شارل مِلمان - مكونات الهوية الأربعة - محاضرة

مكونات الهوية الأربعة

محاضرة ألقيت في 7 أكتوبر 1990

قسم الأمراض العقلية، مستشفى بيساتر - باريس


   


شارل مِلمان

طبيب ومحلل نفسي. 

مؤسس ورئيس سابق للجمعية اللاكانية الدولية


ترجمة عبد الهادي الفقير

محلل نفساني


  

أخترت هذا العنوان... لست أدري كيف أسميه. لنقل بأنه عنوان للافطان بحيث أن الهوية يتم البحث فيها عادة على مستوى عنصر وحيد يعتقد فيه أنه المميز الفريد لهذا الشخص او ذاك، وأنه العنصر الوحيد الذي يميزني. فلربما اختياري لهذا العنوان «عناصر الهوية الأربعة» مفاده محاولتي إبراز أن الهوية غير مضمونة مسبقا إلا أنها في نفس الوقت ثابتة من حيث عناصرها أكثر مما نعتقد. وبما أننا هنا في جناح الطب العقلي بمستشفى بيساتر، سوف أعمل جاهدا على دعم قولي بامثلة عيادية. فهذه الأخيرة منطلقنا على كل حال وهي الوحيدة التي بإمكانها تصديق ما نزعمه وتبيان أننا لسنا حالمين و لا نحن بصدد بناء نظريات قد تلبي لنا رغبة في حين تتركنا غير قادرين على التحكم في الإشكاليات التي تهمنا والتي من أجلها نقضي جل وقتنا.

بادئ ذي بدئ، أثير انتباهكم إلى أمر تجريبي بما فيه الكفاية : ذلك أنني كي أحدثكم الآن، لا بد من اقتسامكم هوية ما. بصيغة أخرى، لو كانت بيننا «فروقات عظمى» (يجب وضع هذا التعبير بين قوسين لكوننا لا ندري لحد الآن ماذا يعنيه)، فقد يمكنني أن أخاطبكم من محل الآمِر وأقول لكم  : «افعلوا كذا و كذا» ويمكنني أيضا أن أحدثكم من مقام المدرِّس فألقي عليكم درسا إلا أن هذا ما لا أنوي فعله اليوم. أعني بهذا أنه بإمكاني اعتبار أن الفرق بيننا من الاتساع مايدفعني الى تعليمكم. و يمكنني أيضا، إن كان هذا الفرق أكثر شساعة، أن أعمل على «تنجيلكم»، إلا أن هذا أيضا ليس مقصد قولي.

فإذا ما اعتبرنا أن قولي لكم يتحمل سمة حوار، فإن هذه السمة تتضمن بصفة قبلية وجودا ضمنيا لهوية ما تجمعنا او لتجمع يتم البحث عنه عادة -وهنا أخطو خطوة اولى - في حقل التجمع الشكلي، أي في تواجد أشكال متشابهة إلى حد ما، موصومة على كل حال بخصائص مشتركة. فلهذا أجدني مضطرا أثناء حديثي لكم، اقتسامكم هذا الشكل المشترك الذي يطفو بيننا والذي، بتعبير آخر، يفرض نفسه علي. قلت بانه يفرض نفسه علي وليس هذا قول مجاز ولا قول ذاتي محض. ذلك أني لو كنت هستيرياً فإنني سوف أحس بهذا الإجبار وكأنه مهمش لي و محقِّر، أو قد أظن أنني غير قادرعلى التعرف عن ذاتي من خلال مثيلي بحيث أن الشكل الذي يعرضه علي لا يوافقني ولا يرضيني ولا أجده أنيقا ولا جيدا بما فيه الكفاية. فيمكنني آنذاك أن أصد دعوة كهذه قصد اقتسام الشكل المشترك إلا أن صدي هذا يجعلني أقبع في الرفض لكل تقابل مرآوي.

إن عرضي للأشياء بهذا الشكل له فائدة أخرى من شأنها أن تبرز لكم ان انخراطي في هذا الشكل الضمني المشترك قد يبدو لي حاملا لنوع من الاضطهاد لكوني مضطرا أن أصبح أخَرا. ذلك أني على كل حال، مجبر لاقتسام هذا الشكل المشترك و بالحاصل إحلال نفسي موضع الأخروية. وبما أن تكويني النفسي يشبه تكوين كل الناس، فإني أفعل من نفسي أخرا على نفس الوتيرة. ذلك أن هذا الأخر، ذاك الأنا المثالي الذي تحدث عنه فرويد، سيصبح منذ هذه الوهلة أناي بالفعل. وبمعنى آخر، ها هو هذا الأخر ملىء ذاتي. وبما أنني أتحدث معكم، فإن ما يحفزني فهو هذا الأخر عينه بما يتضمنه من خاصية عظامية ملازمة لتماهي الأنا.

