XIII
السؤال الهستيري (II)
السؤال الهستيري (II)
"ماهي امرأة ؟"
- دورا Dora وعضو الأنوثة
- اللاتوازي الدلالي
- الرمزي والإنجاب
- فرويد والدال
ماذا كانت تقصده محاضرتي بالأمس حول تكوين المحلِّل ؟ كانت تبغي توضيح أن ما هو أساسي يكمن في التمييز بكل عناية بين الرمزية بمعناها الدقيق، أي بكونها تتبنين داخل اللغة، وبين الرمزية الطبيعية. لقد لخصت ذلك في العبارة التالية : "إن قراءة الفنجان ليست بمستوى قراءة الهيروگليفات".
فاعتبارا مني لخصوصية الحضور، كان لزاما علي أن استعيد تنشيط الفرق بين الدال والمدلول. وعلى ذلك أعطيت أمثلة كان بعضها مسليا. بعد ذلك قدمت الخطاطة وانتقلت الى التطبيق. ثم أعدت الى ذاكرة الحاضرين بأن الممارسة قد تؤدي بانتباه المحللين الى الإفتتان بالأشكال التخيلية الخلابة، أي بالدلالة التخيلية للعالم النفسي، في حين أن ما يجب معرفته - وهو ما كان يهم فرويد حقا - يتعلق بما ينظم هذا العالم ويقوم بزحزحته. ولقد أكدتُ على أن دينامية ظواهر المجال التحليلي ترتبط بالإزدواجية والإلتباس المترتبتين عن التفرقة بين الدال والمدلول.
وليس من باب الصدفة أن يكون أحد أتباع يونگ هو من أحضر مفهوم الرمز أثناء المحاضرة. ففي كنه الأسطورة اليونگية، هناك الرمز فعلا بمثابة وردة تنمو و تينع من الباطن. إنه بمثابة انبثاق لما هو نمطي للإنسان. وكل المسألة تكمن في معرفة ما إذا كان الأمر كذلك أو على العكس من ذلك بحيث يعمل الرمز، في نظرنا بلف وتشكيل ما سماه مخاطبي بالخليقة.
أما الجزء الثاني من محاضرتي فكان يتعلق بما ينجم في التحليل من جراء نسيان بَنْينة الدال/المدلول. ولم يكن بودي أنذاك إلا أن أشير الى ما أقحمته نظرية الأنا المعتمدة حاليا في الأوساط النيويوركية، من تحريف في التوجه المتبع في تقصي الظواهر التحليلية. إن نهجا كهذا يفدي بالفعل الى وضع علاقة الأنا بأنا آخر موضع الصدارة. في حين أن استطلاعا بسيطا للمقالات التي كتبها فرويد بين 1922 و 1924 يبين بأن الأنا في منظوره لا يمت بصلة الى ما آلى إليه الآن هذا المفهوم في الإستعمال التحليلي. (195)
1
فإن كان ما نسميه بتقوية الأنا يحصل بالفعل، فما ذلك إلا تعزيزا للعلاقة الهوامية الملازمة دوما للأنا وبالخصوص لدى الفرد ذي البنية العصابية النمطية. فعملية تقوية الأنا لدى هذا الأخير تنحو بالتمام ليس فقط عكس إزالة الأعراض التي تبقى مع ذلك محتفظة على دلاليتها ويمكن تنشيطها إذا ما سنحت الفرصة، وإنما أيضا عكس بنية العصاب في حد ذاتها. فما المقصود، ياترى، بما أتى به فرويد من خلال تقسيمه الجديد للجهاز النفسي عندما شدد على الطابع التخيلي لوظيفة الأنا ؟ إن ما أتى به يتعلق تحديدا ببنية العصاب.
لقد ربط فرويد الأنا بالطابع الهوامي للموضوع. وعندما يكتب بأن للأنا الفضل في اختبار وخبرة الواقع وبأن به تتم شهادة الواقع لدى الذات، فما هذا الأنا في الواقع إلا سراب في سراب، حيث أنه في موضع ما سماه فرويد بالأنا المثالي. فوظيفته هاته لا تصبو الى الموضوعية وإنما الى الوهم والخداع. إنها نرجسية بالأساس وبها تضفي الذات سمة الواقع على أي شيء.
