الظروف المباشرة التي ساعدت على انطلاق هذه التجربة؟
من جهة، وجد فرويد نفسه فجأة في حالة من الاضطراب العاطفي نتيجة لانهيار نظرية الإغواء الجنسي المبكر التي كانت حتى ذلك الحين تمثل الأساس الذي يفسر بع الهستيريا. ومن جهة أخرى، فإن وفاة والده في أكتوبر من عام 1896 كانت قد أثرّت فيه بشكل عميق إلى درجة أنه قال لفليس: «موت والدي العجوز قد أثر فيّ كثيرًا. (…) بسبب الوفاة، عاد الماضي كله للظهور، أشعر الآن بالضياع التام» (12).
وكانت هذه الخسارة المفجعة هي التي دفعته إلى كتابة تفسير الأحلام، وهو الكتاب الذي، بعد الانتهاء منه، كشف لفرويد الصلة بين وفاة والده وبين الارتباط غير المقصود وغير المتوقع لتحليله الشخصي مع شخصية فليس الذي، بالمناسبة، لم يفقه شيئا بما يحدث. أما فرويد فلم يفوت فرصة هذا الكتاب ليضيف أيضا: «لقد كشف لي هذا العمل أن جزءًا كبيرًا من تحليلي الشخصي كان ردة فعل على موت والدي…» (13).
فليس، محلِّل فرويد من حيث لايدري
دون التقليل من أهمية العوامل الموضوعية التي أدت إلى بدء التحليل الشخصي لفرويد، يمكن القول إن هذا التحليل كان متجذرًا في عصابه التحويلي تجاه زميله وصديقه فليس. لقد تفاقمت أعراضه المرضية بسبب عصابه الخاص الذي انفجر من جراء العمل المكثف والمرهق.
كان فرويد يسعى دائمًا لأن يتم الاعتراف به بشكل كامل، هو وعمله، من قبل صديقه. بالنسبة له، كان فليس هو الدعم الوحيد والثابت لاكتشافاته في بيئة معادية تعتبرها غير أخلاقية. هذا الرغبة غير المشبعة في الحصول على الاعتراف الكامل من زميله تثبت أن العلاقات التي أقامها مع فليس كانت من النوع التحويلي، وهو ما لم يتم التعرف عليه في ذلك الوقت. في رسالة بتاريخ 28 أبريل 1897، وصلت به شدة التحويل العملي نحو صديقة أن يكتب لهذا الأخير: «كنت أرغب في أن تكون أنت جمهوري لأخبرك ببعض أفكاري، وكذلك نتائج أبحاثي الأخيرة» (14). وفي رسالة أخرى بتاريخ 16 مايو 1897، كتب أيضا: «آمل أن تصبح الآن، لفترة طويلة، كما كنت دائمًا، وأتمكن من أن أجعلك جمهوري المحبب. أنت تعلم أنه بدون ذلك، لن أتمكن من العمل» (15).
إذا نظرنا فقط إلى محتوى هذه التصريحات الظاهرة، قد نعتقد أن طلب فرويد الحقيقي يقتصر على الموافقة النظرية من صديقه على اكتشافاته. ولكن، في الواقع، تكشف هذه الرسائل عن حالة نفسية خاصة لدى فرويد تجاه زميله في تلك الفترة، وهي حالة ظهرت عندما بدأ في عمله التحليلي لنفسه المترتب عن حداده بعد وفات أبيه. في تلك الفترة بالذات برزت الصعوبات الشخصية لفرويد بشكل واضح. وبالفعل، كان ظهور هذه الصراعات والأعراض النفسية لدى فرويد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالاستثمار الهوامي لعلاقته بفليس. أثناءها أضاف فريد في إحدى رسائله: «بعد فترة من المزاج الجيد، أنا الآن في أزمة مزاجية. المريض الذي يقلقني أكثر هو نفسي. كانت حالتي الهستيرية التي تفاقمت بسبب العمل، قد خفت قليلاً، لكن البقية لا تزال موجودة» (16).
