لاكان : الذهانات ـ الجزء 2/4







                                              


جاك لاكان
الذهانات
الجزء الثاني
ترجمة وتقديم:
عبد الهادي الفقير




هذه تتمة لمشروع ترجمة كتاب "الذهانات"، للمحلل النفساني الفرنسي الشهير جاك لاكان. وهو الكتاب الثالث من سيمناره للفترة الدراسية 1955-1956. تم نشر هذا الكتاب باللغة الأصل (الفرنسية) تحت إشراف جاك-آلان ميلار بدار السُّوي الفرنسية سنة 1981. يحتوي الكتاب على 25 فصلا مقسمة الى أربعة أبواب (أو أجزاء) في 363 صفحة من القطع المتوسط. وهاكم عناوين الأبواب والفصول التي يشتمل عليها الكتاب :


1- مدخل لمسألة الذهانات (مدخل لمسألة الذهانات؛ دلالة الهذيان؛ الاخر (الاكبر) والذهان؛ «إني آتية من عند بائع لحم الخنزير»).


2- مضمون وبنية الظاهرة الذهانية (في إله يخادع وآخر لا يخادع، إضافة؛ الظاهرة الذهانية وآليتها؛ الاندثار التخيليي؛ الجملة الرمزية؛ في اللامعنى وفي بنية الإله؛ في تمظهر الدال في الواقع وفي معجزة العويل؛ فيما يتعلق برفض دال أولي).


3- في الدال والمدلول ( مسألة الهستيريا؛ ماهية امرأة؛ الدال في حد ذاته لا يدل على شيئ؛ في الدلالات الأولية ونقصان واحد منها؛ أمناء سر مسلوب العقل ؛ الإستعارة والكناية (1)؛ الإستعارة والكناية (2)؛ محاضرة: فرويد في القرن العشرين).


4- جوانب الثقب (النداء والايماءة؛ نقطة الغرز؛ «أنت الذي ستتبعني»؛ الطريق الرئيسي ودال "الأب"؛ "أنتَ"؛ الفالوس والشِّهاب).



لقد قمنا، في عدد سابق من هذه السلسلة. بنشر ترجمة الجزء الأول (من أربعة أجزاء) وهو تحت عنوان "مدخل لمسألة الذهانات" ويضم الفصول الأربعة الأولى من الكتاب. أما الآن، نضع بين أيديكم الجزء الثاني المسمى "مضمون وبنية الظاهرة الذهانية" والذي يضم سبعة فصول. ونتمنى أن يساعدنا الحظ على الإسراع في ترجمة الجزئين الباقيين.



تقديم (نفس التقديم الوارد في الجزء الأول)


ما من شك بأن جاك لاكان يعتبر من أشهر المحللين النفسانيين بعد فرويد. وإنه بعد فرويد أكثر المحللين عطاءا في مجال التحليل وأفيدهم. لقد ترك خلفه عطاءا قيما همه الأساسي استرجاع التحليل النفسي لمضمونه الحق ولمساره الأصوب كما سنَّهما فرويد وحاد عنهما الخلف بالتجويف والتحريف. وزيادة على النصوص المكتوبة التي خطها لاكان بيده والتي ليست باليسيرة، فإن القسط الأوفر من عطائه كان على شكل تدريس واظب على القيام به بدون توقف لفترة تفوق الثلاثين عاما. ومنذ وفاة لاكان حتى الأن والعمل مستمر على تدوين هذه الدروس الشفوية ثم تحقيقها ونشرها على شكل سلسلة كتب تنقل خطيا ماقله لاكان في سيمناره المسترسل على مدى ثلاثة حقب متتالية. وهذا الكتاب الذي نحن بصدد ترجمته ونقله الى العربية، هو الكتاب الثالث من سيمناره، تطرق فيه بالخصوص الى مسألة الذهان.



كان لاكان في بداية حياته المهنية طبيبا نفسيا. ولقد اهتم آنذاك كثيرا بالمرضى الذهاننين كما تدل على ذلك كتاباته الأولى. إلا أن اندراجه في التحليل النفسي في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، فتح أمامه بابا واسعا بشأن مسألة الذهانات التي خصص لها، انطلاقا من هذا المنظور، مضمون سيمناره على مدى سنة بكاملها تمتد من نونبر 1955 الى يوليوز 1956.


من بين أهداف لاكان في هذا الكتاب هو تبيان المآزق والمزالق التي تكتنف الإقتراب الطبنفسي للذهان وكذلك التنبيه الى الفهم الخاطئ بصدد التحليل النفسي والذي يصبو، عن قصد أو غير قصد، الى جعل هذا الأخير مجرد وسيلة وأداة يمكن إضافتها للطب النفسي حتى يتقدم في فهمه المزعوم للحمق. لذا نجد لاكان في هذا الكتاب لايفتأ في التنبيه الى سلبيات الفهم القبْلي والمتسرع بل وبمخاطره في هذا المجال. فهذا الفهم المسبق الذي يزعمه مختصوا الأمراض العقلية بخصوص الذهان ما هو الأ مجرد سراب في سراب كما يقول. فلا الطب النفسي بأكمله ولا حتى التحليل النفسي بعد تطويعه لخدمة القيم المجتمعية على حساب تحرر الذات، لن يفلحا من شيئ في تقصي الظواهر الذهانية إذا ما بقيا على تعنتهما في البقاء بمقام الفاهم والعارف المتعالي أمام هذه المظاهر.


فها نحن نرى لاكان يشدد في النصح بقراءة فرويد مجددا ويوصي بإعارة أشد الإنتباه الى الكيفة التي كان يباشر بها الأمور التي تخص الحمق. إن عبقرية فرويد في هذا المجال، برأي لاكان، تكمن بالأساس في قراءته المتميزة والممتازة لنص مكتوب بِيَد شخص عظامي إسمه شريبر Schreber، إنفجر عظامه عندما تمت ترقيته، وهو في الخمسين من عمره، رئيساً لمحكمة الإستئناف بمدينة دريسد بألمانيا. لقد خط الرئيس شريبر كتابه هذا سنة 1903، بعدما استفحل به المرض وتم الزج به في مستشفى المجانين لمداواته قسرا عن أنفه. كتب شريبر مؤلَّفه تحت عنوان ”مذكرات مريض بالاعصاب" وكان يبغي من هذا الكتاب هدفين: الهدف الأول هو الدفاع عن نفسه حتي يتم الإفراج عنه من الحجز التعسفي الذي تعرض له جراء مرضه، ولقد أفلح في ذلك. أما الهدف الثاني فهو إطلاع عامة الناس والمختصين أساسا بما اختبره أثناء هذيانه من أشياء وأحداث بالغة الأهمية في نظره، حتى يزداد بها العلم تقدما والعرفان منفعة.


فحسب لاكان إذن، تكمن عبقرية فرويد، عند اهتمامه بهذه الشهادة المكتوبة، بكونه لم يبتعد ولو قيد أنملة عما صرح به هذا الرجل العظامي الفذ. إنه حرص كل الحرص، أثناء قراءته وتأويله لكلام شريبر المكتوب، على أن يعير كل الإنتباه الى هذا الكلام والى ما يحاول التعبير عنه من خبرة ذاتية جمَّة الدلالة. أما الطب العقلي في نظر لاكان، فلقد ابتعد منذ نشأته ولازل، كلما تقدم به الزمن، يبتعد رويدا رويدا عن كلام المريض، للأستعانة بدلا عنه بتنظيرات عضوانية أو سيكلوجوية أو ثقافية، ترمي بنفسها، ومن دون تمحص، في ماء الأيديولوجيات العكر، معتمدة بالأساس على القيم الأخلاقية والمعالم الإنضباطية والأنماط السلوكية كركيزة لتحرياتها. أما التحليل الفرويدي فهو على العكس، بقي ملتصقا بكلام ذات المريض، يستقصي من هذا الكلام وليس من سواه تجارب الذات المعاشة والخبرات التي تنفرد بها وأن كانت من باب الحمق.

فقبل الخوض في مسائل العلاج بخصوص الذهان، يجب إذن تحديد ماهية الذهان وتدقيق بنية تكوينه واستجلاء الأليات التي تتحكم في سيروراته. فما دمنا لم نقم بهذه التقصيات النظرية والعيادية الأولية فإن الحديث في مسائل العلاج يبقى مجرد هراء وكذلك فإن الإنسياق في تطبيقات هذا العلاج لن يتم إلا خبط عشواء. فمن بين ما كان يصبو اليه لاكان في هذا الكتاب هو توضيح الفصل بين العصاب والذهان حتى لا يستمر الخلط بينهما كما كان عليه الحال رغم ما قدمه فرويد في هذا المجال. إن لاكان يعتبر أن كل ذات أثناء تكونها تصطدم بدال ملغِِز، إلا أن تبعات لقاء الذات بهذا الدال تختلف جذريا في حالة العصابي منها في حالة الذهاني.

ففي العصاب يكون الآخر الأكبر بمثابة المقام الذي به تتأسس الذات المتكلمة وكذلك الذات المستمعة. وهذا يفترض مسبقا تأسيسا وتنظيما وترتيبا للمجال الدلالي، ترتيبا يتوقف على وجود وسيط ثالث، إذ كما يقول لاكان "لابد من وجود قانون، من تواجد سلسلة، من انتظام نظام رمزي. لابد من تدخل نظام الكلام، بمعنى تدخل الأب" وبالضبط على شاكلة إسم-الأب.


إن العصابي، كما يقول لاكان، يتوكل على وظيفة ألاب الرمزية ويستند إليها في تقبل تساؤلاته وقبولها. إنها الوظيفة التي ترتكز عليها العقدة الأوديبية في تكوينها وتبلورها، وترتكز عليها بصفة أشمل وأوسع كل ذات الفرد في نضجها ونموها. فالأب، انطلاقا من وظيفته الرمزية هاته هو الذي يحوز على الفالوس والذي يمتلك الأم شرعا.


وهكذا فبالنسبة للإنسان بصفة عامة وخصوصا بالنسبة للإنسان المعاصر لسيادة الخطاب العلمي، فإن علاقته بنظام الدال تتأسس وتنتظم بواسطة العقدة الأوديبية. ففي إطار علاقة هذا الإنسان بآخره الأكبر، يستفسر إنسان عصر الخطاب العلمي المسائل التي تهم وجوده كمسألة وضعية انتمائه الجنسي (أهو ذكر أم أنثى؟) ومسائل أخرى لا تقل أهمية كمسألة التسلسل الجيلي ومسألة الموت وما إليها من المسائل المستعصية بكونها مرتبطة لا محالة بالتعرف والإعتراف الرمزيين.



أما في الذهان فالامر غير ذلك بحيث أن شللا أو تعطلا ما قد أصاب مركز العقدة الأوديبية، تعطلا سيربطه لاكان في نهاية الكتاب بالشلل الذي يحدث لوظيفة الأب في التركيبة النفسية للذهاني.  فهذا التعطل المركزي يجعل الآخر الأكبر ينسلخ عن ذات الفرد مما يمنعه من رفع تساؤلاته إليه. وهكذا يكون الذهاني ملزما، كما هو الحال بالنسبة لشريبر، بابتكار ذاتي وتركيب شخصي وخاص لشبكة ذات شكل رمزي يحاول من خلالها ابتداع إجابات مُرضِية الى حد ما لتساؤلاته بخصوص القضايا الوجودية الكبرى بالنسبة إليه.




الجزء الثاني
مضمون وبنية الظاهرة الذهانية
::



             الفصل الخامس: بخصوص إله لا يخادع وبآخر يخادع   


- الذهان ليس مجرد حدث لغوي.
- لهجة الأعراض.
- "ما أجمل أن أصبح امرأة…!".
- الله والعلم.
- إله شريبر.




في أحد الأيام الفارطة، قدمت أمامكم مريضا وهو في حالة متقدمة من مرضه. لقد كان يُظهر لاشعوره في الفضاء الرحب نظرا لعدم تمكنه من ولوج الخطاب التحليلي. إنه كان يجعل لاشعوره يعبر عن نفسه في الفضاء الرحب لأن ما يتم ضَمُّه عادة تحت لواء الكبت عند شخص ما، قد تم تحمله لديه بواسطة لغة مغايرة، نظرا لظروف إستثنائية ترتبط باللغة ذات الفعالية المحدودة والتي نسميها لهجة.


فلقد تم لدى هذا المريض، توظيف اللهجة الكرسيكية في ظروف زادت قوة وشدة للوظيفة التمييزية الخاصة بكل لهجة. لقد عاش فعلا في باريس منذ صباه. كان الطفل الوحيد لأبوين منغلقين كل الإنغلاق حول قوانينهما الخاصة، ولا يتداولان إلا اللهجة الكورسيكية. فالخصومات اللامتناهية بين الأبوين والتي هي بمثابة تعبير معكوس للإرتباط المفرط الشدة بينهما، كانت تتواصل عبر الفضاء الرحب، فتقحم الطفل مباشرة داخل علاقتهما الزوجية الحميمية، وكل ذلك باللهجة الكورسيكية. فلقد كان يحيط بهذه الطفل عالمان؛ عالم الوسط العائلي وهو عالم اللهجة الكورسيكية، ثم هنالك كل ما يحدث خارج هذا الوسط. ولقد كان هذا التقسيم يتواجد حتى في حياة المريض. لقد حدثَنا بنفسه أثناء المقابلة عن الفوارق التي تميز علاقاته بالعالم، عندما يكون في حضرة أمه من ناحية، وعندما يكون بصدد التجول في الشارع من ناحية أخرى.


فماذا حصل لهذا الشخص ياترى؟ لقد حصل شيآن: الشيئ الأول تم تظهره خلال الإستجواب ويتعلق بصعوبة استعادته لكل ما يخص المستوى القديم، بمعنى أنه يتعلق بصعوبة حديثه بلهجة طفولته وهي اللهجة الوحيدة التي كان يتحدث بها مع أمه. وعندما طلبتُ منه أن يتحدث بهذه اللهجة وأن يسترجع الأقوال التي تم تبادلها مع إبيه مثلاً، فإنه أجاب : "إني لست بقادر على استخراجها". ومن ناحية أخرى فإننا نلمح لديه عصابا وبقايا سلوك تتركنا نخمن بتواجد آلية يمكن وصفها بالنكوص. إلا أنني أستعمل هذا اللفظ دائما بحذر شديد. فعلى المستوى التخيلي بالخصوص، نجد أن الكيفية التي تميز ممارسته للجنس، ترنو الى الإختلاط مع نشاط نكوصي للوظائف التغوطية. إلا أن كل ما يمكن اعتباره من باب المكبوت، أي كل ذلك المضمون الذي يتم التعبير عنه عادة بالأعراض العصابية، فهو لديه جلي بالتأكيد ولم أجد أية صعوبة في دفعه الى الإفصاح عنه. ولقد ازداد هذا الإفصاح بساطة لديه نظرا لإيصاله بواسطة لغة الآخرين.

ولقد استعملتُ في هذا الصدد المقارنة مع الرقابة التي قد تتعرض لها جريدة ليست ذات إصدار جد محدود فقط وإنما أيضا مكتوبة بلهجة لا يفهمها إلا عدد قليل من الناس. إن تأسيس الخطاب المشترك، الخطاب العمومي أكاد أقول، هو عامل مهم في وظيفة آلية الكبت. فالكبت في حد ذاته، يرجع الى عدم التوافق مع الخطاب، ويرجع الى ماضي معين من كلام المريض، ماضي مرتبط بالعالم المميز لعلاقاته الطفولية، كما أكد فرويد على ذلك. فهذا الماضي من الكلام هو بالتحديد ما تستمر وظيفته وفعاليته داخل اللسان الطفولي. وما هذه اللغة بالنسبة لمريضنا هذا إلا لهجته الكورسيكية التي كان بإمكانه أن يقول من خلالها أشياء قد تفوق المعتاد، كأن يقذف أباه قائلا، على سبيل المثال: "إن لم تنصرف من أمامي، فسوف أرمي بك في الشر." فهذه الأشياء التي من المكن قولها من طرف عصابي كوَّن عصابه على شاكلة المكبوت، تتمظهر لدى مريضنا هذا على مستوى الفضاء الرحب، على مستوى اللسان الآخر، ليس لكونه لهجة فقط وإنما بكونه ينحصر على وسطه العائلي.


فما هو الكبت عند العصابي ياترى؟ إنه لسان، لسان آخر، يصنعه بواسطة أعراضه. فإذا ما كان هستيريا أو وسواسيا، فإنه يصنعه بواسطة الجدلية التخيلية بينه وبين الأخر. فالعرض العصابي يلعب دور اللسان الذي يمَكّن من التعبير عن الكبت. وهذا ما يجعلنا نلمس بأن الكبت وعودة المكبوت هما نفس الشيئ. هما وجهان لنفس السيرورة. وهذه الملاحظات ليست بالبعيدة ولا بالغريبة عن قضيتنا هنا.(72)


                    


1




فما هي إذن منهجيتنا بخصوص الرئيس شريبر؟


ليس هناك من شك في أن هذا الأخير قد تحدث من داخل الخطاب المشترك كي يشرح ماذا وقع وماذا سيستمر في الوقوع له حتى لحظة كتابة مؤلفه. إن هذه الشهادة لدليل على التقلبات البنيوية لديه والتي هي واقعية بلا ريب. إلا أن ما يغلب بداخل هذه التقلبات فهو اللفظ بحيث لم يحصل لنا الدليل عنها إلا بواسطة الإستشهاد الكتابي للمريض.





فلنتصرف بمنهجية. إننا نعمل على التقدم في تحليل مجال الذهان هذا انطلاقا من المعرفة التي حرزنا عليها بخصوص قيمة الكلام في بنية الأعراض العصابية. فنحن لا نقول بإن للذهان نفس العلل المفسرة للعصاب، ولا نقول بأنه بالكامل حدثٌ لغوي كما هو الحال في العصاب. لا أبداً. لكننا نلاحظ بكل بساطة بأن الذهان مثمر جداً بخصوص ما يمكن التعبير عنه داخل الخطاب. ولنا برهان على ذلك من خلال المؤلَّف الذي تركه لنا الرئيس شريبر والذي تم إعلاء مرتبته في انتباهنا من طرف فرويد الذي دفع به الإهتمام بهذا المؤَلف الى حد الإفتتان والذي بين لنا كيف تمت بنينة العالم الذي يكتنفه. وهكذا، فإننا سننطلق في مسارنا إعتمتدا على خطاب المريض، وهذا ما سيمكننا من اقتراب الآليات المكونة للذهان.
فلنتفق إذن على أننا سنمضي قدما وبمنهجية، خطوة خطوة. ولن نقفز على التضاريس بدعوى أن تشابها مع آلية عصابية قد تبدو معاينته على السطح. وبالإجمال، فإننا لن نفعل ما يتم فعله عادة في الكتابات المتخصصة في الموضوع. فهاكم على سبيل المثال ذاك المسمى كاطان Katan الذي ركز كل اهتمامه على حالة شريبر. إنه يعتبر بأن ما لا نقاش فيه هو أن ذهان شريبر ينبع من صراع المريض ضد نزوة ملحة في الإستمناء، صراع أثارته استثماراته الشبقية الجنسمثلية بخصوص الأستاذ فليشسيغ، ذاك الشخص الذي شكل النموذج الأول وكذلك النواة لكل النسق الهذائي لدى شريبر.


فهذا بحسب كاطان، ما أدى بشريبر، بعد فترة وجيزة من "شفق العالم" لديه بالذهاب الى درجة قلب الواقع رأسا على عقب، بمعنى إبتداع عالم جديد، عالم وهمي لا يكون فيه المريض مضطرا لهذا الإستمناء الذي يعتبر مهدداً له. أفلا يحس كل واحد منا بأن آلية من هذا النوع، إن كان من الحقيقي أنها تتدخل في تكوين معين داخل الأعصبة، من الممكن أن تترتب عنها هنا نتائج كبيرة العواقب؟(73)

إن الرئيس شريبر يحكي لنا بكل وضوح عن المراحل الأولى لذهانه، وكذلك عندما يتحدث عن الهوام الذي حصل له والذي عبَّر عنه بالكلمات التالية : "ما أجمل أن أصبح امرأة وهي تخضع للجماع". فهو يقدم الدليل أيضاً على أن هذا الهوام بدا له بين الدفعة الأولى للذهان، وهي مرحلة تسمى، مع قدر من الموضوعية، بالقبذهانية وبين التكوين التدريجي للمرحل الذهانية اللاحقة والتي كتب شريبر مؤلفة في ذروة استقرارها.


إنه يؤكد على الطابع الخيالي لهذه الفكرة التي فاجأته، ويؤكد أيضاً في نفس الوقت على أنه استقبلها في غيظة وسخط. إن هنالك نوعاً من الصراع الأخلاقي لديه. فنجدنا هنا بصدد ظاهرة تم التخلي نهائيا عن اللفظ الذي يخصها لدرجة أصبحنا بمستواها لا نعرف كيف نصنف الأشياء. إنها ظاهرة القبشعور. فالأمر يتعلق بنظام القبشعور الذي جعله فرويد يتدخل في دينامية الحلم والذي أعطاه مرتبة عظمى في كتابه "تأويل الأحلام". إننا نحس جيدا بأن هذه الفكرة تنطلق من الأنا. فالنبرة التي تخص فكرة "ما أجمل أن..." تضفي على هذه الأخيرة طابعا خلابا ليس بوسع الأنا أن يتغافل عنه.


ففي مقتطف من كتاب "تأويل الأحلام" يخص أحلام العِقاب، يقر فرويد بما يلي: في نفس المستوى الذي تتدخل فيه رغبات اللاشعور في الأحلام، من الممكن تواجد آلية مغايرة لتلك التي ترتكز على التضاد بين الشعور واللاشعور. "إن آلية التكوين، يقول فرويد، تبدو أكثر شفافية عندما نستبدل التضاد بين الشعور واللاشعور، بالتضاد بين الأنا والمكبوت". لقد تمت كتابة ما سبق في فترة لم يحصل بعد لدى فرويد التأطير النظري لمفهوم الأنا، إلا أنه بإمكانكم ملاحظة التواجد المسبق لهذا المفهوم في ذهن فرويد: "لنلاحظ فقط هنا، يضيف فرويد، بأن أحلام العقاب لا ترتبط ضرورة بإصرار الأحلام المؤلمة. فهي على العكس تنشأ غالبا، على ما يبدو، عندما تكون أحلام اليوم هاته، من طبيعة مهدئة رغم تعبيرها عن تحقيق رغبات داخلية. فكل هذه الأفكار الممنوعة يتم تعويضها بعكسها في المضمون الظاهر للحلم. وهكذا فإن الطابع الأساسي لأحلام العقاب يبدو لي كالتالي: إن ما ينتجها ليس هو رغبة لاشعورية واردة من المكبوت وإنما هو رغبة مناقضة يتم تحقيقها عكس هذا المكبوت. فرغبة العقاب هاته وإن كانت لاشعورية، أو قبشعورية بكل تدقيق، فهي في حوزة الأنا".


إن كل الذين يسلكون الطريق الذي أقودكم فيه خطوة خطوة - جالبا انتباههم نحو آلية تختلف عن آلية الإنكار، آلية نراها تنبثق في كل حين داخل خطاب فرويد - يقفون هنا مرة إضافية، على ضرورة التفريق بين شيئ قد تم ترميزه وشيء آخر لم يحصل له ذلك بعد.(74)


فهل هناك من علاقة بين الإنبثاق داخل الأنا والذي يتم - وأأكد على ذلك - بكيفية لاتصارعية، لفكرة :"ما أجمل أن أصبح امرأة وهي تخضع للجماع"، وبين الفكرة التي أينع الهذيان من خلالها لما وصل الى اكتماله، والتي مفادها أن الرجل يلزمه أن يصبح إمرأة الإله الدائمة؟ إنه لمن الممكن بلا ريب، التقريب بين هذين الطرفين - البروز الأول لهذه الفكرة التي خطرت بذهن شريبر وهو لا يزال سليما على ما يبدو، وبين الحالة النهائية للهذيان الذي يجعله، عندما يجد نفسه أمام شخص قدير وتربطه به علاقات جنسية دائمة، يجعله على حد تعبيره، يتموضع بصفته كائنا مؤنثا بالكامل. ففكرة البداية تبدو لنا حقاً بصفتها رؤيا استباقية للمضمون النهائي. لكن يلزمنا رغم ذلك ألا نغفل المراحل والأزمات التي جعلته ينتقل من فكرة جد عابرة الى سلوك وخطاب جد هذائيين. ليس هناك ما ينبئ مسبقا بأن الآليات الفاعلة لديه هي متناسقة مع الآليات التي نتعامل معها عادة في العصابات. فللتوقف على ذلك، يجب البدء طبعا بفهم ما يعنيه الكبت، أي بكونه مبنين كظاهرة لغوية.


إن السؤال المطروح هنا في حالة شريبر هو معرفة ما إذا كنا بصدد آلية ذهانية خصيصا، بمعنى آلية تخيلية، تنطلق من الرؤية الإستباقية الأولى للتماهي بالصورة الأنثوية والإلتصاق بها، لتصل الى ابتداع نسق عالمي متكامل تنغمر الذات داخله بتخيلات التماهي الأنثوي.


إن ما أقوله، وقد يكون جد أصطناعي إلى حد ما، يدلكم جداً على الوجهة التي يلزمنا انتحاءها كي نجد حلا لمسألتنا. وليس لنا من وسيلة لذلك ما عدا إلتماس وقعها في العنصر الوحيد في حوزتنا وهو النص بعينه، وهو خطاب ذات المريض. ولهذا فإني عملت في المرة السابقة على إعدادكم لما هو ضروري ولازم في توجيه تقصياتنا، والمتمثل في بنية هذا الخطاب بعينها.








2




لقد بدأت بالتفريق بين تنظيمات الكلام في حد ذاته. إنكم لتذكرون بأنه بداخل ظاهرة الكلام، يمكننا ضم المستويات الثلاث: الرمزي الذي يمثله الدال والتخيلي الذي يمثله المعنى والواقعي الذي هو الخطاب في بعده الدياكروني والذي يتم البوح به فعلا."(75)


إن الذات تمتلك مادة دلالية متكاملة وهي اللسان الذي تتوفر عليه سواء كان لغة الأم أم لا. وتستعمل الذات هذه المادة كي تُبَلِّغ دلالاتها بداخل مجال الواقع. فليس نفس الشيء أن يتم الأستحواذ على عقولنا بل ويتم أسرنا داخل دلالة ما أو أن نعبر عن هذه الدلالة داخل خطاب مفاده إبلاغها وجعلها متناغمة مع باقي الدلالات التي تم استقبالها بأشكال مختلفة. إن في كلمة "إستقبال" ما يجعل من الخطاب خطابا مشتركا، خطابا متفق عليه بالإجماع.


إن الخطاب مفهوم مركزي. وحتى بالنسبة لما نسميه بالموضوعية، أي بالنسبة للعالم الذي يضفي عليه العلم صبغة الموضوعية، فإن الخطاب أساسي وذلك لأن عالم العلم، وهو ما يغيب عادة عن أنظارنا، يرتكز بالأساس على عملية التواصل بحيث يتجسد في مداخلات علمية. ولنفترض أنكم أنجحتم أروع اختبار علمي، فإذا لم تقوموا بإيصاله لأخر بعدكم يعمل بتكراره فإنه يبقى عديم الجدوى. فعامل التواصل هذا هو الذي يطلعنا على أن عطاءا ما قد تم إيصاله علميا أَم لا.


إنني عندما قدمت لكم تلك الخطاطة ذات المداخل الثلاثة، كنت قد موضعت العلاقات المختلفة التي يمكننا من خلالها تحليل خطاب الهذائي. فهذه الخطاطة ليست خريطة العالم، إنما هي الركيزة الأساسية لكل علاقة. ففي الإتجاه العمودي، هناك مستوى الذات والكلام وكذا أخروية الآخر في حد ذاتها. فنقطة المركز لوظيفة الكلام تكمن في ذاتية الآخر، بمعنى كون الآخر هو من بإمكانه أساسا، كما هو الحال لدى الذات، أن يُفحم أو يَكذب. فعندما قلت لكم بأنه من اللازم أن يتواجد بداخل هذا الآخر مجال الأشياء الواقعية فعلا، فهذا يعني أن إدخال الواقع بداخل هذا الآخر هو دوما حصيلة وظيفة الكلام. فلكي يتم إرجاع أي شيء بخصوص الذات أو بخصوص الآخر الى مرتكز في الواقعي، يجب أن يتواجد هناك شيء لا يخادع. إن الحصيلة الديالكتيكية للبنية المركزية التي تجعل من حديث ذات لذات أخرى، كلاما يتضمن خداعا، تكمن في أن هناك أيضا شيء ما لا ينطوي على خداع.


وهذه الوظيفة، كما يمكنكم ملاحظته، يتم تفعيلها بطرق مختلفة تبعا لإختلاف الرحاب الثقافية التي يتم فيها توظيف وضيفة الكلام الأبدية. وأنكم لتخطؤون إذا ما ظننتم بأن نفس العناصر هي التي تتكفل في كل الرحاب بتفعيل هذه الظاهرة.(76)


لنأخذ مثال أرسطو. إن كل ما يقوله لنا هو بليغ للغاية، إلا أن موقع العنصر الغير المخادع لديه يتختلف كلية عما هو عليه الحال لدينا. فأين هو موقع هذا العنصر لدينا ياترى؟


فمهما يعتقد أولائك اللذين يقتصرون على المظاهر في تفكيرهم - وهم عادة من أصحاب العقول القوية، بل والأكثر وضعانية من بينكم والأكثر تخلصا من أي فكر ديني - فإن تواجدكم في هذة الفترة بالذات من تطور العلوم الإنسانية، غير كاف لوحده ليجعلكم غير مدينين لما تم التعبير عنه بكل وضوح ودقة في إطار التأملات الديكارتية، والذي مفاده بأن الله هو من لا يمكنه خداعنا.


إن هذا لمن الصحة بمكان لدرجة جعلت أينشتاين، وهو ذاك الشخص الذي يتمتع ببصيرة لا مثيل لها، لم يتوان عن تذكيرنا بذلك وهو بصدد تعرضه للنظام الرمزي الخاص بتخصصه. لقد قال بأن الإله محتال، لكنه نزيه. إن الإنطلاق من فكرة كون الواقعي عير قادر على الإحتيال علينا، هو شيئ أساسي في بناء عالم العلم.


وبالرغم من هذا، فإني أعترف بأن الإستناد الى الله الغير المخادع، باعتباره المبدأ الأوحد المقبول به، ينبني على النتائج الصادرة عن العلم نفسه. وهكذا لم تتم أبدا ملاحظة أي شيء يمكنه أن يدلنا على وجود شيطان مخادع يختبئ في صلب الطبيعة. ومع ذلك فإن هذا الإستناد هو بمثابة اعتقاد كان لازما للخطوات الأولى للعلم وضروريا في إنشاء وتكوين العلوم التجريبية. إنه من البديهي حقا لدينا الأن بأن المادة غير متحايلة، وأنها لا تعمل عنوة على إخفاق تجاربنا وعلى تحطيم آلاتنا وأدوت بحوثنا. فقد يحدث كل هذا، لكن إذا ما حدث فإننا لا نعتبر المادة هي مصدر الخطأ وإنما نكون نحن المخطؤون. إن هذه الطفرة في التفكير لم تتشكل في طرفة عين وإنما تطلب تثبيتها كل فترات انتشار التقاليد اليهودية-النصرانية.


أما إن كانت نشأة العلم، مع ما تطلب تطوره من مثابرة وعناد وجرأة ليصل الى ما هو عليه الآن، قد تمت في وسط هذه التقاليد، فذلك لأن هذه الأخيرة وضعت مبدأ وحيدا في الأساس، ليس فقط في أساس الكون ولكن أيضا في أساس الشرْع. فبهذا المستوى تجد منبعها كل تلك المجادلات بين مؤيدي النزعة العقلانية والنزعة الإرادية والتي أرهقت وما تزال ترهق بال الفقهاء حتى اليوم. أيمكن القول هكذا بأن معيار الخير والشر هو من قبيل ما يمكن أن نسميه بالإرادة الإلهية؟     


على كل، إن راديكالية التفكير اليهودي-النصراني حول هذه النقطة هو ما سمح بهذه الخطوة الحاسمة، والتي تنطبق عليها حقا كلمة "الإيمان"، والتي تقضي بأن هنالك شيئ لا يخادع بخصوص أساس كل شيء. أما إن تم اختزال هذه الخطوة بكاملها في عملية الإيمان، فهذه مسألة أساسية. لنفكر بعض الشيء، وعالمنا على ما هو عليه من التقلب والسرعة، لما قد يحدث لنا إذا ما تبينا بأن هناك، زيادة على البروتون والميزون وغيرهما من العناصر الأولية، عنصرا آخر لم ندرجه في حساباتنا من قبل، أي أن هناك عضوا زائدا في الآلية الذرية، أو أن هناك شخصا يعمد الى الكذب بخصوص أساس كل شيء. في هذه الحالة لن نبق منبسطين البتة كما نحن عليه الآن.(77)


أما بالنسبة لأرسطو، فالأمور تختلف كلية. فما الذي يأَمِّن له ما يؤكد وجوده في الطبيعة من عدم كذب وافتراء الآخر الذي هو بمثابة الواقعي ؟ إن ما يؤمن له ذلك هو هذه الأشياء التي ترجع دوما الى محلها، وما هي إلا الأجرام السماوية. إن فكرة كون الأجرام السماوية غير قابلة للإنجرار نحو الفساد والإرتشاء لأنها من ماهية ربانية، هي فكرة خامرت الفكر المسيحي لمدة طويلة. إنها خامرت التقاليد المسيحية الوسطوية التي ورثت هذا التفكير العتيق. ولا يتعلق الأمر هنا بالإرث السكولاستيكي فقط، ذلك لأن هذه الفكرة، إن أمكن القول، هي فكرة طبيعية لدى الإنسان، في حين نتخذ نحن منها موقفا اثتثنائيا لكوننا توقفنا كلية عن الإهتمام والإعتناء بما يدور في القبة السماوية. فحتى مرحلة جد متأخرة، كانت تتم البرهنة في كل الثقافات، وحتي تلك التي قدَّم فيها علم الفلك مراقبات وبحوث جد متقدمة، على ما يتوفر عليه الإستناد الى ما يدور في السماء من بصمة نفسية بصفته إستنادا أساسيا. لقد خالفت ثقافتنا هذه القاعدة منذ أن وافقت، مؤخرا، على الأخذ بحَرْفية الموقف اليهودي-المسيحي. فحتى هذه اللحظة كان من المستحيل انتزاع فكر الفلاسفة وعلماء الدين، ومن بينهم علماء الفيزياء، من الإعتقاد في الماهية العليا للأدراج السماوية. وما القياس إلا البرهان المادي على ذلك. إنه في حد ذاته، شهادة على ما لا يخادِع.


ليس هناك من بين الثقافات إلا ثقافتنا التي تبرز هذا الطابع الذي، في اعتقادي، يقتسمه كل من هم هنا، ماعدا أولائك الذي قد حصلت لهم معرفة في بعض عجائب علم الفلك، هذا الطابع الذي يتمثل في كوننا لا نفكر أبدا في الرجوع المنتظم للأفلاك والكواكب، ولا حتى في ظاهرة الكسوف. فكل هذا ليست له أية أهمية بالنسبة لنا إذ نعلم أن كل هذا يسير سيره بذاته وكفا.


فهناك فاصل شاسع، من جهة، بين ما يمكن تسميته بكلمة لا أستعذبها: "عقلية" أناس مثلنا، واللذين يجدون ضمانة كل ما يحدث في الطبيعة في مبدئ بسيط، يكمن في كون الطبيعة غير قابلة للمكر بنا وخداعنا ويكمن أيضا في تصورهم لشيء ما هنالك يضمن حقيقة الواقع والذي يؤكد عليه ديكارت من خلال فكرة إلهه الذي لا يخادع، ومن جهة أخرى، بين الموقف العادي والطبيعي والمشترك والذي يضع ضمانة الواقع في السماء أيا كانت تصوراتنا لهذا الأخير.


إن هذا العرض الذي أقدمه الآن بين أيديكم له ارتباط وثيق بما نحن بصدد الحديث عنه. وهكذا نجدنا على مقربة من الفصل الأول من "مذكرات" الرئيس شريبر والذي يتعلق بمنظومة النجوم كمادة أساسية في صراعه ضد الإستمناء.(78)




                                                3


قراءات من كتاب "مذكرات مريض بالأعصاب"، الفصل 1، ص. 23-27.




حسب هذه النظرية، كل واحد من أعصاب الذهن يمثل مجمل فردانية الإنسان الروحانية ويضم كامل الذكريات المسجلة به. تتميز هذه النظرية بصياغة جد مُحكمة لا يصعب الوقوف على مثيل لها، كمرحلة من مراحل النقاش على الأقل، في المؤلفات العلمية المتداولة. فمن خلال إحدى آليات الخيال الغير متميزة، نجدنا هنا نلمس الرابط بين فكرة الروح وفكرة أبدية الأنطباعات. إن بناء مفهوم الروح على ضرورة الإحتفاظ بالإنطباعات الخيالية، يبدو جليا هنا. ويمكنني القول بأن هاهنا تكمن ركيزة الإعتقاد بخلود الروح، ولا أقول النرهنة عليه. فعندما يكون المرأ بصدد تعيينه بنفسه، هناك شيئ من غير الممكن اختزاله، بمعنى أنه من غير الممكن للفرد ألا يدرك وجوده، بل الأكثر من ذلك، الا يحصل له انطباع بخصوص ديمومته. وحتى هذه النقطة، فإن مريضنا الهذائي لا يهذي أكثر من غالبية الناس.


متابعة القراءة.


لسنا بعيدين عن عالم سبينوزا من حيث كونه ينبني على تواجد خاصيتي الفكر والمجال. وهذا التواجد يشكل بعدا مهما في تحديد الصفة التخيلية لبعض مراحل الفكر الفلسفي.


متابعة القراءة.


سوف نرى فيما بعد لماذا انطلق شريبر من فكرة الإله. إن هذا الإنطلاق يرتبط لا محالة بخطابه الأخير والذي عمل بداخله على تنظيم متكامل لهذيانه قصد إمدادنا إياه. إنكم ترونه منذ الآن متورط في المأزق التالي: من الذي سيجلب الى ذاته من الأشعة أكثرها، أهو شريبر أم الإله الذي تربطته به هذه العلاقة الشهوية المستدامة؟ أهو شريبر الذي سيحظي بحب الإله لدرجة تجعل حياته ووجوده في خطر، أم هو الإله الذي سيمتلك شريبر ثم يرمي به وكأنه أقل من حتى؟ إنني هكذا أرسم لكم المسألة بطريقة مسلية، لكن ليس هناك ما يدعو للفكاهة لأن المسألة تتعلق بنص هذيان مريض.(79)


هناك تباعد وتنافر، داخل خبرة شريبر الذاتية، بين الإله بصفته ما وراء الكون، وبين هذا الإله الذي له به في الواقع الحي، علاقات وكأنه جسم حي، إله حي، على حد تعبيره. أما إن كان هذا التناقض بين الحدين يبدو له، فهو ليس على مستوى المنطق الصوري. فمريضنا ليس بهذا المستوى، وهو بذلك لا يختلف عن عامة الناس. وهكذا ليس لتناقضات المنطق الصوروي أكثر فعالية لدى شريبر منه لدينا نحن اللذين نتقبل تعايش وتواجد الأنظمة الفكرية الأكثر تنافرا في أذهاننا.  ليس هناك تناقض منطقي إذن، إنما هو تناقض معاش ومحسوس، تم اختباره من طرف المريض بين الإله القريب من إله سبينوزا والذي يعمل جاهدا على الحفاظ بهالة وبخطاطة تخيلية له، وبين الإله الذي يواظب على استدامة العلاقة الشبقية بشريبر الذي يشهد عنها باشتمرار.


السؤال المطروح والغير ميطافيزيقي بالمرة، يتعلق بمعرفة ما يختبره بالفعل المريض الذهاني. ليس بإمكاننا حتى الآن الإجابة على هذا السؤال، بل إنه سؤال لا معنى له عندنا. إن عملنا ينحصر على التحديد البنيوي للخطاب الذي يشهد على العلاقات الشبقية التي تربط المريض بالإله الحي، هذا الإله الذي يكلمه من خلال الأشعة الربانية ومن خلال جملة من الهيئات والأطياف. إنه يتحدث إليه من خلال هذا اللسان الذي يمكن اعتباره مفككا من منظور اللسان المشترك، إلا أن لسان شريبر هذا جد مبنين حول علاقات أكثر ركيزة لدرجة جعلته يسميه بتعبير "اللسان المركزي".     


متابعة القراءة.


نقف هنا على بزوغ إحدى المعتقادات القديمة والتي مفادها أن الله هو رب الشمس والمطر.(80)


متابعة القراءة.


من غير الممكن هنا عدم ملاحظة العلاقة التخيلية بالأشعة الربانية. وأظن أن فرويد قد أشار الى ذلك بالحرف عندما أكد على وجود قطبين بخصوص الكبت. فمن  جهة يبدو وكأن شيئا ما قد تم كبحه وإبعاده بدون شك، لكن شريبر من جهة أخرى يبقى منجذبا بما قد تم كبته في السابق. فلا يمككنا عدم التعرف هنا على المماثلة الساطعة لهذه الدينامية مع الإحساس الذي عبر عنه شريبر وهو يحاول بنينة وتركيب خبرته.


لقد أشرت قبل حين الى التنافر الذي اختبره شريبر بخصوص ضرورتين يتطلبهما الحضور الإلهي: تلك التي تبرر المحافظة على ديكور العالم الخارجي من حوله، وتلك التي تخص الإله كشريك يختبر فيه شريبر تأرجح القوي الحية التي ستشكل بالنسبة له البعد الذي منه سيتألم وفيه يخفق. وهذا الفارق سيتم تجاوزه بواسطة لتعبير شريبر التالي: "ربما يتم التوصل الى الحقيقة المتكاملة بكونها البعد الرابع أو بمثابة خط قطري لا يخطر على بال إنسان وإن كان يقتطع مجموع خطوط تمثلاته." وهكذا يجد شريبر لنفسه مخرجا، تماما كما يحصل في مجال الميطافيزيقا عندما يصعب التقريب بين فكرتين: فكرة الحرية وفكرة القدَر مثلا. على هذا المنوال، يكتفي شريبر بالقول بأن هنالك بعدا رابعا وقطرا أو بالقوقول بأنه يكفينا الشد على قطبي السلسلة. فهذا الديالكتيك الذي يبدو واضحا جدا في كل خطاب، غير خاف عليكم.


متابعة القراءة.