سوف لن أحدثكم عن العظام لكونكم تدرون بأنه يكمن في الاعتقاد الراسخ لدى العظامي بالتواجد الدائم في مجاله الخاص لهذا الأخر مهدداً ومقلقًا له ومسيئًا به إلى حد اغتصاب الذات. لهذا فإن هذه الخاصية العظامية الممهدة لتماهي الأنا، تحظى لدينا بكثير من الاهتمام بقدر اقحامها لهذه السمة المَرَضية في صلب تكوين هويتنا. إن هذه الخاصية تُدخل سمة مَرَضية ستنكشف لنا تباعا من خلال كل الإشكالات المرافقة لها والتي تعمل على ترسيخها في صلب ذاتنا. ذلك أنني كلما حاولت بلوغ هويتي الأصيلة أو أنايَ الحقيقي، أجدني دائما مضطرا للمرور عبر هذه الغيرية الفاعلة فيَ والتي في نفس الوقت تتلفني عن ذاتي. فهناك ظروف خاصة بالعُظام ينشطر خلالها الأخر الذي يحل بي عن أنايَ وما يترتب عن ذلك من عواقب لاتخفى عن علمكم.

أود أيضا أن أجلب انتباهكم تواً لهذه الخاصية التخيلية للهوية. ففي العلاقة مع الأخر الذي أشاطره هذا الأنا أو هذا الشكل المشترك، تحصل لامحالة صلة لا تقابلية بيننا، أي بيني و بين مُخاطبي. فهذا اللا-تقابل هو الذي يجعل الأنا يَزن كمثال ويتواجد إما بجانب أو بآخر. وبصيغة أخرى، فلابد من هذه المنافسة التي تنتاب معرفة أي من الجانبين يوجد به المثال. فهل هو بجانبكم هذا الصباح أم هو بجانبي؟ لست ادري. وعلى كل حال، فإنه من المحتم ومن اللازم حدوث هذا اللا-تقابل مما يجعلني أدخل مع غيري أو مع مثيلي في تنافس حسود، بل وفي تطالب هُذائي.

نحن هنا - واستسمح في إبداء هذه الملاحظة - بصدد ما يمكن تسميته بالبنية العادية والسوية للبعد التخيلي لهويتنا. وإني أحاول أن أبين ذلك في مسار تعليم لاكان بالذات. فهذه الهوية الصورية سأحددها لكم في الحين. أقول إنها هوية تخيلية لأنها مرتبطة بالصورة التي يَلوح لي بها مجاوري. فمن المحتمل أني أقتسم هذه الصورة المشتركة. أقول من المحتمل، ذلك أنه بإمكاني العيش رافضا إياها موصدا بهذا الشكل عن الدنيا وعن كل محاورة وتبادل اجتماعي أو جنسي أو مهني أو ما شابه ذلك. فسمة الأنا التخيلية هذه تأتي سبقا للإخلال ِبتوقي لهوية أصيلة الكنه. فمن البديهي أن هويتي هذه لو تم اختزالها في هذه الصورة فإنها تصبح عرضة لليونة كبرى تجعلها لامحالة طوعا للظروف وللأحداث العابرة والمحلية، التي تحثني على المشاركة في هذه الطائفة أو تلك. إن هذا أحد العناصر المعتادة لدى الذي َيقدم شاكيا بهذه الليونة التي تنتابه وبهذا الطبع «الحرباوي»الذي، إن صح القول، يضطره للاندماج بشكل لائق بمختلف الجماعات التي يتم انخراطه بها وإن كانت متعارضة جدا فيما بينها. فها هنا منبع آلام الشخص الهستيري الملزَم بإبدال شخصيته، وبشكل خاطف جدا في بعض الأحيان، حسب متطلبات التقائه بهذا الشبيه أم ذاك بحيث أن أي شبيه يطلب من شبيهه أن يمده بتصور لذاته مقبول لديه. أي إنه يطلب منه إقامة الازدواجية التي حدثتكم عنها قبل حين. أما إن لم يكن لدينا إلا هذه الهوية التخيلية التي تحدثت عنها في الحين، فإننا نبقى عرضة لنصبح كمثل الحرباء ولا يسعنا إلا أن نفعل كهذا الحيوان الذي يتحلى بلون المكان الذي يقبع به. فنَجد أنفسنا بمثله نحيى و على واترته نتحرك، ليس غيرُ.