من خلال هذا التقسيم تنجلي مكانة الأنا في الأعصبة النمطية. فبالنسبة للذات يكون الأنا من حيث بنبنته التخيلية، بمثابة مكون من مكوناتها. واحتذاءا بأرسطو الذي أكد بعدم القول بأن الإنسان يفكر أو بأن الروح تفكر، بل يلزم القول بأن الإنسان يفكر بواسطة روحه، فنحن أيضا نقول بأن المريض يطرح سؤاله العصابي، سؤاله المستور والمكتوم، بواسطة أناه.
إن هيئة الأنا لدى فرويد، تُظهر لنا كيف يستعمل الشخص الهستيري أو الوسواسي، أناه في طرح سؤال الذات، بمعنى أنه وبكل دقة، يعوذ بأناه كي يتجنب طرح سؤال الذات. إن بنية عصاب ما هي بالأساس سؤال ولهذا فإنها باتت بالنسبة لنا ومنذ زمن، بمثابة سؤال لا أكثر ولا أقل. إلا أن العصابي يتموضع في موقع موازي لموقعنا كمحللين، إنه يمتثل السؤال الذي نطرحه بدورنا وبخصوصنا، لذا فإن هذا السؤال يعني ذواتنا بقدر ما يخص شخصه ولهذا السبب بالذات نشعر باشمئزاز للتعبير عنه بكل دقة. (196)
تجدون لما أقوله أنمودجا في الطريقة التي أحدثكم بها منذ الأزل عن الهستيريا التي قدم فرويد عنها أسطع إنارة عبر حالة دورا.
فمن هي دورا ياتري ؟ إنها فتاة وقعت في حالة عرضية جد واضحة، وإن كان فرويد قد اعترف بأنه ارتكب خطأ بخصوص رغبتها لكونه ركز كل انتباهه حول مسألة الموضوع، بمعنى أنه لم يعط وزنا للإزدواجية الوجدانية الدفينة والمتضمنة لا محالة في خطابها. نرى فرويد وهو يتساءل عما ترغب فيه دورا قبل أن يتساءل عمن يرغب من داخل دورا. ونراه ينتهي بإدراكه، من بين أشخاص الباليه الرباعي والمكون من دورا وأبيها والسيد والسيدة ك. بأن هذه الخيرة هي الموضوع الذي يهم حقاً دورا بكونها هي نفسها في حالة توحد بالسيد ك. وهكذا تكون مسألة معرفة أين يوجد أنا دورا قد حصلت على حل : إن أنا دورا هو السيد ك. فالوظيفة التي تقوم بها الصورة المنعكسة في خطاطة مرحلة المرآه، تشكل المركز الذي من خلاله تُعطِي الذات معنى لها كي تتعرف على ذاتها وفيه تُمٓوقع أناها لأول مرة في وجودها. وهكذا فأن دورا قد وضعت هذا المركز الخارجي والتخيلي لتوحد ذاتها بين يدي السيد ك. إنها أصبحت السيد ك. بعينه ومن هذا الموضع بالذات استكملت أعراضُها كامل مدلولاتها.
لقد حصلت بُحة دورا في فترات غياب السد ك.، الشيئ الذي فسرة فرويد بهذه الطريقة الجميلة الى حد ما : "بما أن السيد ك. في غياب فليست دورا بحاجة الى الكلام ولم يبق في المتناول إلا المكاتبة". هذه ملاحظة تثير الدهشة حقا : فإن هي سكتت هكذا فلا مجال للمضي بعيدا لاستكشاف العلة، إذ ما حصلت لها بحة إلا لأنها وجدت نفسها مباشرة بحضرة السيدة ك. زد على أن ما وصلها عن علاقة هذه الأخيرة بأبيها يدور حول عملية امتصاص القضيب وهنا يكمن ماله بالغ الدلالة في فهم حصول أعراض دورا المتعلقة بالفم.
إن توحد دورا بالسيد ك. هو ما يجعل هذه الوضعية تستمر في تماسكها حتى لحظة الإنهيار العصابي. واشتكاؤها من هذه الوضعية جزء لا يتجزء من الوضعية نفسها لأنها إن اشتكت تفعل ذلك من موقع توحدها بالسيد ك.