في آخر المطاف، لاتحصل للإله علاقة كاملة وحقيقية إلا مع الجثث. إن الإله لا يفهم شيئا من الأحياء، وجبروته لا يتحكم في الأشياء إلا من الخارج، وليس من الداخل. فهذه أفكار غير مقبولة في حد ذاتها ولا يتطلبها تلاحم النسق بالشكل الذي يتم لنا تصور هذا التلاحم.


سوف أرجع في المرة المقبلة الى هذه النقطة بشيئ من التوكيد. لكن لاحظوا أولا بأن العلاقة الذهانية، في ذروة نموها، تتضمن إدخال دياليكتيك المخادعة الأساسي، بداخل بعد أفقي مقابل لبعد العلاقة الحقة.(81) فمن الممكن لذات شريبر أن تخاطب الآخر من حيث هو موضع اعتقاد أو خداع، لكن هاهنا وعلى مستوى تخيل متكبد منه، وهي السمة الأساسية للتخيلي، يحصل لديه هذا التطبيق المتواصل للخداع والذي يذهب الى حد هدم وتخريب كل نظام يرتكز عليه العقل في حد ذاته. وهذا ما يجعل العالم ينقلب عند شريبر الى مِخْيلة ترقى، في نظره، الى ما هو أكثر يقينا لديه. وهذه المخيلة تتمثل في لعلبة الخداع التي يواضب عليها، ليس مع أخر شبيه له، وإنما مع هذا الكائن الأول والضامن للواقع. وهذا ما سترقبونه ينمو ويتبلور بداخل خطاب المريض بالذات.


شريبر نفسه لاحظ بكل وضوح بأن هذه المنظومات الفكرية القبلية لم تمكنه من الإستعداد لهذه الخبرة الحية بإله لا متناهي. إنها أمور لم تخطر بباله قط قبل هذه الأونة. لقد كان فيما سبق، أكبر من ملحد، إنه كان لا مباليا بوجود الإله أو بعدم وجوده.


أما بخصوص هذيان شريبر فإن الإله يحتل مكانة القطب المواجه لهوس العظمة لدى المريض، إلا أنه هنا بمثابة إله سجينَ لعبته. إن هذيان شريبر يصبو فعلا الى تبيان بأن الإله، لكونه يبغي الإسحواذ على قواه وتحويله الى فضالة والى نفاية والى جيفة، حتى يصبح هكذا موضع مصب كل عمليات التدمير والتخريب التي سمح لمكونات عالمه البيني إننجازها بحق شريبر، هو في الحقيقة سجين لعبته. لذا فإن أكبر خطر يتعرض له الإله يكمن في آخر المطاف في عشقه اللامتناهي لشخص شريبر.


وسنعمل لاحقا على بنينة علاقة ما يضمن استقرار الواقع في صلب الأخر، بمعنى آخر ما يضمن علاقة وجود وحضور عالم الإله المستقر بشريبر بصفته واقعا مجسما وجسدا ممفصلا. وسنرى، باعتمادنا بعض المراجع المستقاة من أدبيات التحليلنفسي، بأن جزءا كبيرا من هوامات شريبر ومن هذاءاته ومن منظومة خوارقه، مكونة من عناصر يتم التعرف بجلاء من خلالها على ما يعدلها من أجزاء وأعضاء جسمية شتى. فسنرى مثلا ما قد يعادل سلوسة الأقزام على مستوى جسم شريبر. أما محور كل هذه الظواهر فهو القانون الذي هو مختزل بالكامل هنا على مستوى التخيلي. وأمثل على هذا المستوى هنا(على الخطاطة) بالخط العمودي لأنه عبارة عن قطر معاكس لاتجاه العلاقة بين ذاتين، وهو خط اتجاه الكلام بما لهذا الأخير من فعالية.


وفي الحصة القادمة سنعمل على مواصلة تحليلنا هذا الذي لم نتجاوز استهلاله الأن.(82)


14 شتنبر 1955






 إضافة


الحصة اللاحقة: خطاب المنضدة.


لقد تبين لي بأنكم قابلتم في الحصة الماضية صعوبة قد ترجع الى مايشبه عدم التوازي بين خطابي وبين قراءة نصوص الرئيس شريبر الشيقة. ولقد دفعتني ملاحظة هذه الصعوبة التقنية ألا أطمئن بكل سهولة وألا أكتفي مستقبلا بقراءة نص ما والتعليق عليه بالشكل المألوف. لقد ظننت أنه من المكن قراءة النص من أوله الى آخره واستخلاص العناصر التي قد تساعدكم على التقدم في اقتحام بنيته. إلا أن هذه التجربة أثبتت بأنه يلزمني أن أتصرف بطريقة مغايرة وأن أعمد الى اختيار النصوص قبل قراءتها أمامكم. 


إن هذه الملاحظة المنهجية - إضافة الى كوني لم أكن متحمسا لتقديم سيمنار اليوم ماعدا حناني اليكم - اضطرتني أن أقرأ عليكم نصا يتعلق بما نحن بصدده، نصا كتبته في زمن قريب ولم يتم نشره بعد. إنه يتعلق بخطاب ألقيته بمصحة الدكتور هوف للطب النفسي بڤيينا، حول الموضوع التالي: "معنى الرجوع الى فرويد في التحليل النفسي"، حتى أجعلهم يطلعون على الحركة الباريزية في التحليل النفسي وبالخصوص على الأسلوب والإتجاه الذي ينحوه تعليمنا.

ولقد قدمت هذا الخطاب في ظروف طغى عليها طابع الإسترجال كما هو الحال بالنسبة لخطاباتي بينكم هنا، وربما أكثر. ففي حين أعمل عادة على تحضير خطاباتي هته، كان موضوع خطابي هناك قد بدا لي على قدر من العمومية ما جعلني أحبذ التناغم مع مستمعي. وسألقي عليكم الآن ما أعدت كتابته من هذا الخطاب بشكل أمين، وبطريقة تحافظ على ماتخلله من استرجال. ولقد اضطررت الى الزيادة في بعض الفقرات وإضافة بعض الإعتبارات التي أدخلتها أثناء جلسة لاحقة مصغرة جمعتني ببعض من المحللين الممارسين الذين حضروا في الجلسة السابقة. لقد حدثتهم في قضية تقنية تخص مسألة التأويل بصفة عامة. ولقد نال الموضوع إعجابهم للوهلة الأولى مما يدل على أنه بالإمكان ربط الحوار في كل الأحوال.(83)


سأحاول قدر المستطاع أن أقرأ على مسامعكم هذا النص محافظا على الصيغة الكلامية التي حاولتُ الإبقاء عليها كتابيا والتي أتمنى أن تحظى بانتباهكم أكثر مما حظيت به القراءات التي قدمتها لكم في الحصة السابقة.


أثير انتباهم، وإن كان ذلك فقط من أجل شحذ حبكم للإستطلاع، بأن حادثة يكتنفها قدر من الغرابة، حصلت لي وأنا بصدد إلقاء خطابي. وهي حادثة من غير الممكن استعادتها هنا، وإلا بصيغة مصطنعة تساعد على ربطها بالنص، نظرا لافتقادنا هنا للمواد التي التي أدت الى حدوثها أصلا.


لقد كان أمامي هناك ما يشبه منضدة، أكثر إتقان من هذه التي هي أمامي الأن. وفي لحظة أخذ الإهتمام يتناقص، اهتمام المستمعين وكذلك اهتمامي بالذات،   لم تتوان هذه المنضدة من المجيئ لنجدتي وبطريقة جد غريبة بالمقارنة مع ما سمعناه مؤخرا من أحد أصدقائي القدامى في جامعة السربون، والذي يتعلق بانقلاب الرسم المطرز على الستار الى صورة قرن وحيد القرن، وفي النهاية الى قرنبيط. وهكذا، فلقد انطلقت هذه الممنضدة في الحديث لدرجة أصبح من الصعب علي استرداد حقي في الكلام.


إن هذا العنصر لمن شأنه أن يدخل نوعا من اختلال التوازن في تحضير وإعدادي خطابي.


قراءة المقال الذي تم نشره في مؤلف لاكان : "كتابات"، ص. 401-463، تحت عنوان "الشيء الفرويدي".(84)




21 دجنبر 1955




                         


الفصل السادس: الظاهرة الذهانية وآليتها




- اليقين والواقع.
- شريبر ليس شاعرا.
- مفهوم الدفاع.
- التكثيف والكبت،
- والإنكار والإلغاء. 




من المستحسن ألا نترك أفقنا يتقلص. لهذا أود اليوم أن أذكركم، ليس فقط بما أقصده عموما بخصوص حالة شريبر، وإنما أيضاً بالمضمون المركزي لهذه المحاضرات. فعندما نواصل السير، خطوة خطوة، لمدة من الزمن، تستوقفني دوما بعض الجدران في آخر المطاف. لكن بما أني أقودكم الى بعض الأمكنة الوعرة، فلا بأس من إبداء بعض من التشدد في طلب الدقة أكثر مما معهود في مرافق وأوساط أخرى. يبدو لي إذن أنه من الضروري تذكيركم بالبرنامج الذي يؤطر مسيرتنا هاته.


سيلزمني التعبير عن مضمون هذا السيمنار بكيفيات مختلفة تتقاطع فيما بينها ثم ترجع كلها الى نقطة الإنطلاق. فيمكنني أن أقول لكم منذ البداية بأن تواجدي هنا هو من أجل تذكيركم بأنه من المجدي أخذ خبرتنا بعين الإعتبار وبأن كونكم محللين نفسانيين لا يعفيكم من أن تكونوا أذكياء ومرهفي الحس. فلا يكفي أن تعطى لكم بعض المفاتيح حتى تتخذوها حجة للكف عن التفكير وحجةً للإكتفاء، تبعا للميل العام لدى كل البشر، بترك الأشياء على حالها. هناك كيفيات معينة تم من خلالها استعمال مفاهيم كاللاشعور والنزوة والعلاقة ما قبل-أوديبية والدفاع، كيفيات همها الإمتناع عن استخلاص أي نتائج فعلية من هذه المفاهيم واعتبار أن ذلك لا يهم إلا الآخرين ولا مساس له بعمق علاقتكم بالعالم. فأنتم كمحللين نفسانيين لستم ملزمين، اللهم إلا إذا ما حفزتم أنفسكم لذلك بعض الشيء، وذلك بالتفكير بأن العالم ليس هو كما يدركه عامة الناس وإنما هو خاضع لتلك الآليات المفترض أنكم على علم بها.(85)


أما الآن فالأمر لا يعني، وأرجو ألا تخطؤوا في ذلك، بأنني سأشرع في ميطافيزيقا الإكتشاف الفرويدي وأن أستخلص النتائج التي يتضمنها بخصوص الكائن بمعناه الأعم. فليس هاهنا مقالي. قد تكون في ذلك فائدة، إلا أنني أعتقد أنه من المستحسن أن نترك ذلك لآخرين غيرنا وأن نبحث هنا فيما يهدينا إلى هذا الإكتشاف. فلا تظنوا أنه من المحرم عليكم التطلع نحو هذا الإتجاه، إذ أنكم لن تخسروا شيئا بتساؤلاتكم عن الوضعية الإنسانية كما استجلاها لنا الإكتشاف الفرويدي. إلا أن هذا التحري ليس هو الأهم ولا الأساسي. ذلك أن هذه الميطافيزيقا تتساقط من أعلى على رؤوسكم. في حين يمكن وضع ثقتنا الكاملة في الأشياء كما تبدو لنا مبنينة من خلال الإكتشاف الفرويدي. أما هذه الميطافيزيقا فهي هنا سبقا وأنتم بداخلها.


ليس من دون سبب إن تم حدوث الإكتشاف الفرويدي في أوقاتنا هاته وأن تكونوا، نظرا لسلسة من الصدف الغامضة الكنه، أنتم من تحملونه الأن على عاتقكم. لذا فالميطافيزيقا المعنية هنا يمكن إدماجها داخل علاقة الإنسان بالنظام الرمزي. إنكم تغوصون في هذه العلاقة على مستوى يتجاوز كثيرا خبرتكم كتقنيين وإننا، كما نبهتكم الى ذلك مرارا، نقف كذلك على وجودها وآثارها من خلال مذاهب وتساؤلات فكرية محاذية للتحليل النفسي. أما أنتم فإنكم تقنيون. إنكم تقنيون خبراء بأمور تنخرط داخل هذا الإكتشاف. وبما أن تقنيتكم هاته تتبلور بداخل الكلام، فإن العالم الذي تتحركون داخله لمزاولة خبرتكم يتعمق في هذا المنحى. فلنحاول على الأقل من تكوين نظرة صحيحة عن بنيته.


فعلى هذا الطلب الملح يجيب مربَّعي الصغير الذي يتقدم من الذات نحو الأخر. وبطريقة معينة يتقدم أيضاً من الرمزي نحو الواقعي ومن الذات الى الأنا ثم الى الجسد. وفي الإتجاه المعاكس يتقدم نحو الآخر الأكبر، آخر البيذاتية، هذا الآخر الذي لا تدركونه كذات قارة على الكذب وإنما تدركونه بكونه ثابت دائماً في مكانه. إنه الآخر المتمثل في الأفلاك السماوية، أو إن شئتم، إنه النظام الثابت للعالم وللموضوع. وبين هذا وذاك، هناك الكلام بمراحله الثلاثة ؛ الدال والدلالة ثم الخطاب. فهذا ليس نظاماً للعالم، إنما هو نظام يقود توجهنا أثناء خبرتنا. فهي مبنينة على هذه الشاكلة وبداخلها يمكننا موضعة وتحديد مختلف المظاهر التي نتعامل معها. إننا لن نفهم شيئا بصدد هذه المظاهر إن لم تأخذوا هذه البنية مأخذ الجد.(86)


فمسألة الجِد هاته، هي طبعا في صلب القضية التي نحن بصددها. إن ما يميز الشخص العادي هو كونه لا يكترث كثيرا بعدد من الوقائع التي يعترف بوجودها. وأنتم كذلك محاطون بشتى الوقائع التي لا ترتابون فيها وإن كان بعضها مهدِّدا لكم، إلا أنكم لا تأخذون ذلك مأخذ الجد بتاتا لأنكم تعتقدون - كما يقول العنوان الثانوي لأحد كتب بول كلوديل Paul Claudel بأن "الأسوأ ليس دائماً حاصل بالتأكيد"، وتبقون هكذا في حالة وسط، إلا أنها أساسية لأن ما هو أساسي يتمثل في حالة إحساس سعيد بعدم اليقين، إحساس يُمَكنكم من حياة طيبة بما فيه الكفاية. ومما لاشك فيه، فإن اليقين هو ما يكاد ينعدم لدى الشخص العادي. وإذا ما حصل أن تساءل بخصوصه فإنه يدرك لا محالة بأن هذا اليقين مرتبط أشد الإرتباط لديه بفعل هو بصدد الإنخراط فيه.

إنني لن أسترسل في هذا الموضوع بحيث أننا لسنا هنا بصدد تكوين سيكلوجية أو فيزيولوجية لمن هو أقرب المقربين لنا. إننا نعمل على التوصل إليه، كما يحصل دوما، بكيفية إلتفافية وعن طريق أبعد الأبعدين وهو هنا اليوم شريبر الأحمق.


                                        


1




لنبقى حذرين الى حد ما وسنرى بأن شريبر يقتسم الحمقى الآخرين سمةً ستتوقفون عليها دائماً فى حصادكم للمعطيات العيادية الأكثر مباشرة - ولهذا السبب بالضبط أعمل على تقديم حالات مرضى أمامكم. إن النفسانيين، من جراء تخليهم الشبه الكلي عن مخالطة الحمقى، يطرحون سؤالا يتعلق بمعرفة ما يجعل الأحمق يؤمن بواقعية هلوسته. لكن رغم تبينهم بأن سؤالاً من هذا القبيل غير موات، نراهم يواصلون إتعاب أمزجتهم بالبحث عن منشإ لهذا الإيمان. إلا أنه من الاولى بهمزتحديد ماهية هذا الإيمان بحيث أن الأحمق، في الحقيقة، لا يؤمن بواقعية هذيانه.


هناك آلاف الأمثلة على ذلك، لكني لن أستفيض اليوم في عرضها لأنني أريد أن أبقي في مواجهة نص شريبر الأحمق. وعلى كل، فإن هذه المسألة هي في متناول حتى من ليسوا بأطباء نفسانيين. لقد واتاني الحظ في هذه الأيام كي أفتح "فينومينولوجيا الإدراك" لكاتبه موريس ميرلو بونتي، صفحة 386 حول موضوع "الشيء والعالم الطبيعي". أحثكم على قراءته حيث ستجدون ملاحظات رائعة حول هذا الموضوع، إذ أن أسهل ما يمكن الحصول عليه من لدن شخص ما هو اعترافه بأن ما هو بصدد سماعه، لم يسمعه أحد غيره، فيقول آنذاك : "أي نعم، إلا أني سمعت ذلك لوحدي".


فليس الواقع هو موضوع الإختلاف والتساؤل. فالمريض يقر بكل ما في وسعه من إلتفاتات تفسيرية بأن هذه الظاهرة هي من نمط مغاير لما هو واقعي. إنه يعلم بأن واقعية هذه الظواهر ليست محققة لدرجة تجعله يعترف بعدم واقعيتها.(87)


وبخلاف الشخص العادي الذي يشكل الواقع مرفأً بالنسبة له، فإن المريض، انطلاقا من لحظة الهلوسة وحتى فترة يأويلها، يبقى على يقين بأن ما يتعلق به الأمر بهذا الشأن يخصه هو. فالأمر لا يتعلق بواقعية الشيء لديه وإنما بيقينه به. وحتى عندما يتحدث ليقول بأن ما يختبره ليس من قبيل الواقع، فإن هذا القول لا يزحزح من يقينه بأن الأمر يتعلق به وحده. إنه يقين مطلق. أما طبيعة ما له به يقين فيمكن أن يبقى في حالة لبس كامل داخل السلسلة التي تبدأ بسوء النية وتنتهي بحسنها. إلا أن محصول ذلك عنده ينحصر في دلالة لا يمكن زحزحتها. فهذا ما ينتج عنه ما تمت تسميته، خطأ أم صوابا، بالظاهرة الأولية وكذلك بالإيمان الهذائي عندما يصل الى حالة أكثر تطورا. يمكنكم الحصول على مثال لذلك بتصفحكم للملخص الرائع الذي أعطناه فرويد عن كتاب شريبر عندما كان يقوم بتحليله في نفس الوقت. فمن خلال فرويد، يمكن التوقف على هذه المسألة وعلى سمتها الخاصة.




إن هناك عنصرا مركزيا في هذيان شريبر، عنصرا يمكن اعتباره مُنطلَقا في التركيبة التي كوَّنها عن التحول الذي طرأ على العالم في هذاءه. فهو ما أسماه "قتل الأرواح". إلا أن شريبر نفسه يقدم هذا العنصر على أنه مُلغِزا للغاية. حقاً، لقد تم حذف الفصل الثالث من "المذكرات"، الفصل الذي يقدم الأدلة على مرضه العصبي ويتعرض لتعبير "قتل الأرواح". إننا نعلم بأن هذا الفصل يتضمن ملاحظات تتعلق بعائلة شريبر، كان من الممكن أن تنيرنا في فهم منشإ هذائه وعلاقة هذه النشأة بأبيه أو بأخيه أو بأي فرد من قرابته، وفي فهم مانسميه عادة بعناصر التماهي ذات الدلالة. إلا أن هذا الحذف لا يستحق، على كل حال أن نتحسر له حقاً، ذلك أن كثرة التفصيلات والدقائق قد تصد، في بعض الأحيان، عن رؤية بعض السمات التخلية الأساسية.


فالأساسي ليس هو أننا افتقدنا بسبب هذا الحذف مناسبة لفهم هذه الخبرة العاطفية أو تلك، بخصوص أفراد أسرته، ولكن الأساسي هو أن المريض يعبر عن تلك الخبرة وإن كان لا يفهمها بالتحديد. فهو يميزها كلحظة حاسمة وفاصلة في اتجاه هذا العالم الجديد الذي انخرط فيه. إن المريض يمدنا أيضاً بتقارير عن مختلف العلاقات التي تم إعطاؤه تدريجيا لمحات عن إمكانيتها داخل هذا العالم الجديد. إن شريبر يعتبر قتل الأرواح بمثابة حاصل لابد منه، إلا أن هذه المسألة في حد ذاتها، تتسم لديه بصفة ملغزة.(88)


فماذا تنطوي عليه ياترى فكرة قتل الأرواح ؟ أما من ناحية أخرى فإن معرفة التفريق بين النفس وبين كل ما يرتبط بها ليست في متناول الجميع، وإنما هي في متناول هذا الهذائي مع ما يكتنفها من يقين يعطي لشهادته طابعا متميزا.


يلزمنا إذا التوقف عند هذه الأشياء وألا ننسى الطابع المميز لها إن أردنا فهم حقيقة ما يحدث وألا نتوخى بكل بساطة، مستعينين ببعض الكلمات الأساسية أو بهذا التضاد بين الواقعية واليقين، التخلي ونفض الأيدي عن ظاهرة الحمق. فهذا اليقين الهذائي، يلزمكم العمل على تفقده أينما كان، وستدركون آنذاك الى أي حد مثلا تختلف ظاهرة الحسد في تواجدها لدى شخص عادي عنها لما تتواجد لدى هذائي. فليس من الضروري أن أذكركم مطولا بالطابع المضحك، بل والمسلي، الذي يكتنف النمط العادي للحسد والذي يمكن القول بأنه يرفض اليقين بكل تلقائية وأيا كانت الوقائع الطارئة. إن هذا يطابق قصة ذاك الحسود الذي يقتفي خطوات زوجته حتى باب الغرفة التي تنزوي بها مع عشيقها. إنها قصة تتنافر بما فيه الكفاية مع موقف الهذائي الذي يعفي نفسه من كل مرجعية واقعية.




فالموتخى مما سبق هو أن يوحي لكم بقدر من الحيطة والحذر عندما يتم تحويل آليات تخص السواء، كالإسقاط مثلا، لتفسير منشإ الحسد الهذائي. إلا أنكم تقرون بأن هذا النوع من التعميم أصبح شيئا معتادا. إنه ليكفي قراءة نص فرويد حول الرئيس شريبر لنراه - وإن لم يكن لديه الوقت الكافي لعرض هذه القضية في كل أبعادها - يبين كل المخاطر التي تترتب عن استعمال مفهوم الإسقاط في تفسير الهذاءات ومنشإها. والأجدى من ذلك فإن الهذائي، كلما صعد درجة في سلم الهذاءات ، كلما زاد يقينه بالأشياء التي يتم اعتبارها لا واقعية. وهذا ما يفرق بين العظام والخبل المبكر. إن الهذيان يربط بين هذه الأشياء ويُرَكبها باستفاضة تشكل حقاً إحدى السمات العيادية للعظام والتي يلزم عدم إهمالها وإن كانت من بين السمات الأكثر ضخامة وبروزاً. إن النتاجات الخطابية التي تميز مجال العظامات تزدهر في أغلب الأحيان على شاكلة عطاءات أدبية وإن كان معنى كلمة أدبية لا يفوق كونها مجرد أوراق مغطاة بالكتابة. ولتلاحظوا أن هذا الإجراء يخدم الحفاظ على وحدة الهذاءات التي تم عزلها ربما بكيفية متسرعة بوصفها عظامية عن التكوينات المسماة فصامية  في التصنيفات الكلاسيكية.


إلا أنه من المجدي أن تدرون هنا ما ينقص الأحمق وإن كان كاتبا، وكذلك ما ينقص الرئيس شريبر وإن قدم لنا مؤلفا جد خلاب لكونه ذا طابع مغلق وممتلئ ومكتمل.(89)


فالعالم الذي يصفه لنا شريبر هو عالم مترابط وفقا لمنظوره الذي تعالى إليه بعد فترة العرَض المبهم الذي أصاب حياته باضطراب عميق ومضني ومؤلم. فحسب هذا المنظور الذي يوفر له نوعا من السيطرة على ذهانه، يجد نفسه وكأنه الموازي والمقابل الأنثوي لله. وانطلاقا من هنا يصبح كل شيئ مفهوما ومُرَتبا. والأكثر من ذلك فإن كل ما يخص البشرية يصبح منظما ومرتبا لكونه أصبح يلعب دور الوسيط بين إنسانية كانت مهددة بالأنقراض وبين السلطة الربانية التي أصبحت له بها روابط جد خاصة. فلقد تمت تهدئة كل شيء أثناء عملية المصالحة التي حددت حالة شريبر كامرأة للإله. إن علاقته بالإله، كما يحدثنا عنها، غنية ومعقدة، مع ذلك فأننا نفاجأ بأن كتابه لا يحتوي على أي إشارة قد تجعلنا نقف على أدنى إشارة من شانها أن تفيدنا بأن هناك فعلا علاقة بين كائنين.


ومن دون اللجوء الى المقارنة بأحد المتصوفة الكبار- وإلا سيكون ذلك غير متناغم مع نص كهذا الذي بين أيدينا، إفتحوا على كل، إن كانت هذه المحاولة  قد تسليكم، إفتحوا كتابات سان جون دو لا كروا Saint Jean de la Croix. فهو أيضاً من خلال خبرته لصعود الروح، نجده يتموضع في حالة من الإستقبال والهيبة. ولقد ذهب الى حد القول بزواج الروح بالوجود الإلهي. إلا أنه ليس هناك على الإطلاق أي شيء تشترك فيه النبرة التي أعطيت لنا من كلا الجانبين. ويإمكنكم أيضا ملاحظة هذا الفرق حتى عندما تكونون بصدد أبسط الشهادات حول خبرة دينية أصيلة. ولنقل بأن الخطاب الطويل الذي يشهد به شريبر عما عزم على تقبله في الأخير كحل لإشكاليته، لا يعطي إحساسا بتجربة متميزة قد تكون الذات منخرطة فيها. إن خطابه عبارة عن شهادة جد مشيأة.


فبماذا يتعلق الأمر داخل شهادات الهذائيين هاته؟ سوف لن نقول بأن الأحمق هو شخص في غنى عن اعتراف الآخر به. إن شريبر عندما ألَّف كتابه الضخم أنما فعل ذلك لكي لا يجهل أحد ما عاناه وما خبره ولكي يتبين العلماء، إن أرادوا، تواجد الأعصاب الأنثوية التي التحقت تدريجيا بجسده ويلاحظوا بموضوعية العلاقة الفريدة التي حظي بها مع الواقع الإلهي. إن كل هذا العمل، إنما هو بمثابة جهد من قبله حتى يحصل الإعتراف به. إلا أن هناك سؤالا يبقى عالقا ما دام الأمر يتعلق بخطاب منشور وهذا السؤال يخص معنى الحاجة للإعتراف لدى هذا الشخص المنعزل جداً من جراء خبرته للحمق.(90)


إن الأحمق يبدو لأول وهلة وكأنه بغير حاجة للإعتراف به. إلا أن اكتفاءه بعالمه الخاص أو التفهم الذاتي الذي يميزه تتخلله بعض التناقضات. يمكن إجمال موقفنا من خطاب شريبر لَما تمت معرفتنا به، بالقول بأن شريبر كاتب من دون شك إلا أنه ليس شاعراً. يمكن الحديث عن شاعريةِ كتابةٍ ما كلما تمكنت هذه الكتابة من إيلاجنا في عالم مخالف لعالمنا وكلما جعلت من تواجدِ كائن ما أو من بروز علاقة أساسية وكأنهما لنا ومنا. إن الكتابة الشاعرية تجعلنا غير قادرين على إنكار أصالة التجربة التي عاشها سان جون دو لا كروا أو بروست أو جيرار دو نيرفال. فالشاعرية تكمن في ابتكار ذاتٍ تحمل على عاتقها نظاما جديدا للعلاقة الرمزية مع العالم. وليس في مذكرات شريبر ما يمُت الى ذلك بصلة.




فماذا يمكننا قوله عن الهذائي إذن في أخر المطاف ؟ هل هو وحيد؟ إننا لا نعتقد ذلك لأنه مسكون بشتى الموجودات الغير محددة فعلا، إلا أن طابعها الدلالي هو محقق ومعلوم وهو أيضاً بمثابة معطى أولي ويحظى ترتيبه بتنظيم أكبر تبعا لنمو الهذيان. فنرى شريبر عُرضة للإغتصاب ولتحريكه كدمية ولتغييرملامحه وللكلام عنه بكل الكيفيات الساقطة. وبتعبير آخر، إننا نراه عرضة لتوتر شديد جدا. إقرأوا كلام شريبر حول ما يسميه "طيور السماء" وزقزقتها. فهذا ما يتعلق به الأمر حقاً، إذ يجد نفسه عرضة لمظاهر طائرية شتى. وهذا ما أوحى له بكتابة هذا المؤلف الضخم الذي يضم حوالي الخمسمائة صفحة والذي هو نتاج بناء متواصل وصبور اعتمده كحل لتجربته الداخلية وإجابة عنها.


إن الشك بصدد ما ترمي إليه الدلالة يحصل لدى المريض في لحظة معينة منذ البداية. أما وإن كانت الدلالة تومئ الى شيئ ما فهذا ما لا يشك فيه أبدا. ولدى شخص من فصيلة شريبر، فإن الأشياء تمضي الى حد يصبح فيه العالم بأكمله ملفوفا بداخل هذاء الدلالة هذا، وبكيفية تجعلنا نقول بأن شريبر، بدل من أن يكون وحيدا، فإنه يتواجد في كل ما يحيط به بشكل أو بآخر. وبالنقيض، فإن كل ما يخلقه داخل هذه الدلالات يبقى خاليا من ذاته هو. وهذا ما يبرزه بألف كيفية وخاصة عندما يلاحظ بأن الله، وهو مخاطَبه المتخيل، لا يفهم شيئا لما يخالج الأفئدة ولا بما يتعلق بالكائنات الحية وذلك لأنه لم يحصل لهذا الإله أن يتعامل الا مع ظلال أجساد ميتة أو جثث جامدة. وهكذا يكون عالم شريبر قد تحول الى تركيبة هوامية مكونة من اشباح رجال صُنعوا بارتجال وبلامبالاة. (Baclés à la six - quatre - deux) بحسب الترجمة الفرنسية.


                                                               


                                                     2




وانطلاقا من المنظور التحليلنفسي، تُفتح أمامنا مسالك عدة لفهم تركيبةٍ كهاته عندما يتم حصولها. وما تم التعرف عليه في السابق فهي المسالة السهلة ويأتي في مقدمتها مفهوم الدفاع الذي تم إدخاله في إطار التحليل منذ البداية. أثناءها تم اعتبار الهذاء كعملية دفاعية للذات. وبنفس الطريقة تم تفسير العصابات كذلك. إنكم لتعلمون الى أي حد أؤكد على الطابع الناقص والمُجاذف لهذا التفسير الذي يؤدي الى شتى التدخلات المتسرعة والمضرة والتي أصبح من الصعب التخلي عنها كما تعلمون أيضاً. فمفهوم الدفاع هذا يتعلق بشيء من الممكن تشييئه، مما يجعل هذا المفهوم على هذه الدرجة من الإلحاح ومن الإغواء. فبما أن المريض في حالة دفاع كما يقال، فلنُعِنه على أن يفهم بأنه لا يقوم إلا بالدفاع عن نفسه ولْنُبين له كذلك الشيئ الذي يقاوم ضده. إلا أنكم عندما تندفعون في هذا المنحى، تجدون أنفسكم أمام مخاطر عدة، وفي مقدمتها تخليكم عن المسار الرئيس الذي يتوجب على تدخلكم انتحاءه. لذا يلزمكم دوما وبكل حزم تحديد النظام الذي يتمظهر فيه الدفاع.




لنفترض أن هذا الدفاع يتمظهر على مستوى الرمزي وقد يصبح بإمكانكم استجلاءه بصفته كلاما بالمعنى المملوء، أي بوصفه يخص الدال والمدلول لدى الذات. فإذا ما عرض المريض على مسامعكم كِلا الدال والمدلول، فيمكنكم أنذاك أن تتدخلوا لتبينوا له إلتقاء هذا الدال بذاك المدلول. لكن لا تفعلوا ذلك إلا عندما يتواجد الإثنان بداخل خطابه. أما إذا لم تحصلوا على الإثنين معا بداخل قوله ووقع لديكم إحساس بأن ذات المريض تقاوم شيئا ترونه أنتم ولا يراه هو، بمعنى أنكم ترون بكيفية جلية بأن المريض يخطأ في حق الواقع، فقد يصبح مفهوم الدفاع آنذاك غير كاف بتاتا كي تدفعوا بذات المريض في مواجهة هذا الواقع.


تذكروا ما قلته لكم في وقت سابق عن الملاحظة الجد جميلة التي قدمها كريس Kriss بخصوص ذاك الشخص المهموم بفكرة كونه منتحِلا لأفكار غيره وبالذنب المترتب عن هذه السرقة الأدبية المفترضة. لقد إعتبر كريس تدخله أثناء التحليل عبقريا اعتمادا على مفهوم الدفاع. وهكذا لم يبق بين أيدينا إلا مفهوم الدفاع هذا. فبما أن الأنا ملزم بالمقاومة على ثلاث جبهات، جبهة اللاشعور وجبهة الأنا الأعلى وجبهة العالم الخارجي، فلقد ظُن أنه يجوز التأثير على المريض من على إحدى هذه الجبهات.(92)


فلما عاود هذا الشخص الإشارة الى كتاب أحد زملائه زاعما أنه كرر عملية الإنتحال مرة أخرى، سمح المحلل لنفسه بقراءة الكتاب المفترض انتحاله. وعندما تبين له أن هذا الزميل لم يُقدم في كتابه ما ينم عن ابتكار قد يدعو للإنتحال، لم يتوان كريس عن التصريح بذلك للمريض إذ أصبح من المعتاد اعتبار تدخل من هذا القبيل جزءا لا يتجزأ من التحليل. وبهذا المنحى نجدنا على على قدر من الإنقياد والعماء، مما يجعلنا نقدم كبرهان على صدق تأويلنا، كون المريض قد أتانا في الجلسة اللاحقة بتلك القصة الطريفة التي يقول فيها بأنه قصد توا بعد الجلسة، مطعما تناول فيه أمخخة طرية وهي أكلته المفضلة. وبما أن تصرف المريض هذا قد أتى ردا على تدخلنا فنحن بذلك مبتهجين.


لكن ماذا يعني كل هذا؟ كل ما يعنيه هو أن المريض لم يفهم بتاتا ما يتعلق به الأمر، ولم يفهم أيضاً قيمة ما أتى به قصدنا وهذا ما قد يجعلنا الآن لا نرى أين يكمن التقدم الذي تم افتراض تحقيقه. لقد وضع كريس حقاً أصبعه على الزر اللائق إلا أنه من غير الكافي بتاتا النقر على زر لائق. ذلك أن ذات المريض اندفعت هاهنا وبكل بساطة في عملية تفعيل Acting out. وأنا أوافق على كون التفعيل معادلا لظاهرة هوامية من نوع هذائي، تنطلق عندما تقومون كمحللين بالترميز بتسرع أي عندما تعملون على اقتراب أمر ما على مستوى الواقع وليس بداخل المجال الرمزي. أما اقتراب مسألة الإنتحال هذه من داخل المجال الرمزي، فيقتضي من المحلل ومنذ البداية، التركيز على فكرة أن لا وجود فعلا لهذا الإنتحال، إذ ليس هناك من ميزة رمزية له. فالسؤال المطروح هنا إذن هو: إذا ما كان الرمز في ملك الجميع، فلماذا أخذت الأمور الخاصة بالمجال الرمزي لدى المريض هذه النبرة وهذا الثقل؟


يلزم على المحلل أن ينتظر هنا ما سيقدمه له المريض قبل القيام بعملية التأويل. وبما أن الأمر يتعلق هنا بعصاب عويص يقاوم محاولة تحليلية لا يستهان بها حقاً - أُذَكر بأن المريض خضع في السابق لتحليلنفسي قبل مجيئه عند كريس - فإنه من المحتمل جدا أن يكون هذا الإنتحال من طبيعة هوامية. أما إذا أعددتم تدخلكم انطلاقا من مستوى الواقع، أي إذا ما تراجعتم الى العلاج النفسي الأكثر بدائية، فماذا سيبقى للمريض فعله إذن؟ إنه سيستجيب بالكيفية الأكثر بساطة وعلى مستوى الواقع الأكثر ثقلا. إنه سيأتي بالدليل على أن شيئا ما ينبثق من هذا الواقع بعناد شديد ويُفرَض عليه فرضا قويا. وكل ما يمكن أن نقوله له بعد ذلك لن يغير شيئا في صلب المسألة. فعندما نبرهن له بعدم كونه منتحِلا، فإنه يوريكم بما يعنيه الأمر بالنسبة إليه وذلك بإطعامكم أمخخة طرية. وهو بهذا يعيد تحديد وتجديد عرَضه حول هذه النقطة التي ليست أكثر ارتكازا ولا وجودا من تلك التي أرسى عرَضه حولها منذ البداية. ولْنتساءل أيضا: أهو فعلا بصدد تورية شيئ ما؟ سأمضي بعيدا في القول بأنه لا يوري أي شيء بالفعل. إن الشيئ نفسه هو الذي يبدو للعيان وهو الذي يصرعلى التمظهر من جديد. نحن هنا في صميم ما سأحاول أن أبين لكم بخصوص الرئيس شريبر هذه السنة.


                                                 


                                   3




إن الإقتراب العيادي لحالة شريبر يظهر أمورا مجهرية لكن بكيفية مُكَبَّرة. وهذا ما سيمكنني من توضيح ما عبر عنه فرويد بكل وضوح بخصوص الذهان. إلا أن فرويد لم يدفع بتعبيره الى أبعد حد، وذلك لأن المسألة لم تبلغ في زمنه ما بلغته من حدة واستعجال داخل الممارسة التحليلية في زمننا هذا. ففي هذه الجملة الأساسية التي عَملت على سردها مراراً، يقول فرويد بأن ما تم إبعاده من الداخل يعود تمظهره في الخارج. وسوف أعود لهذه المقولة.


أقترح عليكم تحديد المسألة على الشكل التالي: إن الذهانات تدلنا على أن هناك، قَبْل أي عملية ترميزية - وهذه القبلية ليست هنا بالمعنى الزماني وإنما بالمعنى المنطقي - مرحلة قد يتعطل خلالها انبثاق جزء من هذه العملية. وهذه المرحلة الأولية تسبق جدلية العصاب التي تتميز بكونها عبارة عن كلام مترابط يكون فيه المكبوت وعودة المكبوت وجهين لعملة واحدة. أما في الذهان، فمن الممكن ألا ينخرط خلال عملية الترميز هذه، عنصرٌ أوليٌ من مكونات الذات، فيصبح هذا العنصر ليس مكبوتا فقط وإنما مرفوضا بالكامل.


إن ما سبق ذكره لم يتم تقديم البرهان عليه ولكنه ليس مجرد فرضية. إنما هو عبارة عن تركيبة للمسألة. فالمرحلة الأولى ليست عبارة عن فترة معينة يلزمكم تحديدها لحظة النشأة. إنني، والحق يقال، لا أنكر بأن ما يحدث على مستوى الترابطات الرمزية الأولية، أي على مستوى التمظهر الأولي للذات، من شأنه أن يضعنا أمام أسئلة جمة. لكن حذاري من أن تسقطوا في الإفتتان بلحظة النشأة وفي إغواءها لكم. فالطفل الصغير التي تلحظوه يجدُّ أثناء لعبه في إظهار لعبته بعد إخفائها - وهو بذلك يتعلم التحكم في الرمز - قد يحجب عنكم، إن أنتم إفتتنتم بلعبته، التواجد العظيم والقبْلي للرمز، وباحتواء هذا الرمز لللعبة من كل جانب. وهذا الإفتتان قد يحجب عنكم كذلك تواجد اللغة التي تملأ المكتبات حتى الفيض. ويحجب عنكم أيضاً كون هذه اللغة هي ما يبلور كل تصرفاتكم ثم تتحكم فيها تقودها. وحتى إن كنتم منغمسين في فعل ما فإنها هي من يفرض عليكم التحرك فتقودكم الى حيثما شاءت. كل هذا وأنتم عنه منشغلون برأية طفل يجتهد من أجل الإندراج داخل الرمزي. فلنحاول إذن أن نتموضع على مستوى وجود الرمز في حد ذاته، والذي نحن بداخله مُنضَوين.(94)


فبدافع علاقة الذات بالرمز، من الممكن وقوع عملية إغفال أولية بمعنى أن شيئا ما لا يتم ترميزه وبذلك يتم تمظهره في الواقعي. لذا يصبح من اللازم إدخال مفهوم الواقعي الذي يستحيل تحاشيه في النصوص الفرويدية. إني أعطيته هذا الإسم لكونه يحدد مجالا مغايرا للرمزي. ومن هذا المستوى بالذات يمكن استجلاء الظاهرة الذهانية وتتبع تطورها. فعلى مستوى عملية الإثبات المطلقة والأولية، والتي من الممكن أن تحصل  للذات أم لا تحصل، يحدث انقسام جذري. فهناك إذن ما يخضع للإثبات وللترميز الأولي، فتحصل له تطورات شتى، وهنالك ما يسقط تحت وطأة الإغفال الأولي ويكون له منحى مغاير.


سوف أسير اليوم قدما وأوقد فتيلتي حتى تبصرون الى أين أنا ذاهب بكم. فلا تَأخذوا ما أطرحه بين أيديكم بمثابة عمل قد تم تركيبه تعسفا ولا بمثابة ثمرة خضوع أو خنوع أمام النص الفرويدي وإنما هو حقيقة ما قرأناه داخل هذا النص المثير والذي عمل السيد هيبوليت لسنتين خلت، على تفسيره لنا. إن خطابي هذا هو السبيل الوحيد لإدخال دقة وتناسق وعقلانية فيما يحدث داخل الذهان وخصوصا ذهان شريبر الذي يتعلق به الأمر هنا. سأبين لكم فيما بعد كل الصعوبات التي قد تترتب عن الفهم المتداول لهذه الحالة، ثم أبين لكم الضرورة التي تلح منذ البداية على تركيبٍ كهذا الذي أقوم بتقديمه بين أيديكم.


