صفوان - نظريات التحويل المضاد - فصل

 



مصطفى صفوان

التحويل ورغبة المحلِّل

Safouan Moustapha, Le transfert et le désir de l’analyste, Paris, Éditions du Seuil, 1988; 

Traduction du Chapitre 4, « Les théories du contre-transfert », pp : 115-132     


الفصل ٤ 

«نظريات التحويل المضاد»




ترجمة: عبد الهادي الفقير


لا شيء أكثر تذبذباً من تعريف التحويل المضاد. فبالنسبة لفرويد، يشير هذا المصطلح إلى التدخل اللاشعوري، وغير المشروع، للمحلل في مسار التحليل. وبعد فرويد، سيُستخدم للدلالة على استحالة أن يكون المحلِّل بالنسبة للمتحلل مجرد مرآة، بسبب تحويله الخاص على محلِّله الذي قام بتدريبه. ثم، ومن باب تحويل الشر إلى خير، سيُنظر إلى فائدة يمكن أن يجنيها العلاج من الاعتراف بوجود لاشعورين اثنين، كطريقة مستجدة لدى المحلل كي يحدد موقعه من جانب الواقع. وهكذا يتم فتح الطريق نحو اختزال التحليل إلى مجرد لقاء بين أنا وأنا آخر. 

لقد تحدث فرويد عن التحويل المضاد لأول مرة عام ١٩١٠. وهو مصطلح ينطوي على خطر التِباس، إذ إن فرويد يقصد به تدخل رغبات أو هوامات المحلل اللاشعورية في التحليل. لكن لا يوجد لدينا أي سبب، مبدئياً، لنفترض أن مثل هذا التدخل يشكّل، بأي وجه، كما يوحي به المصطلح، استجابة لما يحدث عند المتحلل؛ بل إنه في الحقيقة يدل على غياب الاستجابة ( اللائقة من طرف المحلل). 

هاكم مثالا على ذلك: ماكسويل جتِلسون في مقاله «الموقف العاطفي للمحلل»  يحكي أنه حين اضطر إلى الاعتراف لأحد مرضاه بتحويله المضاد، ردّ عليه هذا الأخير بدوره معترفاً بأنه كان يشعر بأن المحلل لا يخاطبه، بل كان منشغلاً بمشكلة تخصه هو (المحلل). ولنترك لجتلسون مسؤولية التعليق الذي أضافه إلى هذا المثال وغيره من الأمثلة المشابهة، وهو أن المرضى طفوليون على الدوام، لا يحتملون أن ينشغل المرء بشيء غيرهم. الحري بنا هنا أن نفهم أنه إذا أردنا الاحتفاظ بتعبير التحويل المضاد، من الأجدى أن نخصصه - كما يدلنا على ذلك هذا المثال، وسنرى أمثلة أخرى من هذا القبيل - لوصف ما يحدث ليس من جانب المحلل وإنما من جانب المتحلل الذي يلحظ  ويدوِّن انزلاقاً في استجابة المحلل.

ومهما يكن من أمر، فإن مقال فرويد لم يحظَ في حينه بصدى واسع بين المحللين، إذ كانوا منشغلين بنشر التحليل أكثر من الاهتمام بنظريته. ولعل من العبث، بل ومن المخالف لطبيعة الأمور، أن نتمنى لو أنهم تصرفوا على غير ذلك؛ فذلك أشبه بتمني انتظار نظرية العدد قبل أن نشرع في الحساب. فما إن أتيح للمحللين المدرِّبين من الجيل الأول أن يتأملوا نتائجهم الخاصة، كما ظهرت لهم في تحليلات الإشراف، حتى طرح ميكايل بالينت، في مقال يعود إلى عام ١٩٣٩، هذا السؤال: «إذا تذكرنا استعارة المحلل النفسي كمرآة، أليس من اللافت أن هناك هذا العدد الكبير من الأساليب الفردية للتحليل؟ أليس من اللافت أكثر أنه إذا كان المحلل النفسي محللاً مشرفا، فإن معظم تلامذته، حين يبدؤون العمل بشكل مستقل، يتبنون، على الأرجح، أسلوبه، انطلاقا من طريقته في التأويل وحتى طريقة تأثيث مكتبه وتوقيف الجلسة التحليلية؟ مما يقدم برهاناً مقنِعاً على أن المصدر الحقيقي لكل هذه السمات المتكررة هو التحويل، الذي يُوصَف، من جانب المحلل المنخرط في العملية التحليلية، بلغة ملطفة «تحويلا مضادا». 

سيبقى بالينت زمناً طويلاً المحلل الوحيد الذي اقترح أن التحويل المضاد عند المحلل هو، في جوهره، تحويل من نفس طبيعة التحويل عند المتحلل، بمعنى أنه تحويل على المحلل المشرف وقد اتخذ هذا الأخير نموذجاً في المهارة التحليلية. 

كانت الحرب حينها على الأبواب، وما إن انتهت حتى توافد جيل جديد يطلب الإعداد التحليلي. وفي المؤتمر الدولي السادس عشر للتحليل النفسي (زيورخ ١٩٤٩)، لاحظت باولا هايمان أن «المبتدئين لا يعرفون كيف يحللون». وبدلاً من أن تجد في ذلك سبباً للتساؤل حول الأساليب التي أفضت إلى مثل هذه النتائج، وضعت الخطأ على عاتق المتدربين، معتبرة أنهم كانوا «مسحورين بمثَال العقل الآلي القادر على إنتاج التأويلات وفق إجراء ذهني محض»، من دون أن تدرك أن هذا السحر بمثَال كهذا إنما يشهد فعلا على فشل تدريبهم التحليلي، ولا حتى أن الموقع الذي كانت تتحدث منه لم يكن سوى اقتراح لمثال جديد يعوِّض عن إجراءات ذهنية مفرطة. وهكذا طرحت تعريفاً آخر للتحويل المضاد، تعريفا واسعا يشمل كل المشاعر التي يشعر بها المحلل إزاء متحلله: «افتراضنا الأساسي هو أن لاشعور المحلل يتضمن لاشعور المريض. إن هذه العلاقة على المستوى العميق تطفو على السطح في صورة مشاعر يلاحظها المحلل في تحويله المضاد خلال استجابته للمريض. وهذه هي الصيغة الأكثر ديناميكية التي يصله من خلالها صوت المريض». 