فمذا تقوله دورا بواسطة عصابها ؟ ماذا تقوله المرأة الهيستيرية ؟ إن سؤالها هو كالتالي : "ما كينونة امرأة ؟" فمن هذا المدخل نتعمق أكثر جدلية الخيالي والرمزي في إطار عقدة أوديب. إن ما يمز بالفعل التناول الفرويدي للظواهر هو أنه ييبرز دوما خطط بناء العرض، حلافا لما حصل للمحللين من بعده، من استحسان للعوالم الخيالية التي يتم تأجيجها بداخل التجربة التحليلية.
فبخصوص عقدة أوديب لم تتوان بعض النيات الحسنة في التوكيد على تقابلات وتوازيات بداخل المسار الذي يقتفيه الطفل والطفلة وذلك لأن فرويد نفسه قد أشار الى كثير من المعالم المشتركة بينهما. إلا أن فرويد، والحق يقال، ما فتئ يؤكد على عدم التوازي الأساسي في الأوديب بينهما. (197)
فالى ما يرجع عدم التوازي هذا ؟ قد تبادروا الى القول بأن ذلك يعود الى العلاقة البدائية مع الأم. لكن فريد لم يتوصل بعدُ إلى هذه النتيجة في فترة ابتدائه بترتيب المعطيات التي كان يرقبها أثناء التحليل. فلد ذكر آنذاك، من بين ما ذكر، العنصر التشريحي الذي يجعل الجنسين، في نظر المرأة، سواسية. لكن أهذا كل ما في الأمر بجصوص عدم التوازي ؟
إن التحريات التي قام بها فرويد بخصوص هذا الموضوع دقيقة جدا وساعرض عليكم بعضا منها. إن كتابات فرويد "أفكار حول الفرق التشريحي بين الجنسين" و "الجنوسية الأنثوية" و "زوال عقدة أوديب" لا تعرض شيئا آخر غير أن سبب عدم التوازي هذا يتموضع أساسا بمستوى الرمزي وبأنه ينتج عن الدال.
فليس هناك ما يمكن تسميته، بحسب تعبيرنا، ترميزاً لجنس المرأة sexe في حد ذاته. وعلى كل، فما يعنيه الحال لدى المرأة ليس هو نفس الترميز، بحيث ليس له نفس المنبع ولا نفس المسالك التي يقتفيها كما هو الحال في ترميز جنس sexe الرجل. وذلك لأن الخيالي لا يبين عند المرأة إلا نقصانا في المكان عينه الذي يتجلى فيه رمز بارز لدى الرجل.
فطغيان الجيشتالت الفالوسية هذه، تفرض على الطفلة خلال اجتيازها العقدة الأوديبية، تتبع منعرج التماهي بالأب واتباع نفس المسار الذي يسلكه الطفل وذلك لمدة من الزمن. إن وصول الطفلة للعقدة الأوديبية وتماهيها الخيالي يتمان بواسطة الأب تماما كما يحدث لدى الطفل وذلك نظرا لطغيان الشكل الخيالي للفالوس لكن على اعتبار أن هذا الشكل في حد ذاته هو العنصر الرمزي المركزي في الأوديب.
فأن كانت عقدة الإخصاء، بالنسبة للبنت كما عند الولد، تحظى بقيمة المركز في اجتياز الأوديب فما ذلك إلا اعتمادا على وظيفة الأب تحديدا، لأن الفالوس يتحلى بصفته رمزا ليس له مثيل ولا مقابل. فالأمر يتعلق إذن بعدم التوازي على مستوى الدال. وعدم التوازي الدلالي هذا يحدد السبل التي يسير عبرها الأوديب. وهكذا فإن مسلكي البنت والولد في الأوديب يقودانهما حتما على نفس الدرب، وهو درب الإخصاء.
إن التجربة الأوديبية تشهد بهيمنة الدال على مسالك الوصول الى تحقيق الذات بحيث أنه من غير الممكن أبدا للفتاة أن تتعرف على ذاتها كامرأة انطلاقا من مستوى الخيالي فقط. فلو كان الأمر يقتصر فقط على مجال التجربة المعاشة وتفاعل الأنا وحتى الأحساسات، يمكن آنذاك القول بتواجد جميع العناصر التي قد توفر للبنت، وبدون حاجز يذكر، منفذا مباشرا لأنوثتها ومتوازيا مع مسار الوضعية الذكورية. (198)
إلا أن الممارسة التحليلية تبرز فرقا صارخا يكمن في كون أحد الجنسين ملزما باتخاذ التماهي بصورة الجنس الآخر كركيزة. وإن سرت الأمور على هذا المنوال فهو ما لا يمكن قط اعتباره مجرد أحد غرائب الطبيعة. فهذا أمر لا يمكن تأويله إلا من منظور يقضي باعتبار أن ما يقوم بتنظيم هذه المعطيات ليس غير النظام الرمزي.