إلا أن هناك عنصرا آخر في تكوين الهوية يعمل على مدي بهذا المحور وهذا الثبات وهذه الديمومة وبهذه الصلابة التي، إن صح القول، تطمئنني على بقائي متعديا طلبات المحاكاة. ما يركز هذه الديمومة هي تلك العناصر المرتبطة بسيرتي الذاتية، وأصولي، وأسرتي، وديانتي، وتكويني الثقافي ولقبي. كلها عناصر تلعب لامحالة دورا حاسما بهذا الصدد. فهذه الهوية التي بإمكانها تحقيق ديمومةَ ذاتي، يمكن إن صح القول، تسميتها هوية رمزية وليست فقَط تخيلية. 

بإيجاز يمكن القول أنها هوية رمزية نظرا للدَّين الذي يرافق وجودي وعيشتي والذي يرتبط بذنْبي لكوني مَدين دوما ودوما ملزم بتسديد ما علي من دَين وذلك مع الإحساس بأنه رغم هذا المسعى فلا هناء للبال. إنه في الغالب الإحساس الأكثر انتشارا كما هي عليه متطلبات هذه الهوية الرمزية المفروضة من أجل إنجاز هذا الإحساس بالتمام. والأكثر أهمية أيضا هو أن هذه الهوية الرمزية، خلافا للهوية التخيلية التي تحدثت عنها سابقا، فإنها قابلة لإثبات هويتي الجنسية. ذلك أنه من خلالها أجدني بالمرة إما رجلا أم امرأة حيث أختبر، على كل حال، تموقعي بهذا الجانب أو ذاك، كواجب أو لزام فوق - شعوري. في حين أن الهوية التخيلية يمكنها إلى حدما أن تنقلب فخًا أو أسراً نتيجة تاثيراتها الإيمائية والجنسِتَبادلية. وإنكم لمدركون مدى انتشار هذه الظاهرة على المستوى العيادي. فأما هذه الهوية الرمزية التي أحدثكم عنها تواً والتي قد كونتني وعرفتني بنفسي كفتى او فتاة فإنها بالمقابل تفرض علي كنه جنسي وما يلزم علي تحقيقه صوب هذا الأخير، أي كل ما يلزمني تحقيقه كأب أو كأم. إن هذا العامل يتدخل بصفة حساسة في ذاتية كل فرد وأن هذا اللزوم يتجلى على هذا المستوى الرمزي.

ففي أحسن الأحوال، وخصوصا في حالة إحساسنا بطمأنينة نفسية وإن كان هذا من غير المعتاد، فإن ذلك يدل عامة على توافق بين الهوية التخيلية والهوية الرمزية. فهذا التوافق عندما يحصل، ينجم عنه هذا الإحساس الذي يدفع البعض ليقول: « إن هذا لشخص مطمئن النفس، يعيش في سعادة وارتياح كامل». في حين أن التنافر  الذي يحصل بين الهوية التخيلية والهوية الرمزية والذي يعم زمننا هذا وإن كان ذلك لأسباب ثقافية أو ذات صلة بالتهجير...الخ، فإنه عادةً مبعث لكدر. ونظرا لكون هذا الكدر معضلة لا تقتصر على الفرد فحسب وإنما تعم المجتمع ككل، فإني سأتطرق لا محالة اليه ببعض الكلمات في ختام عرضي هذا.

فها هي ذي ملاحظة ربما قد تقنعكم بأن فحوى قولي ليس نظريا محضاً كما قد يبدو لكم. إنها تخص ظاهرة نسيان الهوية والتي قد تم لامحالة توقفكم عندها مرات عدة. فإن المصابين بنسيان الهوية يطلعونكم على أن هذا النسيان يمكن أن ينحصر على عنصر محدد من بين عناصر الهوية التي أعرضها عليكم هنا. بمعنى آ خر، في حالة نسيان الهوية، قد ينحصر ا النسيان على مستوى الهوية الرمزية. الشخص في هذه الحالة قد يمتلك أناً تخيليا سليماً جدا وقد يتوفق غالبا في إقامة علاقة سليمة مع الآخرين إلا أن النسيان لديه ينحصر على المعالم الرمزية بكاملها فتراه مراراً يتعمد  إجلاء بطاقته الشخصية وكل وثائقه وتذاكره وحتى علامة سترته...الخ. آنذك يقدم نفسه هكذا بعد إضاعة كل هذ المعالم.