فمنذ البداية إذن، قد يحصل للذات إما الإثبات بمعنى الإقرار بما هو كائن، وإما الإغفال. وبالنسبة للتطور اللاحق لعملية الإثبات هاته، لا يكفي طبعا أن نتوقف فقط عند جزء من الخطاب قد يتم اختياره وعزله من طرف المريض، كي نعتبر بأن هذا الخطاب يتوافق، ولو جزئيا، مع عملية الإثبات هاته. فهناك دوما أشياء لا تتوافق البتة. وهذا شيء بديهي جداً إذا ما تركنا جانبا الفكرة التي تنبني عليها كل السيكلوجيا الكلاسيكية والأكاديمية والتي مفادها أن الكائنات البشرية هي كائنات منضبطة كما يقال لأنها كائنات حية وهي بذالك متوافقة مع البيئة بخصوص كل ما يتعلق بحياتها. أما أنتم فإن سلمتم بهذه المقولة فإنكم لستم بمحللين نفساننين في شيء. إن موقف المحلل النفسي يقتضي، وبكل بساطة، الأخذ بعين الإعتبار ببديهية أن ليس هناك أكثر اختلالا وعشوائية من الواقع الإنساني. أما إن كنتم تعتقدون أنكم تمتلكون أناً جد منضبط ومعقول ويعرف كيف ييصرف ويتعرف على ما يجب وما لا يجب فعله انسجاما مع الوقائع، فلن يبقَ لكم إلا الإنصراف من هذا المكان بعيدا. إن التحليل النفسي - محتذيا الخبرة المشتركة في ذلك - يبين لكم أن ليس هناك أكثر غباءا من مصير إنسان ما، بمعنى أننا كبشر دائما عرضة للتضليل. وحتى عندما نحقق نجاحا ما، فذلك لم يكن في الواقع قصدنا. فليس هناك أكبر من خيبة أمل إلا لرجل يدعي تحقيق كل أمنياته وقد تكفي ثلاث دقائق من الحديث الصريح معه - وهي إمكانية لا تفسحها الا أريكة التحليل تحديدا - لكي نعلم أن كل هذه الأمور التي نجح في تحقيقها إنما هي في آخر المطاف موضع سخرية منه بالفعل، وبأنه جد مكفهر ومتضايق لأشياء عدة أخرى. إن التحليل النفسي هو إدراك ذلك وأخذه بعين الإعتبار.(95)


فليس من قبيل الصدف أن نَعبُر الحياة ولا نلتقي إلا بالتعساء. ونظن أن السعداء إن وجدوا فهم في مكان آخر. فإن لم تزيلوا هذا التخمين من عقولكم، فإنكم لم تفقهوا شيئا عن التحليل النفسي. فهذا ما أسميه حمل الأمور محمل الجد. فعندما أقول لكم أنه من اللازم حمل الأمور محمل الجد، فذلك من أجل أن تحملوا محمل الجد كونكم لا تحملون هذه الأمور أبدا بكل الجد اللازم.


فخلال عملية الإثبات إذن، قد تقع للذات حوادث جمى، في حين لا شيء هنالك قد يدلنا على أن البتر الأولي قد تم حدوثه فعلا وبطريقة جلية. بل من الممكن أننا لن نعرف شيئا ولزمن طويل عن أسباب ذلك، لا لشيئ إلا لأن وقوعه قد تم خارج كل عملية ترميزية. أما إن حصل لأحد، في يوم من الأيام، الوقوف على معرفة ما حدث بالفعل ، فقد لا يكون ذلك من حظ المحلل النفسي. المهم في الأمر هو أن الذات تعمل على تركيب وبناء عالم خاص بها، انطلاقا مما تبقى من ذلك الحدث. وتعمل بالخصوص على التموضع داخل هذا العالم بمعنى أنها ستحاول أن تقترب من الصيغة التي تعرفت عليها واعترفت بها لنفسها. فهي في هذه الحالة إما رجل لكونها من صنف الذكور وإما على العكس قد تكون امرأة.


فأنا عندما أضع هذه المسألة في المقام الأول فذلك لأن التحليل يؤكد بأن هاهنا تكمن إحدى القضايا الرئيسية. فلا تنسوا أبدا بأن كل ما يتعلق بسلوك الإنسان بصفته ذاتاً، وبكل ما يُمَكنه من تحقيق هذه الذات، وبكل ما تتواجد هذه الذات بداخله، لا يمكنه أن ينسلخ عن خضوعه التام لقوانين الكلام.


إن الإكتشاف الفرويدي يعلمنا بأن التكافؤات والتطابقات الطبيعية هي في حالة تشوش واختلال دائمين لدى الإنسان. وليس فقط لأن الجنسية الإزدواجية تلعب دورا أساسيا عنده. أما إن كانت هذه الجنسية الإزدواجية غير مستغربة لديه من المنظور البيولوجي، فإن المسالك المؤدية الى تنظيم تسوية هذه الجنسية هي أكثر تعقيدا وتنوعا لديه عما نلاحظه عند الثدييات وعند الحيوانات الفقرية بشكل عام. إن الترميز، أي القانون بمعنى آخر، يلعب لديه دورا رئيسيا في هذا المجال.


أما إذا كان فرويد يؤكد وبشدة على عقدة أوديب، مما أدى به إلى بناء سوسيولوجيا للطواطم والطابوهات، فذلك لأن القانون بالنسبة له على ما يبدو، متواجد منذ البداية. فلا مجال إذن للتساؤل عن مسألة المنشإ. فالقانون موجود منذ البداية ومنذ الأزل، ولا بد للجنسية الإنسانية أن تتحق انطلاقا من هذا القانون ومن خلاله. فهذا القانون الأساسي لا يعدو كونه قانون الترميز. وهذا ما يعنيه الأوديب.(96)


ففي هذا الإطار إذن يمكن أن يحصل كل ما يمكنكم تخيله، وذلك تحت ألوية المجالات الثلاث: التكثيف والكبت والإنكار. فالتكثيف هو قانون سوء التفاهم ليس إلا. فبفضله نبقى على قيد الحياة وبفضله أيضاً نتمكن دفعة واحدة من إبراز أعراض متعددة. وبفضله كذلك يمكننا مثلا، إن كنا من صنف الرجال، تلبية تامة لميولنا المتنافرة وذلك باتخاذ، داخل علاقة رمزية، موقفا أنثويا مع البقاء كرجل مكتمل، متوفر ومحافظ على فحولته بالمستويين التخيلىي والواقعي. فوظيفة الأنوثة هذه والتي قد تكون على درجة متفاوتة من الشدة، يمكن أن تجد لنفسها تلبية في هذه الإستقبالية الأساسية والتي هي إحدى الوظائف المركزية لدى الإنسان. إن قولي هذا ليس من قبيل الإستعارة، ذلك أننا نحصل فعلا على شيء ما عندما نتلقى الكلام. فقد يكون للإشتراك في علاقة الكلام دلالات مختلفة في نفس الوقت، وقد يكون بإمكان أحدى هذه الدلالات أن تجد تلبية لها في الوضعية الأنثوية بكونها أساسية لتكوين ذاتيتنا.


أما الكبت فهو ليس قانون سوء التفاهم. إنه ما يحدث عندما يكون الأمر ليس على ما يرام على مستوى السلسلة الرمزية. فكل سلسلة رمزية لنا بها ارتباط، تتوفر على ترابط وتناسق داخليين مما يجعلنا مضطرين في لحظة ما لتسديد ديْن ما حصلنا عليه في لحظة لاحقة. لكن قد لا يكون بإمكاننا تسديد الديون على كل الواجهات دفعة واحدة، وهكذا بتعبير آخر، يصبح القانون غير متحمل بالنسبة لنا. وهذا لا يعني أن القانون غير متحمل في حد ذاته وإنما الوضعية التي نجدنا فيها تتطلب منا تضحية تصبح مستحيلة على مستوى الدلالات. وهكذا نعمل على كبت بعض من أفعالنا ومن أقوالنا ومن سلوكنا. إلا أن السلسلة لا تلبث في مواصلة جريها من تحت، ولا تتوانى في التعبير عن متطلباتها والتأكيد على مديونيتها، وكل ذلك من خلال العرَض العصابي. وعلى هذا الأساس يكون الكبت بجانب العصاب.


أما الإنكار فهو من قبيل الخطاب ويتعلق بما نحن قادرين على الإتيان به الى قارعة النهار بطريقة ملفوظة. وعلى هذا المستوى بالتحديد يتدخل مبدأ الواقع. ولقد عبر فرويد عن ذلك بوضوح تام في ثلاثة أو أربعة مواضع من عمله، سبق أن تعرضنا لها خلال فترات مختلفة من تعليقنا. يتبين من خلالها أن الأمر بإسناد أو إضفاء الذات قيمة الوجود على الموضوع وليس فقط قيمة الرمز. فبخصوص هذا المستوى الذي يحدده بمثابة مستوى حكم الوجود، يشير فرويد، وبعمق يضاهي ألف مرة التعبير المعتمد في زمانه، الى أن ما يتعلق به الإمر خصوصا هو العثور على الموضوع من جديد. (97)


فكل اقتراب إنساني للواقع يتوقف على هذا الشرط الأساسي ويخضع له. إن الذات تبحث عن موضوع رغبتها في حين ليس هنالك ما يمكنها من الإقتياد إليه. أما الواقع فتتم هلوسته منذ البداية لكونه ينبني على الرغبة. إن النظرية الفرويدية المتعلقة بنشأة عالم الموضوعات والمتعلقة بالواقع كما تم تحديده مثلا في آخر كتاب "تفسير الأحلام"، والذي يتم الرجوع إليه كلما تعلق الأمر بهذا الواقع أساسا، تتضمن فكرة أن الذات تبقى عالقة بمستوى ماهو بمثابة موضوعها المركزي، موضوع تحقيق رغبتها الأساسية.


فهذا هو الصنف من عمل فرويد ومن فكره الذي يتم استرجاعه باستفاضة في إطار هذه الكتابات التي يتم إنجازها حاليا حول العلاقة ما قبل أوديبية والتي تفضي في آخر المطاف الى القول خطأ بأن الذات تبحث دوما على تحقيق العلاقة البدائية بالأم. وبتعبير أخر، ففي حين أدخل فرويد جدلية المبدأين المتلازمين واللذين لا يمكن التفكير في أحدهما من دون الآخر وهما مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، فلقد تم تفضيل أحدهما وهو مبدأ اللذة وتم التركيز عليه على اعتبار أنه يسيطر ويشتمل على مبدإ الواقع.


إلا أن مبدأ الواقع هذا يتم تجاهله من حيث ماهيته. فهو يششعني بالضبط ما يلي: ليس من المنتظر أن تجد الذات موضوع رغبتها إذ لا يتم اقتيادها إليه بواسطة القنوات والسكك الطبيعية المسخرة لتوافق غريزي مركب بصفة مسبقة كما نلحظه في عالم الحيوانات، بل يَلزمها على العكس أن تعيد إيجاد الموضوع الذي يكون انبثاقه مهلوَسا أساسا. وهذا يعني طبعا أنها تعيد الإلتقاء به. وهذا بالتحديد ما يعنيه مبدأ الواقع. فالذات لا تلتقي أبدا إلا بموضوع آخر كما يقول فرويد وهو موضوع يلبي الضرورات المعنية بطريقة مُرضية الى حد ما. فهي لا تجد أبدا إلا موضوعا مختلفا. وهذه هي النقطة الأساسية التي يتمحور حولها إيلاج مبدأ الواقع داخل الجدلية الفرويدية.


إن ما يلزم إدراكه، وذلك ما علمتنا إياه الخبرة العيادية، هو أن ما يتمظر في الواقعي يخالف ما تم اختباره والبحث عنه من طرف الذات. إنه يخالف ما تصبو اليه الذات تحت تأثير الأنا بصفته جهاز التفكير والسيطرة والبحث مع ما يتضمنه من استلابات ركيزة. إن ما يتمظهر في الواقعي يمكنه أن يَبرز إما على شاكلة منعزلة ومنفردة كما هو حال الهلوسة الوجيزة التي تمت الإشارة إليها في حالة رجل الذئاب وإما بكيفية أكثر شمولا وانتشارا كما حدث في حالة الرئيس شريبر.(98)






4




فما هي الظاهرة الذهانية ياترى؟ إنها عبارة عن بزوغ دلالة عظمى وهي دلالة تبدو وكأنها قد لا تعني شيئا إذ أنه من غير الممكن ربطها بأي شيئ آخر وذلك أنها لم تدخل أبدا في نظام الترميز. إلا أنه بإمكانها في ظروف معينة تهديد التركيبة النفسية في مجملها. ففي حالة شريبر، هناك دلالة تخص ذات المريض، إلا أنه تم رفضها ولم يبق لها إلا أثر باهت في أفق شريبر وأخلاقياته. وبزوغ هذه الدلالة من جديد، هو الذي يسبب الإقتحام الذهاني. وسترون الى أي مدى يختلف ما يسبب الإقتحام الذهاني عما يحدد الإقتحام العصابي. فالأمر يتعلق بشروط متعاكسة تماماً بينهما. ففي حالة الرئيس شريبر، لهذه الدلالة المرفوضة علاقة وطيدة بالجنسية البدائية المزدوجة التي قد حدثتكم عنها قبل قليل. فالرئيس شريبر لم يعمل أبدا على إدماج أي شكل من أشكال الأنوثة بذاته وهذا ما سنعمل على تبيانه من خلال النص.


إنه لمن الصعب اعتبار بأن قمع ميول ما أو رفض أو كبت نزوة تحويلية الى حد ما بخصوص الدكتور فليشسيغ، هو ما أدى بالرئيس شريبر الى بناء هذيانه الهائل. فمن الضروري أن يكون هناك سبب يتناسب مع ما حصل له بالفعل.


وأدلكم مسبقا بأن الأمر يتعلق بالوظيفة الأنثوية في ما لها من دلالة رمزية أساسية والتي لا يمكننا التوقف عليها إلا على مستوى الإنجاب، وسترون لماذا. فهذا ما سيتجلى لدى شريبر، ليس أبدا في لحظة اختلال عقلي وإنما وهو في لحظة رفيعة من حياته، على شاكلة انبثاق في مجال الواقعي لأمر لم يختبره من قبل. سيبدو له على شاكلة بزوغ لغرابة عارمة تؤدي تدريجا الى إغراق شاملر لكل معاييره لدرجة تضطره على إعادة ترتيب عالمه بالكامل.


فهل يمكننا الحديث هنا عن سيرورة تعويضية أو عن شفاء كما لم يتوان البعض عن القول، زاعمين بأن المريض لحظة استقرار هذائه، قد تمكن من الحصول على حالة أكثر هدوءا مما كان عليه لحظة بزوغ الهذيان. فهل هذا شفاء حقا؟ إنه سؤال يستوجب الطرح، إلا أنني أعتقد أن الحديث هنا عن سيرورة شفاء هي من قبيل المغالاة والتعسف.(99)


فماذا يحدث إذن في اللحظة التي يتمظهر فيها من جديد على مستوى الواقعي ما لم يتم ترميزه؟ إنه على كل، من غير المفيد الحديث بهذا الصدد عن مفهوم الدفاع. فمن الواضح هنا أن ما يظهر في مجال الواقعي إنما يظهر على مستوى الدلالة، إلا أن هذه الدلالة لا تصدر عن مكان محدد ولا تفدي الى شيئ آخر غيرها. إنها دلالة أساسية وتخص ذات المريض بالضبط. في هذه اللحظة يهتز ويتداعى الكبت الذي يتدخل كلما وقع صراع بين الأنظمة. لكن لماذا لا يلعب الكبت دوره هنا، بمعنى أنه لا يؤدي الى ما يحصل عندما يتعلق الأمر بالعصاب؟ فقبل معرفة لماذا، يجب أولا دراسة الكيف. وسأعمل على التركيز على ما يمَكِّن من التفريق بين العصاب والرهان.


فعندما تظهر نزوة أنثوية أو مهدئة لدى شخص ما وقد تم إدماجها داخل نقاط مختلفة من عملية الترميز الأولية لديه، داخل عصابه الطفلي مثلا، فإنها قد تعبر عن نفسها بواسطة أعراض متنوعة. وهكذا، فإن ما تم كبته، يعبر عن نفسه على كل حال، وذلك لأن المكبوت وعودة المكبوت هما شيئ واحد، بل ونفس الشيء. فمن داخل الكبت، بإمكان ذات المريض أن تنجو مستعينة بما هو مستجد لديها فيحصل اتفاق وتراضي. وهذا ما يميز العصاب. إنه الأمر الأكثر جلاءا على وجه البسيطة وإن كان الكل يجتهد في عدم إبصاره كذلك.


أما الإلغاء فهو على غير مستوى الكبت. فمع بداية الذهان، عندما يأخذ اللامرموز له في العودة من جديد في الواقعي، فقد تحصل إجابات من جانب آلية الإلغاء، إلا أنها إجابات غير متوافقة. فما هي بداية الذهان ياترى؟ وهل للذهان، كما للعصاب، فترة قَبْتاريخية؟ وبداية، هل هناك ذهان طفولي؟ لا أقول بأننا سنجيب على هذا السؤال وإنما سأطرحه على الأقل.


فكل شيء يشير الى عدم وجود فترة قبتاريخية في الذهان. فقد يحدث، خلال ظروف معينة لابد من تحديدها، أن يظهر في العالم الخارجي شيء لم يتم ترميزه مبدئيا. فتجد ذاتُ المريض آنذاك نفسها في حالة قصور وتعطل مطلق، غير قادرة على إنجاح عملية الإثبات بخصوص الحادث. فما يحدث إذن يتميز بكونه مقصي كلية من عملية  التراضي التي تؤدي الى الترمير داخل العصاب. فما هو مقصي تتم ترجمته في مجال آخر، في شاكلة ردات فعل متواصلة  على المستوى التخيلي.(100)


ففي الذهان، نظرا لإنعدام قدرة ذات المريض على إعادة الإتفاق بينها وبين الآخر، وبانعدام قدرتها على إقامة أي وساطة رمزية بينها وبين ما جد لديها، فإنها تندرج داخل كيفية مغايرة للوساطة تختلف كلية عما هو عليه الحال في العصاب. ففي الذهان يتم تعويض الوساطة الرمزية باندثار وانتشار تخيليين، تندرج فيهما إشارة مركزية لوساطة ممكنة، لكن بشكل مشوه وعديم الرمزية. أما الدال فتحدث به تقلبات عميقة تعمل على إضفاء نبرة خاصة للحدوسات الأكثر دلالة بالنسبة لذات المريض. فاللسان المركزي عند الرئيس شريبر هو فعلا عبارة عن إشارة الى بقاء متطلبات الدلالة داخل عالمه التخيلي هذا.


إن علاقة ذات شريبر بالعالم هي علاقة مرآوية. فعالمه يتكون أساسا من علاقته مع هذا الكائن الذي هو في مكانة الأخر بالنسبة إليه. إنه الله ذاته. وكأن شيئا شبيها بعلاقة رجل بامرأة قد تم تحقيقه بينهما. إلا أنكم سترون، عندما ندرس هذا الهذيان بتفصيل بأن هذين الشخصين ؛ الله من ناحية وكل ما يتعلق به من كون وسماوات، ومن ناحية أخرى شريبر وهو بالحرف مجزء الى شتى الكائنات المتخيلة. وسترون بأنهما عبارة عن بنيتين متناوبتين بكل دقة. إنهما يعرضنا أمامنا وبكيفية جد جذابة، كل ما يتم تجنبه وتغطيته وتهذيبه في حياة الإنسان العادي والمتعلق بجدلية الجسد الممفصل مع العالم التخيلي والتي ترتكز عليها البنية العادية.




إن دراسة هذيان شريبر تحظى بفائدة جمى لكونها ستمكننا على الوقوف بشكل وافر على الجدلية التخيلية. فإن كانت هذه الجدلية تتميز عن كل ما يمكن افتراضه في علاقة غريزية وطبيعية، فذلك بسبب بنية أولية حددناها في البداية وهي بنية مرحلة المرآة. فهذه البنية تضع العالم التخيلي للإنسان وبكيفية مسبقة بكونه عالَما مفككا. وهذا ما نقف عليه هنا بصفة مكبَّرة وهي واحدة من فضائل تحليل الهذيان في حد ذاته. فلقد أكد المحللون دائماً على أن الهذيان يبين لنا لعبة الهوامات في طابعها الإزدواجي والى أقصى حد. فالشخصين اللذين ينحصر فيهما العالم بالنسبة لشريبر، قد تم تكوين أحدهما طبقا للأخر، والواحد منهما يقدم للأخر صورته منعكسة.


المهم هو معرفة كيف تتم الإجابة هكذا، عن طلب تم تقديمة بشكل جانبي لإدراج ما تم بروزه في الواقعي والذي يمثل ما لم يتمكن المريض من ترميزه قط. إن ضرورة ملحة من طرف النظام الرمزي، ما لم يتم إدماجها داخل ما تضمنته الجدلية التي عاش المريض من خلالها، فإنها تخلف تشققات متتابعة وتهتكات في شبكة المنسوج من خطابه وهو ما يسمى هذيانا. إن الهذيان لا يفقد بالضرورة علاقته بالخطاب العادي إذ بمقدور المريض أن يرضى بهذيانه وأن يقتسمنا إياه كعالم لم تنقطع بداخله كل أواصر الإتصال.


وسنتابع تحليلنا في الحصة المقبلة حول نقطة الإلتقاء والتقاطع بين الإلغاء والكبت من جهة مع الإنكار من جهة أخرى.(101)


11 دجنبر 1956








                         


الفصل السابع: الإندثار التخيلي




- دُورَا Dora ومُضَلعها الرباعي.
- الأيروس والعدوانية لدى سَمك أبو شوكة.    
- ما يسمى بالأب.
- تفتت الهوية.




كنت أنوي أن أتعمق هذا اليوم في هوية الحمق، وفكرت بأن هذا حمق في حد ذاته. ثم أني طمأنت نفسي معتبرا بأن ما نقوم به هنا ليس بعمل إنفرادي ولا اعتباطي. إلا أن ما سنقوم به ليس بالعمل السهل. لماذا؟ لأن كل عمل إنساني وبالخصوص الأعمال الوعرة، طبقا لقضاء محتوم، تنتهي دوما بالتعطل بسبب هذا الشيء الملغز الذي نسميه بالكسل. ولقياس صعوبة هذا العمل الذي نووي القيام به هنا، يكفي إعادة قراءة نص فرويد حول الرئيس شريبر، قراءة لا متحيزة وبعين وعقل تم تنظيفهما من كل الألغاط التي نسمعها حول المفاهيم التحليلية.


إنه نص يتمتع بامتياز مطلق. إلا أنه لا يفعل أكثر من وضعنا في طريق اللغز. فكل التفسير الذي يعطينا فرويد إياه حول الهذيان يصب فعلا في رافد مفهوم النرجسية الذي لم يعمل على إيضاحه بعد، وعلى الأقل خلال الفترة التي كان يكتب فيها عن شريبر. إن المحللين اليوم يتصرفون وكأن النرجسية شيئ مفهوم بذاتها. فتراهم يتسابقون إلى القول بأن الذات قبل أن تتجه نحو مواضيع خارجية، فإنها تمر بمرحلة يتخذ فيها الشخص جسده كموضوع. ففي هذه السمة يأخذ لفظ النرجسية معناه فعلا، لكن هل هذا يعني أن لفظ النرجسية لم يُستعمل قط إلا بهذا المعنى ؟ إن السيرة الذاتية للرئيس شريبر، كما أتى بها فرويد للإستشهاد على هذا المفهوم، تدلنا رغم ذلك على أن ما تشمئز منه نرجسية الرئيس هو اتخاذه لوضعية أنثوية في علاقته مع أبيه، وضعية تتضمن الإخصاء لا محالة. وهذا ما سيجد حلاً له في العلاقة المبنية على هذاء العظمة بحيث أن الإخصاء سوف لن يُخِفه بتاتا إنطلاقا من اللحظة التي يحتل الله فيها محل الزوج.(103)


بالإجمال وتطابقا مع الصيغ التي اقترحها فرويد حول العظام في هذا النص، فإنه يمكن تلخيص خطاطته على الشكل التالي: "أنا لا أحبه هو، أما من أُحبه فهو الله" وبالمقلوب، "إن الله من يحبني". لقد جعلتكم في المرة السابقة تلاحظون بأن هذا ربما غير مرضي كلية. إنه ليس أكثر إضاءة من الصيغ التي أتى بها فرويد وإن كانت مضيئة للغاية. إن الإنقلاب المكرَّر (إني لا أحبه، إني أكرهه، إنه يكرهني) يقدم فعلا مفتاحا لآلية الإضطهاد. إلا أن المشكلة تتعلق بضمير الغائب، هو. فلقد تم تعدده وإفراغه من ذاتيته على ما يبدو. إن ظاهرة الإضطهاد تكتسي هنا شكل علامات تتكر الى ما لا نهاية. فالشخص المضطهِد لا يعدو كونه ظِلاً لموضوع هو فعلا مصدر الإضطهاد. وهذا ليس أقل حقيقة بخصوص الإله الذي يتعلق به الأمر أثناء يُنوع هذيان الرئيس شريبر.


ولقد جلبتُ انتباهكم الى المسافة الكبيرة التي تفصل بين علاقة الرئيس شريبر بالإله وبين أبسط عطاءات الخبرة الصوفية. إنها مسافة جد واضحة لدرجة أن إعادة النظر فيها يصبح مثيراً للسخرية. إن وصف شريبر الشديد الدقة لله كشريك وحيد مع ما يترتب عن ذلك من تمجيد لشخصه، يتركنا في حالة ارتباك حول طبيعة هذا الإله.


فما قاله لنا فرويد بخصوص انسحاب التعلق الليبيدي عند شريبر بعيدا عن الموضوع الخارجي، هو في صميم المسألة. لكن يبقى علينا التفكير في ما يعنيه هذا القول. فعلى أي مستوى تتم مزاولة هذا الإنسحاب؟ إننا نحس بأن شيئا ما قد عمل على تغيير الموضوع بعمق لدى شريبر، لكن هل من الكافي إرجاع هذا التغيير الى إحدى تنقلات الليبيدو والتي نعتبرها بمثابة المركز للآليات العصابية؟ فما هي ياترى المستويات والمجالات التي يعنيها الأمر هنا، بخصوص شريبر والتي تمكننا من تحديد التغيرات التي تطرأ على طبع الأخر والتي تمثل دائماً عمق الإستيلاب في الحمق؟




                                    


1




سوف أسمح لنفسي هنا برجوع قصيرالى الوراء كي أحاول أن أجعلكم تبصرون بكل صفاء بعضا من ملامح المظاهر التي ألفتموها. ولنأخذ حالة ليست من باب الذهان، حالة كان بودها أن تدشن الخبرة التحليلية الحقة كما رتبها فرويد، إنها حالة دورا.(104)




إن دورا هستيرية ولذلك لها علاقات جد متميزة بالموضوع. إنكم تعلمون بالحيرة التي خلفها اللبس المتعلق بخصوص موضوع حبها الحق، سواء على مستوى المقابلة العيادية وحتى على مستوى مواصلة التحليل. إن فرويد أبصر خطأه في آخر المطاف وصرح بأن عدم تعرفه على موضوع حب دورا الحقيقي قد أدى به إلى إفشال التحليل بحيث أن التحليل توقف قبل الآوان من دون أن يسمح بحل صائب لما كان موضوع تساؤل.


إنكم تعلمون بأن فرويد قد ظن أنه لمح لديها مكنونا متصارعاً ينجم عن عدم إمكانيتها التخلي عن موضوع حبها الأول والذي هو أبوها، كي تنتقل الى موضوع أكثر سواءا يتمثل في شخص رجل آخر. في حين أن موضوع دورا الحقيقي ليس هو غير المرأة المسماة في عرض الحالة بالسيدة ك. والتي هي عشيقة أبيها تحديداً.


لننطلق أولا من عرض الحالة ثم أقدم تعليقي بعد ذلك. إنها، كما تعلمون، عبارة عن قصة رقصة مكونة من أربعة أشخاص؛ دورا وأبوها والسيد ك. والسيدة ك.. إن السيد ك. يصلح لدورا بمثابة أناً، إذ بواسطته يصبح بإمكانها مواصلة علاقتها بالسيدة ك.. أطلب منكم أن تتبعوني حول هذه النقطة وأن تضعوا ثقتكم في، ذلك أنني كتبت فا فيه الكفاية حول هذه الحالة في مداخلة حول التحويل، مما يمَكنكم العودة إليه بكل سهولة.


إن وساطة السيد ك. لوحدها تمكن دُورا من مواصلة علاقة يمكن تحملها. فإن كان هذا الوسيط أساسيا للحفاظ على الوضعية فليس لكون موضوع شغفها من نفس جنسها وإنما لأن لها مع أبيها علاقات يحفظها التوحد به والتنافس معه بشكل عميق، ويزيد من حدة هذه العلاقات كون الأم عديمة القيمة في نظر زوجها. فبما أنه لم يكن بمستطاع دورا أن تتحمل العلاقة الثلاثية فإنه أصبح بإمكانها تحملها بل ومواصلتها بالفعل عن طريق هذه التركيبة الرباعية.


وما يبرهن على ذلك هو ما حدث فعلا عندما صرح السيد ك. ذات يوم بهذا القول المنذر: "إن امرأتي لا تساوي شيئا عندي". لحظتها حصلت لدى دُورا ردة فعل وكأنها تجيبه على الشكل لتالي: "فماذا بقي إذن أن تساويه أنت عندي؟". وما كان منها إلا أن صفعته للتو، وإن كانت قد إحتفظت في حقه حتى الآن، بعلاقة أساسية لكنها ملتبسة من أجل الإبقاء والمحافظة على المجموعة الرباعية. وهذا ما أدى الى اختلال توازن الوضعية.


إن هستيرية دورا من المستوى الخفيف، فهى تبدي القليل من الأعراض. أتمنى أنكم تذكرون التركيز الذي بذلتُه بصدد البُحة التي لا تحدث لها إلا في لحظات الخلوة والملاقات الحميمية مع موضوع حبها. إنها ترتبط حقاً بالشبقية الجد مفرطة للوظيفة الشفاهية التي تنعدم خدمتها العادية كلما اقتربت دورا جداً من موضوع رغبتها.(105)


إلا أن هذا عرَض جد بسيط وليس بوسعه أن يدفع بها إلى طلب مساعدة فرويد ولا أن يحث أقاربها على الدفع بها نحوه. وعلى العكس، لما تخلى الشخص الرابع عن مقامه حدث للوضعية خلل وتفكك وظهرت لدى دورا متلازمة بسيطة متكونة من عرَض الإضطهاد تجاه أبيها. فحتى هذا الحد، كانت الوضعية معقدة شيئا ما، لكنها لم ترقَ الى ما يمكن تسميته بالأوبيريت الفييناوية. وكما أفسحتْ عن ذلك التحريات المتتالية، فإن دورا كانت تتصرف بلباقة فائقة كي لا يحصل خلاف أو خصام بسببها وحتى يحتفظ أبوها مع السيدة ك. بعلاقة حُبية مُرضِية. إلا أن كل هذه العلاقات لدى دورا، بقيت والحق يقال، ملفوفة بكثير من الضبابية. لقد كانت وبقيت دُورا تغطي وتحمي الوضعية بأكملها وكانت تتوفق في ذلك بكل بساطة وطمأنينة. إلا أن دورا، مع تفكك هذه الوضعية، بدأت تدعي وتؤكد بأن أباها يريد أن يدفع بها الى ارتكاب الزنى وذلك بالرمي بها في أحضان السيد ك. حتي يحتفظ هو، في المقابل، على علاقته الملتبسة مع زوجة هذا الأخير.


فهل هذا سيسمح لي بالقول بأن دورا ذهانية؟ إنني لم أقل ذلك أبدا وأنتم تعرفون كم أنا حريص على الدقة في باب تشخيص الذهان. لقد اضطُررت يوم الجمعة الماضي للمجيء هنا قصد مقابلة مريضة ذات سلوك عويص ومشاكس لكل من يحيطون بها. لقد جيء بي كي أؤكد بأنها ذهانية وبأنها ليست مصابة بعصاب قهري كما قد يبدو للوهلة الأولى. إلا أنني رفضت وضع تشخيص الذهان لأنه ليس هناك ولا واحد من الإضطرابات التي تعرضْنا لها في دراستنا هذه السنة والتي تتعلق بمجال اللغة. فقبل أن نضع تشخيص الذهان، يلزمنا، أولا وقبل كل شيء، التأكد من وجود اضطرابات في هذا المجال.


لهذا، لا يكفي وجود مطالبة لديكم ضد أشخاص ينوون الإضرار بكم، كي نجدنا أمام حالة ذهان بصددكم. فقد تكون هذه المطالبة غير مبررة وقد تشارك في هذيان الإعتداد بالنفس، إلا أننا مع ذلك قد لا نكون بعدُ بصدد ذهان محقق. بالفعل، ليست هذه المطالبة بغير صلة بالذهان بحيث أنها قد تبدي بصيصا من هذيان. وقد يتم فعلا التوقف على تلامس واستمرارية هذه المظاهر مع ما هو معروف عن العظامي بأنه شخص مفرط الحساسية ومتعصب وشَكوك وفي حالة صراع دائم مع أقربائه. إلا أنه لا بد من وجود اضطرابات لغوية حتى يمكننا الحديث عن الذهان. فهذا، على كل حال، بمثابة اتفاق، أقترح عليكم الأخذ به ولو مؤقتا.


إن دورا تحس تجاه أبيها إحساساً ذا دلالة، إحساساً ذا طابع تأويلي بل وهذائي، إلا أنه ليس بإمكان هذا الإحساس تكوين هذيان. ومع ذلك فإنه إحساس حدسي يتمثل في اعتبار الأخر مصدر العدوانية وسوء النية وذلك بخصوص وضعية شاركت فيها ذات المريضة حقاً بعد أن عملت على تزكيتها بكل إصرار وتمعن.(106)


فما معنى كل ذلك ؟ قلنا بأن خللا حصل للوضعية نظرا لتغيب أحد عناصر رباعي الأضلاع الذي مكن دورا من التماسك والتوازن حتى الآن. يمكننا هنا استعمال مفهوم المباعدة إذا ما عملنا على استعماله بالحذر الكافي. لقد تم حتى الآن استعمال هذا المفهوم بشكل فوضوي. أما نحن فلن نرفض لأنفسنا، من جراء ذلك، الإعتماد على هذا المفهوم مع ضرورة الإحتفاض له طبعا بتطبيق يتناسب من الوقائع. وهذا ما يؤدي بنا الى صلب المسألة النرجسية.


                                               
                                                                                        


2




فما هو الفهم الذي سنكَونه حول النرجسية انطلاقا من عملنا هذا ؟ إننا نعتبر العلاقة النرجسية بمثابة علاقة مركزية في التواصل البيإنساني. فما الذي جعل خبرة المحلل النفساني تتبلور حول هذا المفهوم وترتكز عليه؟ إنه التباس في المقام الأول. إن النرجسية علاقة شبقية - فكل تماهي شبقي وكل تقمص للأخر بواسطة صورته داخل الإستحواذ الشبقي، يحصل عن طريق العلاقة النرجسية - وهي أيضاً ركيزة التوتر العدواني. وابتداءا من اللحظة التي دخل خلالها مفهوم النرجسية في إطار النظرية التحليلية، تم رفع مرتبة العدوانية أعلى فأعلى داخل الإهتمامات التقنية. إلا أن بلورة هذين المفهومين لم تتخط مرحلة البداية. وعلينا أن نمضي أبعد من ذلك.


ولهذا الغرض بالضبط تصلح مرحلة المرآة. إنها تضفي وضوحا أكبر على طبيعة هذه العلاقة العدوانية وعلى دلالتها. فأما إذا ما كانت العلاقة العدوانية تتدخل في هذه التكوينة التي قد تسمى بالأنا، فذلك لأنها مُكوِّنة له، وذلك أيضاً لأن الأنا هو في حد ذاته أخر وينبني على ازدواجية بداخل الذات. إن الأنا هو ذاك السيد الذي تقتبسه الذات من أخر والذي يتموضع في داخلها متقمصا وظيفة السيطرة لديها. أما بخصوص ما قد يحدث لدى الذات من صدى لعلاقة الإقصاء المتجسدة في مقولة "إما هو وإما أنا"، خلال أي علاقة مع الأخر ولو على المستوى الشهواني، فذلك لأن ذات الإنسان، على المستوى التخيلي، تتكون على هذه الشاكلة، بمعنى أن الأخر على أهبة للأخذ مجددا بزمام السيطرة لديها وبأنها أيضا تحتوي على أنا غريبا عنها ولو جزئيا، وهو بمثابة سيد منغرس لديها من على كل ميولاتها وسلوكاتهاوغرائزها ونزواتها.


إنني هنا، وبطريقة جد دقيقة تصبو إلى تبيان المفارقة، لا أفعل سوى التعبير عن تواجد صراعات بين النزوات وبين الأنا والتي تحتم ضرورة القيام باختيارما. فهناك من النزوات ما يتقبلها الأنا وهناك ما لا يتقبل. وهذا ما تمت تسميته عادة، ولست أدري لماذا، بوظيفة التركيب لدى الأنا. وبما أن هذا التركيب، عكس ما هو متوقع، لا يتحقق أبدا، فمن المستحسن القول بوظيفة السيطرة بدل وظيفة التركيب. أما هذا السيد فأين هو مقامه ؟ أهو في الداخل أم في الخارج؟ إنه دوما وفي نفس الوقت في الداخل وفي الخارج. وعلى هذا الأساس فإن كل توازن تخيلي مع الأخر هو دوما موسوم بتذبذب بالأساس.


لنقم هنا بتقارب مع علم نفس الحيوان. إننا نعلم بأن للحيوانات حياة أقل تعقيدا منها عند الإنسان. فعلى الأقل، نحن نعتقد ذلك اعتمادا على ما نلمحه. ثم إن اللجوء الى ما هو بديهي كاف لوحده لجعل الحيوانات تحتل مقام المرجعية بالنسبة للإنسان وذلك منذ الأزل. فقد تكون للحيوانات علاقة بالأخر عندما يحصل لديها حاجة به. وتكون هذه الحاجة على شاكلتين: الأولى تتمثل في الحاجة الى أكله والثانية في مضاجعته. ويحدث كل ذلك داخل إيقاع طبيعي يتمثل في سلوك غريزي. وفي مقابل ذلك، لقد تم إبراز الدور الأساسي الذي تلعبه الصورة في علاقة الحيوانات بأشباههم، وبالضبط بخصوص انطلاق الدورات الغريزية.


إن الدجاج وما يشاكلها من طيور أهلية، يصيبها فزع كبير عندما تبصر ملامح طائر خطاف قم تم تعويدها على رؤيته ولو قليلا. فرؤية هذه الملامح تخلف عندها ردات فعل هروبية وتحدث لديها نوعا من الزقزقة وصياح الهلع. في حين أن ملامح مختلفة بعض الشيء قد لا تترك أية ردة فعل لديها. ونفس الملاحظة تنطبق على مسألة انطلاق السلوكات الجنسية. وبنفس الشاكلة، يمكن مغالطة ذكر وأنثى سمك أبو شوكة. فأثناء المغازلة والإستعراض، يكتسي ظهر أحد الشريكين لونا معينا يُطلِق لدى الأخر دورة السلوك الذي ينتج عنه تقاربهما النهائي.


فليس هناك إذن ما يمنع من الوقوف لدى الحيوانات على نقطة الإلتقاء بين الأيروس وبين العلاقة العدوانية والتي حدثتكم عنها لدى الإنسان. وذلك ما يمكن إبرازه واستجلاؤه بل واستخراجه لدى سمك أبو شوكة. إن في حوزة أبي شوكة منطقة تتسع كثيرا عندما تحل فترة استعراضه الذي يتطلب مساحة لا بأس بها في أعماق مياه تكسوها أعشابا. وفي نوع من احتفال عرسي، يقوم الذكر برقصة حقيقية همها الأول يتمحور حول إثارة وجلب انتباه الأنثى ثم جعلها تستقبل وتتقبل مبتغاه. ثم يدفع بها داخل نفق صغير أعده خصيصا لها. إلا هناك أيضاً شيء أخر لا يمكن تفسيره بكل سهولة. ذلك أن الذكر، بعد تحقيقه لمرماه، يجد رغم ذلك فائضا من الوقت ليحفر هنا وهناك حفرا عدة.(108)


لست أدري إن كنتم تذكرون فينومينولوجيا الثقْب في كتاب "الكائن والعدم". إلا أنكم تعرفون الأهمية التي أخصها سارتر Sartre بخصوص سيكلوجية الإنسان وبالخصوص، الإنسان البورجوازي وهو يلهو على شاطئ البحر. إن سارتر يرى في ذلك ظاهرة سلبية تقترب من إحدى مظاهر السلبية المزيفة. وبخصوص هذه الظاهرة، فإني أعتقد بأن أبا شوكة يعلمنا الكثير. فهو أيضاً يحفر ثقوبه الصغيرة، وهكذا يضفي على العالم الخارجي سلبيته الخاصة. فبثقوبه هاته يجعلنا نحس حقاً بأنه  بصدد امتلاك مجال معين من الوسط الخارجي بحيث لم يعد من المسموح به لأي ذكر آخر دخول هذا المجال الذي تم تحديده وإلا ترتبت عن هذا الإقتحام ردود فعل قتالية.


أما الإختباريون، لما يعتورهم من حب اطلاع فائق، فلقد حاولوا معرفة الى أي حد يتم توظيف رد الفعل القتالي. حاولوا معرفة ذلك أولا بتغيير المسافة الفصلة بين أبي شوكة ومنافسه، ثم بتعويض المنافس بشبَه له. ولقد لاحظوا فعلا في كلتا الحالتين بأن حفر الثقوب أثناء الإستعراض وحتى قبله، هو فعل مرتبط أساسا بالسلوك الشبقي. فإذا ما إقترب المهاجِم مسافة معينة من المكان المحدد، فإن ردة الفعل القتالية تصدر عن الذكر. وأما إذا بقي المهاجم بعيدا الى حد ما فإن ردة الفعل لن تحدث.




فهناك إذا نقطة معينة تجد فيها ذات أبو شوكة نفسها في مفترق طرق بين التأهب للهجوم أو عدمه. فماذا يحدث أنذاك في هذه النقطة ؟ إن ما يحدث هو مظهر السلبية النزوي والذي هو عبارة عن نشاط السلوك الجنسي متمثلا في حفر الثقوب. بمعنى آخر، عندما لا يعرف أبو شوكة ما هو فاعله على مستوى علاقته مع مشابهه من نفس الجنس، عندما لا يعرف هل يقوم بالهجوم أم لا، فإنه أنذاك يقوم بفعل شيء ما، شيئ يفعله عادة عندما يتعلق الأمر بممارسة الجنس. فهذه النقلة التي لم تغب عن ناظري الإيطولوجي، لا يخص أبو شوكة وحده. إنه لمن المعتاد لدى الطيور أن يتوقف العراك فجأة فيأخذ أحدها بتمشيط ريشه في شغف كما يحصل له عادة عندما يتعلق الأمر بنيل إعجاب الأنثى.