فكل ما انعدمت المقومات الرمزية، كلما حصل خلل في حدوث التماهي الأساسي في تجنيس الذات. وهذا الخلل ينجم عن كون الرمزي، بخصوص مسألة ما، قد يفتقد مقومات لازمة لها. وهكذا فإن العضو الأنثوي مطبوع بالغياب وبالفراغ وبالثقب، الشيء الذي يقلل من الرغبة فيه بالمقارنة مع عضو الذكورة ومايتسم به من طابع مهيج. وهكذا ينبع اللاتوازي الأساسي. أما إن اقتصرنا على استتباب هذه المسألة على مستوى جدلية النزوات فقط، فلن يكون بإمكاننا معرفة سبب ضرورة كل هذا التعرج في تكوين الأنوثة.
لن تكون هذه الملاحظة بكافية في ما يتعلق بالمسألة المطروحة والتي تتعلق بوظيفة الأنا لدى الهستيريين و لدى الهستيريات. فالمسألة لا تتعلق فقط بعناصر وأدوات الدال بقدر ما تتعلق بعلاقة الذات مع الدال في كليته ومع ما يمكنه الإستجابة إليه.
فإن كنت قد تحدثت البارحة عن كائنات لغوية، فما فعلت ذلك إلا لكي أشد انتباه الحضور. إن الكائنات اللغوية ليست كائنات منظّمة أما إن كانت كائنات وتترك بصمة أشكالها على الإنسان فهذا ما لا شك فيه. فمقارنتي البارحة لهاذه الكائنات بالحفريا ت لها مايبررها الى حد ما وإن لم يكن لهذه الكائنات وجود مادي في حد ذاتها.
2
لنفكر الآن في هذه المفارقة الحاصلة عن بعض الإلتقاءات الوظيفية بين مستويي الرمزي والواقعي.
فمن جهة، قد يبدو وكأن الرمزي هو الذي يكشف لنا عن نسق العالم. فإن كان الإنسان يـٓعرف الأشياء فلأنه يمتلك كلمات. وعدد الأشياء التي يعرفها يوازي عدد الأشياء التي يمكنه تسميتها. وهذا ما لا ريب فيه. ومما لا شك فيه أيضا، من جهة أخرى، هو أن العلاقة التخيلية مرتبطة بالإيطولوجيا وبعلم نفس الحيوان. فالعلاقة الجنسية تتوقف على الإنجذاب الخلاب بصورة الآخر. بتعبير مختلف، يتجلى أول هذين المستووين بكونه مفتوحا لما يتسم به نظام المعرفة الإنسابية من حياد في حين يبدو المستوى الثاني بكونه مجال الإثارة الجنسية للموضوع. وعلى كل، هكذا تتجلى لنا الأشياء لأول وهلة.
في حين أن تحقيق الوضعية الجنسية لدى الأنسان - على حد تعبير فرويد وكما تطلعنا عليه التجربية التحليلية - يرتبط بعقبة اجتياز علاقة مرمزة بالأساس وهي العلاقة الأوديبية التي تتضمن وضعية تقوم باستيلاب ذات الفرد بحيث تجعل ذاته ترغب في موضوع بحوزة شخص آخر وترغب في امتلاكه بالوكالة عن طريق شخص آخر. وهكذا نجدنا هنا أمام وضعية مبنية بداخل ازدواجية الدال والمدلول. فأي وضعية جنسية عادية ومكتملة لا يتم تحقيقها إلا مع ترميز وظيفة جنس الرجل وجنس المرأة، ومع انتزاعها قطعا من من المجال التخيلي كي يحصل تأسيسها في المجال الرمزي. وهكذا فإن تحقيق الوظيفة التناسلية - أي أن تحقق فحولة الرجل وتتقبل المرأة فعلا وظيفتها الأنثوية - لا يحصل إلا بخضوع هذه الوظيفة بالضروة لعملية الترميز الأساسية.