فالهوية الرمزية هذه تصاب أيضا لدى الفصامي إلا انها في هذه الحالة تجر معها سمتها التخيلية ولهذا تجدون لدى الفصامي - وإن كانت الأدوية حاليا، على غرار المخدرات، تمده بنوع من الحيوية - تجدون لديه اضطرابات تُنقص من حيويته مما يجعلكم قادرين على التعرف عن حالته ولو بالتطلع إلى هيأته فقط. أما إذا أصابه خلل في هويته الرمزية، فإن ذلك وبدون شك سيلقى ترجمته على سبيل المثال في هُذاءات النسب التي ترقبونها في مثل هذه الحالات.

هوية تخيلية إذن وهوية رمزية كذلك. أهذا كل ما هنالك؟ هل لنا أن نكتفِ بهذا القدر ونعمل به وإن كان يمثل قَطْعا أدوات أثبتت فيما قبل فعاليتها؟ كلا. ذلك أنه إذا ما قُدر لي، وأنا أحدثكم للتو، أن أرتكب هفوة لسان فإنها ستلاحَظ  لامحالة وتُسمع. الشيء الذي يدفعكم الى التفكير بأن مخاطبكم هذا له اسم شخصي وله تمثل خاص ثم إنه يستند إلى تعاليم معينة وهو الآن بصدد عرض أحدها...الخ. إلا أن هويته الحقة فهي هنا، في هذا الشيء البسيط الذي فضح نفسه من خلاله. فها هنا تكمن فعلا حقيقةُ ذاته. والقول الحق أنكم لن تكونوا مخطئين إن فكرتم بذلك بحيث أن هذا الحدث البئيس في بعض الحالات، إنما هو تعبير عن رغبة أو أمنية أو شيء من هذا القبيل أكون قد تعمدتُ إسكاته في هيئتي أو في عرَضي في حين أنه - حسب التعبير المعتاد - أبى إلا أن يبرز أنفه. 

مفاد هذا الحدث إذن هو أن يبدي لكم هويتي من حيث هي هوية شخص راغب ذي رغبات تتعدى فحوى قوله. بالنسبة للمتحدِّث، كما هو الحال بالنسبة لمخاطبه، إن التعرف على رغباته إما أن يكون في غير متناوله دوما وإما قد يرفضه بتاتا. لنفترض أن هفوة لساني هاته تنم عن أمنية قتل تجاه شخصية جليلة أو تجاه الأب مثلا. فمن البديهي أن السيرة العادية للمتحدِّث تستدعي منه إبعاد هذه الأمنية بل وحتى رفضها ونفيها. أليس كذلك؟ إنه يمكن سماع هذه الهفوة من حيث هي حاملة لحقيقة ذاتيةٍ وإن كان مَن فاه بها غير قادر على التعرف عليها ما لم يعترف هو ذاته بنفسه كحامل لأمنية قتل تجاه شخص عزيز لديه.

إن الشخص يمكنه طمس معالم هويته التخيلية ويمكنه أيضا محاولة نسيان هويته الرمزية، مهاجرا إلى بلاد أجنبية، تاركا وراءه أصله وثقافته ولغته...الخ. إن هذه لظواهر أصبحت اليم جد متفشية. إلا أن هذه الهوية المعبرة عن تلك الرغبة المنبثقة من صلبه فلن يمكنه بتاتا تركها خلف أية حدود ولا أي نسيان. إنه ينقلها معه حتما أينما حل وارتحل، فتبقى به كشاهد عيان يفشي عليه سره وما هو عليه بحول ولا قوة. 

لذا فإن أكبر عنصر مؤسس للهوية يمكن البحث عنه من جهة هذه الظاهرة الأكثر بساطة والأشد اقتضابا والتي بمثيلتها، كما تعلمون، يهتم المحللون النفسانيون. إن هذا والحق يقال، شيئ فطن له الفلاسفة قبلنا منذ زمن، مما دفع ببعضهم  مثل سْبينوزا مثلا ليخُط وبكل طمأنينة أن «الرغبة هي كنه الإنسان». فالرغبة عنده هي ما يميز الإنسان وليست الحكمة او الضحك أو الثقافة أو ماشبه ذلك. 