إنه لمن المدهش أن كونراد لورينتز Conrad Lorenz، وإن لم يشارك في سيمناري، قد ظن أنه من اللازم تصدير كتابه بصورة جد جميلة وملغِزة لأبي شوكة أمام المرآة وهو في وضعية مائلة؛ الذنب الى أعلى والأنف الى أسفل. إنها وضعية لا تحصل عن أبي شوكة أبدا إلا وهو في استعداد للضرب بأنفه على الرمل كي يحدث فيه ثقوبا. وبتعبير آخر فإن صورته في المرآة لا تتركه غير مبالي وإن كانت لن تدفع به الى تحقيق دورة السلوك الشبقي بكاملها والتي بإمكانها أن تضعه فعلا عند ردة الفعل الحدية بين أيروس والعدوانية والتي يتم الإعلان عنها بحفر الثقوب.(109)


وهكذا فإن الحيوان كذلك خاضع لتأثير لغز خديعة الشبه. فالخديعة تدخل في وضعية إصطناعية وملتبسة وتتضمن اختلالا وتنقلا على مستوى السلوكات. وهذا ليس من شأنه أن يدهشنا ما دمنا قد تبينا قيمة الصورة المرآوية لدى الإنسان. إن وظيفة هذه الصورة أساسية لدى الإنسان بحيث أنها تمده بالمكمل الأورتوبيدي لنقصانه الولادي، ولفقدانه القدرة على التوافق الأساسي الماجم عن عدم اكتماله لحظة الولادة. إنَّ لَمَّ شَملِه لن يتم بالكامل مادام قد حصل له بالتحديد عن طريق استيلابي وعلى شاكلة صورة غريبة عنه، تُكوِّن لديه وظيفة نفسية جديدة ومبتكرة. وهكذا فإن التوتر العدواني المتعلق ب "إما أنا وإما الأخر" تندمج كلية في كل شكل من أشكال النشاط التخيلي لدى الإنسان.


فلنحاول إذن أن نتصور العواقب التي تنجم عن الطابع التخيلي لسلوك الإنسان. وهذا الإقتراح نفسه مُتخيل وأسطوري لسبب هو أنه لا يمكن أبدا وبكل بساطة إختزال السلوك الإنساني داخل العلاقة التخيلية. لكن لنفترض لحظة، إنسانا قد انغمس كلية داخل علاقاته مع أشباهه وداخل هذا الإنجذاب المشبِّه والمميِّز في أن، فما قد ينتج عن ذلك؟


لقد سبق لي، لأجل توضيح ما أقوله، أن استقيت أمثلتي من مجال تلك الآلات الصغيرة الشبيهة بالحيوانات والتي أمسينا نلهو بابتكارها مند زمن. في تركيبها آليات تم إعدادها لدراسة عدد من السلوكات التي قيل بإمكانية مقارنتها بسلوكات الحيوانات، وهذا ممكن الى حد ما. إلا أن هناك أيضاً عدد من السلوكات التي يمكن دراستها كأحداث لا يمكن التكهن بوقوعها، مما يجعل هذا النوع من الدراسة يشمل أيضا التصورات التي يمكن لنا تكوينها عن أي نشاط يستمد طاقته من ذاته.


لنفترض آلة لا تضم جهازا يشرف على تنظيمها، مما يجعل العضو الذي يحرك الرِّجل اليمنى لا يتناغم مع العضو المحرك للرجل اليسرى. وهذا التناغم لا يمكن تحقيقة في هذه الآلة إلا بتوسط آلة تصوير تنقل إليها صورة آلة أخرى وهي في حالة نشاط متناغم. تفكروا في تلك السيارات الصغيرة التي نراها خلال الحفلات الشعبية تتنقل بسرعة فائقة داخل مجال غير مؤطَّر والتي ينتظر منها التصادم كهدف أساسي للتسلية واللهو. فإذا كان هذا النوع من الفرجة يخلف كل هذه اللذة، فربما لأن التصادم يشكل ضرورة مُلِحة لدى الإنسان. فماذا قديحدث لو أن عددا كبيراً من هذه الآلات الصغيرة تم الدفع بها وسط الحلبة؟(110)


أما إذا كانت كل واحدة منها موحدة ومنظمة بفضل رؤيتها لآلة أخرى، فلن يكون من المستحيل حسابيا التخمين بأن ذلك قد يؤدي الى تجمع تلك الآلات الصغيرة وسط الحلبة حتي تصبح مجمدة كلها في كتلة واحدة لا يحد من انصهارها إلا مقاومة هياكلها الخارجية. إنه اصطدام شامل وتهشيم كامل. فما هذا إلا مجرد خرافة حِكمية مفادها أن تبرز لكم بأن التباس العلاقة التخيلية والفجوة التي تنبني حولها يتطلبان أمراًما يضمن بقاء واستمرارية العلاقة والوظيفة والمسافة. وهذا هو ما تعنيه عقدة أوديب بالتحديد.




فعقدت أوديب تعني بأن العلاقة التخيلية والصراعية والمَحرمية مغبتها التناحر والهلاك. ولكي يتمكن الإنسان من تحقيق العلاقة الأكثر طبيعية، علاقة الذكر بالأنثى، فلابد أن يتدخل وسيط بصفته كصورة تنم عن النجاح وكنموذج للتلاؤم والتناغم. بل لابد من قانون ونظام رمزي ولابد من تدخل نظام وسلسلة الكلام وبمعنى آخر وبالإجمال لا بد من تدخل الأب. إن النظام الذي يمَكن من تجنب الإصطدام الذي قد يؤدي الى تحطيم الوضعية بالكامل، ينبني على وجود إسم الأب هذا.


أقول وأكرر بأن النظام الرمزي يجب اعتباره كظاهرة ترادفية ومن دونها لا يمكن للإنسان، هذه الذات العجيبة والغريبة، أن يحظى حتى بحياة حيوانية. إن الأمور تتراءى لنا على هذه الشاكلة في الوقت الراهن إلا أن هناك ما يجعلنا نعتقد أنها كانت هكذا دوما، ذلك أنه كُلَّما تم العثور على هيكل عظمي، فقد يتم اعتباره إنسانيا كلما وُجد مدفونا. فما الباعث ياترى لدفن هذا الحطام داخل غرفة من حجر؟ إن هذا الحدث يستلزم وجود نظام رمزي مكتمِل، نظام يتطلب أن نخط على حَجَر القبر مكانة الشخص في السلم الإجتماعي. وكونُه يحمل هذا الإسم أو ذاك هي مسألة تتعدى فعلا وجوده المادي. إن إسمه غير مرتبط إطلاقا بوجوده المادي بل يتحداه ويدوم الى ما بعده وهذا شيئ لا يفترض بتاتا أية اعتقاد في أزلية الأرواح.


فإذا ما كنتم غير مبصرين بأن ابتكارية فرويد تكمن في كونه قد أبرز هذه المسألة، فيحق لنا أن نتساءل عما أنتم فاعلوه في التحليل النفسي ولما أنتم باقون في مجاله. إن نصّا كهذا الذي سنقوم بقراءته لن يحصل على أهمية ما إلا ابتداءا من اللحظة التي نلمح خلالها بأن هاهنا يكمن ما هو أساسي في التحليل. فلكي يمكنكم الإقتراب من بنية ما يقدمه الرئيس شريبر، يتوجب أولا أن تبقى حاضرة في أذهانكم هذه الفكرة التي تفيد بأن النظام الرمزي متواجد في حد ذاته، خارج الذات، وبأنه منفصل عن وجودها بل وبأنه مسبب ومحدد لها.(111)






3




إن مذكرات شريبر هذه والمرتكزة على مراقبة جد غنية، ليست فريدة من نوعها، لكنها تفوق كل مثيلاتها من دون شك. ومن المرجح أن هذا الإمتياز يرجع، من خهة، الى تمكن شريبر من نشر كتابه رغم ما تعرض له من حذف، ويرجع أيضاً من جهة أخرى، الى اهتمام فرويد بهذا الكتاب.


أما الآن وأنتم على بينة من وظيفة الترابط الرمزي، فإنكم ستصبحون أكثر حساسية وانتباها لهذا الإجتياح التخيلي الذي تتعرض له الذات كما يعرضه علينا شريبر. إن ما يغلب على العلاقة المرآوية يتمثل في اندثار هوية الأخر. فكل الأشخاص الذين يتحدث شريبر عنهم - ابتداءا من اللحظة التي أصبح فيها على مقدرة من ذلك بحيث أنه قضى مدة طويلة وهو غير قادر حتى على الكلام، وسنرجع الى دلالة تلك الفترة - ينقسمون الى فصيلتين متواجدتين مع ذلك في جهة واحدة ومحصورتين داخل حدود معينة. فهناك من هم ظاهريا على قيد الحياة وما هم إلا ظلال بشر يتنقلون وقد تم صنعهم وتركيبهم بتسرع وبلا مبالاة. وهناك الأشخاص الأكثر أهمية وهم اللذين يقتحمون جسد شريبر ويسكنوه. ولكنهم في الغالب عبارة عن أرواح ينقلبون أمواتا في آخر المطاف.


أما ذات المريض فما هي إلا نسخة شاهبة لِهَويته. فلقد أوحي إليه لحظة ما بأنه قد مات خلال السنة المنصرمة ولقد تم الإعلان عن موته على صفحات الجرائد. ولقد بقي شريبر يحتفظ لهذا الزميل الفقيد، بذكرى تجعل هذا الأخير أكثر ذكاءا منه. إن شريبر يتموضع هنا في محل أخر إلا أنه هو عينه من يتذكر هذا الأخر.  


إن تفتت الهوية هنا يطبع بخاتمه كل جوانب العلاقة التي تربط شريبر بجميع أبناء جلدته على المستوى التخيلي. وفي أوقات أخرى يتحدث عن فليشسيغ الذي قال عنه بأنه مات أيضاً وبأن روحه صعدت الى المكان الذي لا توجد فيه إلا الأرواح الإنسانية والتي ستتلاحم شيأ فشيأ مع الكل الرباني بعد أن تنسلخ عن طابعها الفرداني. ولكي يتم ذلك يلزمها اجتياز اختبار يزيل عنها دنسها ويسقط الشهوات اللاسقة بها وكل ماهو من قبيل رغباتها. لقد تم تهشيم الهوية وأصيبت ذاتُ المريض، لا محالة، من جراء الطعن الذي لحق بهويته. لكن هذا ما شاءت به الأقدار، بحسب شريبر. "فلا يمكنني  أن أقدم شهادة إلا على ما أوحي به إلي" يقول شريبر.(112)


وهكذا نرى، على طول هذه الحكاية، فليشسيغ وقد تلاشت أجزاؤه : فهناك من ناحية فليشسيغ الأعلى، فليشسيغ المنير، ومن أخرى ، جزء أسفل منه ذهب به الحال الى التفتت الى أرواح صغيرة يتراوح عددها ما بين الأربعين والستين.




إني أتخطى كثيرا من الأمور ذات قيمة وأرجو أن تعيروها الكافي من الإهتمام حتى يتسنى تتبعها في دقائقها. إن أسلوب شريبر هذا، مع ما يتميز به خطابه الهذائي من قوة لكفيل بأن ينبهنا إلى إلتقائه مع الفكرة التي تفيد بأن الهوية التخيلية للأخر ترتبط ارتباطا وثيقا مع إمكانية تفتتها وتمفصلها. أما إذا كان الأخر قابلاً بنيويا للإزدواج والتكاثر، فذلك ما يبدو واضحا جداً في الهذيان.




وهناك أيضاً تصادم هذه الصور فيما بينها لدى شريبر، بحيث نجدنا، من ناحية، أمام هويات متعددة لشخص بعينه، ومن ناحية أخرى هناك تلك الهويات الصغيرة والملغزة والتي تخلف أضرارا مختلفة الشدة بداخله والتي يسميها مثلاً بالرجال الأقزام. فلقد أثرت هذه التركيبات الهلامية كثيرا في خيال المحللين النفسانيين لدرجة جعلتهم يتساءلون بصصدها فيما إذا كان الأمر يتعلق حقاً بأطفال أو بحييات منوية أم هي أشياء أخرى. لكن لماذا لا نكتفي بكل بساطة باعتبارها مجرد رجالا أقزاما وليس غير؟


فهذه الهويات التي لها بالنسبة لهويته قيمة هيئة، تعمل على اقتحام شريبر فتَسْكنه ثم تقسمه على نفسه. فالفكرة التي يكونها عن هذه الصورالمختلفة، توحي له بأن هذه الأخيرة في تضاؤل مستمر وفي انقراض متواصل نظرا لإمتصاصها وابتلاعها داخل مقاومته الذاتية. ولا يمكن لهذه الصور أن تحافظ على استقلاليتها وما يعنيه ذلك من استمرارها في الإيذاء والإضرار به إلا إذا حصَلت العملية التي يسميها بعملية الإرتباط بالأراضي والتي لن يكون له بها علم إلا عن طريق ما يسميه باللسان المركزي.


وهذه الأراضي ليست مقصورة على الأراضي التي نطأها وإنما تعم أراضي الكواكب وأراضي النجوم. إنكم لتتعرفون هنا على هذا المجال الذي أسميته سابقا بمجال الكواكب عندما عرضت عليكم مربعي السحري. ثم إنني لم أبتكر هذه الفكرة بالمناسبة فقط وإنما لكوني أحدثكم منذ زمن عن وظيفة الكواكب في الواقع الإنساني. فيلس من دون سبب إن كان الإسم الذي يتم إعطاؤه لكوكبة ما، منذ الأزل وفي مختلف الثقافات، يلعب دورا أساسيا في بناء عدد من العلاقات الرمزية المركزية التي تبدو أكثر بداهة كلما وجدنا أنفسنا بصدد ثقافة أكثر بدائية كما يقال.


وهكذا، فكل جزء ينفصل عن الروح لدى شريبر، يتم ربطه في مكان آخر. وهنا يلعب إخوان كاسيوبي Cassiopée دورا كبيراً. كاسيوبي هو إسم إحدى فيدراليات الطلبة أثناء حياة شريبر الدراسية. إن ارتباطه بزمالة كهذه والتي أبان التحليل عن طابعها النرجسي وحتى الجنسمثلي، يشكل بصمة مميزة للسوابق التخيلية لدى شريبر.(113)


فمن الممكن تصور أنه حتى لا ينعدم كل شيء لدى شريبر، وحتي لا تنكمش وتنغلق على نفسها شبكة العلاقة التخيلية لديه دفعة واحدة، فتختفي في الظلام الدامس الذي كان شريبر بالقرب منه في البداية، كان لابد من ابتداعه هذه الشبكة ذات الطابع الرمزي والتي تحتفظ على نوع من ثبات ودوام الصورة داخل العلاقات البيإنسانية.


ولقد أسرف المحللون وبإطناب شديد في التفاصيل، في تأويل الدلالة التي تتعلق، من جانب الإستثمارات الليبيدية لدى المريض، بكون فليشسيغ يبدو مسيطرا تارة وأخرى يبدو على شاكلة صورة ربانية تتموضع بمختلف طوابق الإله، بحيث أن الله نفسه له طوابقه. فهناك الله السابق والله اللحق. بإمكانهم إذن تخيل إلى أي مدى ذهب المحللون في تفصيل وتدقيق كل هذا. طبعا، لا قد لا تفلت هذه المظاهر من تأويلات ممكنة، إلا أن هنالك مجالا يبقى مسيطرا بالنسبة لهذه المظاهر ومع ذلك لم ينتبه إليه أحد حتى الآن. فمهما بلغت هذه المظاهر من الغنى ومن الإثارة المسلية، ومهما بلغت من الليونة التي تمكن التوقف على مختلف الموضوعات في إطار اللعبة التحليلية، فهناك - وهذا هو الأهم - ظواهر سمعية متدرجة للغاية، تختلج هذيان شريبر من بدايته الى نهايته.


إنها تبدأ من الهمس الخفيف لتصل الى درجة خرير المياه عندما يتصادم شريبر ليلا بأحريمان. إلا أنه يقوم بتعديل ما صرح به قائلا بأن أحريمان لم يكن هناك لوحده. بل كان هناك أيضاً أورموزد، بحيث أنه لا يمكن الفصل بين إله الخير وإله الشر. فلقد كان شريبر إذن، لحظة ما، في تصادم مع أحريمان وهو يراه هذه المرة بعين البصيرة وليس بشفافية فوتوغرافية كما يحصل له خلال رؤيات مختلفة. فعندما كان في تقابل صدامي مع الله، قال له هذا الأخير القول الحق، القول الذي يرتب الأمور ويضع الأشياء في نصابها، لكونه الوحي الرباني في سموه وكماله. وماذا قال له ؟ لقد قال لشريبر بصفته الإنسان الوحيد الذي سيبقى بعد شفق العالم : "أنت جيفة".


ربما هذه الترجمة ليست مطابقة بكل دقة لكلمة Luder الألمانية. إنها الكلمة المستعملة في الترجمة الفرنسية وإن كانت أَقلَّ ألفة واعتياداً من مثيلتها الألمانية. إنه من النادر حقاً أن ننعت زميلا بكلمة "جيفة". فالكلمة الألمانية لا تتضمن فقط سمة الإنقراض والزوال وإنما تحتوي على ضمنيات تجعل هذه الكلمة تقترب من أخرى يحصل استعمالها للإشارة الى تأنيث المعني بالأمر. وهذه الكلمة التي يسهل التوقف عليها في إطار المحاورات الأخوية وهي كلمة نتانة Pourriture. النتانة اللطيفة.


المهم في الأمر هو أن هذه الكلمة التي تطغى على هذه المواجهة الفريدة مع الله هي ليست كلمة معزولة، ذلك أن الشتيمة أمر متواتر في العلاقات التي يربطها هذا الشريك الرباني مع شريبر. تماماً كما يحدث في إطار العلاقة الشهوانية عندما يرفض أحد الشريكين الإندراج مباشرة فيشرع في التمنع. إنه الوجه الآخر مما قد ينجم عن العالم التخيلي. فالشتيمة المبيدة تمثل إحدى أعلى قمم فعل الكلام. (114)


فكل سلاسل جبال مجاله الكلامي المتراصة والمنتظمة حول هذه القمة، يعمل شريبر على وصفها عن طريق عرض فائق الإقتدار. فكل ما يمكن لإختصاصي اللسانيات تصوره بخصوص تفكك اللغة، يمكن التوقف عليه فيما يحسه شريبر ويعانيه وما يعمل على إبرازه مع التوكيد على تنوع مستوياته ودرجاته، مما يضفي على المعلومات التي يقدما في كتابه وفرة وغنى.


فعندما يتحدث عن الأمور التي تنتمي الى اللسان المركزي والتي تنظم العلاقات التي تربطه بالكائن الواحد والوحيد، فإنه يفصل بين مجموعتين: من ناحية هناك ماهو Echt. وهي كلمة تصعب ترجمتها وقد تعني ماهو أصيل وحق. إن شريبر يتوصل به دوما على شاكلة أنماط لفظية تستحق الإهتمام وتتكون من عدة أنواع يتم الوحي بها كلها إليه. ومن ناحية أخرى هناك ما قد تم له حفظه عن ظهر قلب. لقد تم لشريبر حفظه مع غياب تام للمعنى وعلى شاكلة تكرار لفظي لبعض العناصر الجانبية من الجبروت الرباني وحتى الساقط منها. يضاف الى ذلك أنماط جد مختلفة من الإخراجات اللفظية  التي قد تمكننا من الوقوف على مختلف الأبعاد التي تتبلور خلالها ظاهرة الجملة ولا أعني ظاهرة الدلالة. 


إننا نقف هنا على وظيفة الجملة في حد ذاتها، من حيث لا تحمل بالضرورة معها دلالتها. وخير دليل على ذلك يكمن في ظاهرة الجمل المنبثقة من لا ذاتية شريبر وقد تم انقطاعها وتوقف استرسالها بحيث يبقى المعنى معلقاً. فعندما يتم النطق بجملة قد يحدث انقطاعها في الوسط، يصبح ما تبقى منها ضمنيا وفي حالة دلالة. إن انقطاع الجملة يتطلب نهاية ليست محددة وويمكن التقاضها ضمن تشكيلة جد ساشعة من الدلالات إلا أنها ليست أية دلالة كانت. فههنا يتم إعطاء القيمة والإعتبار للسلسلة الرمزية في بعدها الأسترسالي والمتواصل. إن ههنا، في علاقة ذات شريبر باللغة كما في عالمها التخيلي، خطر يكمن في إمكانية انحصار كل هذه التركيبة الهوامية في وحدة قد تؤدي بشريبر ليس الى زواله هو وإنما الى زوال وجود الله الذي هو لغة بالأساس. إن شريبر قد كتب ذلك قطعاً، قائلاً بأنه يلزم على الأشعة أن تتكلم ويتحتم عليها في كل لحظة إحداث مظاهر التسلية واللهو حتى لا يتم اختزال الإله في الوجود المركزي لذات المريض. إن هذا ليس بالأمر الهين، لكنه يبين بكل وضوح علاقة الخالق بمخلوقه. فإذا ما أزيلت هذه الوظيفة فلن يبق خلفها إلا العدم الذي هو بمثابة ردف لها.(115)


فالكلام قد يحدث أو لا يحدث. فإن حدث فذاك باختيار تعسفي من طرف الذات الى حد ما. فالذات هاهنا في محل الخالق إلا أنها أيضاً مرتبطة بالأخر، ليس بصفته موضوعاً أو صورة أو ظلاً لموضوع وإنما بالآخر في بعده الأساسي الذي نعمل دوما على تفاديه وتجنبه الى حد ما، بهذا الآخر الذي لا يمكن اختزاله إلى أي شيء آخر سوى الى ذات أخرى، بمعنى الآخر بكونه "هو". إن ما يميز عالم شريبر هو أن هذا "هو" قد تم فقدانه ولم يبق إلا "أنت".


إن مفهوم الذات يرتبط بوجود شخص أفكر بصدده قائلا : "إنه هو من فعل كذا". فليس هو الشخص الذي أُبصره أمامي وهو يتصرف وككأن الأمر لا يعنيه. إنما هو ذاك الذي ليس هنا. إن "هو" هذا، هو المجيب عن كينونتي وبدون هذا "هو" فليس بإمكان كينونتي أن تَكون أناً بصيغة ضمير المتكلم. فمأساة علاقة شريبر مع هذا "هو" تؤسس الإندثار الكامل لعالمه الذي يتقلص فيه "هو" الى مشارك واحد. إنه هذا الإله الغير متجانس ومتعدد الأجناس في آن واحد والذي مازال موجودا في العالم الذي يتعامل شريبر معه.


فبفضل هذا الإله حقاً، يبقى بإمكان شريبر أن يقول قولا حقيقيا، إلا أن هذا القول ميزته أنه دوما ملغز. إنها ميزة كل أقوال اللسان المركزي لدى شريبر. ومن ناحية أخرى فإن هذا الإله يبدو وكأنه ظل لشريبر. فهو مصاب بتقلص تخيلي على مستوى الغيرية مما يجعله، على غرار شريبر، مصابا بنوع من التأنيث.


وبما أننا لم نلتق بشريبر شخصيا، فإننا مضطرون على كل حال لدراسة حالته من خلال فينومينولوجيا لغته. فبطوافنا إذن حول ظاهرة اللغة وبالتحديد حول ظواهر اللغة المهلوَسة والغريبة والحدسية والمضطَهدة، فإننا سنعمل على استجلاء بُعد جديد من فينومينولوجيا الذهانات.




18 دجنبر 1956(116)








                         


الفصل الثامن: الجملة الرمزية




- مفهوم الدفاع.
- شهادة المريض.
- الإحساس بالواقع.
- الظواهر اللفظية.




سوف نتمكن جميعا من ولوج نص شريبر. إن حالة شريبر بالنسبة لنا هو نص شريبر. وإني سأحاول هذه السنة أن نتعرف على اقتصادية هذه الحالة بشكل أفضل.


إنكم لا محالة تحسون بالإنزلاق الذي يحدث رويدا رويدا داخل التنظيمات التفسيرية التحليلنفسية. لقد ذكرتكم سابقا بأن تفسير فرويد يرتكز على كون المريض شريبر يمر باقتصادية نرجسية أساساً. إنها فكرة جد ثرية ويلزمنا استخلاص كل تبعاتها. إلا أنه لم يتم استخلاصها في حينها فتم نسيان ما تفيده النرجسية عند النقطة التي توصل إليها فرويد في تنظيره عندما كتب حالة شريبر. وابتداءا من ذلك الحين، لم يعد بالإمكان اعتبار ما أتى به فرويد من جديد في هذا المجال بالمقارنة مع التفسير الذي كان معمولا به آنذاك.


سوف أرجع إلى أحد أولائك المؤلفين الذين أتوا بالأفكار الأكثر متانة بخصوص مسألة الذهانات وهو كاطان Katan. لقد أعطى هذا الأخير لمفهوم الدفاع مكان الصدارة. وبما أني أود ألا نكتفي بالتعليق على التعاليق السابقة، يجب الإنطلاق من كتاب شريبر نفسه كما يحثهنا فرويد على ذلك.


وبما أننا أطباء نفسانيون، أو بما أننا على الأقل مؤهلون انطلاقا من مشارب شتى في مجال الطب النفسي، فإنه من الطبيعي أن نقرأ بأعيننا كأطباء نفسانيين كي نكون فكرة عما يدور في حالة شريبر.






1




يجب عدم نسيان تطور مفهوم النرجسية في فكر فرويد. إننا الآن نستعمل مفهوم الدفاع بصدد أي شيئ، معتقدين أننا هكذا نستعيد ما ورد ذكره سابقا في عمل فرويد. صحيح أن مفهوم الدفاع لعب دورا مبكرا في هذا العمل، وأن فرويد منذ 1894-1895 قام باقتراح تعبير "الذهانات العصبية الدفاعية". إلا أنه استعمل هذا اللفظ في معنى جد محدد.


فعندما تحدث عن هستيريا الدفاع، فقد عمل على فصلها عن النوعين الآخرين للهستيريا. وهنا تكمن أول محاولة لوضع أول تصنيف تحليلنفسي حقيقي. فلترجعوا الى المقال الذي أشير إليه. فبحسب الموضة البلوليرية Bleulerienne، كان يتم اعتبار الأنماط الهستيرية بكونها نتاجا ثانويا للوضعيات التنمويمية الشكل. وهكذا تنجم هذه الأنماط عن فترة متميزة، فترة تنمويمية الشكل، يحدث أثناءها اضطراب في الوعي. أما فرويد، فهو لا ينفي وجود هذه الوضعيات التنمويمية، إلا أنه يقول فقط: "نحن لا نهتم بذلك. فليس ذاك ما نعتبره بمثابة السمة الفاصلة داخل تصنيفنا".


لذا، يجب علينا أن نتحقق مما نفعله عندما نقوم بالتصنيف. فبخصوص وردة على سبيل المثال، قد تبدأون بعدِّ ما يعرض على أبصاركم من العناصر الملونة والتي نسميها بَتَلة. وهكذا فإن الوردة، في كل الأحوال، تعرض على الناظر، عددا من الوحدات يمكننا عدها، مما يجعلنا آنذاك نقوم بتطبيق بدائي لعلم النبات. لكنكم إذا ما دققتم وأمعنتم النظر، فإنكم تدركون بأن ما تبصرونه ليس ببتلات وإنما هي فِصلات ولا تقوم بنفس الوظيفة طبعا. نفس الشيئ بخصوص مجالنا. فهناك مستويات مختلفة يتدخل فيها بشكل متشابك ما هو جسدي ونشأوي ووراثي وبدني ووظيفي. أما التصنيف، فلكي تكون له مصداقية فلابد أن يكون طبيعيا. لكن كيف يمكننا البحث ثم الحصول على هذه السمة الطبيعية؟


إن فرويد لم يرْمِ بالوضعيات التنمويمية الشكل، كما قلنا وإنما قال بأنه لن يعطيها أكثر مما تستحق، لأن ما يهمه في إطار الخبرة التحليلية وخصوصا في هذه الفترة من استجلاءاته الأولية، فهو شيئ آخر. فما كان يهمه بالأساس يتعلق بذكرى الصدمة. وهذا بالذات ما كان يعنيه لديه مفهوم هستيريا الدفاع.


لقد انبثق مفهوم الدفاع عنده ولأول مرة في إطار مجال التذكر والإضطرابات التي تحصل له. وكان ما يهم فرويد آنذاك يتعلق بما يمكن تسميته برواية المريض الوجيزة وإلى أي حد يمكن لهذا الأخير تبليغها عن طريق الكلام. وكما تعلمون فإن الآنسة أنّا أو. - والتي أعطاني أحدكم طابعا بريديا يحمل صورة لها عندما تُوجت بمرتبة ملكة المساعِدات الإجتماعيات - قد سمَّت هذه العملية "العلاج بالكلام".




وهكذا فإن هستيريا الدفاع هي هستيريا يُعبَّر عما يحدث فيها من داخل الأعراض وبواسطتها. ولهذا فإن ما يتعلق الأمر بصددها يكمن في إطلاق سراح الخطاب. وكما ترون، فليس هناك حتى الآن أثرٌ لمفهوم النكوص ولا لنظرية الغرائز في تنظير فرويد، في حين نلاحظ بأن التحليل النفسي بكامله متواجد هاهنا.(118)


من جهة أخرى، يقوم فرويد أيضاً بفصل نوع ثالث من الهستيريا، ميزته تكمن في كونه يتضمن مضمونا في انتظار التعبير عنه، إلا أن هذا التعبير لم يحصل  بعد على أي مستوى كان. ونظرا لما بلغه فرويد في تنظيره آنذاك، فإنه من المدهش حقاً لو تمكن فرويد من إدلالنا على المستوى الذي قد يحصل فيه هذا التعبير، ومع ذلك فإن معالم هذا المستوى بدت له مرسومة بكل وضوح.


إن عمل فرويد هذا جد مليء بمسائل تتنظر الحل، وهذا ما يسرني جداً. فكلما فتحنا مقالة لفرويد ليس فقط نجدها حملى بأشياء لم نكن نتوقعها وإنما أيضاً تتمتع بسهولة فائقة وبوضوح تام. في حين، ولا واحدة من هذه المقالات تفتقر لللآلئ التي تنتظر منا استكشافها. لذا يمكن القول بأن فرويد هو المفكر الوحيد الذي ابتكر، وهو على قيد الحياة، المفاهيم اللازمة لإقتحام وتنظيم المجال الجديد الذي عمل على اكتشافه. وكل هذه المفاهيم أتى بها فرويد مع ما يرافق كل واحد منها من أسئلة عالقة. فالأعذب عند فرويد هو أنه لم يجهد في ستر هاته الأسئلة عنا. وكل نص من نصوصه يحتفظ على طابعه الإشكالي بحيث أن قراءتنا لما جاء به فرويد تكمن أساسا في إعادة طرح الأسئلة العالقة.


أما بخصوص اضطرابات التذكر، فهي المجال الذي يلزمنا الرجوع إليه دوما كي نتوقف على الأرضية التي انبثق منها التحليل النفسي. وحتى وإن تم تجاوز هذه المعطيات ومر عليها الزمن، فإنه يلزمنا اعتبار وقياس المسافة التي تم قطعها منذ تلك الفترة. لذا قد يبدو غريبا ومدهشا أن نسمح لأنفسنا بتجاهل المعطيات التاريخية.


سوف لن أتابع بالتفصيل المسافة التي تم قطعها بين هاته المرحلة وتلك التي سيُدخل فيها فرويد مفهوم نكوص الغرائز. إنني تعرضت لذلك بما فيه الكفاية خلال السنوات الماضية بما يجعلني أكتفي بأن أقول لكم بأنه من خلال استجلائنا لإضطرابات التذكر وبإبتغائنا استرجاع الفراغ الذي يدور حوله سرد المريض لماضيه، وكذلك بتقصينا لما استحالت إليه أحداث حياته، تَوصلنا الى التمكن من ملاحظة أن كل هذه المضامين قد اختبأت في أماكن بعيدة عن توقعنا ولم تكن في حسباننا، بمعنى أنه يحدث ما حدثتكم به المرة السابقة، على شاكلة تنقل في السلوك.


وهكذا نلاحظ بأن الأمر لا يتعلق فقط بالوقوف على موقع الأحداث المخزونة في الذاكرة وكذا على تواترها الزمني كي تتم استعادة قسط من الزمن المفقود، وإنما يتعلق الأمر أيضاً بوجود أشياء تحدث على المستوى الموضعي. إن تمييز مستويات مختلفة كلية في عملية النكوص يبقى حاضرا إلا أنه هنا في حالة إضمار. وبتعبير آخر، فإن ما ننساه دائماً وأبدا هو أنه إذا ما احتل أمر ما باب الصدارة فذلك لا يعني أن أمرا آخر لا يحتفظ بثمنه وبقيمته في إطار النكوص الموقعي. فهاهنا تستقي الأحداث معناها السلوكي بالأساس.


وهكذا تم اكتشاف النرجسية. لقد أدرك فرويد بأن بعض التقلبات تقع على البنية التخيلية للعالم وبأنها تتفاعل مع التقلبات التي تحصل بالبنية الرمزية والتي يلزم تسميتها كذلك بحيث أن التذكر يحدث بكل تأكيد داخل النظام الرمزي.(119)


فعندما يفسر فرويد الهذيان بنكوص نرجسي لليبيدو، فيؤدي انسلاخ الليبيدو عن المواضيع الى انعدام موضوعاتي، فإن هذا يعني لديه، وفي حدود ما توصل إليه آنذاك من تنظير، بأن الرغبة التي يلزم التعرف عليها داخل الهذيان، تتموضع بمستوى مخالف تماماً لما هو عليه الحال بالنسبة للرغبة التي تصبو الى الإعتراف بها بداخل العصاب.


فإذا لم نتفقه ذلك، فلن نبصر أبدا ما يفصل الذهان عن العصاب، ولا لماذا نصطدم، بخصوص الذهان، بصعاب جلى عندما نحاول إعادة بناء علاقة ذات المريض مع الواقع، رغم أن الهذيان قد يكون جليا جداً. فهذا ما يمكننا قراءته، على الأقل، في بعض مقتطفات أعمال فرويد. وهي قراءة يجب تدعيمها وتعميقها عوض ما جرت به العادة. إن الهذيان واضح بالفعل ومقروء بدون عناء، إلا أنه مسطور بسجل مغاير للعصاب. إننا بخصوص العصاب نبقى دائماً داخل النظام الرمزي، بالإضافة الى ازدواجية المدلول والدال والتي هي بمثابة ما ترجمه فرويد بعبارة التسوية العصابية. أما الهذيان فإنه يحصل بمستوى مغاير تماماً. إنه واضح فعلا لكنه لا يفضي الى حل. فكيف يحصل ذلك؟ هنا نقف على المسألة الإقتصادية التي بقيت معلقة عندما أنهى فرويد كتابة حالة شريبر.


إنني أقول هذه الأمور بطريقة مجملة. فالمكبوت، في حالة العصابات، يعاود تمظهره في نفس المكان، في نفس المكان الذي تم كبته فيه، أي في وسط الرموز. ولكون الإنسان يندمج في هذا الوسط ويتعامل معه كفاعل وناشط، فإن المكبوت يتمظهر في نفس المكان مُقَنعا. أما المكبوت في الذهان، إذا ما كنا نفقه قراءة فرويد، يعاود الظهور في مكان مغاير، في التخيلي وبدون قناع. إن هذا لواضح جداً وليس بجديد ولا بمبتَدع وإنما يلزم الإدراك بأنه نقطة الأساس. ففي الفترة التي وضع فيها فرويد نقطة النهاية لدراسته حول شريبر، بقيت المسألة أبعد من أن تجد حلا. بل بالعكس، أخذت المشاكل تتفاقم انطلاقا من هذه الفترة.


وبعد فرويد، حاول بعضهم حمل المسألة على عاتقهم. إقرؤوا كاطان Katan مثلا، إنه حاول إمدادنا بنظرية تحليلية للفصام، تجدونها في المجلد الخامس من مؤلف "التحليل النفسي للطفل". وبقراءته تتجلى لنا المسافة التي تم قطعها حتى الآن في التحليل النفسي.


لدى فرويد، تبقى مسألة مركز الذات دائماً مفتوحة. ففي تحليله للعظام مثلا، نراه يتقدم خطوة خطوة، كي يبين كيف يتطور لدى الذهاني اضطراب ليبدي في أساسه، وهذا الإضطراب هو عبارة عن لعبة معقدة لمجموعة رغبات متراكمة وقابلة للتحويل وللتغيير، وأيضا قابلة للنكوص كذلك. أما مركز كل هذه الجدلية فيبقى لدينا دائماً مشْكِلا. إلا أن المنعرج الذي حدث في التحليل النفسي إبان وفاة فرويد، أدى الى الرجوع الى ذلك المركز المتمادي في القدم. إنه الأنا الذي يشد بزمام الأمور ويقود عملية الدفاع. وهكذا أصبح الذهان لا يؤول انطلاقا من الإقتصادية المعقدة لدينامية النزوات، وإنما انطلاقا من الأسلوب المستعمل من طرف الأنا حتى ينجو بنفسه أمام المتطلبات المختلفة وحتى يدافع عن نفسه أمام النزوات. وهكذا يعود الأنا ثانية، ليس فقط ليصبح مركز الذات فحسب وإنما أيضاً منبع الإضطرابات كذلك.(120)


إنطلاقا من هذا الإعتبار، لم يبق للفظ الدفاع من معنى سوى ما يحصل عليه عندما نتحدث عن مقاومة إغراء ما. وهكذا يتم تفسير كل جدلية حالة شريبر انطلاقا من المجهودات التي يبذلها أناه كي ينجو أمام نزوة تمت تسميتها جنسمثلية وقد تهدد اكتماله. وكذلك فإن الإخصاء لم يبقَ له هنا من معنى آخر سوى ما يدل على فقدان الكمال العضوي. ويقال لنا من دون تردد بأن الأنا، نظرا لفقدانه إمكانية الإرتباط بالعالم الخارجي كي يستخدم دفاعه ضد النزوة القابعة في الهوَ، يجد في حوزته إمكانية أخرى تكمن في اختراع هذه التكوينة الجديدة المتمثلة في الهلوسة والتي هي عبارة عن ردة فعل مغايرة من أجل تغيير فحوى نزواته الثنائية. إنه تصعيد على طريقته الخاصة، لكنه تصعيد تكتنفه مساوئ جلى.


إن تقلص هذا المنظور مع ما يتخلل هذا التفكير من نواقص عيادية، يلفت النظر بشدة. أما فيما إذا ما كانت هناك صيغة تخيلية لتلبية دافع الحاجة، فذلك ما تركز عليه النظرية الفرويدية. إلا أن هذه الصيغة لا يتم اعتبارها إلا بصفتها عنصرا في نشأة وتحديد المظاهر. إن فرويد لم يعمل أبدا على تحديد الذهان الهلاسي اعتمادا على نموذج الهوام وحده كما قد يحصل للجوع الذي يمكن إشباعه بواسطة الحلم لا غير. فالهذيان لا يتجاوب أبدا مع نهاية من هذا القبيل. إلا أن الإختصاصيين يبتهجون دائماً لمَّا يقفون على ما قد سبق لهم تصوره. فعلى هذا المنوال يتم ابتكار كل عالم الموضوعات الإنسانية بكامله، كما يعلمنا فرويد بذلك. ونحن أيضاً نجدنا نحس بارتياح شديد لما نتوقف على بعض مضامين العصاب الرمزية بداخل الذهان. وهذا ليس من غير المشروع، إلا أنه يجب الإعتراف بأن ذلك لا يغطي إلا جزءا يسيرا من المشهد.


فبالنسبة لشريبر، كما هو الحال بالنسبة للجنسمثليين، يمكن تلخيص التغير التخيلي للدفعة الجنسمثلية لديه في تكوين الهذيان الذي يجعل من ذات المريض إمرأة الله، ويجعل منها وعاءا للإرادة وللسلوكات الربانية القويمة. إنها خطاطة مفحِمة بما فيه الكفاية وبالإمكان الوقوف بداخل نص شريبر ذاته، على تبرير لهذه الخطاطة بواسطة تعابير بالغة الرقة والأناقة في تدرجها. فضلا عن ذلك، فإن التمييز الذي قدمتكم إياه المرة السابقة بين تحقيق الرغبة المكبوتة على المستوى الرمزي في العصاب، و تحقيقها على المستوى التخيلي في الذهان، هو كاف الى حد ما، لكنه لا يرضينا كلية. لماذا؟ لأن الذهان لا يقتصر على هذا فحسب. إنه ليس عبارة عن نمو علاقة تخيلية وهوامية مع العالم الخارجي فحسب.


إن مبتغاي اليوم لا يعدو أن يجعلكم تتفقهون شماخة المسألة.(121)


فهل في حديث هذا الشخص الفريد - الذي هو شريبر والذي ستنبعث الإنسانية ابتداءا منه بولادة جيل شريبيري جديد - مع شريكه الملغز والذي هو الرب الشريبيري أيضاً، يكمن كل ما في الهذيان؟ طبعا لا. فالهذيان ليس أوسع من ذلك وإنما أيضاً يستحيل فهمه كلية من هذا الجانب فقط. فإنه لمن المدهش أن نكتفي بتفسير جزئي الى هذا الحد لظاهرة عظمى كالذهان وذلك بعدم الأخذ إلا بما هو جلي من الأحداث التخيلية. فإذا ما كنا نريد التقدم في فهم الذهان، فيلزمنا بالتأكيد تركيب نظرية تبرر تكتل و ثقل هذه المظاهر التي ساعطيكم بعض الأمثلة عنها هذا الصباح.






2




سوف نبدأ من النهاية وسنحرص على فهم الأشياء بشكل تقهقري. فإن أنا اعتمدت هذه الطريقة فليس ذلك من باب التكلف والإصطناع في العرْض وإنما لأنها تتوافق وتتطابق مع المادة التي هي بين أيدينا.


فهاهو شريبر وقد أصابه المرض من 1883 الى 1884، نعِمَ بعدها بثماني سنوات براحة البال. إلا أنه مع بداية السنة التاسعة بعد بداية الأزمة الفائتة، عاوده المرض فدخل المصحة التي تم علاجه فيها المرة السابقة والتي يديرها الدكتور فليشسيغ. وسيبقى فيها حتى منتصف يونيو 1884. إن حالته جد معقدة وبالإمكان القول بأن ظاهرها العيادي يغلب عليه خلط هلاسي بل وذهول هلاسي. إنه سيعطينا لاحقا على كل ما خبره آنذاك، تقريرا ملتو ومعقد بكل تأكيد. إننا نستعمل هنا لفظ الخلط كي نصف الطريقة الضبابية التي اعتمدها شريبر أثناء تذكره بعض الحوادث. إلا أن جوانب أخرى، وبالخصوص علاقاته الهذائية مع مختلف الأشخاص المحيطين به، لم يتم إتلافها أو خلطها، الشيئ الذي مكنه من استعادة ذكريات دقيقة وصحيحة عنها. ومع ذلك، تبقى هذه الفترة من أكثر الفترات غموضا في ذهانه. لاحظوا جيدا أنه لايمكننا التعرف على هذه المرحلة من ذهانه إلا من خلال الهذيان. السبب في ذلك هو أننا لم نكن متواجدين هناك آنذاك وأيضاً لأن شهادات الأطباء بخصوص هذه الفترة الأولى تبقى هزيلة. إلا أن شريبر كان لا محالة يتذكرها جيدا عندما كان بصدد الكتابة عنها مما أدى به الى تحديد فروقات وتمايزات وبالخصوص الى معاينة تحول مركز انتباهه الى علاقاته الشخصية مع الأرواح.