في الوقت نفسه، في رسالة بتاريخ 7 يوليو 1897، عبر فرويد عن اعتقاده بأن فليس لعب دورًا مهمًا، بطريقة أو بأخرى، في تحليله وفي إعادة تشكيل شخصيته وفي تطوير عمله: «لا أزال لا أعرف ما الذي حدث لي. هناك شيء جاء من أعماق عُصابي الخاص، حال دون تقدمي في فهم الأعصبة، وكنتَ أنت، لا أعرف لماذا، مشاركًا فيه. يبدو أن استحالة الكتابة عما يؤثر في تهدف إلى إعاقة علاقتنا. من كل ذلك، لا أملك أي دليل، وهذه ليست إلا انطباعات غامضة تمامًا» (17).
في هذا السياق التحويلي، استطاع فرويد تدريجيًا بناء معرفة علمية حول الجنسية الطفولية وتداعياتها المتعددة في تشكيل الشخصية الإنسانية. في رسالة بتاريخ 3 أكتوبر 1897، عاد فرويد للحديث عن محاولة الإغواء المزعومة التي كان قد نسبها سابقًا إلى والده ليعترف بعدم وجودها. وأقر بدلاً من ذلك أنه كان هو الذي يشعر بشكل غير واعٍ بالعداء والغيرة تجاه والده. علاوة على ذلك، أعلن فرويد — وهذا ما يشكل جوهر هذه الوثيقة — أنه كان يحمل رغبات جنسية تجاه والدته. وهكذا، للمرة الأولى، أصبحت عقدة أوديب أكثر وضوحا من جانبها الليبيدي والمحرمي: «اكتشفت أيضًا أنه في وقت لاحق (بين سنتين وسنتين ونصف)، أن رغباتي الجنسية قد استيقظت واتجهت نحو أمي…» (18).
تمكن فرويد حينها من فكّ ما كان قد صنفه سابقًا تحت أسباب غامضة، فأصبح يميز، من جهة، بين فرضيته السابقة بخصوص صدمة الإغواء الناجمة عن تصرف أحد الوالدين ومن جهم أخرى، ما كان في الواقع يعود إلى هواماته الشخصية الداخلية: رغباته المحرمة تجاه والدته وكذلك إلى رغبات مرضاه الدفينة تجاه أمهاتهم.
في 15 من نفس الشهر، عاد فرويد في رسالة لاحقة الى زميله ليؤكد مرة أخرى مشاعر الغيرة تجاه والده والهيام تجاه والدته. وفي هذه الرسالة، أبدى فرويد اقتناعه بأن كل إنسان يمر بهذه المشاعر المتناقضة تجاه والديه: «لم يخطر ببالي سوى فكرة واحدة لها قيمة عامة. لقد وجدت في نفسي، كما في كل مكان، مشاعر حب تجاه والدتي وغيرة تجاه والدي، وهذه المشاعر، كما أعتقد، هي مشاعر مشتركة بين جميع الأطفال الصغار، حتى وإن لم تظهر في وقت مبكر كما يحدث لدى الأطفال المصابين بالهستيريا (…). إذا كان الأمر كذلك، يمكننا أن نفهم، رغم كل الاعتراضات العقلانية التي قد تعترض فرضية القضاء الحتمي، تأثير أوديب-الملك المذهل» (19). بهذه الطريقة، أدرك فرويد الطابع الكوني للمشاعر المعادية لأحد الوالدين والمحبّة للآخر. وبالتالي تم ذكر عقدة أوديب بشكل صريح ووصفه بوضوح.
إذا كانت هذه الإنجازات الفرويدية قد تحققت، فذلك لأن لها سياقًا تحويليا حيث وضع فرويد فليس في مكانة «المستمع الوحيد» الذي يخبره بأسراره، وتقدمه وتعثّراته، سواء على المستوى الشخصي أو العلمي. هذه المظاهر من التبعية التي كان يظهرها فرويد، وفقًا لجونز، تشير إلى «قوة رهيبة لم يكن يشعر أنه قادر على مواجهتها بمفرده» (20). في نفس السياق، يعتقد أنزيو أن فرويد، كي يتغلب على حواجزه الداخلية، كان بحاجة إلى دعم لا يمكن أن يأتي إلا من الآخر، وهو ما تحقق في صحبة فليس. «الصديق المقرب يمثل للمنشئ القطب الأقل مقاومة. ويقلل الرجوع التصحيحي الذي يحصل عليه منه (من هذا الصديق) من المقاومة الداخلية التي يحملها أي مشروع إبداعي» (21). هذا صحيح تمامًا، ولكن الاقتصار على النظر إلى العلاقة التحويلية بين الرجلين في بعدها الثنائي قد يقيّدها بتأثيراتها المتخيلة والعرضية.