هذه ملاحظة من القوة بمكان بحيث أن الرغبة لدى الإنسان بقيت تُعتبر حتى هذه الآونة شبيهة للرغبة لدى الحيوان، وهي بذلك تمثل القسط الحيواني لدى كل فرد. فالرفع بهذا القسط من طرف فيلسوف إلى مكانة عامل أساسي للإنسانية لجدير بكل تقدير.

إنني مازلت، كما ترون، بصدد تناول الخاصية الثالثة للهوية وإن كنت قد وعدتكم أربعة، طبقا لعنوان محاضرتي هذه. فما هو ياترى عنصر الهوية الرابع هذا وما قيمته؟ إنه حقا معقود تماما بالعنصر السابق ولكن يستحق فصله كعنصر رابع. فعنصر هويتي الرابع هو عَرَضي العصابي بالذات. إنه مكوِّن لهويتي بحيث لامناص لي منه. إنه يتبعني ويصحبني أينما سرت ولا يمكنني تركه خلف باب هذه القاعة. إنه طبعا يلصق بالعنصر السابق ذلك أنه عادة ما ينبني كصد للرغبة. فالعرض إذن هو ذاك العنصر الذي يُديم الرغبة لدي ولكن كرغبة أصدها ولا أتقبلها. إنه يحولها بطريقة تجعلها تتجلى لدي بواسطته وذلك لأسباب يبقى استجلاؤها مستعص علي.

إن الرغبة إذا ما تجاوزت خصوصيتها، شُبهت بالرغبات العامة والمشتركة. ذلك أن الهوامات التي تنظم الرغبة تمتلك صفة كونها أكثر اقتساما وعمومية ما يجعلها من أكبر معالم التواصل بيننا. إن الرغبة في عالم حضاري معين،  تسري لدى جماهيره بوجه شبيه الى حد ما ومن خلال هوامات متجانسة. وإنكم لتعلمون بأن الابتكار بشأن الهوامات هو من الضآلة بمكان. فذلك ما اصطدم به المؤلفون في مجال الكتابات الجنسية. فالهوامات لا يمكن الابتداع فيها بهذه البساطة ثم إنها سرعان ما تنقلب سلوكات فجة. هذه الصفة هي من إحدى غرائب تكويننا ذلك أن رغبتنا ليست فقط فجة من حيث تكوينها وإنما هي شبيهة لرغبات كل الناس.

أما العرض، خلافا لما سبق، فهو العلامة الفردية، بل إنه الدلا لة الخاصة حقا. طبعا، قد يمكن شده الى إحدى الفئات المَرضية الكبرى إلا أنه يبقى مع ذلك محتفظا بالعنصر الانفرادي الذي يميزه، مما يجعل عَرضا كهذا يخصني أنا بعيني وليس غيري.  وهذا ما يجعل مستحيلا على المحلل النفسي إمكانية تحليل مرضاه بالجملة إن صح التعبير. فلن يمكنه ذلك وإن سُمح له تصنيف هؤلاء المرضى في هذه الفئة المَرضية أو تلك. بل إنه مضطر كل مرة على معاملة كل مريض بكونه حالة فريدة فعلا وذلك بفعل خصوصية العرض العصابي لدى كل فرد. فالعرض هو ذاك الابتكار الشخصي الذي يستلزم استقبالا خاصا جدا ويتطلب ردا جد فريد. 

من خصائص هذا العرض أن يؤدي إلى ما سماه فرويد بآلية التكرار، ذلك أن وجودي ليس فقط مسارا صاعدا أو هابطا وإنما هو على وتيرة دورية عكس ما جرى به الاعتقاد. إنه عبارة عن تكرار دورات وما هذه الدورات إلا إعادة أنماط الإخفاق الذي ينظمه عَرضي. 

هذه لسمة جد مهمة في تكوين ذاتيتنا مما يدعو لأخذها بعين الاعتبار. ففي مجال كهذا يلزمنا التخلي عن مفهومي الماضي و المستقبل، ذلك أن المحللين النفسانيين، حسب اعتقادي، يختبرون دوما أن لا ماضي هناك ولا مستقبل عند حلول العرض وقت تكوين الهوام البدئي وذلك منذ عُمْر جد مبكر، أي حوالي السنة والنصف والسنتين. فليس هناك إذن من ماض لأن ما حدث سابقا لم يكن منظما بعد وليس هناك أيضا من مستقبل لأن كل ما سيحصل للفرد فهو منضوٍ سبقا في إطار الآلية المضبوطة بهذا الهوام البدئي. الشيء الذي يجعل دور الزمن ينحصر في إتمام هذه الدورات مختلفة الطول والقصر. 