وعلى العكس، وهو أمر لا يخلو من مفارقة كذلك، فإن علاقة التماهي التي من خلالها يتحقق الموضوع بمثابته موضوع تنافس، تتموضع بالكامل داخل المجال التخيلي. وهكذا يكون مجال المعرفة بالمجمل منضوٍ أساسا بداخل الجدلية العظامية الأولية التي تطبع عملية التماهي بالشبيه. فمن هنا ينطلق كل انفتاح للتهماهي بالأخر، وهو على شاكلة موضوع يتم عزله ثم تحييده فيصبح جد قابل للتهييج الجنسي. وهذا ما يفسح المجال لولوج ما لا حصر له من الأشياء المادية داخل مجال رغبة الإنسان أكثر منه بكثير مما يحصل في إطار خبرة الحيوان.
ففي هذا التداخل بين الخيالي والرمزي، يكمن منبع الدور الأساسي الذي يلعبه الأنا في بنينة العصاب.
فعندما كانت دورا تساءل نفسها عما هي امرأة، كانت في نفي الوقت تحاول ترميز عضو الأنوثة في حد ذاته. فتوحدها بالرجل، الحامل للقضيب، كان لها في هذه المناسية كوسيلة للإقتراب أكثر من هذا التعريف الذي كان يفلت منها. لقد كانت توظف القضيب هنا كوسيلة تخيلية حتى تفوز بالإمساك بما لم تتمكن من ترميزه.
فإن انتشرت الهيستيرا لدى النساء أكثر منه لدى الرجال - وهو ما تشهد به الممارسة - فمرد ذلك الى كون سبيل التحقيق الرمزي لدى المرأة أكثر تعقيدا. فأن تصير الذات امرأة أو أن تتساءل عن ما هية امرأة هما أمران مختلفان أساسا. ويمكنني أن أذهب الى أبعد من ذلك فأقول بأن هذا التساؤل ينجم من عدم تمكن المتسائلة من أن تصبح امرأة وفي درجة أعلى يأتي هذا التساؤل معارضا لمسارها كي تصبح امراة ومعاكسا له. إن ميتافيزيقا وضعية المرأة تكمن في الإنعراج المفروض على تحقيق الذات الأنثوية لديها. إن وضعيتها هذه إشكالية بالأساس لدرجة قد تصبح غير قابلة الإستيعاب. (200)
إلا أن المرأة عندما تندرج في مشوار الهيستيريا، فإن وضعيتها تظهر نوعا من الثبات المتميز نظرا للبساطة البنيوية التي تطبع هذه الوضعية. فكلما كبرت بساطة بنية ما كلما أبات عن أقل ما يمكن من نقاط التصدع بها. فعندما يتقولب تساؤل المرأة على شاكلة الهيستيريا، فإنه يصبح من السهل عليها وضعه سالكة الطريق الأقصر، وهو طريق التماهي بالأب.
أما في الهيستيريا الذكورية فأن المسألة أعقد بكثير. ففي حين يكون المسار الأديبي مبنينا لدى الرجل بشكل أفضل، يصبح طرح السؤال الهيستيري أقل حظا لديه. أما عندما يطرح لديه، فما يكون فحواه ياترى ؟ على هذا المستوى أيضا يوجد نفس اللتوازي كما في الأوديب. إن الهيستيري، رجلا كان أم امرأة، يطرح نفس السؤال بحيث يتعلق تساؤل الهيستيري الذكر أيضا بالوضعية الأنثوية.
إن تساؤل ذات المريض الذي عرضت حالته عليكم في الحصة الماضية يدور حول هوام الحمل. لكن هل هذا كاف لاستنفاذ مجمل المسألة لديه ؟ لقد أصبحنا نعلم من خلا ل التحليل ومنذ مدة بأن التمفصل التشريحي المترتب عن الهوام هو ظاهرة هيستيرية وبأن هذه التكوينة التشريحية القائمة على الهوام هي ذات طابع بنيوي بحيث أن حالة ششل أو حالة خُدار لا تتبع مسالك ولا طوبوغرافيا التفرعات العصبية. لا شيء البتة على مستوى التشريح العصبي يقابل ما يحدث على مستوى الأعراض الهيستيرية. ففيها يتعلق الأمر دوما بتشريح خيالي.