فهذه الأرواح ليست بكائنات إنسانية ولا بالأشباح التي كان له أمر بها وإنما هي كائنات إنسانية ميتة له بها علاقات جد خاصة، مرتبطة بمختلف إحساسات التغيرات والإنضمامات والإقتحامات والتبدلات الجسدية. إنه هذيان تلعب فيه نغمة الألم دورا مهماً. فأنا هنا لم أنطق بعدٌ بلفظة "مُراق" hypocondrie التي مازالت بمستوى لفظة فضفاضة في قاموسنا ولهذا أكتفي بوضع الخطوط العريضة فقط.(122)


فمن وجهة النظر الفينومينولوجية، ومع كل الإحتياطات اللازمة، يمكن افتراض بأن هاهنا حالة يمكن تسميتها بغسق العالم إذ لم يَعُد شريبر بصحبة كائنات واقعية. إن تعبير "عدم البقاء مع" يحظى هنا بطابع متميز، ذلك أن شريبر يتواجد مع عناصر أخرى أكثر إرباكا له ويشكل الألمُ النبرة الغالبة على العلاقات التي تربطه بهذه العناصر والتي تتضمن افتقاده لإستقلاليته. إن هذا الإضطراب العميق والغير متحمل من طرف شريبر، يدفع به الى سلوكات عدة يدلنا عنها بكيفية مُعتَّمة بالضرورة. إلان أننا نستوضح هذه السلوكات من خلال الكيفية التي تمت معاملته بها. لقد وُضِع فعلا أثناء استشفائه تحت رقابة مستمرة وكان يتم حبسه ليلا في زنزانة ويمنع من كل عُدَّة أو أداة. وفي فترة كهاته نجده في حالة مرض حادة وجد خطيرة.


بعد ذلك حدث لديه تحول، كما يقول، حوالي فبراير-مارس 1894. فلقد حل لديه محل الأرواح التي كان يحاورها وهو عرضة لإقتحام جسده أو تفككه، ما سماه بملكوت الأرواح اللاحقة. آنذاك حدث لديه حدس استعاري لما هو خلف الظواهر. أنذاك يتمظهر له هذا الملكوت بكيفية مزدوجة، أي على شاكلتي أورموزد وأحريمان. وكذلك تظهر له الأشعة الصافية النقية والتي تتصرف بكيفية مختلفة عن الأشعة المسماة بالمفحوصة لكونها أشعة دنسة. إن شريبر يعبر لنا هنا عن الإرتباك العميق الذي تُحدِقه به آثار هذا الصفاء المفترض وهي أثار لا يمكن إرجاعها إلا الى نية ربانية تحميه من الإضطراب المترتب عن عناصر تنطلق من الأرواح المفحوصة. فهذه العناصر هدفها هو مغالطة وإرباك الأشعة الصافية كي تتمكن من استجلاب واستغلال قوتها حتى تتمكن من اعتراض وصولها الى شريبر.


إن منهجية الأغلبية الساحقة من هذه الأرواح المليئة خُبثا، قد تم وصفها بكل دقة من طرف شريبر، وبالأخص منهجية مُتصدِّر القائمة، المتجسد في شخص فليشسيغ الذي يقوم بتقسيم روح شريبر وبعثرة أشلائها في الفضاء الشاسع والفاصل بين شريبر وإلهه المبتَعِد. "إني من هو مبتعد": نجد هذه العبارة التي تحمل صدى إنجيلي، في ملاحظة هامشية ضمَّنها شريبر ما يفدي به الله إليه سرّاً. وهكذا فإن الإله بالنسبة لشريبر ليس مَن هو كائن وإنما من هو ... مبتعد جداً.


أما الأشعة الصافية فهي تتكلم. إنها متكلمة بالأساس. فهناك ترادف بين كلمات أشعة، أشعة متكلمة، أعصاب الإله، إضافة الى كل الأشكال الخاصة التي يمكن لهذه الأشعة اتخاذها وصولا الى أشكالها الخارقة ومن بينها الِمقَص.(123)




فكل هذا يوازي ويقابل مرحلة يغلب فيها ما يسميه شريبر ب "اللسان الأعظم" La grundsprache. إنه نوع من لسان ألماني جليل ورفيع النكهة، يميل الى التعبير بالتلميح وبقلب المعنى. فالعقاب مثلا يسمى ثواباً، وبالفعل يمكن القول بأن العقاب في صيغته الخاصة لدى شريبر عبارة عن ثواب. وعلى كل، سوف نرجع الى أسلوب هذا اللسان المركزي كي نعيد فتح ملف المعنى المتناقض للكلمات البدائية.


فبخصوص هذا الموضوع، يستمر سوء تفاهم كبير حول ما أدلى به فرويد الذي كان فقط من سوء حظه الإستشهاد بأحد اختصاصيي اللسانيات لم يكن عالي الرتبة لكنه، والحق يقال، توصل الى أمر حق. إنه آبيل Abel. ولقد قدم لنا السيد بينفنيست بهذا الصدد مداخلة قيمة مفادها أنه ليس من الممكن في أي نسق دلالي signifiant، تواجد كلمات تفدي كل واحدة منها في نفس الحين الى أشياء متضادة. فحيث ما وجدت كلمات، فلقد تم وضعها بالتأكيد على شاكلة أزواج متناقضة. ولا يمكن للكلمة الواحدة أن تضم بين ضلوعها قطبين متعاكسين. أما إذا نحن درجنا الى مستوى الدلالة signification، فهذا شيئ آخر. وهكذا، ليس لنا أن نندهش أمام إطلاق اللفظ اللاتيني Altus على بئر عميق، ذلك أنه بالنظر الى نقطة الإنطلاق العقلي التي كان عليها اللسان اللاتيني، كما يقول بينفنيست، فإن نقطة الإنطلاق تبدأ من عمق البئر. ويكفينا أن نفقه بأنه يتم تسمية يوم الحساب في الألمانية بيوم الحساب الفتي Jüngstes Gericht. أما في فرنسا فليست هي الصورة المتداولة. فنحن فعلا نقول "مولودك الأخير" ونعني بذلك أصغر المواليد. أما يوم الحساب فيوحي لنا بالشيخوخة.


في سنة 1894 تم نقل شريبر الى مصحة بييرصون Pierson بكوسفيتز Koswitz حيث بقي خمسة عشر يوما. إنها مصحة خاصة والوصف الذي تركه بصددها يظهرها، إن أمكن القول، جد مشَوِّقة. فمن وجهة نظر المريض نتعرف على سمات للمصحة قد تسلي من بقي لديهم ميل للفكاهة. إنه وصف لمصحة خاصة مع ما طبعها من إهمال كبير لم يستر شريبر عنا منه شيئا. إلا أن شريبر لم يقبع بها طويلا حيث تم نقله الى أقدم وأجَلّ مستشفى بألمانيا، وهو مستشفى بيرنا Pirna.


فقبل مرضه الأول كان يقطن في شيمنتز Chemnitz، وتم توظيفه في لايبزغ Leipzig. ثم قبل سقوطه في المرض مرة ثانية، تمت ترقيته في دريسد Dresde الى مرتبة رئيس لمحكمة الإستئناف. ومن دريسد نقل الى لايبزغ لمعالجته. أما كوسفيتز بالنسبة للايبزيغ، فتوجد في مكان ما من الجهة المقابلة على نهر الإلب Elbe. وهكذا فإن المكان الذي سيقضي فيه مدة عشر سنوات من حياته هو في عالية نهر الإلب.(124)


فعندما دخل مستشفى بيرنا، كان لايزال مريضا جداً ولم ينطلق في كتابة مذكراته إلا ابتداءا من 1897-1998 وبما أنه كان في مستشفى عمومي، الشيء الذي يؤدي الى بعض من التماطل الإداري في أخذ التدابير، فلقد استمر حجزه ليلا فيما يسمى بنزهة المعتوه حيث كان يرافقه في علبة صغيرة من حديد أبيض، قلم رصاص ونتف أوراق أخذ يخط عليها ملاحظات مقتضبة أَطلق عليها إسم الدراسات الوجيزة. فهناك بالفعل، زيادة على المؤلف الذي خلفه لنا، ما يناهز الخمسين دراسة وجيزة يشير إليها ويستشهد بها بين الفينة والأخرى. إنها عبارة عن ملاحظات خطها في تلك الفترة ووظفها فيما بعد كمادة خام لتأليف كتابه. فمن الجلي أن نص الكتاب الذي لم يبدأ كتابته إلا ابتداءا من سنة 1898 والذي أسترسل في كتابته حتى سنة 1903 - وهي الفترة التي تم فيها إطلاق سراح شريبر، يتضمن الكتاب محضرا عن الإجراءات المختلفة من أجل ذلك - يشهد بكل يقين وبكل قوة عن الوضعية النهائية للمرض. وماعدا ذلك، فنحن لا نعلم متى توفي شريبر. فأما ما لنا به علم فهو أن المرض عاوده سنة 1907 وتم استقباله مرة أخرى في مصحة، وهذه إشارة من الأهمية بمكان.


سوف ننطلق من الفترة التي كتب فيها شريبر مذكراته. إن ما سيشهده انطلاقا من هذه الفترة، به من الإشكال ما يجعله يستقطب اهتمامنا. وإن كنا لن نتمكن من حل مشكل الوظيفة الإقتصادية لما أسميته فيما قبل بظواهر الإستيلاب اللفظي - ولنسميها مؤقتا بالهلاوس اللفظية - فإن ما يهمنا هو ما يميز وجهة النظر التحليلية في تحليل الذهان.






                                           3




أما من وجهة نظر الطب العقلي المتداول فإننا لم نتقدم قيد أنملة. فبخصوص الفهم الحقيقي لإقتصادية الذهان، فإننا إذا ما قرأنا التقرير الذي أنجز حوالي 1903 حول مرض التخشب - عاودوا التجربة بأنفسكم واختاروا واحدا من الأعمال الجادة آنذاك - سنتبين بسرعة بأنه لم يتم التقدم ولو خطوة واحدة في تحليل هذه الظواهر. أما إذا ما كان هناك شيئ يمكن به تمييز وجهة نظر التحليل النفسي، فهل يكمن، بخصوص ههلوسة لفظية مثلا، في التساؤل فيما إذا كان المريض يسمع قليلا أو كثيرا، أو إذا كان ما سمعه حادا، أو على شكل انفجار أو إذا ما كان قد سمعه بأذنه أو بداخله أو بقلبه أو في بطنه؟




إن هذه الأسئلة الجد مهمة تنطلق من المنظور الطفولي الى حد ما والذي مفاده إجمالا بأننا نجدنا جد مندهشين لكون شخص ما يسمع أشياء لا نسمعها نحن. إننا نتصرف هنا وكأننا معصومين من تلك الرؤيات التي تحدث لنا في كل لحظة، وكذلك مما تختلج أنفسنا من تعابير قد تكتسي قيمة أخاذه لِكياننا، بل وقد تكون في بعض الأحيان خاطفة لعقولنا وموحية لمصائرنا لكننا، بطبيعة الحال، لا نعامل ولا نستغل هذه الرؤيات وهذه العبارات كما يفعله الذهاني بصددها.(125)


إن هذه الأشياء تحصل في النسق اللفظي ويتم الإحساس بها من طرف المريض وكأنها مسموعة منه. فإذا ما نحن ركزنا اهتمامنا قبل كل شيء، كما تعلمنا على صفوف المدرسة، على ما إذا كان الأمر يتعلق بإحساس أو بإدراك أو بتفهم أو بتأويل، وبالإجمال، إذا ما توقفنا عند مستوى العلاقة الأولية بالواقع، فإننا لا محالة نفتقد قيمة ما يعنيه الأمر هنا بالكامل. فبخلاف نظرية تؤكد على التدرج من الإحساس، مروراً بالإدراك ثم الوصول في النهاية الى السببية وتنظيم الواقعي، فإن الفلسفة، منذ مدة وعلى أقل تقدير، منذ كانط Kant، تعمل كل ما في وسعها من أجل تنبيهنا الى تواجد مجالات مختلفة للواقع وبأن المشاكل تتموضع وتنتظم بمستويات مختلفة أيضاً. لذا فإن الأهم قد لا يمكن في محاولة معرفة ما إذا كان هناك قولًُُُ تم سماعه أم لا. فلن نحصل من هذا المنحى على نتيجة تُذكر.


فماذا يقدمه لنا المرضى في أغلب الأحيان يا ترى؟ إنهم في الغالب لا يأتونا إلا بما نطلبه منهم، أي بما نقترح عليهم الإجابة به نحونا. إننا، بخصوص ما يختبرونه، نسارع الى إقحام تقسيمات وقوالب لا تهمهم هم وإنما تخدمنا نحن. لذا فإن الطابع التسلطي والخارجي للهلوسة اللفظية يتطلب التوقف عليه انطلاقا من الكيفية التي يَرُد بها المريض. فإذا لم نشدد في التأثير عليه بتركيزنا على مَسامعه تباعاً للإعتقاد بأن السماع يحصل بالأذنين، فيجب الأخذ بأن الهلوسات الأكثر حسية تبقى مجرد هلوسات ويجب أن تعتبر كذلك. في حين أن هلوسات أخرى لا تقل قوة إدراكها الباطني، يكون لها عند الذات طابع جد فاصل مما يزيدها يقينا.


إن التمييز الذي قدمته في بداية حديثنا بين المعتقدات الراسخة واليقينية وبين الوقائع في حد ذاتها هو ما يهم بالأساس، وهو ما يقودنا الى تصنيفات ليست في نظرنا نحن المحللين بما فوق بنيوية وإنما هي بنيوية بالذات. إن هذا لأمر يعنينا نحن كمحللين بالتحديد لأننا، على خلاف العياديين الآخرين، على علم بأن الكلام متواجد بيننا سواء نطقناه أم لم ننطقه. إنه دوما موجود هاهنا في منظومة قد تمت تَأْرختها، وتم ضمها داخل شبكة الأزواج والمتضادات الرمزية.


لقد يظن البعض أنه من اللازم استعادة بناء معاش الفرد وكذلك استعادة تتابع الصور المسقطة على شاشة ذاته، حتى يمكن تحديد هذه الذات في ديمومتها، على الطريقة البيرجسونية. إلا أن ما نتوصل اليه عياديا ليس أبدا على هذا المنوال. إن استرسال كل ما عاشته الذات منذ نشأتها لا يصبو أبدا لمعاودة بروزه. وعلى كل، فليس هذا ما يهمنا بتاتا. أما ما يهمنا فيكمن في النقاط الفاصلة والمحدِّدة في التركيبة الرمزية وفي التاريخ بالمعنى الذي تقصدونه عندما تتحدثون عن تاريخ فرنسا مثلا.(126)




في أحد الأيام، كانت الآنسة دو مونبونسسيه بين المتارس. وربما كانت تتواجد هناك صدفة. إلا أن وجودها هناك حظي بمعنى معينا، وهو المعنى الذي تم الأخذ به وتم تسجيله في التاريخ الرسمي. في اللحظة ذاتها، يكون المعنى حقيقيا الى حد كبير، لكن بداخل التاريخ الرسمي، يكتسب هذا المعنى طابع الحقيقة الكاملة والذي قد يكتسبه منذ الوهلة الآولى أو من جراء تريتبات لاحقة.


ولهذا فإن مانسميه الإحساس بالواقع عندما يتعلق الأمر باستحضار الذكريات، يبقى شيئا مبهما، لأن هذا الإستحضار يتبلور في إطار استمرارية تاريخية. فليس ذاك لوحده ولا هاته بمفردها ما يضفي هذه الصبغة الواقعية وإنما كلاهما في تظافر مفعولهما المزدوج. بل وأكثر من ذلك، فإن اقتران هذين المستويين، يخلف أيضا الإحساس بتفكك الواقع. ففي مجال الوجدان، ما هو إحساس بالواقع هو أيضا وفي نفس الوقت إحساس بما هو غير واقعي. وما هذا الإحساس بما هو غير واقعي إلا دليل على التواجد في الواقع، وإن كان ينقص هذا التموقع مقدار ذرة. إن الإحساس بما "قد سبقت رؤيته" le déjà vu، والذي اصطدم النفسانيون بصعوبات جمى بخصوصه، يمكن اعتباره بصفته جناسا لما نحن بصدده وذلك لأن المفتاح الرمزي هو ما يصلح دوما لفك محتواه. إن "ما قد سبقت رؤيته" يحصل دائما عندما يتم اجتياز حالة حياتية تطغى عليها دلالة رمزية بامتياز، تعيد تكرار حالة رمزية مشابهة تم نسيانها بعد اختبارها في السابق، ثم تطفو وتنتعش هكذا من دون أن أن يكون لصاحبها وعي بسوابقها وتوابعها. فهذا ما يترك لدى الفرد إحساس بأنه قد رأى في السابق ما يحدث الآن. إن ظاهرة "ما قد سبقت رؤيته" تقترب كثيرا مما تدلنا عليه الخبرة التحليلنفسية بخصوص "ما قد سبق الحديث عنه". فهما يتموضعان على نفس المستوى إلا أن الفرق بينهما هو أن "ما قد سبق الحديث عنه" يتعلق في الواقع ما لم يتم الحديث عنه بعد في التحليل.


فإذا ما كنا نسلم بوجود اللاشعور على الشاكلة التي عمل فرويد على صياغتها، فإنه يلزمنا افتراض بأن هذه الجملة أو هذه التركيبة الرمزية (اللاشعور)، تغطي بنسيجها معيش الإنساس برمته. إنها دائما متواجدة، على صيغة مضمرة الى حد ما وهي بهذا تشكل أحد العوامل الأساسية في انضباط وتوافق الإنسان. أما إن كان اللاشعور يفعل فعله رغما عن تحكم فكرنا فيه، فهو ما تم اعتباره هراءا ولزمن طويل. لكن هذا افتراء لا قيمة له بيننا، ذلك لأن تعبير "فكرة لاشعورية" في حد ذاته، لا يعني شيأ آخر.(127)


فعندما استعمل فرويد في كتابه "تفسير الأحلام" عبارة "الفكرة اللاشعورية" مضيفا اليها عبارة sit venia verbo، فإنه يؤكد على أن كلمة "فكرة" تدل على أن الشيء تتم صياغته وتركيبه لغويا. فإن بقينا بمستوى كتاب "تفسير الأخلام" فليس هناك من تأويل لهذه العبارة غير هذا الذي أقدمه.


ومن الممكن أن ننعت هذه اللغة بأنها لغة داخلية. إلا أن هذا النعت يساهم في تضليلنا. فهذا الحديث الفردي الذي نظنه باطنيا هو في ارتباط مستمر ومتواصل مع الحديث الخارجي ولهذا السبب يمكننا القول بأن اللاشعور هو أيضا خطابالآخر. إلا أن ماهو مسترسل، لا يكون كذلك في كل حين. وعلى هذا المستوى يلزمنا البدء في قول ما نود قوله، والإتجاه الى ما نصبو اليه مع التمكن من تصحيح ما تم إتلافه منه. ليكن في علمكم بأن هناك قوانين رمزية بالأساس، تصبغ بنية كل حساب، فتتجلى في عمليات الفصل بين المعاني أو تعليقها أو إيقافها. إنها قوانين تحول فعلا دون تسجيل الكلام الداخلي على شاكلة متواصلة. فهذه البنية العالقة بمختلف التصرفات المعتادة، هي بالأساس بنية اللغة   أو طابعها المتجمد.


أما ما يهم الإنسان، فهو أن يتمكن من التعايش مع هذا التعديل المستمر، بحيث لا يشغل باله أكثر من اللزم. ولهذا الغرض يتم تدبير الأمور لديه بشكل يدفع بوعيه الى عدم الإهتمام بذلك. إلا أن الإقرار بوجود اللاشعور يعني أن التعديلات الذي تطرأ على الحديث الداخلي، وإن تفادى المرء الإنتباه إليها، فإنها لابد حاصلة. وليس هناك من معنى آخر ممكنا يمكن إضفاؤه على اللاشعور الفرويدي غير هذا. وإن لم يكن كذلك، فإن اللاشعور الفريدي يصبح عبارة عن مسخ ذي ستة أرجل، لا يمكن استبطان كنهه بالمرة. ويبقى، على كل حال، مبهما كلية داخل الإستقصاء التحليلي.
                      
 وبما أن وظائف الأنا في حد ذاتها تشغل بال الباحثين الآن، فلنقل بأنه من بين مشاغل هذا الأنا هو ألا يصبح مسموما بهذه الجملة التي هي في استرسال مستمر والتي لا تتوخى إلا البزوغ بآلاف الأشكال المقنّعة الى حد ما والمنغِّصة. بمعنى آخر، إنه يجب الأخذ حرفيا بالجملة الإنجيلية التي تقول: “إن لهم آذان كي لا يسمعون”. فوظيفة الأنا هذه، مفادها أن تعفينا من سماع هذه التركيبة اللغوية التي تنظم أفعالنا وكأنها أفعال منطوقة وملفوظة. وهذا ليس بمقتبس من تحليل الذهان ولا هو من أجل البرهنة، مرة إضافية، على المسلمات الفرويدية وعلى المفهوم الفرويدي لللاشعور.


ففي هذه الظواهر الذهانية، ولنسميها مؤقتا بالمساخية، يبدو ذلك فيها جليا. ولن أجعل من هذه المسألة العارض الأساسي في الذهان على غرار ما فعلته سابقا بالنسبة للعنصر التخيلي. لكننا ننسى كثيرا بأن هذه الجملة وهذا المونولوج وهذالخطاب الداخلي الذين حدثتكم عنهم، يبدون بكل جلاء، وبالكيفية الأكثر تركيبا في حالات الذهان. إننا أول من تمكن من تحديد ذلك لكوننا، الى حد ما، على استعداد لإستقباله والإنصات إليه. (128)


لذا ليست لنا من حجة تجعلنا نمتنع عن التعرف على هذه الأصوات في اللحظة التي يعبر المريض عنها بكونها جزءا لا يتجزأ من معيشه اليومي.






4




(لاكان يقرأ الصفحة 248 من مذكرات شريبر.)




هذا ما يقوله لنا المريض في إضافة استذكارية لمذكراته. إن تباطأ الجملة مع مر السنين، يرجع بحسبه وبصفة استعارية، الى المسافة الشاسعة التي انزوت إليها الأشعة الإلهية. فليس هناك إبطاء فقط وإنما إمهال وتوقيف وتأجيل. إنه بالنسبة لنا، ذو دلالة كبرى أن تتنوع وتتطور على مر السنين، الفينومينولوجيا التي تتمظهر من خلالها الشبكة المسترسلة للخطاب، وأن يتم فيما بعد إفراغ المعنى من فحواه بعد أن كان جد ممتلئ. زد على ذلك أن الأصوات التي تصل الى شريبر، تُصدر تعاليق من الغرابة بمكان كمثل: “كل لا-معنى ينعدم”.


إن بنية ما هو بصدد الوقوع، جديرة بألا نعمل على إغفالها. وسأعطيكم مثالا على ذلك: إن شريبر يسمع “ينقصنا الأن..” بعدها تنقطع الجملة ولا يسمع شيأ آخر. لكن هذه جملة تحوي المعنى الضمني التالي: “ينقصنا الآن التفكير المركزي”. ففي جملة مبتورة، لكنها مترتبة بصفة دقيقة نحوياً، تتواجد الدلالة بها دوماً على شاكلتين : وكأنها منتظَرة من ناحية، إذ تم تعليقها. ومن ناحية أخرى وكأنها مكرَّرة بحيث يتم إرجاعها دوما الى إحساس يومئ الى أن سماعها قد تم حصوله مسبقاً.




وبما أننا نفتتح مجال تحليل اللغة، فمن الصائب الإهتمام شيئا ما بتاريخ اللغة. فاللغة ليست مسألة طبيعية. أما التعابير التي تبدو لنا قائمة بذاتها فإن ترتيبها يحصل على مستويات حسب درجة ارتكازها. إن الأصوات التي تشغل بال شريبر بخطابها المسترسل، يمكن اعتبارها اختصاصية نفسانبية. إذ أغلب ما تقوله هاته الأصوات يخص “إدراك معاني الأرواح”، بمعنى أن ما تقوله يتعلق بسيكولوجية الإنسان. إنها تأتيه بمختلف أنماط التفكير. تنطق بها في حضرته مبرزة المنتظم منها. إن لهذه الأصوات منظورها في السلوكات وكأنها في ذلك بلغت المرحلة القصوى لما تصبو اليه المدرسة السلوكية.(129)


وكما يتم الإنكباب في الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي على محاولة تفسير الكيفية اللائقة التي يتم من خلالها إهداء باقة ورد لفتاة شابة، فإن لهذه الأصوات، بالمثل، أفكار محددة عن الكيفية التي يلزم على الرجل والمرأة التحلي بها قبالة الآخر، وحتى عن كيفية اقتسامهما فراش النوم. لقد بقي شريبر أمام ما أتت به تلك الأصوات في حيرة وذهول، قائلا بأنه “قد شِيئ للأمور أن تكون كذلك، إلا أنه لم ينتبه الى ذلك من قبل.” وهكذا ينقلب نص كتاب شريبر بجملته الى تلقيب إكراهي أو ألفاظا مكررة ritournelles تبدو لنا محَيِّرة الى حد ما.


أما بخصوص هذه الجملة المبتورة “ينقصنا الآن..”، فقد يعاودني شيئ شد انتباهي عندما قرأت للسيد صوميز Saumaize قاموس المتخذلقات الذي ألفه حوالي 1660-1670. إن المتخذلقات شيئ تافه بطبعة الحال، إلا أن حركة المتخذلقات لعبت دورا هاما في تاريخ اللغة وفي التفكير وفي العادات مما أدى الى ابتداع الحركة السوريالية حوالي 1920 والتي كان لها أثرها الفعال. إنها حركة أناس يعالجون الرموز والألفاظ بطريقة غريبة. ومن دون هذه الحركة، كما يعلم الجميع، ما كان لنا أن نتوفر على نفس النمط من اللافتات التي تشد أبصارنا الأن. إن حركة المتحذلقات ذات أهمية من منظور اللسان أكثر مما نعتقد. فهناك طبعا كل ما حكاه موليير Molière ، ذاك الشخص العبقري. لكن بخصوص هذه المسألة، من المحتمل أنه قد نُسب إليه أكثر مما أراد قصده وقوله. فقد يصعب عليكم عد كل تلك التعابير التي تم ابتداعها آنذاك والتي تبدو لنا الآن وكأنها طبيعية. فعلى سبيل المثال، يلاحظ صوميز بأن أول من تفوه بعبارة “تنقصني الكلمة”، فهو الشاعر سان-أمان Saint–Amant. وفي المقابل، إذا كنا الأن لا نسمي المقعد المريح بتعبير “وسائل تسهيل الحادثة”، فذلك لمجرد صدفة بحته، إذ قد يكتب النجاح لبعض الأمور في حين يكتب العكس لغيرها. إن هذه التعابير التي تم اندماجها في اللسان، يرجع أصلها الى متحدث أثناء حلقات تجاذب أطراف الحديث بالصالونات حيث يجدُّ المتحدثون في ابتداع لغة أكثر نكهة وأناقة.


إن حالة لسان ما، تتميز بما يحضر فيه وما يغيب عنه. لهذا فإنكم تجدون داخل حوار شريبر مع الطيور الناجية بأعجوبة Oiseaux méraculés، طرائف من هذا القبيل : قد يقال لهىا على سبيل المثال: الحاجة لتنفس الصعضاء، “besoin d'air"، ألا أنها تسمع محل ذلك “crépuscule". إن هذا لمن الأهمية بمكان. فمن منكم لم يحدث له أن سمع شخصا يخلط بصفة متواترة وخلال حديث لا يخص العامة بالضرورة، بين Amnistie و Armistice؟ فإذا ما سألت كل منكم على التوالي عما تسمعونه بكلمة superstition مثلا، فإنني على يقين بأننا سوف نحصل على فكرة جيدة بخصوص الإختلاط الذي ينتاب فكركم بخصوص كلمة كهاته، عادة ما تستعملونها بكل عفوية. إنها ستنتهي بعد حين لتصبح La superstructure. وعلى هذه الشاكلة، تمتلك ما يسمى بالظواهر العارضة دلالة خاصة في مجال الطب. إن لاينيك Laënnec يسمي الظواهر العارضة بكون كل الأمراض تتقاسمها، كما هو حال الحمى.


إن منشأ كلمة superstition يدلنا عليه سيسيرون cicérone في كتابه De natura Deorum الذي أنصحكم بقراءته.(130) إنكم ستلمسون كم هي قديمة وكم هي حالية أيضاً، القضايا التي طرحها الأقدمون بخصوص طبيعة الآلهة. Les superstitiosi هم أناس كانوا يقيمون الصلاة ويقدمون قرابنة طيلة اليوم كي تنجو ذريتهم بعد مماتهم. La superstition تتلخص إذن في انكباب أناس على التعبد لأجل تحقيق غرض يبدو لهم أساسياً. إن هذا ليعلمكم الكثير عن المنظور الذي كونه القدامى حول فكرة استمرارية النسل والتي تحظى بأهمية قصوى في إطار الثقافة البدائية. وربما كان بإمكان هذا الإسناد أن يمدنا بأفضل كيفية تمككنا من تحديد حقيقي ل Superstition بحيث تكمن في انتزاع جزء من سلوك ما محل أجزاء أخرى. بهذا نلحظ علاقتها بكل تكوين جزئي وبكل تحويل ممنهج في إطار الآلية العصابية.


إن المهم يكمن في فهم ما نقوله. ولكي نفهم ما نقوله يجب رؤية تضاعيفه وإدراك الأصداء الناجمة عنه والتراكمات الدلالية التي تكونه. فأينا كانت هذه الدلالات ومهما تكاثرت المعاني المتعاكسة، فذلك ليس محض صدفة إطلاقاً. إن الذي يتأمل بخصوص جسد اللفة، يلزمه أن يحرز على معرفة أضفى وأشمل. وبصدد كلمة ما أو تعبير ما، يلزمه أن يعمل على إعداد أغنى وأوفر سجل ممكن. إن اللغة تتحرك دوما داخل الإلتباس بحيث أنكم، في أغلب الأحيان، غير دارين البته بما أنتم به ناطقون. إن قيمة اللغة في حديثكم المعتاد، محض اعتبارية إذ لا تفعلون بواسطتها سوى أنكم تعيرون مخاطبكم الإحساس بأنكم دوما هنا. بمعنى أنكم قادرون على إعطائه الأجابة المتوخاة والتي لا علاقة لها بما يمكن التعمق فيه. وعلى هذه القابلة، فإن تسعة أعشار الخطابات المتداولة فعلا ما هي إلا اعتبارية ومختلقة بالكامل.


إن هذا المعطى الأولي لضروري لمن يريد التعمق في الأقتصادية النفسية للرئيس شريبر ولمن يريد تفهم ماهو صنف اللا-معنى هذا الذي يموضعه هو نفسه في إطار علاقاته بمحدثيه الخياليين. لهذا أستدعيكم القيام بفحص دقيق لتطور الظواهر اللفظية في سيرة الرئيس شريبر، حتى يتسنى لكم ربطها في ما بعد بالتنقلات والتحويلات الليبيدية لديه. (131)




25 يناير 1956




 


                       


الفصل التاسع: بخصوص اللامعنى وبخصوص بنية الإله




- مبادئ تحليل الهذيان.
- المحاورة الهذائية.
- الإهمال.
- الحوار والنشوة.
- سياسة الإله.




بخصوص تعبير استعمله شريبر بصدد الأصوات التي تدله على أن شيأ ما ينقصها، لقد أشرتُ بإن تعابير كهاته ليس لها وجود بذاتها وإنما تنشأ خلال تاريخ اللسان. تنشأ في لحظة يبلغ فيها الإبتكار ذروته مما يجعل تعابير كهاته تترعرع بالتحديد داخل إحدى حلقات المهتمين بقضايا اللغة. تبدو هذه التعابير وكأنها نتاج طبيعي للتنظيم الخاص بالدال، ألا أن ظهورها في لحظة معنية يمكن إثباته تاريخيا.


لقد قلتُ إذن بأن تعبير "تنقصني الكلمة"، وإن كان يبدو لنا طبيعيا، هو وارد في كتاب صوميز وكأنه منحدر من أزقة المتحذلقات. ففي هاته الآونة تم اعتبار هذا التعبير بكونه ممتازا لدرجة دفعت صوميز بتدوين ظهوره ناسبا أصله الى سان آمان. وهكذا فإني سجلت ما يناهز المائة من أشباه هذه التعابير: C'est la plus naturelle des femmes - Il es brouillė avec Untel - Il a le sens droit - Tour de visage - Tour d'esprit - Je me connais un peu en gens - Jouer à coup sûr - Il agit sans façons - Il m'a fait mille amitiés -Cela est assez de mon goût - Il n'entre dans aucun détail - Il est embarqué dans une mauvaise affaire - Il pousse les gens à bout - Sacrifier ses amis - Cela est fort - faire des avances - faire figure dans la monde. فهذه التعابير التي قد تبدوا لكم الأكثر طبيعية والتي أصبحت متداولة، تمت الإشارة إليها في كتاب صوميز وكذلك في كتاب البلاغة ل بيري الصادر في سنة 1663، على أنها نشأت داخل حلقة المتحذلقات. وهذا لأكبر دليل للصد عن الأخد الفكرة الوهمية الزعامة بأن اللغة تتقولب حول تقارب بسيط ومباشر للواقع. إن تعابير كهاته تفترض بلورة طويلة الأمد، وتتطلب انخارطات واختزالات متعددة للواقع يمكننا اعتبارها بمثابة تقدم ميتافيزيقي. فإذا ما كان الناس يتعاملون بطريقة معينة مع بعض الدوال، فذلك اعتبارا لمنطلقات مختلفة. وهكذا فإن تعبير "تنقصني الكلمة" على سبيل المثال، يفترض مسبقا بأن الكلمة متواجدة هاهنا.(133)





                                                  1




سوف نعمل اليوم على متابعة حديثنا وذلك طبقا للمبادئ المنهجية التي أرسيناها. ولكي نتقدم شيئا ما داخل هذيان الرئيس شريبر، فسنعمل على اعتماد النص الكتابي إذ ليس لدينا بديلا عنه على كل حال.




لقد آثرت انتباهكم الى أن النص تمت كتابته من طرف شريبر في فترة جد متقدمة من ذهانه، الشيئ الذي مكنه من التطرق له وعرضه. وبهذا الصدد،  أُبدي بعض التحفظات المشروعة معتبرا بأن ما يمكن أن نفترضه أكثر بدائية وقبلية وأصولية في هذا الذهان، فهو شيئ يفلت من قبضتنا. إنه ذاك المعاش اللامتصور والغير ممكن التعبير عنه والذي يخص الذهان أثناء مرحلته البدائية والمثمرة.




إن لنا كامل الحرية في أن نبقى مسلوبي الألباب بهذا الإعتبار، وأن نعتقد بأننا فقدنا بهذا ماهو أجدى وأفضل. لكن تأسفنا بأننا سنفقد الأفضل ما هو في الغالب الأ وسيلة لغض النظر عما هو تحت أعيننا والذي قد يكون من الأجدى والأفيد أخذه بعين الأعتبار. ولذا فقد تكون حالة الهذيان النهائية أقل إفادة من حالته الإبتدائية. إنه من غير المؤكد أن تمثل هذه المرحلة النهائية أقل قيمة، سيما ونحن ننطلق من المبدإ القائل بأن علاقة الذات بالرمزي هي علاقة أساسية بخصوص كل ما يتعلق باللاشعور.


وهذا المبدأ يقتضي منا أن نتخلى عن هذه الفكرة التي تتضمنها نظم فكرية متعددة والتي مفادها أن كل ما يصوغه الفرد من كلام ما هو إلا توليفة غير صائبة وملتوية دوما في حق تجربة معاشة يتم اعتبارها واقعا لا يمكن اختزاله. إنها فعلا الفرضية التي يتمركز حولها كتاب بلونديل Blondel "الوعي الَمرضي" والذي هو بمثابة مرجع مفيد أَستعمِله بعض الأحيان بصحبتكم. إن تجربة الهذائي المعاشة، حسب بلونديل، تتضمن مكنونا أصيلا ولا يمكن اختزاله بحيث أن المريض إذا ما تحدث عنه، فإنه لم ولن يمدنا إلا بتعبير يصبو الى خداعنا والتضليل بنا. لهذا لم يبق لنا، بحسبه، الا التراجع والتخلي عن تعمق mواستشفاف هذا المعاش الحصين والممتنع. فهذا الإفتراض السيكلوجي هو نفسه الذي ينبني عليه ضمنيا ما يمكن تسميته بالفكر المعاصر. ويدل الأفتراض عن نفسه من خلال الإستعمال المعتاد والمفرط لكلمة "فكرنة" intellectualisatio إذ بالنسبة لطائفة لا يستهان بها من المفكرين العصريين، هناك شيئ ما لا يمكن تعمقه وتفقهه ولا يمكن للذكاء، كيفما فعل، إلا أن أن يفتقده. ولقد قدم بيرگسون Bergson الكثير من أجل إرساء هذا الإعتقاد الخاطئ والخطير.(134) 


نحن هنا إذا أمام أمرين. فإما أن نذهب الى أن الهذيان لا يمت بأية صلة بمجالنا نحن المحللين النفسانيين، بمعنى أن لا علاقة له باللاشعور، وإما أن نعتبر بأنه ينجم عن اللاشعور في الصيغة التي ركبناه فيها، نحن هنا جميعا، خلال هذه السنوات الأخيرة.


إن اللاشعور، في كنهه، مبنين ومترابط ومنسوج من لغة. وليس فقط يلعب فيه الدال دورا جد مهم وإنما يلعب فيه الدور الرئيسي. فنسق الدال هو ما يميز اللغة بالفعل. أما الترابط المعقد للدال بالمدلول، فيطرح أسئلة سنتوقف الأن عند حدها لأننا لسنا بصدد القيام بدرس في اللسانيات. إلا أنكم حتى الآن قد أصبحتم على علم بأن علاقة الدال والمدلول هي، كما يقال في نظرية المجموعات، أبعد من أن تكون متوازية الفعالية.


فالمدلول ليس هو بمثابة مواد خامة، معطاة بصفة قبلية وفي أنتظار الدلالة. إن الدلالة هي الخطاب الإنساني بكونه يفدي دوما الى دلالة أخرى. ففي دروسه الألسنية الشهيرة، أدخل السيد سوسير Saussure خطاطة يتخللها مد يمثل الدلالة ومد آخر يمثل الخطاب الذي يتم سماعه. فهذه الخطاطة تبين أن تقسيم جملة الى عناصرها المختلفة، يتضمن قدرا من التعسف والإصطناع. فهناك بلا ريب هذه الوحدات التي تكونها الكلمات. لكن إذا ما نظرنا مليا فسنجد أنها ليست بالفعل وحدات. على كل، فإن السيد سوسير يعتقد بأن ما يمَكن من تقسيم الدال فهو نوع من إرتباط متبادل بين الدال والمدلول. وحتى يمكن تقسيمهما في نفس اللحظة، فلابد من حصول وقفة أثناء ترابطهما.


إنها خطاطة قابلة للنقاش. فنحن نرقب بالفعل، على المستوى الدياكروني، ومع مرور الوقت، حدوث انزلاقات دلالية، ويكون نسق الدلالات الإنشائية التطوري، على أهبة التنقل في أي لحظة، فيغير بذلك فحوى الدَّوال التي قد تنخرط في استعمالات مغايرة، وهكذا دواليك. أتمنى أنني وفقت باستشعاركم بهذه المسألة بواسطة الأمثلة التي قدمتكم إياها قبل قليل. فعلى مر الأزمان والعصور، تحدث انزلاقات دلالية تحت نفس الدوال، مما يبرهن على عدم إمكانية التدليل على وجود تقابل متزامن ومتوازي بين النسقين.


فكل نسق دوال أو كل لسان يحظى بخصائص معينة تُميز مقاطع الأفاظ واستعمالات الكلمات فيه وكذا التعابير التي تتجمع من خلالها الكلمات وهذا ما يحتم كل ما يحدث في اللاشعور وحتى في أعماق تركيبته الأولية. فإذا كان اللاشعور هو بالذات ما رسم فرويد معالمه لنا، فإن جِناسا لوحده، غير موجود بداخل لسان مجاور، من الممكن أن يكون في حد ذاته وتدا يستند إليه عرض ما. وهذا لا يعني بأن العرض ينبني دوما على جناس، وإنما ينبني على وجود الدال في حد ذاته، على علاقة معقدة بين كل وكل، أو بكل دقة بين نسق كامل ونسق كامل، بين منظومة دوال ومنظومة دوال.(135)


فهذا هو منظور فرويد بالتحديد بحيث ينعدم أي معنى آخر يمكن وضعه تحت لفظة "التحدد التظافري" Surdétermination لديه وتحت لازمته التي تنص بأن العرض كي ينشأ لابد، على أقل تقدير، من وجود ازدواجية، وعلى الأقل صراعين، الواحد منها راهن والآخر قديم. ومن دون الإزدواجية المركزية هاته بين الدال والمدلول، فلن يبق التحليلنفسي من وجود. فالمواد المرتبطة بالصراع القديم تبقى محفوظة في اللاشعور على صيغة دال بالقوة وليس بالفعل، على صيغة دال افتراضي، حتى يتسنى لها الإنخراط داخل مدلول الصراع الحالي فتقوم بخدمته كلغة، أي كعرض.


لهذا، فعندما نقترب من الهذاءات معتبرين أنه بالإمكان فهمها في إطار التحليل النفسي، داخل نظام الإكتشاف الفرويدي وتباعا لنمط التفكير الذي أتاحه لنا بخصوص العرض، فها أنتم ترون بأنه ليس هناك من داعي للرمي بالتفسير الذي أعطاناه شريبر حول نسق تصوره الخاص للعالم. فلا داعي إذن للرمي به كحصيلة لعملية تسوية لفظية محضة، وكنتاج ثانوي للهذيان في حالته النهائية حتى وإن كانت هذه الشهادة التي يعرضها علينا لا تنجو كلية من كل انتقاد.