إني لا أعتقد من اللازم إثارة انتباهكم إلى كون الحياة بصفة عامة، بجانبيها العاطفي والمهني، نموذجا لهذه القبولية ولهذا النمط من التوزيع. ويمكننا حقا التأسف لكوننا معوجِّين إلى حد يجعل نمط التوزيع هذا يسيطر علينا بهذة الشاكلة.

في هذا الصدد، غالبا ما أثير انتباه اللذين ألِفوا الاستماع إلي، إلى هذا الشيئ الذي قد يبدو تافها جدا وهو التالي : حتى لدى المتحللين المسنين، يلاحظ دوما ان علاقتهم الماضية بباباهم وماماهم تستمر، رغم تقدمهم في السن، في تسيير كل اهتماماتهم الحالية، العاطفية منها أو المهنية الخ. إن التوقف على شيئ من هذا القبيل لهُوَ لنا لا محالة صادم، ذلك أن هذه العلاقة هي مرجعنا الأخير وهي الوتد الذي نحْن إليه مشدودون والذي حوله لا نلبث ندور. إن كل ما يمكن وقوعه فهو بالضرورة وليد وسجين هذه العلاقة الأولية التي تشكل الخطاطة الثابتة لوجودنا.

أعتقد أن هذا التذكير  - بما أنني أتصدى للعَرض كخاصية رابعة للهوية التي نتحدث عنها - مفاده إبراز أن الشيء الأصلب في هويتنا هو من جانب العرض أكثر مما هو من جانب الرغبة. ذلك أنه إذا ما تنصَّل مني عرضي لحظة ما لسبب طارئ، فقد ينتابني إحساس بفقدان شخصيتي وبانعدام القدرة على تعرفي بنفسي. ذلك ما قد يحدثه تناول المخدرات المختلفة والذي يؤدي الى هذا الانطفاء اللحظي للعرض وما ينجم عن ذلك من عواقب متوقعة.

إن المحللين النفسانيين، على كل حال، في اعتناء بالغ بهذه الهوية التي يثبتها العرض لدينا والتي تجعلنا مع مرور الزمن ثقالا إلى حد ما. فها هم أهلنا بعد مدة قد خبروا كل شيئ عنا، فأصبحوا يتوقعون سلوكنا وما ننوي قوله أو ما نحس به. فعلى هذه الشاكلة نحن مطبوعون مما قد يجعل الشخص نفسه في ضجر لما يتحمله من سلوكات متجمدة سبق لي ذكرها. وها أنتم ترون كيف نتدحرج بين ما يمكن تسميته بهوية مكتسبة، ثابتة ومركزة من جهة وهذا الإحساس بالضجر والثقل الناجم عن هذه الهوية المُقولبة والتي يمكن تسميتها أيضا بالطبع المكوَّن من تلك السبل التي ينهجها الفرد لا محالة للتصرف حسب الظروف. فهذا ما يدعو إلى القول عادة : «طبع فلان غير خاف عنا» إذ من المتوقع منه أن يصرخ أو ينزوي أو يبتهج أو يحتج...الخ.

إذن، وهذا ما أريد أن أختم به كلامي - بما أنكم تعلمون بأن المحللين النفسانيين متهمون بحصر عطائهم على المستوى النظري - أود محاولة إبراز إلى أي حد تكون هذه العناصر التي أعرضها عليكم متطابقة مع الظواهر التي نلاحظها بالفعل. يعني هذا أن استجلاء ما نعاين وقوعه ليس هو بمحض تنظير. إن قضية الهوية مسألة تُطرح بالفعل ليس فقط على مستوى المستشفى أو العيادة وإنما على الصعيد المجتمعي ككل، ذلك أن القلق والانزعاج بخصوص الهوية يتمظهر أيضا على مستوى تفجرات مجتمعية. وليس من المبالغة القول ان هذه المشاكل الاجتماعية تنجم عن ظواهر حديثة العهد، حيث نشأت مع بداية القرن المنصرم (ومرتبطة بالتهجير وتداخل الثقافات. فالهجرات الكبرى بدأت مع بداية القرن العشرين خصوصا في الولايات المتحدة ونفس الشيء حصل عندنا هنا).

