العرَض من منظور التحليل النفسي
عبد الهادي الفقير
ماهو تصور التحليل النفسي للاضطرابات النفسية أو العقلية أو السلوكية؟ ما هي المفاهيم النظرية التي يعتمدها في فهمه للأعراض النفسية ؟ وما هي المنهجية التي يتبعها للتعامل مغ مختلف هذه الأعراض، أو بالأحرى مع ذات الفرد التي تعنيها هذه الأعراض في مسار حياتها؟ سأعرض لهذا التصور في خمس نقاط.
1- العرَض، تشكيلة لا واعية
عند حدوث صراع نفسي بين التصورات والأفكار غير المقبولة من الفرد ذاته أو من محيطه الاجتماعي وبين الدفاعات النفسية للـ “أنا”، يتم دفع أو إبعاد تصور أو أكثر من الوعي إلى اللاوعي من خلال عملية الكبت.
الكبت هو العملية أو الآلية التي يتم من خلالها الحفاظ على التصور المرفوض في حالة لاوعي. ومع ذلك، فإن هذا التصور المكبوت لا يتوقف عن التأثير في ذات الفرد، بل يستمر في الإجهاز على الذات حتى يتمكن من العودة إلى وعيها ويفرض نفسه على انتباهها. لكنه لا ينجح في ذلك، إلا بشكل متخفي بسبب المقاومة المستمرة واليقظة التي تديرها قوى الـ “أنا”. فالعرَض هنا كباقي تشكيلات اللاشعور، هو بحسب فرويد، تجسيد متخفي ومتنكر لرغبة أو رغبات مكبوتة.
يتم تنفيذ هذا التحول باستخدام آليتين أساسيتين من آليات اللاوعي، وهما التكثيف والإزاحة. هتان العمليتان يشبهان على مستوى اللاوعي، القانونين الأساسيين اللذين يؤسسان اللغة، وهما الاستعارة والمجاز، واللذين هما أساس إنتاج المعنى في الكلام. وهكذا فإن “اللاوعي منَظم على شاكلة لغة” بحسب تعبير لاكان.
بمجرد أن يتنكر المكبوت، يمكنه أن يعود عبر تكوينات لا واعية متعددة؛ كالحلم، أو الفعل الخطأ، أو السهو، وأيضًا العرض العصابي، وهذه من بين تشكيلات اللاشعور كما أسلفنا.
إذن، يُعد العرَض أحد أشكال عودة المكبوت وهو إحياء لرغبات أوديبية محظورة لكونها ذات طابع محرَّم، ولكنها مع ذلك، تستطيع أن تجد إشباعًا بطريقة متخفية ومتنكرة تمامًا.
2- العرض يتبلور في العمل التحليلي
قد يحدث أن يعاني الفرد من عرضه ويريد التخلص منه. لأنه “لم يعد يتحمل”، “لم يعد ممكنا” كما يقال عادة… إلخ. وبالفعل، فإن ما لم يعد ممكنًا بالنسبة للمريض هو أنه لم يعد قادرًا بعدُ على الاعتماد على بقايا المتعة أو اللذة أو التشهي التي كان العرض يوفرها له حتى الآن. ومن خلال تدهور هذه الاستفادة من اللذة التي كان العرَض يوفرها له، يصبح هذا العرض من غير المتحمَّل.
لذلك، يوجه المريض عرضه إلى المعالج (الطبيب، أو الأخصائي النفسي، أو المحلل النفسي) حيث يفترض أن هذا المختص لديه معرفة بما يسبب هذه المعاناة ويفترض لديه قدرة على تخفيفها. لكن ما هو حاسم في العمل المطلوب يكمن في الطريقة التي يتم بها الرد أو الجواب على طلب العلاج وهذا الرد يتوقف بالكامل على موقف المختص.
إذن، يتم تقديم هذا الرد، وفقًا لموقف المعالج وأخلاقياته، بطريقة مختلفة تمامًا أو حتى معاكسة من معالج إلى آخر، مما يسمح بتقسيم مواقف المعالجين إلى فئتين متميزتين:
• إما أن يضع المعالج كل المعرفة من جانبه، معتبرًا أن أي حل لا يمكن أن يأتي إلا منه، وذلك بمطابقة ذاته للمعرفة المفترضة فيه من طرف المتعالج.