نحن نعلم جيداً بأن العظامي يعمل على استعادة التفكير في ماضيه بمستوى تَقدم هذائه، وهكذا يتراجع الى أقدم السنوات ليموضع فيها منبع الإضطهادات التي أصبح عرضة لها. إنه قد يصادف في بعض الأحيان صعوبة قصوى في تحديد حادث ما، فنحس جيدا بنزوعه نحو إسقاط هذا الحادث، داخل لعبة تقابل مرآتي، على زمن سابق يصبح هو ذاته غير قابل للتحديد، بصفته "زمن العودة الأبدية"، على حد تعبير شريبر. لكن الأساسي ليس هاهنا. إن مؤلَّفا  بمستوى كتاب الرئيس شريبر، قد يحظى بقيمة كاملة إذا ما نحن أخذنا بعين الإعتبار التآزر المتواصل والعميق للعناصر الدلالية فيه، منذ بداية الهذيان حتى منتهاه. وبكلمة واحدة، فإن التنظيم النهائي لهذيان شريبر يمكننا من التوقف على العناصر الأولية الفاعلة فيه. وعلى كل حال، فإن الإنتباه الى هذا التنظيم يمكننا بكل مشروعية من البحث عن هذه العناصر.


وهكذا يجعلنا تحليل الهذيان نقف على العلاقة المركزية التي تربط الذات بالمستوى التي تنتظم فيه وتتبلور خلاله تمظهرات اللاشعور بكاملها. وربما قد يبين لنا التحليل بأن هذه العلاقة، إن لم تكن آلية الذهان الأساسية، فعلى الأقل يبين لنا بأنها العلاقة الخاصة بالذهان على مستوى الرمزي. وربما قد يكون في وسعنا آنذاك - أثناء نمو الذهان، منذ لحظة النشأة وحتى مرحلته الأخيرة، إذا ما اعتبرنا أن للذهان مرحلة نهائية - أن نلمس مباشرة كيف يموقع المريض ذاته بالنسبة للنظام الرمزي بكامله. إنه نظام أصيل ويشكل وسطا مختلفا عن الوسط الواقعي وعن البعد التخيلي. فالرمزي هو النظام الذي لا مناص للإنسان من التعويل عليه إذ هو النظام الذي يؤسس الواقع الإنساني.(136)


فلا يجب علينا، بحجة أن المريض هذّاءاً، أن ننطلق من فكرة كون نسق تفكيره متناقض ومتنافر. إنه فعلا غير قابل للتطبيق، وهذه أحدى السمات المميزة للذهان. فبالمقارنة مع ما يتم تداوله داخل المجتمع، فهو غير معقول كما يقال، بل إنه جد مربِك. إن أولى ردات فعل طبيب العقل بحضرة شخص أخد يحكي له من شتى الألوان والأشكال، تكمن في إحساسه بنوع من التضايق للإستماع لهذا الشخص الذي يفوه بتصريحات قاطعة وفي نفس الوقت مناقضة لنظام السببية العام والمعمول به. إن هذا ليزعج الطبيب حقاً. وخلال الإستجواب، يصبح همه الأول، "دق الأوتاد القصيرة في الثقوب الصغيرة" ، كما يقول بيگي Péguy في أخريات كتاباته، عندما كان يتحدث عن التجربة التي عاناها، وعن هؤلاء الأطباء الذين أصبحوا يحبذون، عندما تم له إعلانهم اقترابه من الطامة الكبرى، أن تبقى الأشياء كما كانت عليه من قبل. "تحدَّث بانتظام"، هذا ما بقي لهؤلاء الأطباء أن يأمرون به المريض.


إن الهذيان، مثله مثل كل خطاب، يجب أن يعتبر بمثابة مجال دلالي عَمِل على تنظيم دال معين، مما يجعل القواعد الأولية لإستجواب جيد، وحتى لإستجلاء جيد لكنه الذهانات، تكمن في ترك المجال للمريض كي يتكلم أكثر فأكثر. بعدها يكون بإمكاننا تكوين فكرة لائقة عن هذا الهذيان. إني لا أقول بأن الأمور تمشي، في كل مقابلة مع المريض، دائما على المنوال الذي ذكرته بحيث أن العياديين، على العموم، يقودون الأمور بلياقة كافية. لكن الفهم الذي تم تكوينه حول الظاهرة الأولية وكذلك التصنيفات الحالية للهلاوس ولاضطرابات الأنتباه والإدراك وكذلك كل تصنيفات المستويات المختلفة في مجال القوى المتضاربة، كل هذا ساهم بالتأكيد في تعتيم علاقتنا بالهذائين.


أما بخصوص شريبر، فلقد أُتيحت له إمكانية الكلام بدون قيد، لسبب مهم هو أن لا أحد عمل على مخاطبته وبهذا حرز على ما يتطلبه وما يكفيه من الوقت ليخط لنا كتابه الضخم.






2




لقد رأينا في المرة السابقة بأن شريبر يُدخل تصنيفات بين الاصوات التي تستحوذ على مسامعه من حيث هي نتاج لتلك الهيئات التي يسميها بملكوت الإله. إن تعددية باعثي الخطاب إليه لكفيلة لوحدها لطرح مشكلة كبرى، ذلك لأن شريبر لا يعتبر هذا التعدد بمثابة دليل على استقلاليته. ففي نص الكتاب فقرات رائعة كتِبَت لتحدثنا عن الأصوات، ولتجعلنا نحس بالعلاقة التي تربط هذه الأصوات بالكنه الألهي. لكن، يجب علينا ألا نسارع الى القول بأنه أوحي إليه بها، ذلك أننا إذا فعلنا كذلك فسنكون أول من يبتدأ بإعطاء تأويل مسبق. لذا يجب أن نتتبع خطاب المريض وأن لا نسبقه. فهو لم يتحدث أبدا عن وحي.(137)


على هوامش صفحات إحدى نسخ كتاب شريبر التي وقعت بين يدي، توجد بقايا ملاحظات خطها شخص يَعتبر نفسه جد متضلع، بحيث وضع تفسيرات مختلفة قبالة لفظ procession، أحد ألفاظ شريبر. فمن دون شك أن هذا الشخص قد سمع بالسيد بلوتين Plotin، إلا أن فهما كهذا الذي أبداه هذا الشخص هو من قبيل أنماط الفهم المتسرعة التي يلزمنا تفاديها. فأنا لا أظن أن الأمر هنا يتعلق بأمر يمت الى procession البلوتينية بصلة.


ففي المقطع الذي قرأته على مسامعكم، يؤكد شريبر على أن الصوت الذي يحدثه لديه الخطاب الموجه إليه، هو على درجة من الإعتدال جعله يسميه بالهمس. إلا أن هذا الخطاب لا يفتأ في الإسترسال طول الوقت وبدون انقطاع. فيمكن للمريض أن يغطيه، حسب تعبيره، بكل أنشطته وكلامه، لكنه خطاب في أهبة دائمة للإسترسال وبنفس الحدة الصوتية.


وكفرضية بَحثٍ، كما يقال حاليا، يمكن أن نفترض بأن هذا الخطاب قد تم تصويته من أجل المريض. لكن هذا تمادي كبير في القول، لذا سنترك لحظتها هذه المسألة جانبا. فهذا الخطاب، على كل حال، له ارتباط بما نفترض كونه ذاك الخطاب المسترسل الذي يَحفظ في الذاكرة، لدى كل ذات، تصرفاتها لحظة لحظة، وهو بذلك يرادف حياتها. فنحن ملزمون بالتسليم بهذه الفرضية ليس فقط اعتبارا لما افترضناه سابقا بخصوص بنية وتركيبة اللاشعور وإنما لكون الخبرة الأكثر مباشرة تجعلنا نلمس ذلك بالفعل.


في زمن ليس بالبعيد، حدثني شخص عن خبرة حصلت له على الشكل التالي: لقد فوجئ هذا الشخص بخطر آت من سيارة كانت على وشك صدمه ودوسه، فنجمت عنه، كما هو منتظر، الحركات اللازمة والكفيلة بتجنيبه الخطر، إلا أن لفظا، في اللحظة ذاتها، بزغ في رأسه، إن أمكن القول، ملفوظا داخليا. إنه لفظ traumatisme cranien، "صدع الجمجمة". فلا يمكنا القول بأن هذا التلفظ يشكل جزءا من ردود الفعل الصائبة لتجنب الصدمة التي قد تؤدي لما سماه بتصدع الجمجمة، ذلك لأن هذا التلفظ، بالعكس، لا يوازي الحادثة بكل دقة، زيادة على كونه يفترض لدى هذا الشخص، سوابق محدِّدة جد متنوعة تضفي لديه على تعبير "تصدع الجمجمة" دلالة محدَّدة وجد خاصة. إننا نعاين هنا كيف ينبثق هذا الخطاب الكامن والذي هو دائماً على أهبة للإنبثاق والذي يفعل فعله في مجاله الخاص، على بعد آخر يعلو على كامل سلوكية الذات.(138)


إن هذا الخطاب يحضر لذات شريبر، في مرحلة مرضه التي يحدثنا عنها، مع ما يتخلله من طابع يسيطر عليه اللامعنى. إلا أن هذا اللامعنى ليس ببسيط. فهذا الشخص الذي يكتب ويبوح لنا بمكنونه، يقدم نفسه تحت سطوة هذا الخطاب، أما الشخص المتكلِّم فإنه يفوه بأقوال جد واضحة - وهما جانبان مرتبطان وإلا ما كان بإمكاننا اعتبار شريبر أحمقا - كأقواله التي سبق أن أوردتها لكم وهي: "كل لامعنى ينعدم، يُرفع ويتحول." فهذا ما يقول الرئيس شريبر بأنه قد سمعه في سجل المخاطبة الموجهة إليه من طرف مخاطِب دائم ومواظب.


إن لفظ Aufheben غني جرا. إنه علامة على المشاركة، على حل مواتي لللامعنى هذا، والذي هو بعيد عن أن يكون، كما قال كانت Kant في تحليله للقيم السلبية، مجرد غياب، أو مجرد انعدام المعنى. إنه لامعنى إيجابي ومنظَّم. إنه عبارة عن متناقضات تتشابك فيما بينها وتترابط. وكما هو معلوم، فإن معنى هذيان مريضنا هو هنا أمامنا بالكامل، فيضفي على قصة حياته طابعا خلابا. فهذا اللامعنى هو ما يتعارض وما يتركب وما يسترسل وما يترابط من هذا الهذيان. فالنفي ليس هنا بمثابة انعدام، وسنرى في مقابل ماذا تكون لهاذا النفي قيمة.


فما هو ياترى منطوق ذات المريض التي تتحدث من خلال الأصوات، وكذلك منطوق الذات الذي تٰقدم لنا كل هذه الأمورة على أنها دالة؟ إن بهذا تعقيد جلل.


لقد بدأت المرة الفائتة بإفتتاح هذه البَرهنة مؤكدا على الطابع الدلالي لتعليق المعنى التي يحدث من جراء عدم إتمام الأصوات لجُملها. إن لفي هذا وسيلة متميزة للإشارة للدلالة، وسيلة تمنحنا إمكانية اعتبار هذه الدلالة كبنية، تلك التي بيَّنتُ لكم معالمها بخصوص تِلكم المريضة التي ريثما سمعت بأنه قيل لها "خنزيرة"، همستْ بين شفتيها: "أنا آتية من عند بائع لحم الخنزير"، بمعنى أن هناك وفي نفس الوقت، الصوت الذي يوحي وهناك أيضا ما تصبو اليه الذات بطريقة غير مباشرة. لقد تمكنا سابقا من إبصار هاهنا بنية جد قريبة من الخطاطة التي نعطيها للعلاقات بين الذات التي تتكلم فعلا والتي تحمل الخطاب على عاتقها وبين الذات اللاشعورية المتجسدة حرفيا في هذا الخطاب الهلوسي. إنها هنا مقصودة، ولكن ليس في ما بعدها، بحيث أن الآخر ينعدم في الهذيان، ولكن فيما قبلها أو في نوع من ما بعد داخلي. إن متابعة هذه البرهنة ليست من المستحيل، لكن متابعتها ستؤدئ بنا الى إقحام متسرع جداً لخطاطات من الممكن أن تبدو مسبقة بالنسبة للمُعطَى. ففي مضمون الهذيان هناك الكافي من المعطيات التي يسهل تتبعها، الشيئ الذي يمككنا من مباشرة الأمور بطريقة مغايرة مع استغلال الوقت الكافي لأجل ذلك.(139)


إن أخذ الوقت الكافي، والحق يقال، يساهم في سلوك الإرادة الحسنة التي أركز هنا على الإلتزام بها كي يحصل التقدم في استتباب بنية الهذيان. إن ترك هذا الأخير بين قوسي الطب العقلي هو في حد ذاته منبع لعدم الفهم الذي تمسكنا به حتى الآن في حقه. وهكذا أصبح يقال بأن الأمر يتعلق في الهذيان بظاهرة غير سوية. وبهذا أيضا نحكم على أنفسنا بعدم فهمه البتة إذ نجدنا ندافع عن أنفسنا منه ونحتمي هكذا من إغوائه، هذا الإغواء الذي يبدو شفافا لدى الرئيس شريبر الذي سأل طبيب العقل بكل بساطة: "ألا ينتابك الخوف بين الفينة والأخرى من أن تصبح مجنونا؟" وهذا التساؤل صحيح جداً بالفعل. فحتى من بين أقطاب الطب العقلي الذين تتلمذنا على أيديهم، هناك من كان يقشعر لما قد يؤدي به الإنصات لهؤلاء المعتوهين الذين يتشدقون طيلة اليوم بأشياء غير معقولة.


أفلا ندري، نحن المحللون النفسانيون، بأن الذات العاقلة تتمثل أساسا في شخص يقف موقف عدم أخذ الجزء الأكبر من خطابه الداخلي مأخذ الجد؟ فلتلاحظوا لدى الأشخاص الأسوياء، وبالمقابل لديكم أنتم أيضاً، فسترون كم هي كثيرة تلك الأشياء التي يكون همكم الوحيد هو عدم أخذها من لدنكم مأخذ الجد. وربما هذا ليس إلا الفرق الأول بينكم وبين مسلوب العقل. ولهذا السبب يجسد الأحمق بالنسبة للكثيرين المآل الذي ينتظرنا إذا ما نحن انسقنا في حمل الأمور محمل الجد. لنأخذ إذا رئيسنا شريبر مأخذ الجد بدون تخوف شديد. وبما أننا غير قادرين على التغلغل المباشر، لا في غرض هذا اللامعنى الخاص لديه، ولا حتى في ترابطاته وأبعاده، فلنحاول الإقتراب، بواسطة أسئلة معينة، من كل ما يحصل أمام أعيننا والذي بصدده لسنا دون بَوصلة.






3




ولنبدأ بالسؤال، هل هناك مخَاطَب؟ نعم هناك مخاطَب وهو في صلبه فريدٌ من نوعه. إنه لمن المسلي النظر الى هذه Einheit، إذا ما نحن رجعنا الى نص هايدجر Heidegger حول اللوغوس Logos والذي يحدد هذا الأخير من خلال Ein الهيرقليطي. وسنرى بالتحديد بأن هذيان شريبر، على طريقته الخاصة، هو صيغة لعلاقة الذات بمجموع اللغة.


إن ما يعبر عنه شريبر يبرز لنا الوحدة التي يستشفها من ذاك الذي ينطق بهذا الخطاب الدائم والذي يحس بنفسه أمامه في حالة استلاب. وما يعبر عنه يبرز لنا أيضاً تعدد الصيغ وتعدد الفاعلين الثانويين الذين يسند إليهم مختلف أجزاء هذا الخطاب. إلا أن الوحدة مركزية فعلا. إنها مسيطرة ويسميها إلاها. فهذا ليس بالغريب عنا. أما إن قال هذا الرجل بأن الأمر يتعلق بالإله، فإن له دواعيه. لكن لماذا نرفض له استعمال لفظ نعلم بقيمته الشمولية؟ فهذا اللفظ هو في أعين البعض من بين الأدلة القاطعة على وجود الله. إننا ندري بما فيه الكفاية كم من الصعب لدى الغالبية من معاصرينا تحديد مضمون الله ودقائق كنهه، فلماذا إذن نرفض الثقة بالهذائي خصوصا عندما يتحدث عن هذا الإله؟(140)


إن ما يشد الإنتباه هو أن شريبر من بين مريدي l'Aufklärung. والأكثر من ذلك هو أنه من أواخر أفضل نتاجاته. فلقد قضى طفولته في عائلة لا مكان للتدين بوسطها وهو أيضا يعرض علينا لائحة مطالعاته. كل هذا لدليل بالنسبة إليه على جدية ما يحس به ويختبره. إنه، على كل حال، لا يدخل في مناقشة ما إذا كان على ضلال أم لا، إذ يقول - "هكذا تسير الأمور". بمعنى "أنني حرزت بصدد هذا الحدث على البراهين الأكثر مباشرة. وهذا الحدث لا يخص سوى الله، إن كان لهذه الكلمة من معنى. لم يسبق لي حتى الآن أن أخذت هذه الكلمة بمأخذ الجد، وانطلاقا من اللحظة التي احسست فيها ببعض الأمور، فإني اختبرت وجود الإله. وهكذا، فليست الخبرة هي الضامن لوجود الإله بل الإله هو الضامن للخبرة. إني أحدثكم عن الإله. ومن المفروض أنني قد استخلصته من مكان ما إلا أنني لم أت به ضمن رزمة اعتقاداتي الطفولية". وهكذا يبدو شريبر هنا جد ذكي. فهو بالإجمال، ليس فقط شاهد جيد وإنما أيضاً لم يسقط في الإسراف والمغالات بخصوص علم اللاهوت. الأكثر من ذلك أنه على اطلاع وافر في هذا المجال، ويمكنني أن أقول أنه يساوي جودة طبيب عقلي كلاسيكي.


إننا نجد في كتابه استشهادا مأخوذا من الطبعة السادسة لكتاب Kraepelin، استشهادا عمل على إمعان النظر فيه مما أتاح له الفرصة للإستهزاء بما يعتبره كريبلين من باب الغرابة أن يمتلك ما يختبرة الهذائي قدرة فائقة في الإقناع.


"لننتبه، يقول شريبر، فالأمر ليس كذلك أبداً. من الملاحظ جداً أنني لست هذّاءاً كما يدعي الأطباء، لأنني قادر تماماً على إيلاج هذه الأشياء في إطار الكلام المتبادل مع الأخرين، بل وحتى في إطار التفكير السليم. وهكذا، فقد يحصل أن يصل الى مسامعي صوت القطار أو صوت الباخرة المجرورة بجنازير، مما يحدث صخبا عاليا ومسترسلا. أما الأفكار التي تراودني آنذاك، فإنها تنخرط داخل الفواصل المنتظمة التي تتخلل هذه الأصوات المتراتبة والممِلة، كما يحدث عندما نرتب الأفكار التي تختلط في ذهننا حول أصوات السكك الحديدية المألوفة لدينا عندما نقل القطار ونجدنا داخل القاطرة. فأنا أميز جيدا بين الأشياء. أما الأصوات التي أسمعها فهي من نوع آخر، من الأشياء التي لا تعطونها حق قدرها ومعناها".


إن هذا التحليل الشريبيري، والذي نجد له أمثلة أخرى في نص الكتاب، يفسح لنا المجال كي تنتقد من الداخل بعض النظريات التطورية بصدد التأويل أو الهلوسة.


فماهو إذن، هذا الإله الذي أوحي إليه به؟ إنه أولا حضور وصيغة حضوره هي صيغة التكلم.(141)


ملاحظة. ليست لدي حاجة كي أمضي بعيدا للبحث عن الإستشهادات التي تمكنني من تبيان وظيفة الإنجاد التي يضعها العامة على عاتق آلهتهم. لست أقول بأن هذه هي أفضل طريقة لإقتراب المسألة من منظور علم اللاهوت. لكنه حصل لي، لما فتحت صدفة كتابا يتحدث عن الآلهة الأبيقورييين، أن قرأت هذه السطور المكتوبة بكل أناقة : "منذ أن حصل الإيمان بالآلهة ونحن نعتقد بأنهم يعملون على تنظيم أمور الناس، وبأن هذين الجانبين من الإيمان مترابطان جداً (...). لقد ولد الإيمان من الملاحظة المتكررة آلاف المرات بأن أغلب أفعالنا لا تبلغ هدفها وتبقى هناك مسافة جد ضرورية بين مبتغانا الأفضل إعدادا وبين تحقيقه وهكذا نبقى قابعين في عدم اليقين، أُمُّ الرجاء والخشية." إن هذا النص هو للأب فيستوجيير Festugière. فهو كاتب رفيع وعارف مقتدر بعصور الإغريق القديمة. وبدون شك، فأن أسلوب الدفاع الذي اعتمدته هذه المقدمة المخصصة لقضية دوام الإيمان بالآلهة، لمتأثر بالموضوع الذي تم التطرق إليه، أي بكون المذهب الأبيقوري يرتكز بكامله أساسا على مسألة تواجد الآلهة وتدخلهم في الأمور الإنسانية. فلا يمكن إلا أن نندهش لهذا الطرح الذي يحصر الفرضية الإلهية ويختزلها في وظيفة الإنجاد، أي في ضرورة كوننا نُجازى خيرا على حسن نوايانا وذلك تباعاً للمقولة "ومن تصرف بطيبوبة، خيرا يره". وعلى كل، فإن لهذا دلالة.


والأكثر من ذلك، فأن هذا ما ليس له وجود البتة لدى شريبر الذي يمكن اعتبار هذائه في صميم علم اللاهوت واعتبار مخاطبه ربانيا. حقاً، إن ملاحظة غياب شيئ ما هو أقل جدوى من ملاحظة حضوره، ذلك أنه لا يمكن أبدا، الإعتماد على شيء غير حاضر أثناء تحليل الظواهر. وربما كان بالإمكان تكذيب هذا المبدأ لو كان بإمكاننا الحصول على المزيد من التفاصيل بخصوص هذاء الرئيس شريبر. ومن ناحية أخرى فإن ملاحظة غياب شئء ما له قيمة قصوى في تحديد تموقع البنية. وهكذا أدلكم على الآتي: إن مفهوم الإنجاد أو مفهوم الجزاء الذي يحتل المكانة الرئيسية في حركية اللاشعور ويكاد ينبثق في الشعور، لهوَ منعدم تماماً لدى شريبر. ومن ثم، فلْنقل إجمالا بأن هذا التعلق العشقي بالإله من طرف شريبر، لا يمكن بالضرورة تسجيله في سجل الأنا الأعلى.
فهذا الإله هو ذا إذن. لقد تعرفنا فيما قبل على أنه هو من يتكلم طوال الوقت، وهو من لا يتوقف عن قول أشياء منعدمة الفائدة. وذلك من الحقيقة بمكان لدرجة دفعت بشريبر لتخصيص عدد كبير من الصفحات للتحقق مما قد يقصده هذا الإله الذي يتكلم عن غير قصد من دون تروي وإن كان يتكلم بدون انقطاع.(142)




فهذه الوظيفة الغير مجدية، لا يمكن فصلها ولو لحظة واحدة عن شاكلة الحضور الذي يخص الإله. إلا أن علاقات شريبر بالإله هي أبعد من أن تقتصر على هذا الجانب، وسأحاول الأن إبراز العلاقة المركزية والملتبسة التي يوجد عليها شريبر بصدد إلهه والتي تتحدد على نفس المستوى الذي يوجد به الأن، أي في حالة المتحدث بدون توقف.


يمكن القول بأن هذه العلاقة منذ البداية، أي قبل أن ينجلي له وجه الإله ومنذ اللحظة التي كان فيها الهذيان يتكئ على أشخاص، وفي مقدمتهم فليشسيغ، أول معالجيه. إن التعبير الألماني الذي سأشدد عليه بعد فرويد، يعبر لدى ذات المريض عن طابع علاقته الأساسية مع مخاطَبه المركزي ويمَكن من الربط بين أول وآخر المخاطَبين في الهذيان مما يجعلنا نتوقف على الشيئ المشترك بين فليشسيغ والأرواح المفحوصة والملكوت وما يكتنف كل هذه الأحوال من دلالات مختلفة سابقة ولاحقة، جليلة أو دنيئة وبين الإله الأخير الذي يدور كل شيئ حوله في أخر المطاف، في حين يتموضع شريبر في موقف عظامي. فسواء كان في بداية الهذيان عندما تعلق الأمر باغتصاب جنسي وشيك على شخص المريض أو باعتداء على فحولته وهو ما أكد عليه فرويد، أو كان في النهاية، عندما استقر وتوطد الدفق الشهواني الذي من المنتظر أن يحصل من خلاله الإله على إشباع يفوق ما حصل عليه المريض، فإن ما تعلق به الأمر وما لا يحمد عقباه، هو أن يتم بعد كل هذا، الرمي به وإهماله بالكامل On va le laisser en plan.


إن ترجمة تعبير liegen lassen بهذا الشكل جد حسنة لأنها تتضمن رنات عاطفية أنثوية. أما في الألمانية فإن التعبير يبقى أقل تشديدا وأكثر اعتدالا مما يمكن ترجمته بتعبير laisser gésir. إن تهديد الإهمال التام لشخص شريبر، يتردد على مدى هذيان هذا الاخير كإيقاع موسيقي أو كالخيط الأحمر الذي نعمل عادة على تفقده وتتبعه في الكتابات الأدبية أو التاريخية.


فمنذ بداية الهذيان، ينخرط هذا التعبير ضمن النوايا السيئة التي يحوكها حوله المغتصِبون والمضطهِدون، وهذا ما يلزمه تجنبه بكل ثمن. وهكذا، لا يمكننا تفادي الإحساس بأن الرباط العام للمريض مع كامل الظواهر التي كان عرضة لها وضحية، يتمثل في هذه العلاقة المتناقضة وجدانيا. فكيف ما كان الطابع المؤلم والمنهِك والمزعج والغير متحمل لهذه الظواهر، فإن الإبقاء على العلاقة معها تمثل ضرورة ملحة لا يُتحمل انقطاعها بتاتا. فعندما تتجسد هذه العلاقة - أي عندما يقوم بالإتصال مع الإله الذي له به وصال على مستويين، مستوى السماع ومستوى آخر أكثر إلغازا وهو مستوى حضوره المرتبط بما يسميه شريبر بنعيم الشريكين، بل بنعيم شريكه أكثر من نعيمه هو - وبالعكس أيضا، كلما انقطعت هذه العلاقة، وكلما حصل انسحاب الحضور الإلهي، تنفجر لديه شتى أنواع ظواهر التمزق الداخلي، وظواهر الألم المتفاوت الدرجات.(143)


فهذا الشخص الذي تربط شريبر به علاقة مزدوجة - علاقة تَخاطب وعلاقة شبقية  وهما علاقتان متميزتان إلا أنهما غير منفصلتين أبدا - يتميز أيضاً بالطابع التالي: إنه لا يفقه ولو قيد أنملة كل ما هو إنساني. لقد تعرضت هذه السمة لكثير من السخرية تحت قلم شريبر. فبخصوص الأسئلة التي يطرحها عليه الإله كي يقوده الى أجوبة متضمة طبعا في الإستجواب ولكنه يمتنع قطعا عن إعطائها، يقول شريبر - "إنها أفخاخ جد ساذجة يتم نصبها قبالتي". والكثر من ذلك، فإن شريبر يقدم تنظيرات شتى وعذبة العقلنة، حول سمات اليقين المتعددة ويعطي لذاك تفسيرا. "إذ كيف يُعقل أن يكون الرب على هذه الحالة حتى لا يفهم حقا أي شيئ بخصوص متطلبات الإنسان وحاجاته الضرورية؟ كيف يمكن أن يكون أبلها لدرجة تجعله مثلا، يعتقد بأنني إن توقفت لحظة عن التفكير في أمر ما فإنني قد أصبح معتوها كلية، بل وأنني قد أسقط في العدم؟ وهذا ما يظنه الإله حقا، بل إنه يغتنم هذه الفرصة لينسل وينسحب مني. وكلما حدث ذلك، فإنني أفضي بنفسي للإنكباب باهتمام ذكي، وأُظهر حضوري. فإن كان هذا الإله يعتقد ذلك، رغم خبراته التي تعد بالآلاف، فإنه لعديم التربية فعلا وغير قابل للتهذيب."


حول هذه النقطة بالذات، يقدم شريبر تنظيرات جد بعيدة عن أن تكون بليدة. إنه يقدم افتراضات وبراهين تجد مكانتها داخل نقاش لاهوتي حقاً. فبما أن الكمال من صفات الله ولا يتطلب اكتمالا، فإن مفهوم التقدم من خلال الخبرة المكتسبة غير وارد في حقه. لكن شريبر يرى بأن هذا الدليل, مصنع الى حد ما لأن هذا الكمال الرباني يبقى أعمى بخصوص المسائل الإنسانية. فعلى عكس الإله الذي يعلم ما في القلوب وما تكنه الصدور، فإن إله شريبر لا يعلم من الأمور الا ما طفا على سطحها. فهو لا يرى إلا ما يرى وأما بخصوص الكنه فإنه لا يفقه شيئا. لكن، بما أنه يتم تسجيل كل الأشياء في مكان ما وعبر نسق الملاحظات المخطوطة على ظهر بطاقات صغيرة، فإنه سيصبح، لا محالة، على علم بمجموع ما تم تسجيله.


إن شريبر يشرح جيدا كيف أنه من المسَلم به أن ليس للإله من منفذ الى معرفة الأمور العارضة والتافهة كمثل وجود الآلات البخارية والقاطرات. إلا أن الأرواح الصاعدة الى النعيم كانت قد سجلت كل ذلك على شاكلة حطاب حرز علية الإله، مكوِّنا من خلاله فكرة على ما يحصل على سطح البسيطة من اكتشافات طفيفة، ابتداءا من لعبة الشيطان للأطفال وحتى القنبلة النووية. إنه لنسق جد جميل ومنتظم وبصدده يخالجنا الإحساس بأن اكتشافه قد تم بواسطة تطور عالي البراءة، وبواسطة تراتب استنتاجات دلالية، وخلال تلاحق متناغم ومتناسق ومستمر في مختلف مراحله التي تدفعها وتقودها العلاقة المختلة التي تربطها ذات المريض مع ما يتعلق بالوظيفة العامة للغة، مع النظام الرمزي ومع الخطاب.(144)


ليس بإمكاني أن أحدثكم عن كل ما تتضمنه هذه الجوانب من غنى ووفرة. فهناك مثلا نقاش ذو روعة فائقة حول علاقات الإله بألعاب القمار. فهل بإمكان الإله أن يتكهن بالرقم الرابح في اليانصيب؟ إنه سؤال بعيد كل البعد عن البلاهة. فبإمكان من لهم اعتقاد راسخ من بين الحضور هنا أن يتأملوا المسألة. إن مرتبة العلم بالغيب التي يفترضها التكهن ببطاقة الرقم الرابح الذي قد يخرج من سلة اليانصيب لكفيل بطرح صعوبات جمى. فمن حيث بعد الواقعي، ليس هناك، داخل هذه الكتلة المتوازنة التي تشكلها السلة، أية فروق بين بطاقات اليانصيب، ما عدى الفروق الرمزية. فيجب إذن الإفتراض بأن الله يدخل ويندمج في الخطاب. فنجدنا هكذا في حالة تمديد لنظرية الرمزي والتخيلي والواقعي.


فهذا التساؤل يتضمن الفكرة التالية: إن نوايا الله ليست واضحة. فليس هناك إذن أكثر إثارة للإنتباه من رؤية كون الصوت الهذاء المنبثق من خبرة جد فريدة من نوعها، يتضمن لدى هذه الذات نوعا من حُرقة اللغة التي تتمظهر من خلال الإحترام الذي يبذله المريض للمحافظة على ما يلي: كون صفات العِلم الكلي والنيات الحسنة هي صفات لازمة للألوهية. إلا أنه من غير الممكن أيضا للمريض ألا يرى - وخصوصا في بداية هذيانه، عندما كانت الظواهر المؤلمة تنطلق نحوه من شتى الأشخاص المُضِرِّين - بأن الله، مع ذلك، سمح بكل ذلك. إن هذا الإله يسلك سياسية غير مقبولة على الإطلاق، سياسة أنصاف الحلول وأنصاف المضايقات. وبهذا الخصوص أطلق شريبر تعبير الخيانة والإحتيال. وفي آخر المطاف، بإمكاننا أن نفترض لدى المريض وجود اختلال مركزي في نظام الكون. وكما تقول الأصوات: "ِتذَّكروا بأن كل ما هو مُعولِم يتضمن  تناقضا في صلبه". إنها قولة ذات جمال لست بحاجة لأبرز لكم ملامحه.


نتوقف اليوم عند هذا التحليل لبنية شخص الإله. أما الخطوة المقبلة فستتمثل في تحليل علاقات مجمل هوامات شريبر مع مجال الواقعي نفسه. فبواسطة السجل الرمزي والسجل الصوري والسجل الواقعي، سنقوم بتقدم جديد، تقدم يمَكننا من اكشاف طبيعة ما يتعلق به الأمر داخل التحاور الهذائي.(145)




1 فبراير 1956








الفصل العاشر: بخصوص الدال في الواقع
وبخصوص معجزة العويل


‫‫                  



- حَدَث الطب العقلي الأول.
- خطاب الحرية.
- سكينة المساء.
- طوبولوجية الذاتية.




لقد وجد البعض في الحصة الماضية أنني مررت مر الكرام عندما تعرضت لإعتبارات الرئيس شريبر حول صفات الجبروت والعِلم الإلهيين وعندما انصرفت في تقدير وتقييم مفعولها.


لقد اكتفيت بالإشارة الى أن هذا الرجل، الذي تنضوي خبرته بالله كاملة في إطار الخطاب، تراوده أسئلة بخصوص ما هو موجود في نقطة الإلتقاء بين الرمزي والواقعي، أي بخصوص ما يُدخِل في الواقعي، التضاد والمعاكسة الرمزية. ربما كان من المفروض أن أأكد على أن المثير للإنتباه حقاً ما يوقف تفكير المريض، إذ يبدو له من الصعب أن يكون بإمكان الإله التكهن بالرقم الرابح في اليانصيب.


إن هذاه الملاحظة لا تُبعد طبعا ما قد يؤدي إليه نفي كهذا من انتقادات قد تصدر عمن هو على استعداد للرد على المريض. لقد جعلني أحدكم ألاحظ، مثلا، بأن الأرقام تختلف وتتمايز فيما بينها بواسطة حيثيات مكانية، وبأنه لا يتم الإعتماد على شيئ آخر للتمييز بين الأفراد عندما يطرح مشكل مبدأ التفرد.


أما أنا، فقد أشرت الى حساسية المريض في الجانب المعقلِن منه بخصوص الفرق بين اللغة كمجال رمزي وبين حواره الداخلي والمستمر، هذا الحوار الذي هو، بتعبير أدق، بمثابة تمايل بين سؤال وجواب يقوم بهما الخطاب ذاته والذي تحس ذات المريض تجاهه بنوع من الغرابة فتبدي حياله نوعا من الحضور.(147) 


إن الخبرة الذهانية التي يطلعنا عليها شريبر هي منبع إيمانه بالله، إيمانا لم يحصل أبدا أن تم إعداده له في سابق حياته. فلقد تعلق الأمر لديه بإدراك مجال الواقع الذي بإمكانه التكفل بهذا الحضور الذي يغطي جزا من الكون وليس كُله، ذلك لأن القدرة الإلهية، في نظره، لا تعرف شيئا عن الإنسان. فلا شيئ بإمكان الله فهمه عن كنه الإنسان، وعن إحساسه بالحياة وعن الحياة ذاتها إلا بما حرز عليه من معلومات انطلاقا من اللحظة التي انقلب فيها الكل الى مخطوطة لا متناهية.


في حين نجد شريبر، هذا الشخص المعقلِن، الذي اصطدم بخبرة تحظى، في نظره، بكامل سمات الواقع والتي أدرك خلالها الثقل الخاص لحضور لا جدال فيه لإله من لغة، نجده يتوقف ليذكر حدود قوة هذا الإله من خلال مثال يتعلق الأمر فيه باستعمال إنساني واصطناعي للغة. إن الأمر يتعلق بمستقبل عارض، من الممكن فعلا بصدده طرح السؤال بخصوص حرية الإنسان وفي نفس الوقت، بخصوص عدم قدرة التنبؤ من طرف الله.


إن ما يهمنا هو أن شريبر يميز بين مستويين مختلفين جدا في استعمال اللغة. ولن يحظى لدينا هذا التمييز على قيمته الكاملة ألا إذا سلمنا بالطابع الأولي إطلاقا للتعارض الرمزي بين الزائد والناقص بحيث لا شيء يفدي الى التمييز بينهما ماعدا تعارضهما المبدئي، وإن كان لا بد لهما من وعاء مادي. إنهما يتعالين عن كل معطى واقعي آخر ما عدا قانون تعادلهما على مستوى الصدفة.


فانطلاقا من اللحظة التي نؤسس فيها لعبة التبادل الرمزي، يلزمنا أن نفترض بأن لا شيئ يعمل على تمييز العناصر في إطار الفعالية الواقعية. فليس انطلاقا من قانون تجربة ما وإنما اعتمادا على قانون قبلي، يكون في وُدنا الحصول على حظوظ متساوية حتى يتم إخراج الزائد والناقص في اليانصيب. فلن يمكن إضفاء طابع المعقولية على اللعبة إلا إذا ما وفرتَ عنصرَ مساوات الحظوظ. ففي هذا المجال، يمكننا القول بأن الرمزي يعطي هنا قانونا قبليا، ويدخل تفعيل عملية تستعصي على كل ما يمكن أن نستخلصه من الأحداث في وسطها الواقعي.






1




يجب ألا نكف عن طرح السؤال عما يجعلنا متمسكين بمسألة الهذيان. ولكي نفهم ذلك، يكفي أن نتذكر العبارة التي غالبا ما يتداولها البعض بدون تروِّي، بخصوص آلية التحليل والتي تفيد بأننا في عملنا كمحللين، نعتمد على الجزء السوي من الأنا. أليست الهذاءات التي تسمى كلاسيكيا بالهذاءات الجزئية، هي أجلى مثال عن تواجد متعاكس داخل الأنا لجزء سوي وآخر مستلب؟(148)


أهناك مثالا شبيها يرقى الى مستوى القوة والدقة التي يحظى بهما كتاب الرئيس شريبر الذي يعطينا عن نظرته للعالم وعن خبراته عرضا عالي الحساسية ومنعدم التشدد، والذي يتطرق بنفس قوة التدليل الى الكيفية اللامتقبلة التي تصبغ خبراته الهلاسية؟ في حين - وهذا هو الحدث الأولي في الطب العقلي - من منا يتناسى بأنه ليس بإمكان أي اعتماد على الجانب السوي للأنا أن يجعلنا ننجح في التغلب ولو قدر أنملة على الجانب المستلَب منه؟


إن حدث الطب العقلي الأولي هذا والذي يمَكن المبتدئ من التدرب على الإقتراب من الحمق في حد ذاته، يقود الى التخلي عن كل أمل في العلاج انطلاقا من هذا المنحى.  وحتى مجيئ التحليل النفسي، لقد مشت الأمور دائما على هذا المنوال وإن اختلفت القوى المبهمة، مثل الوجدان أو الخيال، التي يتم اعتمادها في كل اختزال معقلِن للهذيان الذي يبدو مع ذلك جد مترابط وقابل ظاهريا للقوانين التي تعطي للخطاب تماسكه. أما التحليل النفسي، على العكس، فلقد حظي الهذيان فيه بعناية جد خاصة ومتميزة، إذ حباه بنفس المشروعية التي يعمل التحليل النفسي في المعتاد على مستواها. فهو يتوقف في خطاب الهذيان على ما يحصل عليه عادة بخصوص خطاب اللاشعور. إلا أن خطاب الهذيان الذي تم انبثاقه في الأنا - مهما بلغت درجة ترابطه، بل ويمكننا أعتباره مقلوبا في غالبيته وموضوعا بين قوسي الإنكار - ينكشف في آخر المطاف غير مطاوِع ولا قابل للإستشفاء أو الإختزال.


وبالإجمال يمكنا القول بأن الذهاني هو شهيد اللاشعور، مع إعطاء لكلمة شهيد معناها والذي يحص وضعية الشاهد. إن الأمر يتعلق بشهادة مفتوحة. والعصابي بدوره شاهد على وجود اللاشعور. إنه يعطي شهادة مستترة يلزم فك ألغازها. أما الذهاني من حيث هو، وبتقريب أولي، شاهد مفتوح، يبدو ثابتا ومتحجرا في موقف يجعل منه غير قادر على استعادة أصيلة لمعنى ما هو شاهد عليه وعلى تقاسمه داخل الخطاب المشترك.


سأحاول أن أجعلكم تتحسسون الفرق الموجود بين خطاب مفتوح وخطاب مغلق اعتمادا على مناظرة حية وسترون بأنه في العالم العادي للخطاب هناك نوع من اللاتناظر أواللاتماثل يعطي نظرة مسبقة عن اللاتماثل الذي يتعلق به الأمر بخصوص تتناقض العصاب مع الذهان.(149)


إننا نعيش في مجتمع لا يُعترف فيه بالعبودية. إلا أنه من الجلي أن هذه العبودية، من وجهة نظر أي عالم اجتماع أو فيلسوف، غير ملغاة البتة رغم ذلك. وهذا ما كان موضوع مطالبات نضالية جد معروفة. ومن الجلي أيضاً، أنه بالإضافة الى عدم إلغاء هذه العبودية، فإنه قد تم تعميمها، إن أمكن القول. إن ما نسميهم بالمستغِلين والمستثمِرين هم أيضاً في وضعية خَدم ككل الناس داخل مجمل الإقتصاد. وهكذا فإن ازدواجية السيد والعبد قد تم تعميمها بداخل كل منخرِط ومشارِك في مجتمعنا.


إن عبودية الوعي العميقة هذه وما يترتب عنها من شقاء، يلزم إرجاعها الى الخطاب الذي أحدث هذا التغير المجتمعي العميق. وهذا الخطاب، يمْكننا تسميته بمرسال الأُخُوة. إن الأمر يتعلق هنا بحدث جديد لم يَنتظر نشأة المسيحية حتى يَظهر للوجود وإنما تم التمهيد له من طرف مذهب الرواقية على سبيل المثال. وعلى كل، فخلْف العبودية المعممة، يقبع خطاب خفي، في حين تمكث على مستوى المكبوت رسالة تدعو للتحرر.


هل الأمر كذلك بالنسبة لما سنسميه بخطاب الحرية الظاهر؟ طبعا لا. فلقد إنجلى منذ زمن، عدم التوافق بين انتفاضة الشعب في حد ذاتها وبين الفعل الإجتماعي وما يحظى به من فعالية لإحداث التغيير. ويمكنني القول بأن الثورة المعاصرة في مجملها ترتكز على هذا التمييز السابق الذكر وعلى الفكرة التي تفيد بأن خطاب الحرية تحديدا ليس فقط منعدم الفعالية بل هو أساسا في حالة استلاب بخصوص مغزاه وموضوعه، بل وبأن كل ما يجسد هذا الخطاب في الواقع هو حقاً عدو لكل تقدم في اتجاه الحرية التي قد تعمل على تنشيط حركة متواصلة داخل المجتمع. ورغم ذلك، يبقى خطاب الحرية منغرسا في أعماق كل الإفراد كممثل لحق كل فرد لتمتعه باستقلاليته.