فإذا ما حاولنا استعمال هذه الأدوات التي عرضتها عليكم، يمكننا التفكير بأن  التوتر الناجم عن هذه الهجرات وتداخل الثقافات مرتبط بالارتياب فيما يخص صمود الهوية الرمزية. وهذا الارتياب الناتج عن ظاهرة الهجرة، لايمس فقط  المهاجرين، وإنما أيضا أولائك الذين يستقبلونهم. فبخصوص هذه المسائل يجب التحلي بالوضوح واجتناب التسرع بأقوال على عواهنها. فهذا مناقض لممارساتنا كمعالجين. وكمعالجين نحن عياديون وعملنا يقتصر على محاولتنا قول الأشياء كما هي وإن كانت لا تروق للمستمع.

إنه لمن البديهي أن يتم المساس بهويتي التخيلية إذا ما تم إدخال عقر دربي أو بيتي أو بلدتي صور غير مألوفة لدي، أما إذا ما أصبحت اللغة المتداولة والعادات المعروضة علي تختلف عما ألفته، فقد يحصل إحساس مشترك بالشك في ركيزة الهوية الرمزية وذلك لدى كل من المهاجر ومن يستقبله. (بخصوص هذا الأخير لم أتمكن من استحضار مفهوم مقابل وأما إن لم يكن موجودا بعدُ، فابتكاره لازم). إذن، هذا التشكك بخصوص الهوية التخيلية يمس لامحالة بالقيم التي أشرت قبلا إلى كونها مؤسٍسة للهوية الرمزية والتي ترتبط بالتاريخ والعشيرة والديانة...الخ. إنها قيم يمكن تقديرها مقدسة لزاما بحيث أن زعزعتنا لها يؤدي حتما الى عواقب مقابلة. فهذه ظاهرة يجب عدم اعتبارها مَرضية، بل إنها ظاهرة عادية نظرا للشاكلة التي نحن من خلالها مكَونون. أعتقد أنه يجب تعريفها أولا بكونها ظاهرة عضوية وبعد ذلك يمكن أن نقَدرها كما نحب. فلنا الحق في تقييمها كما نشاء إلا انه يلزم اعتبارها كظاهرة طبيعية لأنها هكذا وليس غير.

وقد يسعنا أن نخطو خطوة أخرى من شأنها تحليل المشكل من جانب الشاب المهاجر إذ سبق لي القول بأن هذه المشاكل تتمظهر حتى على الصعيد الاجتماعي. فغالبا ما يجد الشاب المهاجر نفسه مضطرا للتنكر لثقافته الأصلية وذلك ليس بمحض إرادته وإنما لكون هذه الثقافة في حالة تهميش بمعنى أنه لم يعُد لها من تأثير على الواقع. فليست هي التي تؤطر المناظر الطبيعية أو الآثار أو العمران أو الملبس أو سبل التداول أو الماكل...الخ. بل الانكى من ذلك، وهذا شيء مهم لدينا، إن هذه الثقافة ليست هي التي تمده بميزة التماهي. إذ لم يعد بإمكانه اعتبار ثقافته مصدرا لهويته كرجل أو امرأة. وذلك ليس فقط كي يتم التعرف على جنسه من طرف آخرين منتمين الى ثقافة مغايرة وإنما كي  يتم التعرف عليه من داخل ثقافته كونه منضوٍ تحت هذا الجنس أو ذاك. انطلاقا من هذا فإن من يقف على إخفاق ثقافته في الإمساك بالواقع المعيش فإنه يقرأ في ذلك دعوة للتنكر لها بل والرمي بها. لكن المسألة تختلف بالنسبة للنساء. وبما أني لا أبغي للانسياق في هذا الموضوع، يمكنني القول باختصار أن للنساء سهولة تميزهن والتي تسمح لنا القول بأنهن ينتمين لثقافة عالمية بحيث يمكن التعرف بهن كنساء في كل مكان بغض النظر عن ثقافة منبعهن. هذا موضوع سأتركه جانبا لكوني إن تطرقت له سأكون مدعوا للخوض في موضوع مختلف.