- أو أن المعالج ينجح في ضبط موقعه ليس في مكان العرف وإنما في مقام المفترض عارف. بمعنى أنه يسمح لذات المريض بلورة فكرة مفادها أنه لابد لهذا العرض من معنى أو من انعدام المعنى وأن له كلمته في كل ذلك. بعبارة أخرى:
1- يركز المحلل على قابلية الفرد في تحمل قدر من المسؤولية في مسببات عصابه وأعراضه المختلفة، بمعني قابليته للتخلي عن إلقاء اللوم على الآخرين كسبب وحيد في معاناته (العائلة، المجتمع، الأم، الأب، الحظ السيء…) وعن انتظار الحل من الأخرين (الحكومة، العلم أو الطب، المعالج…). وهذا ما سيقوده إلى المشاركة في فهم كيف تورطت ذاته في خلق هذا العرض أو ذاك وفي ذات الوقت يشارك في إيجاد المخرج باستجلاء حقيقة المعرفة اللاواعية الكامنة لديه دون علمه.
2- يركز المحلل أيضا على التحقق من إمكانية قبول الفرد التنازل عن اللذة التي تظل مرتبطة بأعراضه و إن كان يعاني منها ومهما كانت درجة المعاناة. وهو ما يسميه فرويد بالفائدة الثانية للعرض.
هذا التحول من شكوى الفرد إلى طلب معرفة بخصوص العرَض يتوخى المحلل اكتشافها مجددا من طرف المريض. و هذا يتطلب من المحلل تحديد موقف من ثلاثة جوانب:
أ- أولاً، يتعلق الأمر بتفعيل مقام الذات-مفترض-عارفة. وهو مقام يُنَصب فيه المريضُ المحللَ بمجرد أن يوجه إليه كلامه. ولكن الأهم من ذلك، يجب أن يكون المحلل قادرًا على تحمل هذه المعرفة المزعومة بشكل صحيح ولوقت كاف دون أن يتماهى معها، وذلك ليتمكن من إدخال إمكانية المعرفة التي تصبو اليها ذات المريض؛ وهي معرفته اللاواعية.
ب- بعد ذلك، يتعلق الأمر بتكوين العرض كشيء غير مكتمل؛ أي أن المحلل يجب أن يجعل ما تعاني منه ذات المريض يظهر كلغز، كرسالة يجب فك شفرتها، كسؤال تكون مسبباته وحلوله تتعلق بذات المريض وتتطلب مشاركته فيها، ولكن الإجابة عنه تكون خارج متناوله (وعن متناول المعالج) بشكل فوري.
ج- أخيرًا، بمجرد أن يتم تأسيس “الذات-مفترض-عارفة”، يصبح المحلل مكملاً للعرض. إنه الآن مدمج في العرض، وهو ما يطلق عليه فرويد “العصاب التحويلي”. وبصفته قطبا لهذه المعرفة المرتقبة أو المتوخاة، يصبح المعالج مكملا للعرض، بهدف استرجاع معناه من خلال التأويل.
تتيح عملية الكلام المسترسلوالتأويل الذي يصاحبها انتقال العرض، الذي يمكن أن نعتبره “خامًا” أو “بدائيًا”، إلى عرض تحليلي، أي العرض الذي أصبح طلبًا نتيجة لانضوائه في خطاب المحلل.
3- العرض يتحرك من خلال العلاقة التحويلية إلى المحلل
التحليل النفسي لا يكتفي فقط بالاعتراف بوجود التحويل. بهذا لن يختلف عن أي ممارسة أخرى للتواصل أو الرعاية حتى لو كانت نفسية علاجية. كما أنه ليس تفسيرا أو تأويلا للتحويل بمعنى أن المحلل يقتصر على ملاحظة وتفسير الصور الوهمية الناتجة لدى الذات من تاريخها الطفولي… إنما هو تحليل تحت التحويل.