فعلاً، كان فرويد يعطي لفليس وظيفة معينة ويعول عليه في أن يؤديها بشكل مناسب. كان يطلب منه بشكل أساسي أن يكون جمهوره الأول، وبالتالي الممثل للآخر، المكان الذي يمكن أن يتلقى منه فرويد معنى رسالته، حيث كان فليس مجرد دعم في هذا السياق. كما يقول مانوني: «كان فرويد متورطًا في علاقة تخيلية مع فليس، لكن كان هناك منذ البداية بذرة حركة، حركة كان من خلالها، فليس ليس سوى وسيط، بل كانت الرسالة موجهة لما هو أبعد منه، لكي يُسترجع دلالة مرساله» (22).
لقد شكلت هذه العلاقة الخاصة بين فرويد وفليس، حيث كان أحدهما يقدّر الآخر، تحولًا عميقًا في مواقفهم النظرية، مما جعلهم يتعرضون لتأثيرات تشابك رغباتهم اللاواعية، حيث كانوا «لأحدهم الآخر، بمثابة «الذات-مفترضة-عارفة» (23). بعد بضع سنوات من هذه العلاقة، بدأ فليس في بناء معرفته من خلال تخمينات مرضية غريبة تم رفضها بسرعة من الحقل العلمي، بينما خرج فرويد بفهم دقيق ومناسب للجنسانية الطفولية وتأثيراتها المتعددة، بما في ذلك على الظواهر المرضية. كما عبر مانوني بذكاء: «خرج فليس مع هوس المعرفة، بينما وجد فرويد في ذلك معرفة المرض» (24).
الكلمات المفتاحية
التحليل الذاتي، الهوام، المعرفة، الهلوسة، الصدمة الجنسية، الجنسانية الطفولية.
هوامش
1. جونز، حياة ومؤلفات فرويد، ج.1، ص. 339.
2. فرويد، نشأة التحليل النفسي، ص. 194.
3. أنزيو، التحليل الذاتي لفرويد، ج.1، ص. 159.
4. فرويد، مرجع سابق، ص. 170.
5. نفس المرجع.
6. رسالة بتاريخ 16-5-97، ص. 180-181.
7. المخطوط “م” المرفق برسالة 16 مايو.
8. المخطوط “ن” المرفق برسالة 31-5-97، ص. 183-184.
9. فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص. 44.
10. رسالة 21-9-97، ص. 191-192.
11. رسالة 12 يونيو 97، ص. 186.
12. رسالة 7-7-97، ص. 187.
13. رسالة 2-11-97، ص. 151.
14. كما ذكره جونز، ص. 356.
15. فرويد، نشأة التحليل النفسي، ص. 171.
16. مرجع سابق، ص. 177.
17. رسالة 14-8-97، ص. 189.
18. رسالة 3-10-97، ص. 194.
19. رسالة 15-10-97، ص. 198.
20. جونز، مرجع سابق، ص. 325.
21. أنزيو، مرجع سابق، ص. 161.
22. مانوني م.، الطبيب النفسي…، ص. 181.
23. مانوني أو.، مفاتيح…، ص. 121.
24. نفس المرجع، ص. 116.
المراجع بالفرنسية
ANZIEU, D., L'auto-analyse de Freud, T. l, Paris, PUF, 1975.
FREUD, S., (l 887-1902). Naissance de la psychanalyse, Paris, PUF, 1973.
FREUD, S., (1909). Cinq leçons sur la psychanalyse, Paris, Payot, 1950.
FREUD, S., (1925). Ma vie et la psychanalyse, Paris, Gallimard, 1950.
HOUB-ALLAH, A., La naissance de la psychanalyse (en arabe), in Alfikr Alarabi Almouassir, n° l1, Publications du Centre Arabe Pour le Développement, Beyrouth, n° l1, 1981, pp. 21-37.
JONES, E., La vie et l'œuvre de Freud, T. l, Paris, PUF, 1961.
MANNONI, M., Le psychiatre, son «fou» et la psychanalyse, Paris, Seuil,
1970.
MANNONI, O., Clefs pour l'imaginaire, Paris, Seuil, 1969.
ROIIKRT, M„ La révolution psychanalytique, T. l, Paris, Payot, 1964.