وهكذا يبدو أن مجالا معينا أصبح لازما للإنسان المعاصر كي يتنفس نفسيا، مجالا تثبت فيه استقلاليته ليس فقد أمام كل سيد، بل وأمام كل إله، إنه مجال استقلاليته كفرد لايمكن اختزالها، مجال وجوده الفردي. وفي هذه النقطة بالذات ما يستوجب مقارنته بخطاب هذائي. إنه خطاب هذائي بالفعل، يفعل فعله في الوجود الحياتي للفرد العاصر وفي علاقته ببني جلدته. وبكل تأكيد فإني لو طلبت منكم أن تعبروا عن هذه الحرية، وأن تحددوا منها القسط المضمون في الظروف الراهنة فلربما قد تجيبوني متذرعين بحقوق الإنسان أو بالحق في السعادة أو بأشياء عدة من هذا القبيل، إلا أننا لن نذهب بعيدا قبل أن نلمس بأن الأمر يتعلق قبل كل شيء بخطاب حميمي وشخصىي لدى كل فرد وبأنه أبعد من أن يلتقي مع خطاب جاره حول أية نقطة كانت. وبالإجمال، يبدو لي مما لاريب فيه وجود خطاب مسترسل حول الحرية لدى الفرد المعاصر.(150)


أما الآن، فكيف يمكن لهذا الخطاب أن ينسجم ليس فقط مع خطاب الآخر ولكن أيضاً مع سلوك الآخر إذا ما حاول هذا الأخير بناء سلوكه نظريا على هذا الخطاب؟ إن هاهنا مسألة مثبِطة حقاً. والأحداث تبين في كل لحظة بأنه ليس هناك فقط تعامل واتكتفاء بما يأتي به كل فرد بل بأن هناك تراجع وتخل راضخ أمام الواقع. وعلى نفس الوتيرة، فإن شريبر، مريضنا الهذائي، بعدما ظن بأنه الوحيد الذي نجا من غسق الكون، قد رضخ للإعتراف بالوجود الدائم للواقع الخارجي. فليس بإمكانه تبرير وجدود هذا الواقع إلا أنه مضطر للإعتراف بوجوده الدائم وبأن أي شيئ لم يتغير البتة. وهذا ما يبقى غريبا في نظره بحيث أن هاهنا مستوى من اليقين أدنى مما تأتيه به خبرته الهذائية، ألا أنه يرضخ له مع ذلك.


أما نحن وبكل يقين، فلنا ثقة أقل في خطاب الحرية. ألا أننا عندما نضطر للتصرف، وبالخصوص بأسم الحرية، فإن موقفنا بخصوص ما يلزم تحمله في الواقع أو بخصوص عدم إمكانية التصرف المشترك والمتقاسم من أجل هذه الحرية، فقد يكتنفه فعلا طابع الخنوع المستسلم، طابع التخلي عما هو، رغم ذلك، جزءا أساسيا من خطابنا الداخلي الذي يقر بأن لنا ليس فقط حقوقا لا رجعة فيها وإنما أيضا بان هذه الحقوق ترتكز على حريات مبدئية وأولية، ضرورية داخل ثقافتنا لكل كائن إنساني.


هنالك ما يدعو للإستخفاف في مجهود النفسانيين لاختزال التفكير ورده الى فعل قد تم البدأ فيه أو تجنبه أو تصوره، وكذلك إرجاع هذا التفكير الى ما قد يجعل الإنسان على الدوام في مستوى اختباره لواقع أولي، لواقع يرتبط بمواضيع تخصه هو بالذات. إنه لمن الواضح جداً بأن التفكير لدى كل الناس يشكل شيئا غير ذي قيمة، وهو ما يمكننا تسميته بإجترار نفسي حقيقي. لكن لماذا يتم تبخيس الفكر الى هذا الحد؟


إن كل فرد يطرح على نفسه أسئلة لها علاقات وطيدة مع المفاهيم المتعلقة بالتحرر الداخلي وبتمظهر شيئ ما تحتويه الذات. إلا أننا، انطلاقا من هذا المنظور نجدنا تواًّ متورطين في مأزق لكون أي نوع من الواقع الحي المندمج داخل روح المجال الثقافي للعلم المعاصر يدور في حلقة مفرغة بالأساس. ولهذا أيضاً نقوم دوما بمراجعة الطابع المتزمت والمتردد لتصرفاتنا الشخصية ولا ننطلق في اعتبار المسألة بأنها وصلت الى مرتبة الخلط العقلي إلا انطلاقا من اللحظة التي نأخذ فيه الأمور من موقف المفكر، وهذا ليس مصير كل الناس. فكل فرد يتوقف عند مستوى تناقض لا حل له بين خطاب لازِم دوما على مستوى معين وبين واقع لا يرضخ له، لا من حيث المبدأ ولا من حيث ما شهدت به التجرية.(151)


ألا تلاحظون بالفعل بأن التحليل النفسي مرتبط بشكل عميق بخطاب الذات المزدوج هذا، بهذا الخطاب المتناقض والمثير للإستهزاء والذي هو أناها؟ والذي هو أنا كل إنسان معاصر؟ أليس من الجلي أن الخبرة التحليلية قد انطلقت من واقع أنه، في أخر المطاف، ما من شخص في إطار الحالة الراهنة للعلاقات البيإنسانية داخل ثقافتنا قد يحس بطمأنينة؟ فلا أحد من الممارسين يحس بالأمانة والنزاهة الكافيتين للإدلاء بأي نصيحة قد تتضارب مع المبادئ. فليس فقط لأننا نجهل الكثير عن حياة الشخص هو ما يجعلنا تتوانى عن نصحه فيما إذا كان من الأحسن أن يتزوج أو لا يتزوج في ظروف معينة، وإنما لأن دلالة الزواج في حد ذاتها تبقى لدى كل واحد منا بمثابة مسألة مفتوحة. وهي مفتوحة بشكل يجعلنا لا نحس بأننا قادرين على الرد عندما يتم اللجوء إلينا بصفتنا مُدراء وعي. إن هذا الموقف الذي بإمكان كل واحد منا أن يتوقف على مصداقيته إن هو بقي في المقام المنوط به ولم يستبدله بسلوك الواعظ أو العارف، هو أيضاً الشرط الأول الذي يجب طلبه ممن يمكن تسميته معالجا نفسانيا، ذلك أنه من المنتظر من علاجه النفسي لذاته أن يلقنه مغبات ومخاطر المبادرات المغامرة بهذا الشكل.


لقد انطلق التحليل النفسي بالضبط، ابتداءا من تخليه عن كل انخراط وتدخل على مستوى الخطاب المشترك وعن كل ما يعتوره من تنازعات عميقة بخصوص جوهر العادات ومكانة الشخص داخل مجتمعنا. إن التحليل يتمسك بخطاب مغاير ويكتفي به. إنه خطاب مسجل في آلام الكائن الذي هو قبالتنا، خطاب تم تركيبه في أشياء ليست تحت قبضة المريض والمتمثلة في أعراضه المرضية وفي بنية ذاته. فالعصاب القهري على سبيل المثال ليس فقط جملة أعراض بقدر ما هو كذلك بنية. فالتحليل النفسي لا يتموضع أبدا على مستوى خطاب الحرية، وإن كان هذا الخطاب الشخصي والمشترك في نفس الوقت، حاضرا على الدوام ومسترسلا بداخل كل فرد مع كل ما يتخلله من تناقضات وتضاربات، وإن كان كذلك هذائيا على الدوام سواء تم أو لم يتم الإحساس به. إن التحليل النفسي يقصد منحى مغايرا بداخل الذات بخصوص تأثير الخطاب.


وهكذا، أفليست حالة شريبر- أو أي مريض آخر قمين بإعطائنا عرضا وافيا للبنية الخطابية - لكفيلة بأن تجعلنا قادرين، أكثر فأكثر، على الإقتراب من مسألة ما قد يعنيه الأنا حقاً وصدقا؟ فالأنا لا تنحصر وظيفته في التركيب. إنه لا محالة مرتبط بهذا الجانب الملغِز والضروري واللامتحمل في آن، والذي يتشكل جزئيا من خطاب الإنسان الواقعي الذي نتعامل معه بداخل خبرتنا، وهو هذا الخطاب الغريب بداخل الفرد من حيث يعتبر نفسه فردا مستقلا.(152)






2




إن خطاب شريبر له بنية مختلفة بلا ريب. إن شريبر يخط بكثير من المداعبة في بداية أحد فصول كتابه مايلي: «يقال بأنني عظامي». وبالفعل، لم يتم بعد في تلك الآونة، الإبتعاد أو التخلي عن التصنيف الكريبليني مما دفع الى نعته بالعظامي مع أن أعراضه ترمي الى أبعد من ذلك. إلا أن فرويد عندما عرّفه بالبارافريني، فقد ذهب هو أيضا أبعد بكثير بحيث أن البارافرينيا هي الأسم الذي أقترحه فرويد لتسمية الخبل المبكر، وهو ما سماه بلولر بالفصام.  


لنرجع الى شريبر. لقد قلت بأنه كتب : «يقال بأنني عظامي، ويقال بأن العظاميين هم أناس يجعلون شخصهم مركز كل شيء. فهذا خطأ ذلك أنني لست أنا من يضع شخصي مركز كل شيء وإنما هو الذي يضعني مركز كل شيء. إنه هذا الإله الذي يتكلم وبدون انقطاع في داخلي  بما أوتي من وكلاء وامتدادات مختلفة. إنه هو ذو العادة القبيحة الذي، مهما أوتي من خبرة، لا يفتأ ينبهني للتو بأن ما حدث يعنيني بل قد يصدر مني. فأنا لا أقدم على عزف فاصلة - أذكركم بأن شريبر موسيقارا - من قطعة "الناي المسحور"، حتى يضفي علي بسرعة، وهو يتكلم، الإحساسات المقابلة رغم أنني لا أحس بها.» ونرى أيضاً الرئيس شريبر في حالة سخط لكون الصوت يتدخل كي يقول له بأنه مَعنِي بما هو بصدد قوله. طبعا، نحن هنا بصدد لعبة سراب، إلا أنه ليس من قبيل السراب المألوف لهذا الآخر الذي يتم اعتباره غريبا بصفة مطلقة، وكأنه هائم ويتدخل كي يجعل من الذات التي هي في موقع ثانوي، موضع تلاقي نوايا العالم الخارجي والتي تعمل الذات على صدها بكل ما تملك من قوة.


إننا نتحدث عن الهلوسات. وهل لنا في ذلك مطلق الحق؟ إنها لا تقدَّم لنا على أنها كذلك عندما نستمع الى العرض المتعلق بها. فبحسب المفهوم المتداول والذي يعتبرها إدراكا خاطئا، فإن الأمر يتعلق بشيء ما ينبثق في العلم الخارجي ويفرض نفسه كإدراك أو كاختلال أو كانقطاع في نص الواقع. وهذا يعني بتعبير آخر بإن الهلوسة تتموقع في الواقع. إلا أن السؤال المسبق يكمن في معرفة ما إذا كانت هلوسة لفظية ما لا تتطلب نوعا من بث مبدئي، يطرح السؤال على شرعية هذا التحديد.(153)


يلزمني هنا اقتفاء طريق قد أتعبتكم في تتبعه وذلك بتذكيركم بركائز الخطاب مع ضحد كونه بنية فوقية وكونه مجرد سند للواقع، وتفنيد طابعه كعلامة أو إشارة وكذالك تفنيد المعادلة المفترضة بين التسمية وبين عالم الموضوعات. فلنحاول استعادة السؤال من زاوية تقترب بعض الشيئ من الخبرة.


لاشيء أقل التباسا من الهلوسة اللفظية. إن التحاليل الكلاسيكية تجعلنا نرمق، ولو في جزء من الحالات، النصيب الذي يرجع ابتكاره الى الذات. وهذا ما تمت تسميته بالهلوسة اللفظية النفسحركية. ولقد تم جمع ما حصلت ملاحظته من براعم هلوسية بكل فرح وابتهاج لأنها كانت تحمل أملا في التفسير العقلاني و المُرضي لظاهرة الهلوسة. فما جعل هذه الظاهرة تستحق الدرس، مرجعه الى العلاقة بين الفم والأذن. فهي علاقة لا توجد فقط بين شخص وآخر وإنما أيضاً لدى أي شخص بذاته بحيث يستمع لما يقوله وهو يتكلم. فلما حصل التوصل على هذا المقدار، تم الإعتقاد بأن خطوة مهمة قد تحققت في دراسة هذه الظاهرة وبأنه من الممكن التقدم في الكشف عن جوانب أخرى بصددها. وفي الحقيقة، فإن العقم الصارخ الذي تخلل دراسة مشكلة الهلوسة اللفظية يرجع بالفعل الى هذه الملاحظة الغير مُرضية. فأما إذا كان الفرد يسمع ما يقوله، فمن الأفضل عدم التوقف عند ذلك قيد الرجوع الى اختبار ما يحدث عندما يستمع الى شخص آخر.


فماذا يحدث لو أنكم اقتصرتم فقط على كيفية تلفّظ ما أنتم تسمعونه، فتنتبهون فقط أثناء تسجيل خطاب مخاطبكم الى طريقة النطق واللهجة وما شابه ذالك في مظهر اللغة؟ يتطلب فهم ذلك قدر من الخيال لإنه قد يستحيل بلوغ الأمور درجة قسوى كهاته. إلا أن المسألة تبدو واضحة جداً عندما يتعلق الأمر بلغة أجنبية بحيث أن ما تفهمونه في خطاب ما، هو غير ما تم تسجيله على المستوى الصوتي. وتصبح المسألة أكثر بساطة عندما نأخذ مثال الأصم-الأبكم. فهو يستقبل خطابا عن طريق إشارات بصرية تم تركيبها بواسطة الأصابع، حسب أبجدية الصم-البكم. فإذا ما توقف الأصم-الأبكم مشدوها بأيدي مخاطَبه الخلابة، فإنه لن يقوم بتسجيل الخطاب المبلَّغ بهذه الأيدي. فهل يمكن القول بخصوص ما يسجله من تعاقب للإشارات ومن تضاد مؤسس لهذا التعاقب، بأنه يراه؟


ويمكننا ألا نتوقف عند هذا الحد. إن الأصم-الأبكم، وهو بصدد تسجيل التعاقب اللفظي الذي يُعرض عليه، يمكنه بالفعل عدم الفهم كلية إذا ما تحدثنا اليه بلغة يجهلها. فهو كذاك الذي يستمع لخطاب في لغة أجنبية. إنه يتوصل بالجملة المنطوقة بكل وضوح، لكنها تبقى جملة ميتة لديه. فالجملة لا تصبح حية إلا ابتداءا من اللحظة التي تحصل فيها دلالة ما.(154)


فما معنى ذلك؟ إذا ما كنا جد مقتنعين بأن الدلالة ترتبط دوما بشيء ما، وبأن لا قيمة لها الأ بكونها تفدي الى دلالة أخرى، فلقد يصبح جليا بأن حياة جملة ترتبط ارتباطا وثيقا بكون الذات في مقام الإستماع وبأنها ترسل هذه الدلالة إليها بالذات. إن ما يفرق بين الجملة المفهومة وبين الجملة التي ليست كذلك وإن تم سماعها بالفعل، هو بالتحديد ما أبانت عنه بوضوح فينومينولوجيا الحالة الهذائية والمتعلق بتوقع واستباق الدلالة.


إنه من طبيعة الدلالة بكونها تتشكل، أن ترمي في كل لحظة الى الإكتمال عند من يستمع اليها. وبمعنى آخر، فإن مشاركة مستمع الخطاب مع الذي يرسله، هي مشاركة دائمة وبأن هناك رباط غير خارجي بين السماع والتكلم وليس فقط ذاك الرباط الخارجي الذي أشرنا إليه في ظاهرة سماعنا لأنفسنا ونحن نتكلم. إنه رباط يحصل على مستوى ظاهرة اللغة بالذات. إن التكلم والإستماع يكونان كليهما بمثابة قفا لوجه على المستوى الذي يدفع الدال فيه الى توليد دلالة، وليس على المستوى الحسي للظاهرة. إن الإستماع لكمات مع تطويع السماع صوبها، يجعلنا الى حد ما في حالة المطيع نحوها. فالطاعة ليست غير ذلك. إنها بمثابة المضي قدما والى الأمام في لحظة الإستماع.


لنقم بإيجاز ما أوردناه. إن المعنى يصبو دوما نحو شيء ما، نحو دلالة أخرى، نحو إتمام الدلالة وإقفالها. إنه يومئ دوما الى شيء قبالته أو الى شيء يتراجع نحوه. أهل هذا يعني أن ليس هناك نقطة توقف؟ أنا على يقين بأن هذه النقطة تبقى على الدوام غامضة في أذهانهم بسب إصراري على التوكيد بأن الدلالة تفدي دوما الى الدلالة. إنكم لتتساألون في ما إذا كان هدف الخطاب، والذي لا يكمن فقط في تغطية عالم الأشياء، ولا حتى في احتوائها، وإنما بالإتكاء عليها بين الفترة والأخرى، قد تم فقدانه بالمرة.


إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أعتبار أن نقطة توقف الخطاب الركيزة تكمن في الإشارة للأشياء ونعتها. إن هناك عدم تطابق مطلق بين الخطاب وبين أية إشارة. ومهما تقلصت قيمة أدنى عنصر من الخطاب في أفتراضاتكم، فلن يتسنى لكم إستبداله بإشارة بنان - لنتذكر ملاحظة سان أوغوستان Saint-Augustin القيّمة ؛ فإذا ما أشرتُ الى شيء ما بحركة أصبع، فمن يدري إن كان أصبعي يشير للون الشئ أو لمادته أو الى لطخة عليه أو شُق به. فلا بد من الكلمة ومن الخطاب كي يتم تحديد ذلك. إن للخطاب خاصية أصلية تميزه بالمقارنة مع الإشارة. إلا أننا لن نجد هاهنا المرجع الأساسي للخطاب. أنحن نبحث عن النقطة التي يتوقف فيها؟ إنه دائماً يتوقف عند هذا الحد الإشكالي والمسمى كائنا.(155)


إنني لا أريد هنا أن أخوض في خطاب فلسفي، لاكنني أبغي أن أبين لكم ما أريد قوله عندما أقول لكم مثلا بأن الخطاب يصبو بالأساس لشيئ لا نمتلك بصدده سوى لفظ الكائن.


أرجوكم إذن أن تتوقفوا لحظة بصدد ما يلي: أنتم الآن تنهون يوما عاصفا ومتعِبا. إنكم ترقبون الظل الذي أمسى يغمر كل ما يحيط بكم، ثم يستولي على تفكيركم إحساس يتجسد في التعبير التالي: "سكينة المساء".


أنا لا أعتقد بأن من له حياة عاطفية سوية لا يعرف بأن هذا شيء له وجود وأن له قيمة جد مغايرة عما يمدنا به الإدراك الظاهري بخصوص زوال النهار وانحدار أضوائه وبخصوص خفوت المعالم والنزات. إن في «سكينة المساء» حضور وفي نفس الوقت اختيار في مجمل ما يحيط بكم.


فما هي العلاقة الموجودة بين تعبير «سكينة المساء» وبين ما تحسون به؟ إنه ليس من باب العبث التساؤل فيما إذا كان بإمكان كائنات لا تعير لسكينة المساء هاته وجودا منفصلا ولا تعبر عنها لفظيا أن تميزها عن أي مستوى آخر يمْكن من خلاله إدراك الفترة الزمنية. فقد تحصل مثلا على شاكلة إحساس مرعب تجاه الواقع، أو تأخذ شكل اضطراب تلاحظونه للتو في سلوك قطتكم وكأنها تلاحق شبحا في كل أركان المنزل، أو من خلال هذا القلق الذي ننسبه بدون تروي الى الأقوام البدائية بخصوص موقفهم من غروب الشمس، فنظن نحن بأنهم يتخوفون من عدم صعودها. يتعلق الأمر إذن بتطلع قلق. فها أنتم ترون بأن المسالة تبقى مفتوحة على مصراعيها لمعرفة ماهي العلاقة التي تربط هذا المستوى من الكائن الذي له وجود مماثل لكل موجودات حياتنا اليومية مع تعبيره اللفظي والذي يسمى «سكينة المساء».


أما الآن فيمكننا ملاحظة أن شيئا أخر مغايرا تماماً قد يحصل إذا ما كنا نحن من نادى سكينة المساء وكنا نحن من حضّر هذا التعبير قبل الإدلاء به أو إذا ما فاجأتنا وقاطعت سلوكنا مهدئة لحركة الإضطرابات التي كانت تغمرنا. فعندما لا نكون في حالة الإنصات لها وعندما تكون خارج مجالنا فتسقط بغتة على ظهرانينا، آنذاك بالتحديد تحصل على كل قيمتها فنجدنا مندهشين بهذا التعبير الداخلي الى حد ما والموحى به الى حد ما. فيأتينا هذا التعبير من الخارج على شكل همسة وكأنه تَمظهُر لخطاب في ملكيتنا بالكاد، فيأتي كصدى لكل ما أصبح بغتة دالا في هذا الحضور بالنسبة لنا والمتجسد في هذه العبارة التي لا نعرف إن هي قد أتت من الداخل أم من الخارج - «سكينة المساء».(156)


ومن دون أن نتعمق في تحديد علاقة الدال من حيث هو دالا لغويا، مع شيء ما تستحيل تسميته خارج هذا الدال، فمن الملموس أنه كلما عدلنا عن تلفظه وكلما تراجعنا عن تكلمه إلا ويتكلمنا هو. فكلما بقينا غرباء عما يتعلق به الأمر بخصوص هذا الكائن إلا ويميل الى الحضور أمامنا مصحوبا بهذا التعبير المطمئن الذي يبدو غير محدَّدا. فهو يبدو كذلك على حدود مجال استقلاليتنا الحركية وعلى مشارف هذا الشيء الذي فيل به لنا من الخارج والذي بواسطته يكلمنا عالمنا المحيط بنا.


فماذا يريد أن يقوله أو لا يقوله لنا، هذا الكائن اللغوي المتمثل في «سكينة المساء»؟ فبما أننا لا تنتظره، ولا نتوخاه حتى ولم يحصل لنا منذ زمن طويل أن فكرنا فيه، فإنه يتمظهر لنا أساسا على صيغة دال. وأي بناء تجريبي لن يتمكن من البرهنة والتدليل على وجوده. إن هاهنا معطى، هاهنا كيفية خاصة لإستقبال لحظة المساء هاته باعتبارها دالا بودنا أن ننفتح أو ننغلق بصدده. فبالقدر الذي نكون بصدده منغلقين، فإننا أنذاك بالذات نستقبله مرفوقا بظاهرة الصدى المتميزة هاته، أو على الأقل بمؤشرات اندلاعها والتي تتجسد في انبثاق ما يتم التعبير عنه لدينا عادة بواسطة الكلمات التالية : "سكينة المساء". فهاهنا نكون الأن قد وصلنا الى الحد الذي، إن وصل فيه الخطاب الى شيئ يتعدى الدلالة، فإنما يصل الى الدال في الواقعي. وهكذا فإنه لن يكون في إمكاننا أن نعرف أبدا، في إطار الإلتباس الكامل الذي يقبع فيه، ما يَدين به الى علاقته التزاوجية مع الخطاب.


فها أنتم ترون أن هذا الخطاب، بقدر ما يفاجؤنا بمعنى أنه يفلت من بين أيدينا، فإنه يبدو لنا من خلال طرة لظاهرة الخطاب. وهكذا، بالنسبة لنا، وهنا تكمن الفرضية العملية التي أقترحها، فإن الأمر يتعلق بالبحث حول ما يوجد بصلب خبرة الرئيس شريبر، أي ما يحس به، من دون أن يعلم، على هامش خبرته وهو محمول فوق الزَبد الذي كونه هذا الدال الذي لا يبدو له كدال وإن كان ينظم على هامشه كل هذه الظواهر التي تحصل له.






3




لقد قلت لكم المرة السابقة بأن استمرار هذا الخطاب المسترسل هو محسوس به من طرف ذات المريض، ليس فقط كامتحان لقدراته الخطابية، وإنما كتحدي وطلب مُلح من دونهما سيصبح بغتة فريسة انقطاع مع آخِر حضور في العالم والذي بقي في متناوله أثناء الهذيان. إنه حضور هذا الآخر المطلق، حضور هذا المُحاور اللذي أفرغ الكون من كل وجود أصيل. فإلى ماذا يمكن إيعاز اللذة التي تفوق كل وصف، والنغمة المركزية لحياة ذات المريض والمرتبطة بهذا الخطاب؟(157)


إن شريبر، خلال ما عاينه من أمور جد خاصة وتثبتا شديدا منه بالحقيقة، كان يسجل كل ما يحدث له عنما يتوقف هذا الخطاب الذي كان به معلقا وبشكل أليم. كانت تَحدث له ظواهر تختلف عن تلك التي تنجم عن الخطاب المستمر داخليا. كانت تحدث له تباطؤات وتعليقات وتقطعات في كلامه، لدرجة يجد المريض نفسه ملزما بإيجاد تتمة للجمل الناقصة. إن انسحاب هذا الإله الملتبس والمزدوج والذي يبدو للمريض عادة في شكله المنحط، يكون مصحوبا لديه بآلام حادة وخصوصا بأربعة صفات كلها من طبيعة لغوية.


ففي المقام الأول هناك ما يسميه بمعجزة العويل. فهو لا يمكن أن يمتنع عن إصدار صراخ مُطَول ينتابه بنوع من القسوة لدرجة تجعله، كما لاحظ هو نفسه، يقذف بما في فيه. الشئ الذي يتطلب منه قدرا كبيرا من التحكم في النفس كي لا يكون مضطرا للقيام بهذه الفعلة وسط الناس. إلا أنه أبعد من أن يتمكن من ذلك. إنها ظاهرة مثيرة للإنتباه إذا ما اعتبرنا كون هذا الصراخ بمثابة الحد الأدنى والأكثر تقلصا بخصوص المشاركة الحركية للفم في إطار وظيفة الكلام. فإن كان هناك شيئ يمكن للكلام من خلاله أن ينضاف الى وظيفة صوتية غير دالة على الإطلاق، لكنها تتضمن كل الدَّوال الممكنة، فإنه يكمن في ما يجعلنا نرتعش أمام مشهد الكلب وهو يصرخ في وجه القمر.


ثانيا هناك نداء النجدة المنتظر سماعه من طرف الأعصاب الإلهية التي انفصلت عن المريض، لكنها تركته وكأنه بقايا مُذَنََّب. ففي الفترة الأولى، فترة الإرتباط بالأراضي، لا يمكن لشريبر أن يكون في حالة الوصال الدَّفقي مع الأعصبة الإلهية، وإلا قفزت الى داخل فمه واحدة أو عدة من الأرواح المفحوصة. وهذا ما لم يحدث له منذ أن حصل نوع من التوازن في عالمه التخيلي. في حين مازالت بعض الظواهر المقلقة تحدث له عندما يتم ترك بعض من هذه الذوات المتحركة، من جراء انسحاب الله، بعيدا الى الوراء خلف القافلة وهي تصرخ بنداء النجدة.


فنداء النجدة هذا يختلف عن العويل. أما العويل فما هو إلا دال محض، في حين أن نداء الإغاثة له دلالة وإن كانت هذه الدلالة ذات طابع بسيط وابتدائي. وليس كل ما هنالك. فهناك، ثالثا، كل تلك الاصوات المختلفة القادمة من الخارج، كيفما كانت. فسواء أتت هذه الأصوات من رواق المصحة وحتى من خارج المصحة، على شكل نباح أو صهيل، فإنه يعتبرها من باب المعجزة وبأنه تم إصدارها من أجله. فهي هكذا بمثابة أصوات تحمل دوما معنى إنساني.(158)




فبين العويل وما يرافقه من دلالة مضمحلة، وبين النداء - وإن كان غير صادر عنه، كما يقول، لإنه نداء يفاجئه من الخارج -، هناك درجات وأنماط من هذه المظاهرة تتميز كلها بانفجار الدلالة. إن شريبر يعرف جيدا بأن الصوات التي تتناهى الى مسامعه هي أصوات واقعية، وبأنه ألِفَ سماعها في محيطه. إلا أنه على يقين أنها إن حصلت في لحظة بعينها، فإنها لم تحصل تلقائيا وإنما من أجْله، في طريق العودة الى وحدة وعزلة لا حد لهما في العالم الخارجي، وبارتباط وثيق مع لحظات ابتلاعه في عالم الهذيان. 


أما المعجزات أو الخوارق الأخرى التي بنى من أجلها نظرية متاكملة بخصوص الخَلْق الرباني، فهي تتمثل في مناداة عدد من الكائنات الحية تتألف في الغالب عن عصافير مُغَنِّية تحصل له رؤيتها في الحديقة. وهو ما يستوجب التفرقة بينها وبين العصافير المتكلمة التي تشغل حيزا من المحيط الرباني. زد الى ذلك مايراه من حشرات ذات سلالات معروفة - لا ننس أن أحد آبائه الأولين كان ضالعا في علم الحشرات -. وكل هذه الكائنات قد خلقت عنوة من طرف قدرة الكلام الربانية من أجله. وهكذا، فبين هذان القطبان؛ قطب معجزة العويل وقطب طلب الإغاثة، تحصل فترة انتقال، تتجلى خلالها آثار مرور ذات المريض بحالات من الإنغماس في علاقة شبقية لا ريب فيها.


وهكذا فإن الظاهرة المركزية في هذيان شريبر قد استقرت في مجال يفتقد لكل معنى وتطغى عليه الدلالات الشبقية. لقد تمكن المريض في نهاية المطاف، من إبطال مفعول العملية التي خضع لها والتي تمثلت في إتمام وملئ الجُمل المنقطعة. وكل السبل التي اعتمدها في الرد على هذه الجمل، كمساءلتها مثلا أو سبها، لم تكن من قبيل المزاح. "إنه من اللازم علي، كما يقول، أن أبقى مرتبطا بنشاط الإله الذي يخاطبني من خلال لسانه المركزي"، بغض النظر عن الطابع المنافي للعقل والمهين لتساؤلات شريبر. وهكذا، فكلما حصل للمريض ابتعاد عن هذا المجال الملغِز، وكلما وجد نفسه في حالة يمكنه أن يتوخى منها نوع من الراحة والطمأنينة، تتوقد في العالم الخارجي رزم من الإشعاعات، تعمل على اختراقه وهي مُحملة بكل العناصر المكونة للغة بشكل متفكك. فهناك من جهة، النشاط الصوتي على شاكلته الأكثر بساطة، والذي قد يكون مصحوبا بإحساس يملؤه الهلع يرتبط لدى المريض بنوع من الخزي والعار. ومن ناحية أخرى، قد تبزغ لديه دلالة تبدو وكأنها تومئ الى طلب النجدة كحصيلة لحالة الإهمال التي قد يجد نفسه عرضة له.(159)


أما بخصوص الأشعة التي تسبق انبثاق الكلام الرباني، يقول شريبر بأنها تنقلب الى خيوط وبأن له بها إدراكا عينيا أو من حيث كونها تتموضع في المجال الخارجي على الأقل. إنها تتوجه نحوه من إعماق الأفق فتدور حول رأسه لتستقر خلف قفاه. كل هذا يجعلنا نفكر بأن هذه الظاهرة التي تستبق تدخل الكلام الرباني في حد ذاته، تحصل في ما يمكن تسميته بالمجال الشامل المرتبط ببنية الدال والدلالة والتي هي بمثابة التموضع المكاني القبلي التي يشترطه كل تبادل ثنائي لللغة.


أما ما يحصل عندما تتوقف هذه الظاهرة فهو مختلف إذ يصبح الواقع آنذاك مجالا لظواهر أخرى، تلك التي نختزلها عادة تحت مفهوم الإعتقاد. فإذا ما كان من اللازم رد مفهوم الهلوسة الى ما يقع على الواقع من تغيير، فإنه يحق لنا أن نبقي عليه في هذا المستوى وحده، حتى نضمن لخطابنا نوعا من التناسق. فالهذيان هنا هو بمثابة توقيع لما يحدث للمريض من إحساس جد متميز، يتموضع بين الإحساس بالواقع والإحساس بالخروج عن الواقع. إنه إحساس بولادة وشيكة وتنبؤٌ بما سيأتي من جديد في العالم الخارجي ولا يخصه إلا هو وحده. فما يحدث هنا ليس من قبيل ما يحدث في حالة الإرتباط مع الدلالة أو مع العملية الدلالية. فالواقع الذي يتعلق به الأمر هنا هو واقع مبتدع، يتم تمظهره بصفته شيئ مستجد بداخل الواقع. فالهلوسة بصفتها ابتكار للواقع هي هنا بمثابة مجال للتعبير عما تختبره ذات المريض.


أظن أنني تمكنت اليوم من إبلاغكم فحوى الخطاطة التي حاولت تقديمها إياكم، مع ما تحويه من إشكالات. لقد تَساءلنا عن المعنى الذي يمكن إعطاؤه لمفهوم الهلوسة. فلكي يتم ترتيب الهلوسات بشيء من الواقعية، يستحسن مراقبتها بداخل التباينات المتقابلة ومن خلال المعارضات الإضافية التي يعلن عنها المريض نفسه. فهذه المعارضات تشكل جزءا لا يتجزأ من نفس التكوينة النفسية. وبما أنه يتم الإفصاح عنها من طرف المريض، فإن لها قيمة أكبر مما إذا ما تم اعتبارها من طرف المراقِب  فقط. زد على ذلك أنه يلزم تتبع هذه التعارضات في سياقها الزمني.


لقد حاولت أن أجعلكم تتبينون بأن الأمر يتعلق لدى شريبر بشيء هو دائما على أهبة لمباغتته، شيء لا يفصح عن نفسه أبدا، لكنه يتموضع على مستوى علاقات المريض باللغة، على مستوى هذه الظواهر اللغوية التي يبقى المريض مرتبطا بها بشكل إكراهي جد متميز، والتي تشكل، في نهاية المطاف، المركز الذي يَصُب فيه الهذيان ما يأتي به من حل للإشكالية.(160)


إن هنالك طوبولوجيا نفسية، تتمركز بالكامل حول ما أتانا به التحليل والذي يكمن في تواجد دال لاشعوري تَلزمنا معرفة كيفية تموقعه في الذهان. إنه دال يبدو منفصلا وخارجا عن ذات المريض، إلا أن هذا التموقع الخارجي يختلف عما نقصده عندما يتم الحديث عن الهلوسة والهذيان بصفتهما اختلال يحصل بالواقع، ذلك أن المريض يبقى مرتبطا بهذا الدال بواسطة تثبيت شبقي.


فعلينا هنا إذن أن نأخذ بعين الإعتبار مجال الكلام في حد ذاته بحيث لا يمكن للذات تجاوزه إلا من خلال فاصلة درامية تتجلى فيها الظواهر الهلاسية، بمعنى أن الواقع ذاته يبدو وكأنه مختل، ويبدو وكأنه دالّ كذلك.


إن هذا المفهوم الطوبوغرافي يمشي في سياق المسألة التي سبق طرحها حول التفرقة بين الإلغاء والكبت بخصوص تموقعهما الوجداني. وما حاولت اليوم إفهامكم إياه يمثل اقترابا أوليا لهذا التعارض.(161)




8 فبراير 1956






الفصل الحادي عشر: بخصوص رفض دال أوّلي


                
- توأم حامل بالهذيان.
- النهار والليل.
- الإلغاء.
- الرسالة 52.




لقد تناولنا مشكل الذهانات من منظور البنيات الفرويدية. إنه عنوان متواضع ولا يسير صوب ما يصبو إليه تقصينا لإقتصاديات الذهانات والتي نتوخى البحث فيها عن طريق تحليل البنية.


إن البنية تتمظهر فيما يمكن أن نسميه، بالمعنى الدقيق، بالظاهرة. وقد يكون من المدهش ألا يبرز شيء من هذا القبيل من خلال الكيفية التي يبدو عليها الهذيان مثلا. إلا أن الثقة التي نضعها نحن في دراسة ظاهرة ما تختلف كثيرا عما يحصل في دراسة نفس الظاهرة انطلاقا من المنظور الفينومينولوجي الذي يجتهد في تحري ما يرتبط بهذه الظاهرة في واقع بعينه. أما من وجهة النظر التي تقودنا نحن فإننا لا نضع ثقة قبلية في ظاهرة ما، لسبب بسيط هو أن منهجيتنا علمية ولأن نقطة انطلاق العلم المعاصر تكمن في عدم وضع الثقة في الظواهر في حد ذاتها وإنما تكمن في البحث خلف الأشياء عما يمتلك وزنا في تفسيرها.


يجب عدم التراجع أمام قول ما يلي: إن كان الطب النفسي قد قام منذ زمن بخطوة الى الوراء متمثلة في احتراسه من التفسير وإعلائه من شأن الفهم، فذلك لأن نهج التفسير قد اندرج بداخله في مسالك مسدودة. أما من جهتنا نحن فإن التفسير الفعال الناجم عن التنقيب الحليلي يشهد في صالحنا، اعتقادا منا بأننا هنا أيضا سنتقدم في مجال الذهانات إذا ما انتحلنا تحليلا لائقا لهذه الظواهر،  تحليلا من شأنه أن يؤدي بنا الى تحري بنية واقتصاد الذات في الذهانات.


وهكذا، فإن ما يدفعنا للتعرض لمسألة الفصل بين العصابات والذهانات ليس هو فقط مجرد تلبية رغبة لإختصاصي تصنيف الأعراض، بل لأن الفصل بينهما من البداهة بمكان.(163)


لكن عندما نقوم بالتقريب بينهما، تبدو لنا آنذاك علاقات وتوازيات وتناقضات تمكننا من تركيب بنية لائقة بالذهان. فنقطة انطلاقنا هي كما يلي: إن اللاشعور متواجد في الذهان. وكل المحللين النفسانيين يسلمون بذالك، صوابا أم خطأ، ونحن أيضا نسَلم بذلك وبكونه، على كل حال، نقطة انطلاق ممكنة. فاللاشعور متواجد في الذهان حقا، إلا أنه منعدم الفعالية. وعلى عكس ما تم اعتقاده، فإنه لا يتضمن في حد ذاته أية إمكانية حل رغم تواجده. بل على العكس، إنه يتضمن جمودا جد متميز. ومن ناحية أخرى، فليس القصد من التحليل النفسي هو إخراج فكرة ما إلى حيز الشعور أو جعل أليات الأنا الدفاعية أقل تناقضا حتى يحصل، ما سُمي بتسرع كبير، تعزيز الأنا وتقويته. إن رفضنا لهذين المسلكين اللذين انساق فيهما التحليل النفسي منذ نشأته وحى الأن، قد يصبح بديهيا عندما نتطرق للذهانات.


ففي العدد الأول الخاص باللغة والكلام من المجلة التي أعلنَت منظمتنا عن إصدارها، ستجدون التعبير الإفتتاحي التالي: "بما أن التحليل النفسي يتخذ اللغة مسكنا له، فلابد من فساده إذا ما تجاهل عن ذلك في خطابه". إن هذا التعبير يُجمل معنى ما أُلقنه لكم منذ سنوات وهو ما نحن الأن بصدده بخصوص الذهانات. إن الإهتمام بظواهر اللغة في الذهان هو الأفيد والأجدى في نظرنا من كل ما يخالفه من تعاليم.






1




وعلى ما يبدو فإن مسألة الأنا أساسية في الذهانات لأن الأنا هو ما تم إخفاقه في الذهان من حيث وظيفة العلاقة مع العالم الخارجي التي تخصه. فلا يخلو من مفارقة إذن أن نبغي إمداده مجددا بالقدرة على التصرف في العلاقة مع الواقع والقدرة على تغييره من أجل تلبية المقاصد التي يتم اعتبارها بأنها دفاعية.


وهكذا يُعتبر الدفاع، انطلاقا من التناول المقتضب الذي يتم الإقتراب به منه، على أنه منبعا للعظام. في حين يصبح الأنا الذي يحرز داخل المنظور المعاصر للتحليل النفسي مكانة أكبر تجعله يمتلك القدرة على جعل العالم الخارجي يتصرف بطرق مختلفة، قد يقوم في إطار الذهان بإبراز إشارة داخل العالم الخارجي، تهدف الى تحذير يأخذ شكل هلوسة. إننا نعثر هاهنا على المنظور الذي تقادم عليه العهد والذي يفيد بأن دفاعا ما قد يتم انبثاقه فيعتبره الأنا ذا خطورة.(164)


أريد أن أذكركم هنا بمعنى ما أقوله بصدد الأنا وأريد أن أعيد عرضه عليكم بطريقة مختلفة. فأيا كان الدور الذي يليق إعطاؤه له داخل اقتصادية الذات، فإن الأنا لا يتواجد لوحده أبدا. إنه يتضمن دائماً توأما غريبا. إنه الأنا المثالي الذي حدثتكم عنه خلال ندوات لسنتين خلت. وحتى الفينومينولوجيا الأكثر سطحية للذهان تدلنا على أن هذا الأنا المثالي يتكلم. فهو تخيٌّلٌ، لكنه بخلاف التخيل أو الهوام الذي نقوم بإبرازه من خلال ظواهر العصاب، إنه تخيل يتكلم، بل وبكل دقة، إنه تخيل متكلَّم. وعلى هذا الأساس، فإن هذا الكائن الذي يُرجِع صدى لأفكار المريض، ويرقبه ثم يقوم بتسمية تصرفاته بل ويتحكم فيها، لم يتم بعد تفسيره بما فيه الكفاية بواسطة نظرية التخيلي ونظرية الأنا المرآوي.


لقد حاولت المرة السابقة أن أوضح لكم بأن الأنا، مهما كان تصورنا لوظيفته، ولن أمضي بعيدا من إعطائه وظيفة خطاب عن الواقع، فإنه يتضمن دوما خطابا ملازما لا علاقة له البتة بالواقع. ومع انعدام الجدية الذي قد تميزني على ما يبدو، فلقد عرَّفته بكونه خطاب الحرية الضروري للإنسان المعاصر من حيث هو مبنين بمنظور معين عن إستقلالية هذا الإنسان. ولقد عرفتكم على ما لخطاب الحرية هذا من طابع جزئي وغير شمولي ومنعدم الوضوح وهذائي الى أقصى درجة. فلقد انطلقتُ من هذا الأنا بصفته ملازما عاما لكل فرد، كي أبين لكم ما قد يحصل أن ينتشر هُذاءا بداخله، بالمقارنة مع الأنا لدى من هو عرضة للذهان. إنني لست أقول بأنهما نفس الشيء وانما أقول بأن مايحدث بهما، يحصل في نفس المكان.