التحويل هو الحب كما يقول لاكان. وكل حب يقوم على سؤال معرفة ما هو أنا في رغبة الآخر. لا تتوقف الذات عن التساؤل حول رغبة الآخر وعن النقص الذي يأسس هذه الرغبة، وعن المكان الذي يمكن أن يشغله فيها. إذن في الحب، تسأل الذات: ما أنا؟ ما هي الوضعية التي أنا عليها في رغبته بحيث تجعله يحبني؟
معرفة ما هو عليه، يفترضها المريض في الآخر، ولهذا يحب هذا الآخر.
التحويل الذي نتحدث عنه في التحليل هو من نفس النوع، إنه حب عادي تمامًا. ومع ذلك، في التحليل، يجب على المحلل أن يضع الواجهة الدلالية للتحويل (وليس الوهمية) في المقدمة. يشغل المحلل مكان الآخر الذي يمكن أن يُرجع إلى ذات المتحلل رسالته بشكل مقلوب، ولتحقيق ذلك، يجب عليه تعليق أي رد، حقيقي أو وهمي، على أوهام ذات المتحلل.
في التحليل، يُستخدم حب التحويل في تأسيس والحفاظ على “الذات-مفترض-عارفة"، علاوة على ذلك، يتم تحديد نهاية التحليل ليس بناءً على تخفيف أو اختفاء الأعراض، بل على استنفاد وسقوط المعرفة المفترضة، وبالتالي حل حب التحويل تجاه المحلل (إقالة المحلل)، وهو ما يتوافق مع “حل العصاب التحويلي” كما وصفه فرويد.
4- اختفاء العرض ليس الهدف الأول للتحليل
أولًا لأن العرض في أغلب الأحوال ليس نتيجة حدث صادم وحيد. إنه دائمًا ما يكون متعدد المسببات كما يقول فرويد. فهو نتيجة تداخل آليات لا شعورية متراتبة ولمجموعة من التصورات التي كبتت وتراكمت طيلة حياة الذات.
لذا، لا يمكن أن يكون الحل الفعلي للعرض المرضي قابلاً للتحقيق إلا عبر اتباع طريق معكوس في التحليل، طريق كامل قدر الإمكان وذلك عبر استرجاع سلسلة التحولات التي ساهمت في تشكيله. فمن خلال التداعي الحر والتنقل من تصور لآخر أو من دال لآخر، يحصل تأثير المعنى على العرض. ومن هنا نفهم أن العرض هو من طبيعة لغوية؛ وهذا هو السبب في أنه يمكن أن يختفي عندما يُعبر عنه من خلال الكلام.
فالتسرع لاستئصال العرض وبأي ثمن، كما في معظم العلاجات النفسية التي تعتمد على الإيحاء المباشر الناجمة عن سلطة المعالج،إن لم نقل على تسلطه، يسقط في فخين أثنين:
• فمن جهة، العمل على جعل العرض يختفي بسرعة ليس بالأمر الصعب، لكن هذا لا يعني بالضرورة اختفائه بشكل نهائي، بل يتم استبداله مؤقتًا أو حتى بشكل دائم، بالحب الموجه نحو معرفة المعالج الإفحامية والتنويمية.
• من جهة أخرى، التركيز على العرض كأولوية يعني المخاطرة بشكل كبير في وضع عقبات غير قابلة للتجاوز أمام تقدم العمل التحليلي، بل قد يؤدي إلى عرقلته. لماذا؟ لأن العرض ليس فقط ما تشتكي منه ذات المريض، بل هو أيضًا ما تبقى للمريض من مواضيع الاستمتاع في الحياة. إذ أن العرض، حتى لو كان الأكثر إعاقة، يوفر للموضوع نوعًا من العلاقة باللذة. من خلال عرَضه، هذا يحصل المريض على جزء كبير من متعته. والعرض، كما يتم النظر إليه هنا، دائمًا ما يكون مدعومًا بهوام مركزي في نفسية المريض يصبو التحليل لاختراقه والتعرف على كنهه.
هذا الهوام هو السيناريو التخيلي الذي يبنيه الذات لا شعوريا كي تتجنب في نفس الوقت رعب الخصاء (أي انقسامها الأساسي) وأيضًا يعترف بتأثيراته في تنظيم وتجديد رغبته.