أبإمكاننا بعد ذلك تحديد العامل المشترك بين الوضعية الأنثوية وبين السؤال المطروح لدى الذكر في الهيستيريا ؟ إنه عامل يتموضع من دون شك على مستوى الرمزي، و أن كان لا يُختزل كلية في هذا المستوى. إن الأمر يتعلق هنا بالتساؤل حول الإنجاب. فالبوة والأمومة لهما جوهر إشكالي. إنهما حٓدان لا يتحددان بكل بساطة انطلاقا مما تفضيه التجربة والمعاينة.
لقد تحادثت مؤخرا مع أحد تلاميذي حول قضايا تم التطرق اليها منذ القدم وتتعلق بمسألة نفاس البعل couvade، فذكرني بإيضاحات قدمها مؤخرا علماء الإناسة بخصوص هذه القضية. فانطلاقا من استقصاءات متواصلة في إحدى قبائل أمريكا الوسطى، تم التوصل الى معطيات عيانية تُمكن من الفصل بخصوص الأسئلة المطروحة حول دلالة هذه الظاهرة. فينظر حاليا الى هذه الظاهرة على أنها قد تؤدي الى إعادة النظر في وظيفة الأب وما يقدمه من أجل إنشاء فرد جديد. إن ظاهرة نفاس البعل تتموضع بمستوى سؤال يتعلق بمسألة الإنجاب لدى الذكر. فانطلاقا من هذا الإتجاه، فإن ما سأقدمه بين أيديكم لن يبدو لكم مبالغا فيه. (201)
إن الرمزي يعطي شكلا تتم الذات إقحام كينونتها بداخله. فالذات لا تتعرف على نفسها بكونها كذا أو كذا إلا انطلاقا من الدال. وسلسلة الدوال لها قيمة تفسيرية مركزية، بل إن مفهوم السببية في حد ذاته ليس غير ذلك.
لكن وعلى كل، هنالك شيء يفلت من قبضة النسق الرمزي. إنه الإنجاب في صلبه، أي فيما يخص تناسل فرد من فرد آخر. أما على مستوى النسق الرمزي، فإن الإنجاب ينضوي بداخل النظام المترتب عن تسلسل الكائنات، إلا أن طابع تٓفٓرد هذه الكائنات، بمعنى انبثاق أحدها عن الآخر، فيستحيل تفسيره على مستوى الرمزي. فعالم الرمز هاهنا يشهد بأن لا مخلوقا يخلق مخلوقا وبأنه لا وجود لمخلوق من دون خٓلقٍ ركيز. ففي الرمزي إذن لا وجود لشيئ يمكنه تفسير الخٓلق.
لا شيئ أيضا في الرمزي بإمكانه تفسير ضرورة موت كائنات كي تتمكن أخرى من المجيء الى الحياة. إن هناك علاقة أساسية بين التوالد المجنس ووجود الموت، يقول البيولوجيون. فما إن صح قولههم، فذلك يعني أنهم، هم كذلك، يدورون حول نفس السؤال. إنه السؤال المتعلق بمعرفة مالذي يربط بين كائننين أثناء مجيء أحدهما الى الحياة والذي لا يطرحه الفرد إلا بعد تواجده في الرمزي، بصفته رجلا أو امرأة، وبالخصوص لما يتعرض لحادث يمنعهمن الوفوج الى هذا المجال. وذلك من الممكن حدوثه حتى من جراء الحوادث التي قد تصيب سيرة حياة أي فرد فرد.
إنها نفس الأسئلة التي يطرحها فرويد على خلفية مقالته "مابعد مبدإ اللذة". فبما أن الحياة، على حد قوله، تعيد إنتاج نفسها، فإنها مضطرة لتكرار نفس الدور حتى تبلغ هدف الموت المشترك. ولنقل بأن هذه الفكرة هي، الى حد ما، نتاج خبرته التحليلية. وفي الحاصل، فأن كل عصاب يكرر دورة خاصة دلخل نسق الدال، وعلى أرضية السؤال الذي تطرحه علاقة الإنسان بالدال في حد ذاته.