أود هنا فقط أن اثير انتباهكم إلى هذا الحدث الآلي والمنفصل عن إرادة الفرد.  إذا ما تبين هذا الأخير أن ثقافته لا تحظى برتبة الهيمنة في المجتمع، فمن غير الممكن له الاتكاء عليها لتقدير ذاته لدى الآخرين أو حتى تَقَبل هذه الأخيرة لديه بالذات. وهذا قول صحيح حتى داخل إطار ثقافة الفرد بحيث أن الحياة الزوجية في هذه الثقافة المهمشة يصبح عرضة لتوترات شتى: فإما أن الزوجة مثلا تجد نفسها مضطرة دوما لفضح زوجها لما قد تلحظه من فتور ذكوري لديه، وإما أن الزوج يعتلي صوب زوجته إما منصب المطالبة متهما إياها عدم إعطائه مايطلب وعدم السماح له بما يمَكنه التعرف على نفسه كرجل فحل، وإما أن يقف موقف الغيرة العظامية مدعيا اهتمامها برجال أخرين أحق منه. هذا جانب أول لمشكلة أساسية. 

أما المشكل الثاني فإنه يتعلق بمسألة قبول أو عدم قبول هذا الشاب المهاجر من قِبل الثقافة المتبنية له. إنه يتعلق بقضية الاعتراف به كشبيه أم لا. في هذا الباب أيضا نكون خاطئين إن اعتبرنا هذا الحدث هو محض رفض مَرضي. ذلك أن المحرك في هذا الصوب لا يمكن اختزاله في سوء نية الناس أو في مستواهم الثقافي أو ما شابه ذلك. إن المحرك الفعلي يكمن في اللغة وما تدرجه من كلمات تحمل قيما. ففي لغة سائدة، عندما يتم التوقف على ألفاظ تخص الثقافة والأصل وما تحمله هذه الألفاظ من تحقير ورفض للأخر، فإن ظاهرة الإبعاد والتهميش تحدث لامحالة. إنها ظاهرة يستحيل صدها بأي قانون يمكن تبنيه ذلك لأنها ظاهرة منقوشة في صلب اللغة. وعلى كل فإن هذه الظاهرة جد فعالة في مجالنا الثقافي، في بلدنا وفي لغتنا التي تبدي حرصا، كما يقال، على صفائها خلافا للغات أخرى.

وهذا معطى أولي ويجب الابتداء باعتباره كذلك عوض المضي سبقا في تفريغ مشاعرنا نحوه، الطيب منها والسيء. هذي هي خاتمتي على كل حال. إن هذا الشاب غير المتمكن من التعرف على هويته الجنسية لا في ثقافته الأصلية ولا في ثقافة التبني، يجد نفسه عرضة لإحباط قوي وأساسي لا يفسح مجالا إلا الى ما نسميه بالأفعال التدميرية وخصوصا استعمال العنف قصد انتشال ما صُد عنه قصرا من طرف هذا القبيل أو ذاك. 

نحن هنا بصدد الجنوح وإلا فهناك مخرج أخير لم أسجله في أوراقي لما يحظى به عندي من ضعف المحبة. إن هذا المخرج ينحصر في الانخراط في هذه الظاهرة الاجتماعية المتفشية في وقتنا الحاضر وهي ظاهرة «الأصولية» بشتى أنواعها. إنها تعني التأكيد الشديد والعنيف على الهوية الرمزية وفي نفس الوقت على الهوية التخيلية والثقافية مع ما ينجم عن ذلك من منازعة بل ونفي للثقافات الأخرى.

فكما ترون، إنني حاولت عبور هذا المسرى أمامكم وتبرير مكونات الهوية الأربع بما فيها التخيلية والرمزية والواقعاتية والعرَضية ثم إني حاولت إبراز العواقب المترتبة عن ذلك على مستوى الفرد أو المجتمع. إلا أن ما قدمته قد يبدو صعبا أو قد لا يجيب مباشرة على أسئلة كل منكم حول هذا الموضوع. فمن الطبيعي أن تحتفظ أسئلة كل واحد منا بصيغتها الانفرادية. أما أنا فقد حاولت التعبير بصفة عامة جدا، فافترضت لكم أناً جمعيا وهذا خطأ طبعا. آمل على كل أنكم لم تجدوا في قولي اهتماما تربويا مبالغا فيه قد يدل أنني اعتبرتكم جهلاء، ينقصكم التفقه بعلمي. فكيف ما كانت قيمة مضمون عرضي أتمنى أن تعتبرونها أدنى مما أريدَ به لأسلوب تعبيري.