فليس هناك أنا إذن من دون هذا التوأم الحامل في فؤاده هذاءا. إن مريضنا الذي يعطينا بين الفينة والأخرى صورا رفيعة عن نفسه، يعتبر ذاته في بعض اللحظات وكأنه "جثة مصابة بجذام تجر خلفها جثة مصابة بجذام". إنها صورة مُسَلية حقاً بخصوص الأنا. ذلك لأن الأنا يتضمن شيئا ميتا بالأساس يكون مرفوقا ومزدوجا دائماً بهذا التوأم الذي هو الخطاب. أما السؤال الذي يمكن طرحه فهو كالآتي : كيف يمكن لهذا المرادف الذي يجعل الأنا لا يتعدى كونه نصف الذات، أن يصبح متكلِّما؟ ومن الذي يتكلم هنا إذن؟


أهو الأخر الأصغر الذي عرضت عليكم الوظيفة المنوطة به في الجدلية النرجسية؟ أهو آخَر اللعبة التخيلية في جدلية السيد والعبد والتي استخلصناها من عملية التبادلية الطفولية ومن لعبة الطلْعة البهية التي يُختبَر من خلالها الإندماج الأجتماعي؟ أهو الآخر الذي يتم تكونه بالتأثير الخلاب لصورة الشبيه المكتمِلة؟(165) أهل هو فعلا هذا الأخر-المنعكس، هذا الآخر الصوري، هذا الأخر الذي يتجسد في كل شبيه يعكس لنا صورتنا ويستحوذ على قريحتنا بمظهره ويمدنا بتصور إسقاطي لوحدتنا الكلية؟ أهو ذا الذي يتكلم؟


إنه سؤال يجدر طرحه حقا. إلا أن الإجابة عنه تحدث ضمنيا كلما وقع الكلام حول آلية الإسقاط. فالإسقاط لم يكن له دوما نفس المعنى. ففيما يخصنا نحن فإننا نحصر الإسقاط داخل هذا التقابل الصوري الذي يجعل الطفل عندما يضرب شبيهه يقول بدون كذب : "لقد ضربني"، إذ بالنسبة إليه، كلتا الحالتين تعني نفي الشيء بالضبط. وهذا ما يحدد نطاق علاقة متميزة، ألا وهي العلاقة التخيلية والتي نتوقف عليها دائماً وأبدا في مختلف الآليات النفسية. فعلى هذا المنوال نتحدث عن حسد إسقاطي بمعنى أن الفرد يُسقِط على فرد أخر ميوله الذاتية والرامية الى ارتكاب خيانة زوجية مثلا أو يسقط على الآخر تهمة خيانة تقع على عاتقه حقاً.


إنه لمن السهل جداً تبين بأنه لا علاقة للإسقاط الهذائي بكل ما تقدم. وقد يكون من الممكن القول بأنه ألية إسقاطية بمعنى أن شيئا متجذرا داخل الذات يتم تمظهره في الخارج. إلا أن هذا الإسقاط يختلف بالتأكيد عما قمتُ بتقديمه لكم بمثال ما يحدث لدى الطفل من عملية تبادل النية السيئة والذي يقترب بكثير مما يمكن تسميته بالحسد العادي أو السوي. ولقد تعرض فرويد نفسه لكل هذا بدقة فائقة في كتاباته حول الحسد. إلا أن الآليات المستعملة في الذهان لا تقتصر على السجل التخيلي.


فأين سنبحث عن هذه الآليات، علما بأنها تنزوي وتنسلخ عن الإستثمارات الليبيدية؟ فهل يكفي الحديث عن عودة استثمار الليبيدو على الجسد؟ إن هذه الآلية التي تم الإتفاق عليها بأنها آلية خاصة بالنرجسية، قد استعملها فرويد بكل شفافية لتفسير ظاهرة الذهان. فهكذا وحتى يتم تحريك المكنون الهذائي، قد يكفي السماح له أن يكتسي مجددا شكل موضوع. لكن هذا إن كان يغطي بعضا من المظاهر المعنية، فإنه لا يستنفذ المسألة بكاملها. فالكل يعلم، على شرط أن يكون طبيبا نفسانيا، بأنه لا يمكن تحريك هذا الإستثمار لدى شخص عظامي. أما لدى الفصامي فإن الإختلال الذهاني يتغلغل مبدئيا الى أبعد مدى منه عند العظامي.


ألا يمكن القول بأنه ليس هناك من وسيلة، على المستوى التخيلي، تمكن من إعطاء تحديد دقيق لمفهوم النرجسية؟ ففي المجال التخيلي، يلعب استلاب الأنا دورا مؤسِّسا. فالإستلاب هو التخيلي بعينه. لذا لا يمكن ترقب أية طائلة من اقتراب الذهان على المستوى التخيلي، ذلك أن الآلية التخيلية هي ما يعطي للإستلاب الذهاني شكله وليس ديناميته.(166)


فهذه هي النقطة التي نصل اليها جميعا، وإن كنا لم نصلها منعدمي السلاح، فذلك تحديدا لأننا في استجلائنا لتقنية التحليل، وكذلك لما بعد مبدأ اللذة وما يفدي إليه من تحديد بنيوي للأنا، نرمي الى ما هو أبعد من الأخر الصوري الأصغر، ونسلم بوجود آخر أكبر. فهذا الأخير لا يرضينا فقط لأننا ننعته بالأكبر، وإنما لأننا نحدده كحصيلة ملازمة للكلام.






2




إن هذه التمهيدات لكفيلة لوحدها بدحض النظرية التي تعمل، بتأكيد أكثر فأكثر، على اختزال العلاقة التحليلية داخل علاقة ثنائية. فهذه النظرية تبقى هكذا أسيرة علاقة أنا الذات بالأنا المثالي، علاقة الأنا بأخر قد تتنوع كيفيته من دون شك، إلا أنه يبقى دائماً، كما تُبينه تجربة التحليل، الأخر الوحيد والفريد للعلاقة التخيلية.


أما بخصوص علاقة الموضوع المزعومة التي يُتوخى استرجاعُها أثناء التحليل، فإنها تعني اقتياد الذات الى اختبار غريب لما يمكننا تسميته بالأسس الكلاينية kleiniens للمجال التخيلي، أي الى العقدة الفمية. ومن المعلوم أنه في حالة شخص غير ميال بنفسه للإستلاب، فإن هذا لا يحدث إلا اعتمادا على سوء تفاهم يرتكز على استبدان أو التهام تخيلي. وبما أن العلاقة التحليلية هي علاقة كلامية، فلن يكون موضوع هذا الاستبدان سوى خطاب المحلِّل. فالتحليل النفسي، إنطلاقا من هذا المنظور المنحرف، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير استبدان خطاب المحلِّل الموحى به وحتى المفترض له. وما هذا الا عكس التحليل النفسي بالذات.


سوف أشعل فتيلتي حتى أطلعكم على أطروحتي. وسأطلعكم عليها ابتداءا من الجانب السيئ، بمعنى أنني سأموضعها على هذا المستوى النشئي الذي يبدو ضروريا لكم كي تجدون أنفسكم في راحة بال. إلا أنني فيما بعد سأبين لكم بأن الأهم ليس على هذا المستوى وبإن أطروحتي تحاول الإحاطة بمجمل اقتصاديات الذات. إنها أطروحة جد مهمة لفهم النقاشات الغامضة والمغلوطة التي تدور حول نظرية الهوام الكلاينية ولدحض الاعتراضات التي حيكت بشأن هذه النظرية.(167)


وهكذا قد نعمل على تحديد أفضل لما قد تقدمه هذه النظرية مما هو حقيقي ومثمر لفهم الكبوتات المبكرة التي تقول بوجودها. وبالفعل فإن النظرية الكلاينية تقول بأن الكبت يتواجد منذ المراحل الأولى للفترة القبل-أوديبية، وذلك على عكس ماقال به فرويد الذي أكد بأن لا وجود لكبت بكل معنى الكلمة قبل اضمحلال الأوديب.


ويمكن لأطروحتي أيضاً أن تنير لنا تناقضا قد يبدو بدون حل لدى فرويد نفسه بشأن الشبقية الذاتية. فهو من ناحية، يحدثنا عن الموضوع البدائي الذي يتوسط العلاقة الأولى للطفل بأمه. ومن ناحية أخري يقدم مفهوم الشبقية الذاتية التي تخص مرحلة قد تكون جد قصيرة، لكنها مرحلة لا يملك الطفل أثناءها علاقة مع العالم الخارجي.




إن كل المسألة تتعلق بالوصول الأولي للكائن الإنساني الى واقعه بحيث أننا نفترض بأن هناك واقعا ينجم عن هذا الكائن. إنها فرضية لازمة كلما حصل البث في هذا الموضوع، إلا أننا نعرف جيدا أيضاً بأننا ملزمين بالتخلي عنها في مسارنا لأنه من غير الممكن طرح السؤال حول هذا الواقع إذا لم يكن هذا الأخير موضع تساؤل دؤوب. فهل هناك شيئ ما لدى الإنسان يتمتع بهذه الصفة المغلِّفة والمكيَّفة في نفس الوقت والذي أدى، بخصوص الحيوان، الى ابتكار مفهوم الواقع؟


ليكن في علمكم بأن هذه الفرضية مجدية لنا بخصوص الحيوان ما دام الحيوان يتحلى بطابع الموضوع لدينا وما دامت هناك شروط جد ضرورية من أجل بقائه في الوجود. فقد يحلو لنا البحث في الكيفية التي يعمل بها على التوافق الدائم مع هذه الظروف والمعطيات الأولية. وهذا هو ما نسميه بالغريزة، سلوكا أم دورة غريزية. وفيما إذا كانت بعض معالم هذه الدورة لم تظهر للعيان فمَرَدُّ ذلك أننا لم نبصرها. أما بخصوص الإنسان، فإن هذا غير كاف بكل تأكيد إذ أن الطابع المنفتح والمتكاثر الذي يصبغ عالمه، يمنع من جعل هذا الأخير نتاجا واستمرارا لتكوينه البيولوجي. لذا فإني أحاول أن أبين لكم هاهنا تحديد الأنظمة الثلاث: الرمزي والتخيلي والواقعي. إن كل ما تطلعنا عليه خبرتنا التحليلية، يبدو قابلا للإندراج تحت هذه المنظومات العلائقية الثلاثة. أما متى يترتب وينتظم كل من هذه الأنظمة على حدة، فهو ما يبقى موضع تساؤل.


إن أطروحتي - وربما ستقدم لبعضكم حل اللغز الذي شكلته بالنسبة لهم قضية "سكينة المساء" - هي كالآتي: إن الواقع ينطبع للتو بالعدم الناجم عن الرمزي.(168)  


ورغم أنه قد تم الإعداد لهذه الأطروحة بكل ما قدمناه خلال السنة الفارطة، فإني مع ذلك سأحاول التمثيل لها مرة أخرى ولو من أجل الإقتراب من "سكينة المساء" هاته التي تم استقبالها بكيفيات مختلفة.


إنها نزهة، ليس من شأنها كما يقول أفلاطون، أن تخلف خصاما أو خللا في وتيرة التحليل. فأنا لا أظنني مبدعا. إلا أنكم إذا ما اطلعتم على النص الذي كتبه فرويد حول حالة الرئيس شريبر، فإنكم تجدونه يستعمل الوظيفة التي لعبها لدى أحد مرضاه، القصيدة النثرية التي أوردها نيتش Nietzsche في كتابه "زارادوسترا" والمسماة : "قبل صعود الشمس". يمكنكم الرجوع الى ذلك المثال وحتى لا أعيد قراءة هذا النص على مسامعكم، فإني سمحت لنفسي الحديث عن "سكينة المساء"، لعلكم تجدون في هذا الحديث تمثيلا لنفس الشيئ الذي كنت أحاول خلال الأسبوع الماضي أن أجعلكم تتحسسونه والذي سأحاول الآن عرضه عليكم محدّـثا إياكم عن النهار.


إن النهار كائن يختلف عن كل المواضيع التي يحتوي عليها والتي يقوم بإبرازها. فمن المحتمل حقاً أن يكون ذا ثقل أكبر وتواجد أعظم من سائر هذه المواضيع التي يضمها. وليس من الممكن التفكير في كل هذا، ولو من خلال الخبرة الإنسانية الأكثر بدائية، نظرا لكون النهار مجرد استعادة للخبرة.


فتكفي الإشارة الى تغلب وتيرة النوم على حياة الإنسان في شهوره الأولى حتى نكون على حق في التفكير بأن ما يدفع الإنسان لحظة ما - وإنني أمثل هكذا لعمليات الإنعدام الأولية الناجمة عن الرمزي - الى الإنسلاخ عن النهار، ليس هو من قبيل الإقتراب الامبيريقي. إن الكائن الإنساني ليس فقط، عكس ما هو متوقع لدى الحيوان، كائن منغمس في ظاهرة من قبيل تناوب النهار والليل. إن الكائن الإنساني يحدد ويصف النهار بكونه كذلك، وهكذا يأتي النهار الى واضحة النهار - وذلك على خلفية ليست هي خلفية ليل واقعي، وإنما على خلفية غياب ممكن للنهار، غياب فيه يسكن الليل والعكس صحيح. إن النهار والليل هما بمثابة رموز دلالية منذ زمن مبكر لدى الإنسان وليسا نتاج خبرة. إنهما أصلا تعاريف. أما النهار الامبيريقي والمحسوس فلا يحصل إلا كنتاج تخيلي منذ المنشإ، منذ وقت مبكر.




فهذا هو افتراضي. أما إن كنت أتكلم من وجهة نظر النشأة، فليس لزاما علي أن أبرهن عنها في مجال الخبرة. إنما هناك ضرورة بنيوية للقول بمرحلة بدائية تَبرز في العالم خلالها الدَّوال في حد ذاتها. وبما أن هذا المستوى من التحليل قد يؤدي بكم الى نوع من الإرتباك، فإني أقترح عليكم تفسير الأشياء بطريقة محض نظرية، إلا أن هذا ما أنبذه، لأن طريقتي كما تعلمون هي دياليكتيكية أساسا. فقبل أن يتمكن الطفل من استعمال اللغة، لابد لنا من افتراض تواجد الدوال لديه، وهي دوال مترابطة مسبقا داخل النظام الرمزي. وعندما أتحدث عن تمظهر بدائي للدال، فهذا يتضمن تدخل مسبقا للغة.(169)


وقولي هذا يلتقي مع ما سبق قوله بصدد النهار، هذا الكائن القائم في لا مكان. فالنهار من حيث هو نهار ليس بظاهرة. إنه، من حيث هو نهار، يستلزم تعريفا على مستوى الرمزي. إنه يستلزم التناوب المركزي للصوت المعرِّف للوجود والغياب والذي بنى فرويد على أساسه تحديده بصدد "ما بعد مبدأ اللذة". إن الإلغاء يحدث بالضبط على مستوى هذا التلفظ الرمزي الذي أقصده الآن في خطابي.


إنني فرح جداً لكون عدد منكم مشغولي البال بصدد موضوع الإلغاء. فرويد نفسه لم يتطرق كثيرا لهذا الموضوع. فوجدتني أبحث عنه وأتلقفه في الأماكن النادرة من كتاباته التي كاد أن يطَل فيها مفهوم الإلغاء أو حتى في تلك التي لم يطل وإنما لكون فهم النص يتطلب افتراضه.


بخصوص الإلغاء، يقول فرويد بأن "الذات لا تريد أن تعرف شيئا عن الإخصاء ولو من منظور الكبت". فمن منظور الكبت فعلا، نجدنا نعلم ولو قليلا، بطريقة ما، بأننا لا نريد ما نبغيه. إلا أن عملية التحليل تبين لنا بأننا نعلم ذلك جيدا. فإن كانت هنالك مسائل يريد المريض ألا يعرف عنها شيئا ولو بمعنى الكبت، فإن هذا يفترض آلية تختلف عن الكتب. وبما أن كلمة الإلغاء تبدو مرتبطة مباشرة مع هذه الجملة وكذلك في بعض الصفحات السابقة، فإني أمسكت بها. أنا لا أتمسك خصيصا بهذه الكلمة وإنما أتمسك بما تعنيه، وإني أعتقد بأن فرويد قصد ذلك بالذات. 


إلا أنه من الممكن أن يُرَد علي وبكل جدية بأننا كلما اقتربنا من النص، كلما أصبحنا بعيدين عن فهمه. لهذا أقول بأنه من اللازم إنعاش نص ما بما تلاه وبما سبقه من نصوص. يجب دائما فهم نص ما بما لحقه من نصوص.


فأولائك اللذين يتشددون في انتقاد موقفي هذا، تراهم أيضا يقترحون علي البحث في هذا النص أو ذاك من نصوص فرويد عما يرونه يشير الى الإنكار Verleugnung أكثر منه الى الإلغاء Verwerfung. إنه لمن المدهش حقا تفشي لفظ ver بهذه الدرجة لدى فرويد. لم يسبق لي قط أن أعطيتكم درسا خالصا في دلالية تعابير فرويد، إلا أنه بإمكاني أن أمدكم منها للتو بفئة لابأس بها وأبتدئ بالحديث عن المضامين البنكية لكثير من الألفاظ مثل الصرف والتحويل، الخ. الشيئ الذي يمضي بنا بعيدا، حتي يصل بنا الى تحريات فرويد الأولى بخصوص الظواهر العصابية. إلا أنه من غير المجدي لنا أن نتمادى في الأخذ بأساليب الإقتراب هاته. وأطلب منكم، بخصوص هذا البحث عن المعنى اللإئق، أن تضعوا ثقتكم في. فإن اختياري للفظ "إلغاء" كي أوضح ما أقوله، هو نتاج نضج فكري وهو نتاج تقدم بحثي الذي قادني اليه بصفة طبيعية. ولوقت وجيز على الأقل، ارتشفوا مني عسلي الذي أهديه إياكم وحاولوا أن تستخلصوا منه شيئا مفيدا.(170)


نجد مفهوم الإلغاء هذا متضمنا في نص فرويد المتعلق بالإنكار والذي قام السيد هيببوليت بشرحه لنا هنا منذ سنتين خلت. ولهذا السبب اخترت نشر تدخل هذا الأخير في العدد الأول من مجلة "التحليل النفسي". وهكذا يمكنكم ملاحظة ما إن كنا على صواب، هيبوليت وأنا، بإعطائنا الإعتبار لمفهوم الإلغاء. إن نص فرويد، وإن كان متألقا بلا ريب، يبقى غير مُرضٍ لأنه لا يَسلم من الخلط، إذ ما يتعلق به الأمر في هذا النص لا يمت بصلة الى الكبت.


فبما يتعلق به الأمر إذن عندما أتحدث عن الإلغاء؟ إن الامر يتعلق برفض دال أولي والرمي به في الغياهب البرانية. ومن ثم، يبقى هذا الدال ناقصا على هذا المستوى. هذه هي الآلية الأساسية التي أفترضها ركيزة للعظام. يتعلق الأمر إذن بسيرورة إقصاء أولي لداخل بدائي، وهو داخلٌ لا يخص الجسم العضوي وإنما هو داخل أول جسم للدال. إن فرويد ينطلق من افتراض أن عالم الواقع يتم تأسيسه بداخل هذا الجسد الأولي الذي هو جسد الدَّوال، مما يجعل عالم الواقع هذا محدَّدا ومبنينا في الأصل من خلال مواد ومعالم دلالية. إن أول اقتراب للواقع من خلال ذات الفرد، هي بمثابة حكم الوجود والذي يفضي الى القول بأن   ما يحصل لي الإحساس به هو موضوع في حد ذاته وليس مصدره ما يرِد مني من حلم أو هلوسة أو تصور.


على هذا المنوال، يحصل اختبار الخارج بواسطة الداخل، على حد تعبير فرويد ذاته، ويحصل تأسيس واقع الذات عن طريق تلاقي موضوع الرغبة مجددا. إلا أن موضوع الرغبة يتم العثور عليه مجددا في إطار بحث مستمر ولا يتم العثور أبدا على نفس الموضوع. إن هذا التأسيس للواقع والذي يعتبر أساسيا في تفسير كل آليات التكرار، يرتكز على تقسيم أول تتقاسمه بعض الأساطير البداءئية التي تفيد بإن شيئا ما لا يمشي مبدئيا على ما يرام قد تم إقحامه في سيرورة اندماج ذات الفرد في الواقع الإنساني. فهذا ما هو مفترض في هذه الأسبقية المتميزة التي يعطيها فرويد، بخصوص الإنكار، لما يسميه بحكم الإسناد بالمقارنة مع حكم الوجود. ففي إطار جدلية فرويد هذه، هناك انقسام أول بين ماهو جيد وما هو سيئ، وهو انقسام لا يمكن تفهمه إلا إذا عمدنا على تأويله بصفته رفض لِدال أولي.


فماذا يعنيه الدال الأولي ياترى؟ إنه بكل وضوح وبكل دقة، لا يعني شيأ.


فكل ما أشرحه لكم هنا له كامل صفات الأسطورة التي أجِدُني مستعدا أن أسوقها لكم في مناسبة كهاته والتي قدمها لكم السيد مارسيل گرييول Marcel Griaule السنة الفارطة. وهذه الأسطورة تتعلق بتقسيم المشيمة البدائية الى أربعة أقسام. فكان الثعلب، باختطافه نصيبه من المشيمة، هو أول من أدخل في التوازن الأصلي خللا نتجت عنه دورات تقسيم مختلف المجالات وتقسيم علاقات القرابة وغيرها من العلاقات.


فما أحدثكم عنه هو أيضا أسطورة، إذ لا أعتقد بتاتا بأن هناك لحظة أو مرحلة  تكتسب ذات الفرد فيها دالا أوليا قد يتبعه بعد ذلك سياق الدلالات، ثم تدخل هذه الذات، بعد ذلك، مجال الخطاب عندما يمد الدال والمدلول اليد لبعضهما البعض.  وبما أن تصور المنشإ لا يفارقكم، فإني لا أرى مانعا من العمل به معكم كي ألبي متطلباتكم التخيلية. ولا أرى مانعا من العمل به أيضا لأن فرويد نفسه عمل به لسبب تستوجب معرفته.






3


لقد تعرض فرويد مرة أخرى لسيرورة الجهاز النفسي في رسالته الى فليس Fliess والمنشورة تحت رقم 52. إنكم ربما على علم بهذه الرسائل التي بعثها فرويد الى فليس والتي وصلتنا مع ما يتخللها من حذف وتنقيح لا مبرر لهما. فليس هناك ما يبرر بتر نص ما من مقطع قد يمكن اعتباره متجاوزا أو ضعيفا بحيث قد يكون بإمكانه مساعدننا على فهم فكر فرويد.




إن الجهاز النفسي الذي يهم فرويد ليس هو الجهاز النفسي الذي قد يقوم بتخطيطه أستاذ على سبورة مع غير مبالاة بإمكانية أو عدم إمكتنية تطبيقه. المهم بالنسبة لهذا الأخير هو أن هذه الخطاطة قد تعطي تركيبة مشابهة الى حد ما لما يسمى بالواقع. أما عند فرويد، فإن ما يتعلق به الأمر فهو جهاز مرضاه النفسي، وليس جهاز شخص مثالي ومطلق. وهو ما توصل به الى هذه الحصيلة المثمرة جدا والتي نقف عليها في متن هذه الرسلة تحت رقم 52. فما يحاول فريد تفسيره في هذه الرسالة ليست أية حالة نفسية كانت، وإنما مظاهر الذاكرة التي انطلق منها في مراسه وحيث هي المادة الوحيدة التي يتم بلوغها داخل التحليل وتعطي ثمارها خلاله. إن خطاطة الجهاز النفسي لدى فرويد مبتغاها تفسير مظاهر الذاكرة، بمعنى تفسير كل ما لا يمشي على ما يرام.


فلا يمكنكم الإعتقاد بأن كل ما تم تقديمه من نظريات عامة في موضوع الذاكرة هي كافية ومفيدة للغاية. وكونكم محللون لا يكفي لإعفائكم من قراءة ما كتبه النفسانيون في هذا المجال.(172) فبعضم قد قدم أشياء ذات معنى مما جعلهم يقفون، وهم بصدد اختباراتهم الجدية هذه، على تناقضات وتنافرات جد متميزة. إنكم سترون الحرج الذي يتكبدونه والمراوغات التي يتعمدونها في محاولاتهم تفسير ظاهرة الذكريات. بينما تُبين الخبرة الفرويدية بأن الذاكرة التي تهم التحليل النفسي تختلف تماما عن الذاكرة التي يتحدث عنها النفسانيون وهم بصدد معاينة ظاهرة التذكر لدى كائن حي وهو تحت سطوة اختباراتهم.


سأضرب لكم مثلا عما أريد قوله.


هاكم الأخطبوط. إنه أجمل حيوان على وجه البسيطة. لقد لعب دورا مركزيا في الحضارات البحرمتوسطية. وفي أيامنا هذه يتم صيده بكل سهولة ثم يوضع داخل باقول صغير وتغرس فيه أسلاك كهربائية. بعد ذلك يراقب الإختصاصيون ما قد يحدث. فنرى الأخطبوط يدفع بأطرافه الى الأمام ثم يرجعها الى الخلف بسرعة خاطفة. نلاحظ هكذا بأنه أصبح يحترس بسرعة من أسلاك المختبِر الكهربائية. بعد ذلك يقوم هذا الأخير بفتح أحشائه، فيكتشف بداخل ما يقوم لديه مقام المخ، عصبا هائلا ليس فقط من حيث الشكل وإنما ايضا من حيث كبر الخلايا المخية التي تغطيه. إن هذا العصب هو ما يستعمله الأخطبوط للتذكر. وبمعنى آخر فإنه إذا ما تم قطعه فإنه يتم الإضرار بتسجيل الذكريات ويحصل خلل في تتبع الإختبار. لهذا يتم الإعتقاد بأن هذا العصب هو مركز الذاكرة لىى الأخطبوط، بل ويذهب بنا الحال في أيامنا هذه افى حد القول بأن ذاكرة الأخطبوط ربما تعمل على وتيرة آلة صغيرة، بمعنى أنها عبارة عن شيئ يدور بدون طائل.


لست هنا بصدد التفريق بين الإنسان والحيوان، لأن ما أعلمكم إياه هو أن ذاكرة الإنسان أيضا، شيء يدور بدون طائل. إلا أن هذا الشيء لدى الإنسان مكون من بلاغات أو رسائل، أي أنها عبارة عن علامات زائد وناقص في تتابع مستمر. فهذه هي ذاكرة الإنسان، ليس إلا. لكن مفهومي السيرورة الأولية ومبدأ اللذة يعنيان بأن الذاكرة التحليلنفسية التي تحدث عنها فرويد، تتضمن، على خلاف ذاكرة الأخطبوط، شيئا ما إضافيا لا تتوصل إليه تجارب الإختباريين. وإلا فما يعنيه كون الرغبات القابعة في اللاشعور لا تنطفئ أبدا، لأن تلك التي تم إطفاؤها، هي بالتحديد، تلك التي قد انتهى الحديث عنها؟ فهناك من الرغبات التي لا تنطفئ أبدا، والتي تسترسل في الدوران بداخل الذاكرة، والتي تدفع بالكائن الإنساني، وفقا لمبدئ اللذة، لتكرار نفس التجارب المؤلمة الى ما لانهاية، وذلك في الحالات التي تم ربط الأمور فيها داخل الذاكرة بشكل يجعلها تبقى قابعة في اللاشعور. إن ما أقوله لكم الآن، ماهو إلا مجرد تركيب لما أنتم، مبدئيا، تعرفونه. لكنكم تعرفونه وكأنكم لا تعلمونه.(173) أما أنا فأحاول ليس فقط أن أجعلكم تعلمونه وإنما أن أجعلكم تعترفون بأنكم على علم به.


إن الذاكرة الفرويدة لا تتكون فقط كردة فعل للواقع باعتباره منبعا للإثارة. إنه لمن المدهش أن نسى ذلك رغم كون فريد لا يتحدث عن شيء آخر. فألفاظ مثل الإضطراب والتقلص اللذان يعتورانها ومِثل التسجيل الذي ترتكز عليه، ليست مجرد ألفاظ من بين الألفاظ الواردة في هذه الرسالة وليس إلا. إنها ألفاظ تدل على ما يتعلق به الأمر فعلا في هذه الرسالة حول الذاكرة. فهذه الأخيرة ليست على هذه البساطة التي يمكن أن نتصورها. إنها ظاهرة مركبة من مستويات مختلفة، وهذا ما يعتبره فريد، على حد قوله، بالمستجد الأساسي الذي أتت به نظريته في هذا المجال. إلا أنكم وإن اعترفتم بأن هذا هو فحوى هذه الرسالة بالفعل ، فإنكم قد تتسارعوا للقول بأن الرسالة المجاورة تصرح بما هو مخالف. إلا أنني أزعم بأن ما قاله فرويد من رسالة الى أخرى هو هو ولا تناقض فيه. لذا فما لا يختلف من رسالة الى أخرى هو ما يشكل صلب الفكر الفرويدي في تطوره. وبنقصانه أو بالتخلي عنه قد يبقي مسائل عديدة غير قابلة للفهم وربما قد يؤدي الى الدفع بفكر فرويد نفسه في المنزلق الذي تورط فيه يونگ.


فما هي ياترى هذه المستويات المختلفة؟ إنكم حتى الأن لا تعرفون سوى التفرقة بين اللاشعور والقبشعور والشعور، أما الأن فسيظهر لكم شيئ لم يسبق لكم الإطلاع عليه. لقد تم الإتفاق منذ زمن على أن الوعي والذاكرة ينفي بعضهما البعض، وهذا ما عبر عنه فرويد، ليس فقط في رسالته هذه وإنما أيضا في النسق الذي ركبه بصدد مسار الجهاز النفسي في نهاية كتابه "تفسير الأحلام". إنها حقيقة لا يمكن اعتبارها بالنسبة إليه تجريبية بالمطلق، إنما هي ضرورة فُرضت عليه انطلاقا من استعماله للجهاز برمته. لكن في نفس الوقت نحس بأن فرويد يقدم هنا أول بديهية ذات طابع دلالي عن تفكيره.


من المعلوم أنه في بداية سيرورة عملية الإدراك يتدخل الوعي. لكن هذا التدخل يحصل على نمط ما يبينه لنا فرويد من خلال استعارته المعروفة بالدفتر السحري.    وهذا الدفتر السحري مكون من لوح عليه ورق شفاف. فكل ما تخطونه لا يظهر على الورق الشفاف وإنما يظهر أثره محفورا على اللوح من جراء ضغط القلم مما يسهل قراءته فيما بعد. فهذه هي، كما تعلمون، الإستعارة الإساسية التي يشرح فرويد من خلالها ما فهمه بصدد الآلية التي تلعب دورا مهما في الإدراك وفي علاقاته بالذاكرة.(174)


وأي ذاكرة نقصد؟ إنها الذاكرة التي تهم فرويد. ففي هذه الذاكرة مجالان، مجال اللاشعور ومجال القبشعور. أما الشعور فنراه يبرز متكاملا وإن لم يكن إلا بشكل مُرَكب. إن هذه الضرورات التي يفرضها منظوره ترجع الى ظهور الأثار المترادفة، وعددها ثلاثة، بين لحظة الإنكار والتي هي لحظة خاطفة بالإساس لكونها تختفي ريثما تنبثق، وبين لحظة تأسيس نسق الوعي وكذلك نسق الأنا الذي يسميه فرويد بنسق الأنا الرسمي. وهكذا تتكون لدينا شهادة على بناء فرويد لأول منظور عنده بخصوص الذاكرة في وظيفتها التحليلنفسية.


وفي هذا الإطار يتحدث فرويد عن وجود أنساق تتكون خلال فترات متعاقبة. فمن بين أنساق الذاكرة، منها ما يتم تكونه حتى سن السنة ونصف وأخرى من السنة ونصف الى أربع سنوات وأخرى تتكون بين أربع سنوات وثمان سنوات، الخ. ورغم ما يقوله فرويد، فليس هناك ما يدفعنا، كما في المثال السابق، الى الإعتقاد بأن هذه الأنساق تتكون بشكل متعاقب. لكن لماذا نقوم بالتمييز بين هذه الأنساق، وعلى أي شاكلة تتجلى لنا؟ إنها تتجلى لنا من داخل منظومة الدفاع. فنحن عادة لا نتذكر الأشياء الغير ممتعة، وهذا شيء مألوف. فيمكنكم تسمية ذلك دفاعا. إلا أنه رغم ذلك دفاع لا مَرَضي. بل إنه مما يجب فعله حقا: وهكذا لن نكون إلا رابحين من نسيان ما هو بغيض وكريه لنا. إن أي فهم لمفهوم الدفاع لا ينطلق من هذه المنطلق، من شأنه أن يدفع الى متاهات بشأن هذه المسألة. أما ما يعطي للدفاع طابعه المرضي فهو حصول النكوص الموقعي بصفة متلازمة لما يسمى بالنكوص العاطفي. إن دفاعا مرضيا، عندما يحدث بطريقة عشوائية وغير متحكم فيها، فإنه يخلف عواقب لا يمكن تبريرها وذلك لأختلال وتناقض موازين الأنساق فيما بينها. إن الإضطراب يرجع الى الخلط بين الآليات المستعملة وهذا ما يؤدي بنا الى الحديث عن منظومة الدفاع المَرَضية.


لكي نفهم ما نحن بصدده، سوف ننطلق من هذه الظاهرة المعروفة جدا والتي كان فرويد ينطلق منها دوما وأبدا، ألا وهي الظاهرة التي تسمح بتفسير وجود نسق اللاشعور. فهاهنا نجد آلية النكوص الموقعي واضحة للعيان على مستوى الخطاب المكتمل والذي هو خطاب الأنا الرسمي. ففي هذا المستوى نتوقف على ترادف التوافقات والتطابقات بين الخطاب والدال والمدلول. وهذا الترادف هو مصدر عالم النيات والإختلاجات والضبابية والخلط الذي نعيش فيه. وبفضل هذا الترادف يخالجنا أيظا ذاك الإحساس المزعج بأننا لا نتوصل أبدا الى قول ما نريده.(175) فهذا هو واقع الخطاب. إننا نعلم جيدا، على كل حال، بأن المدلول قد تم إدراجه داخل خطابنا بشكل كافي يمككنا من قضاء حاجياتنا اليومية. لكن عندما نريد أن نفعل ما هو أحسن، أي الإقتياد الى الحقيقة، آنذاك نسقط في الإرتباك. ولهذا السبب، غالبا ما تفتر قوانا ونتوانى عن الخوض في هذا المسار.


فبين الدلالة والدال هناك علاقة. وهي العلاقة التي تكرسها بنية الخطاب. والخطاب هو سلسلة زمانية دالة. أما على مستوى العصاب، وهو المستوى الذي مَكَّن من اكتشاف نسق اللاشعور الفرويدي بصفته مجال الذاكرة، فإن الفرد، عوض أن يستعمل الكلمات، فإنه يلجأ الى استعمال كل ما يوجد في حوزته. فتراه يلجأ الى استعمال وظائف جسده أو معوقات سلوكه. وقد يضع نفسه بالكامل محل الكلمات فينقلب هو ذاته دالا من بين الدوال. وهكذا يندمج واقعه أو خياله بداخل الخطاب. فأما إن لم تكن العصابات على هذا المنوال وأما إن لم يكن هذا هو ما علَّمَنا فرويد إياه، فإني سأتخلى للتو عن مبتغاي وأوقف جهدي.


فبداخل المجال الإشكالي المتعلق بالإنكار، قد تحدث ظواهر يكون مصدرها هبوط من حيث الدرجة أثناء الإنتقال من مستوى الى آخر. والغريب هو أن هذه الظواهر تبدو موسومة بطابعِ ما قد تم رفضه وما تم نكرانه، أي ما تم اعتباره وكأنه لم يتسم بصفة الوجود. وهذه خاصية جد أولية من مميزات اللغة بحيث أن الرمز اللغوي هو في حد ذاته دليل على حضور الشيئ وغيابه في آن. لكن هذا كله لا يستنفذ مسألة وظيفة الإنكار في اللغة، وذلك لأن مجرد التداول العام للفظ الإنكار قد يُوَلد أثناء التبادل وهم الحرمان. بالإضافة الى ذلك، فإن كل الألسن تتضمن جملة من أساليب النفي متفاوتة الدرجة، تستحق كل منها دراسة مستوفية، تعمل على التدقيق في مسألة النفي داخل اللسان الفرنسي والنفي في اللسان الصيني، الخ.


أما المهم فهو كالتالي: إن ما يبدو وكأنه تبسيط بداخل الخطاب يحتوي على دينامية. إلا أن هذه الدينامية تبقى مندسَّة عن انتباهنا. إنها سرية. ومن الوهم الإعتقاد بأنه يمكن التأكد من عملية الإنكار اعتمادا فقط على ما يقوله حالم ما بصدد شخص رآه في حلمه، كأن يقول مثلا: "إن هذا الشخص ليس أبي".فكل واحد منا يُقدر قيمة المعيار الذي ننطلق منه في فهمنا هذا. أما المريض فإنه لا محالة يتقبل تأويلنا ويتحمل مغبته ثم ينتهى به الحال الى القول بأن أباه هو فعلا من رآه في حلمه. وبما أننا نجدنا راضين على رده هذا فإننا نقف عند هذا الحد ولا نمشي الى أبعد منه. (تنقص هنا فقرة لم تتم ترجمتها).(176) إن إحساسنا بذلك هو ما يحفز انتباهنا الى السر الذي قد يمثله وهم الحرمان هذا. تذكروا ما سماه كانط بالقيمة السلبية والتي تتمثل وظيفتها ليس فقط في الحرمان وإنما في الإنتقاص وبهذا فإنها تتمثل في إيجابيتها الحقة.




إن مسألة الإنكار تبقى هكذا مبهمة بالكامل. إلا أن المهم هنا يتجسد في الإنتباه  الى أن فرويد لم يتمكن من أخذها بعين الإعتبار إلا بربطها مع ما هو أكثر بدائية. إنه يصرح حرفيا في الرسالة 52 بأن الإنكار الأولي يتضمن عملية ترميز أولى. إنه يعترف بوجود هذا المجال الذي أسميه الدال الأولي. وكل ما يقوله لاحقا في مستهل هذه الرسالة بخصوص دينامية الهيستيريا والعصاب الوسواسي والهذاء، وهي العصبذهانات الثلاثة الكبرى التي أولاها أكبر اهتمام، يفترض وجود هذه المرحلة الأولية التي تشكل المقام المصطفى لما أسميه إغفالا.


ولكي تفهموا ما أقوله، يمكنكم الرجوع الى ما يواظب فرويد في التأكيد عليه، قائلا بأنه يجب دوما افتراض تكوين سابق، ولو جزئيا لمنظومة اللغة، حتى يتسنى للذاكرة الإنطلاق في حركيتها وفي عملية الأرخنة المترتبة عن هذه الحركية. فظواهر الذاكرة التي يهتم بها فرويد هي ظواهر لغوية. بتعبير آخر، لكي يتم إعطاء شيئ ما دلالة معينة، فإنه يلزم أن يكون بين أيدينا وفي حوزتنا المواد الدلالية. ففي حالة "صاحب الذئاب" مثلا، فإن الإنطباع الأولي المرتبط بالمشهد البدائي الشهير قد كان ذا طابع دلالي بحيث بقي مرتسما لدى المريض لممدة سنوات بدون مفعول يذكر، قبل أن يقول كلمته في سيرورة المريض المعيشية فيما بعد. إن الرغبة الجنسية هي ما يمكن الفرد من أرخنة سيرة حياته، إذ على هذا المستوى يتم وللمرة الأولى، تدخل القانون.




فها أنتم ترون مجمل ما يمكن استثماره لما يقدمه لنا فرويد بواسطة الخطاطة البسيطة التي تتضمنها هذه الرسالة الوجيزة. وهذا ما يتم إثباته من خلال ألف نص آخر. لقد أطلعني أحدكم، سبق لي أن ناشدته بأن يأتيني بما يناقض ما أعمل على طرحه عليكم، على أن نهاية نص فرويد حول الفيتيشية يرتبط مباشرة بما أشرحه لكم الآن. يقدم فرويد في هذا النص مراجعة أساسية للتفرقة التي سبق أن أدخلها بين العصاب والذهان. فنراه يقول هنا بأن الواقع في الذهانات، يتم ترتيبه من جديد، وبأن جزءا منه فقط قد تم حذفه، وبأنه لم يتم أبدا تعتيمه بالكامل ورفض رؤيته بالفعل. هكذا وإن كان ما تم استعماله في النص الألماني هو لفظ "الواقع"، فإن فرويد، في آخر المطاف وكما يمكنكم ملاحظته من خلال الإطار العام للنص، يستند الى ما يمكن تسميته بقصور أو ثقب يطبع الرمزي.(177)


ألم يحصل لكم التعرف على هذه الظاهرة البدائية عندما كنت أقدم أمامكم حالات واقعية، حالات أناس أخذوا يسبحون في خضم الذهان؟ لقد عرضت عليكم مثلا حالة ذاك الذي كان يعتقد أنه توصل بطلب زيارة من لدن الشخص الذي احتل مقام الصديق لديه بل وركيزة وجوده ككل. فبمجرد ما سحب هذا الشخص صداقته، وقع مريضنا في حالة ذهول عالق بما يوازيه من يقين. وهي حالة يتم من خلالها الإعلان عن تجلي المجال الممنوع الذي يشكل مجرد الإقتراب منه لحظة الدخول والغوص في الذهان.




فكيف يتم الدخول في الذهان إذن؟ كيف يتم اقتياد ذات الفرد، لا ليحصل استيلابها بداخل الأخر الصغير، وإنما لكي تنقلب الى ذلك الشيئ الذي، من داخل مجال ما لا يمكن قوله، يطلب العون من كل ما تبقى، في مجال ما يمكن قوله؟ أليس ذاك الشيء هو ما يوحي الى ما رأيتموه يتمظهر في حالة الرئيس شريبر؟ إنه تلك الأهداب التي كانت تتمظر له على مستوى الواقع، والتي أصبحت ذات دلالة بالنسبة لذات المريض.


إن الذهانيين يحبون هذاءهم بقدر ما يحبون أنفسهم. عندما قال فرويد ذلك، وهو لم يكتب بعد مقاله حول النرجسية، أضاف بأن هناك مقبع السر الذي به يتعلق الأمر. وهذا صحيح. فما هي علاقة الذات بالدال الذي يفرق بين مظاهر الذهان؟ وما الذي يدفع بذات المريض الى الإنغماس كلية بداخل هذه الإشكالية؟


هذه هي الأسئلة التي نعمل على طرحها هذه السنة وآمل أن أفلح في بلورتها من أجلكم قبل مجيء العطلة الصيفية.(178)




15 فبراير 1956