لذا، علاوة على معالجة العرض، يركز التحليل النفسي على كشف وتقويم الهوام الذي يشكل مرجعية له. يهدف إلى جعل الذات تتعرف على أماكن وأنماط الموضوعات التي اختارتها لاشعوريا في علاقاتها المتواترة مع الآخر.
5- العرض كـ “جرح” غير قابل للشفاء أو كعلاج للمحنة الناتجة عن كونه كائنًا متكلمًا
هذه الصفة الغامضة واللغوية التي تميز العرض، بالإضافة إلى حصة اللذة التي يحتوي عليها، تجعل التحليل النفسي يسلم بأن الذات لا تعاني أساسًا من العرض نفسه. فالمحنة الأولى التي تعاني منها ذات الفرد تكمن في وضعيتها غير المريحة ككائن منقسم، مفصول عن لذة ضاعت إلى الأبد بسبب تسجيله في اللغة، وبسبب كونه يتكلم.
الكائن البشري، باعتباره كائنًا متكلمًا، هو بطريقة ما، “مريض” من انقسامه الأصلي بين اللغة واللذة التي يحتفظ بها الكبت كخط فاصل أصلي.
وبالتالي، فإن التحليل النفسي يهتم بذات لفرد باعتبارها تعاني من محنة كونه كائنًا متكلمًا، بعيدًا عن هذا النمط أو ذاك من الأعراض المرضية والعلة التي قد يعاني منها.
من جراء هذا الانقسام، غالبا ما تبحث الذات، باختيار قسري، عن أعراض من مختلف الأنواع والأشكال تتقمصها أو تنزوي في عقر مرض عقلي أو ترتمي جناح سلوكي. كما يمكن للذات أن تشفى من كل هذا إذا ما تقبلت هذا الانقسام وجعلت منه مبدأ حياتها. إنها تشفى ليس من خلال إنكار هذا الانقسام، بل من خلال قبوله وتحمله ككائن لا شفاء لها منه. وهذا يعني أن الذات تتقبل الخصاء، وتقبل الحدود التي تفرضها عليها وضعيتها ككائن يتكلم، ويرغب، ويموت.
من هذا المنظور، يعتبر العرَ ض، رغم الاضطرابات التي يتجلى من خلالها، علاجًا للمحنة الناتجة عن كون الفرد كائنًا متكلمًا، عن كون ذاته منقسمة بسبب كونها متكلمة.
فعدم إمكانية إقصاء العرض نهايا وبالمرّة عن ذات الفرد، ليست مسألة ناتجة عن صعوبة تقنية أو عُطل في منهجية التحليل النفسي، بل العكس من ذلك، سيزيد لاكان من تركيزه عليها، ويرى فيها نواة لا يمكن إزالتها أو حتى تقليصها. بالنسبة له، العرض هو شكل من أشكال الضرورة لكل ذات وليس مجرد اضطراب أو خلل يجب التخلص منه. وهذا يسميه "السينتوم" (العرض كما تتم كتابته بالفرنسية القديمة) في سيميناره بنفس العنوان.
لا توجد ذات بدون عرض إذًا. حيثما لا وجود لعلاقة جنسية مطلقة وتكاملية بين الجنسين، يأتي بديلها تثبيت اللذة الخاصة بكل ذات على حدة في هوامها الانفرادي. العرض يحل محل العلاقة الجنسية التكاملية التي لا وجود لها. فلا وجود بالفعل لعلاقة جنسية مطلقة، "إلا إذا كانت محارمية أو مميتة”، كما قال لاكان.
ومن هنا تأتي عبارة “العرض شريك حياة”، التي يجب فهمها بالمعنيين: الشريك هو العرض. وهو المعنى الذي يتبناه لاكان عندما يقول: “المرأة هي عرَض بالنسبة للرجل” - والعكس أيضًا: "الشريك الحقيقي يكمن في متعة العرض".
وبالتالي، ربط لاكان نهاية التحليل بتماهي المتحلل مع عرَضه الأساسي، بمعنى التعرف عليه، والتعامل معه، بحيث يتم استخدامه في آخر المطاف في صالح الذات بعدما أن كان يعمل ضدها. أما محوه نهائياً كما يتوهم أغلب المعالجين فهو من باب المحال. .