هناك فعلا شيئ معين لا يمكن اختزله بالكامل في الرمزي. إنه وبكل بساطة يتعلق بوجود ذات الفرد الفريدة : فلماذا هو هنا ؟ ومن أين أتى ؟ وماذا يفعل هنا ؟ ولماذا هو معرض للفناء ؟ فالدال غير قادر على إمداده بالجواب، لسبب بسيط هو أن الدال ينزله في مرتبة ما بعد الموت. فالدال يعتبره سبقا وكأنه ميت. وهكذا يجعله لا فانيا بالأساس.
فالسؤال حول الموت، بحد ذاته، هو صيغة أخرى للسؤال العصابي، أي صيغته الوسواسية. لقد أشرت الى ذلك البارحة بالأمس وسأتركه اليوم جانبا لكون اهتمامنا منصب هذه السنة حول الذهان وليس حول العصابات الوسواسية. فأن هذه الإعتبارات البنيوية التي أعرضها عليكم هنا هي في محل توطئة للمشكل الذي يطرحه الذهاني علينا. فإن حصرت اهتمامي خصيصا على الهستيريا، فلكي نرى كيف تختلف ما يحدث فيها بالمقارنة مع إوالية الذهان وبالخصوص لدى الرئيس شريبر، حيث تُطرح كذلك مسألة الإنجاب وبالخصوص مسألة الإنجاب الأنثوي. (203)
3
أريد أن أنتهي بالإشارة الى نصوص فرويد التي تثبت ما قلته لكم البارحة مساءا.
إن جوهر مجهودي يتلخص في فهم ما قام به فرويد من عمل. وبناءا على ذلك، فأن تأويل حتى ما قال به ضمنيا يبقى مشروعا في نظري. وهكذا، فإن كنت أستجديكم للوقوف على ما أثبتته بقوة بعض نصوص فرويد، فليس للتهرب مما يقع على عاتقي من مسؤولية.
فلننتقل الى تلك السنوات، حوالي 1896، والتي يقول فرويد بأنه ركّب نظريته أثناءها بعد أن قضى مدة طويلة قبل أن يفصح عما توصل إليه. إنه يشير بدقة الى فترة الكمون التي تمتد لديه عادة بين ثلاث أو أربع سنوات، وهي المدة التي تفصل بين إعداد مؤلفاته الأساسية وبين نشرها. فلقد تمت كتابة "تفسير الأحلام" قبل موعد نشره بثلاث أو أربع سنوات وكذلك الحال بالنسبة "علم النفس المرضي للحياة اليومية" و"حالة دورا".
لنلاحظ بداية بأن البناء المزدوج الذي يطبع الدال وللمدلول لا يتجلى للوهلة الأولى. في حين نجده ومنذ الرسالة رقم 46 مثلا، يقول بآنه بدأ يختبر، من خلال ممارسته، بنية مراحل تكون الذات ونموها وكذلك ربط هذه البنية باللاشعور وآلياته. ثأنه لمثير للإنتباه أن نرى فريد يستعمل عبارة Ubrsetzung للتعبير عن مرحلة ما من مراحل مسار الذات وقد تُرجِمت أم لا. مذا يعني هنا كلمة "تُرجِمت" ؟ إنه يتعلق بما يحدث في مستويات محددة بمختلف أعمار الفرد : مثلا من السنة الأولى من العمر الى الرابعة ومن الرابعة الى الثامنة ثم هناك أيضا مرحلة ما قبل البلوغ وفي الأخير مرحلة النضج.
إنه لمن الأهمية بمكان ملاحظة التوكيد الذي يعتمده فرويد بخصوص الدال. وهنا لا يمكن ترجمة كلمة Bedeutung على أنها تميز الدال بالمقارنة مع المدلول. وكذلك في رسالته رقم 52، لقد أثار انتباهي مرة قوله الآتي : "أنا أعمل طبقا للإفتراض بأن آليتنا النفسية نشأت من تراتب طبقي ومن ترتيب وتتابع معين . ومن حين لآخر، قد يحدث أثناء للخطاب المرسل بين أيدينا، إعادة هذا الترتيب وتغييره اعتمادا على علاقات جديدة وينجم عنه أيضا تغيير في عملية التسجيل، بل وتجديد هذه العملية بالكامل. فهاهو جديد بالأساس في نظرية فوريد، فهو توكيده على أن الذكرة ليست بالبسيطة وعلى أنها متعددة المكونات وبأنها مسجلة بأشكال وطرق مختلفة. (203)
أثير انتباهم الى تناغم ما أقوله لكم والأن مع خطاطو فرويد التي شرحتها لكم سابقا. من خلالها فرويد يؤكد على أن هذه المراحل المختلفة هي مطبوعة بتعددية التسجيلات الذاكرية.
فهناك أولا Wahrnehmung، الإدراك. إنه المقام الأول والأولي، إلا أنه يبقى في حالة افتراض لأن ما من شيء منه قد يتجلى في ذات الفرد. ثم هناك فيما بعد، Bewusstsein، الشعور.
إن الشعور والذاكرة يتعرضان بالكامل وينفي أحدهما الآخر. وهذه نقطة لو يختلف فيها فرويد أبدا. إنه بقي على اعتقاد دائم بأن الذاكرة الخالصة، من حيث هي تسجيل وامتلاك من طرف الفرد لإمكانية جديدة لردة فعل، يجب أن تبقى ملازمة بالكامل للآلية النفسية ومرتبطة بها وألا تتوقف على أي إدراك للفرد لذاته بذاته.
فمرحلة Wahrnehmung هنا تجعلنا نلاحظ بأنه يلزم الإفتراض بوجود شيء بسيط في منبع الذاكرة باعتبارها مكونة من سجلات مختلفة ومتنوعة. فإن التسجيل الأول للإدراكات، وهو نفسه خارج نطاق الشعور، يتم ترتيبه عن طريق ترابطات متزامنة. هكذا تنوقف على الحدوث الأولي والبدائي للعملية التزامنية كتأصل ضروري للذاكرة.
وهذا ما أوضحته لكم السنة الفرطة ي تماريننا البرهانية بخصوص الرموز. فلتتذكوا ! إن الأمور تكتسب قيمة ابتداءا من الفترة التي نقوم فيها بوضع مجموعات ثلاثية. ثم أن وضع المجموعات الثلاثية معا، يؤدي الى إدخال التزامية التي تقوم فعلا بإنشاء هذه المجموعات على حدة. وهكذا فإن نشأة الدال تكمن في التزامنية نفسها. تم إن وجوده يكمن في تواجده السانكروني. ولد أكد دو سوسير على هذه النقطة بالذات.
أما Bewusstsein فهي من قبيل الذكريات المصطلحية. وتتمظر هاهنا علاقة السبببية في حد ذاتها ولأول مرة. إنها اللحظة التي يصبح فيها الدال بعد إنشائه، خاضعا وبشكل ثانوي الى شيء آخر مغاير، يتعلق بتجلي الدلول.
وبعد ذلك فقط، تتدخل Werbewusstsein بمثابة الطراز الثالث للتعديل. فاطلاقا من ماقبل الشعور هذا، تصبح الإستثمارات شعورية تماشيا مع بعض القوانين المحددة. إن هذا الشعور الثاني بالفكرة مرتبط، لا محالة، بالخبرة الهلاسية للمثلات اللفظية، وبإرسال الكلمات. والمثال الأفصح عن ذلك يتجلى في الهلوسة اللفظية والمرتطبة بالآلية العظامية التي من خلالها نستقبل سماعيا تمثلات اللكلمات. فبهذا يرتبط بروز الشعور وإلا ما كانت له علاقة بالذاكرة. (204)
أما فيما تبقى من النصوص فإن فرويد يبن بأن ظاهرة Verdrängung، تكمن في سقوط شيئ ما من قبيل التعبير الدلالي، لحظة اجتياز مرحلة من التطور الى مرحلة لاحقة. أثناءها لا يتمكن الدال المسجل في إحدى هذه المراحل، من اجتياز اللاحقة منها وما ما يترتب عن هذا الإجتياز من إعادة ترتيب تتطلبه كل مرحلة جديدة بخصوص منظومة الدال/المدلول الي تدخلها ذات الفرد.
فهاذا هو ما يمكن من خلاله تفسير وجود الكبت. إن فكرة التسجيل بواسطة دال يطغى على كامل المخزون، له فكرة ركيزة في نظرية الذاكرة، بحيث أن هذه الفكرة هي ركيزة أبحاث فرويد بخصوص ظاهرة اللاشعور. (205)
21 مارس 1956