ومن هذا المنطلق، وكما بيّنتْ من خلال مثال من خبرتها، فإن المحلل، من دون أن يطلق العنان لمشاعره، لا ينبغي له أيضاً أن يخشاها، بل على العكس، يجب أن يعرف كيف يستخدمها كمفتاح يتيح له فهم لاوعي متحلِّله، إذ هي علامات ودلائل على تواصله العميق معه.

هكذا أُدخل منظور جديد يضاف إلى تعريف التحويل المضاد ودوره في العلاج، وستنبثق منه كل التطورات اللاحقة. ففي مقال تتوخى فيه أساساً دحض هذا المنظور، لخّصت آني رايش وجهة النظر هذه على النحو الآتي: «كما أنّ التحويل كان يُعتبر في البداية عاملاً مشوِّشاً قبل أن يُعترف به لاحقاً كالعامل العلاجي الأهم في التحليل، كذلك يذهب بعضهم اليوم إلى اعتبار التحويل المضاد ليس فقط عاملاً متدخلاً، بل محفزاً أساسياً لا غنى عنه لتحقيق الأهداف العلاجية للتحليل». لكنها ترى، وبحق، أن التحويل المضاد في حد ذاته ليس نافعاً في حد ذاته، بل تكمن الفائدة في وعي المحلل بوجوده وقدرة هذا الأخير على تجاوزه. لكن هذه المواجهة لم توقف رواج الرؤى الجديدة، إذ ذهبت مارغريت ليتل إلى حد التوصية، مستشهدةً بآني رايش مرة أخرى، بـ«التعبير الحر عن مشاعر التحويل المضادة، بما فيها المشاعر السلبية، كوسيلة تهدف إلى تعزيز تعرّف المريض على شخصية المحلل الأكثر صحة». 

في نفس الفترة، لكن بشكل مستقل عما كتبته هايمان، نشرت ليتل مقالاً يبدأ بهذه الحكاية: «كان لمريض توفيت أمه قبل أيام موعد لتقديم برنامج إذاعي حول موضوع يعلم أنه يهم محلله. سلّم المريض نص كلمته للمحلل مسبقاً، وتمكّن الأخير من الاستماع إلى البث. كان المريض متردداً بشدة في تقديم هذا البرنامج في ذلك الوقت بالذات بسبب وفاة أمه، لكنه لم يكن قادراً على تغيير التوقيت المتفق عليه. في اليوم التالي للبث، جاء المريض إلى المحلل وهو في حالة قلق وارتباك شديدين. 

المحلل الذي كان ذا خبرة كبيرة، فسّر اكتئاب المريض على أنه نابع من خوفه من أن يكون المحلل نفسه قد شعر بالغيرة من النجاح المؤكد لهذا البرنامج، وأنه أراد حرمان المريض من هذا النجاح وثماره. تم قبول هذا التأويل من طرف المتحلل، فتبدّد الاكتئاب سريعاً واستمر التحليل. بعد سنتين، (وبعد أن انتهت جلسات التحليل)، كان المريض في حفلة لم يتمكن من الاستمتاع بها، فلاحظ فجأة أن أسبوعا قد مرّ على ذكرى وفاة أمه. حينها خطرت له فكرة بسيطة وبديهية: ما كان يضايقه وقت بث البرنامج لم يكن سوى الحزن على أن أمه لم تعد موجودة لتفرح بنجاحه (ولا حتى أن تعرف أنه حققه)، وأنه لم يتمكن من الاستمتاع بهذا النجاح لحظة وفاتها. وبدلاً من أن يتمكن من الحداد عليها عبر إلغاء البرنامج، تصرف كما لو أنه أنكر موتها، بطريقة تكاد تكون هوسية. عندئذ أدرك أن التأويل الذي أعطاه المحلل، والذي قد يكون صحيحاً من الناحية الموضوعية، لم يكن في الحقيقة سوى تأويلا يخص بالتحديد ذات المحلل في ذلك الوقت، لأن المحلل كان فعلاً يغار منه، وأن شعور المحلل بالذنب اللاواعي هو ما دفعه إلى إعطاء تأويل غير مناسب.

إن قبول المريض لتأويل المحلل حصل من خلال تعرفه اللاشعوري لطابعه الحق عند المحلل، وكذلك من خلال تماهيه أو عدم تمايزه عن هذا الأخير. فها هو الآن قد صار قادراً على قبوله كحقيقة تخصه هو شخصياً، ولكن على مستوى مختلف تماماً،  مستوى غيرته من نجاح أبيه لدى أمه وشعوره بالذنب لأنه حقق ما كان يمكن أن يعدّ نجاحاً في نظر أمه، نجاحاً كان أبوه سيغار منه وربما يسعى إلى حرمانه منه. علماً بأن أباه كان فعلاً يغار منه في علاقته كطفل رضيع مع أمه. وقد اكتشف لاحقاً أنه لو تُرك لنفسه لكان على الأرجح قد أجرى البرنامج على أي حال، لكن لسبب مختلف، ولكانت النتائج مختلفة تماماً. ومهما يكن، فإن سلوك المحلل حين قدّم تأويله ذاك كان ينبغي أن يُعزى إلى تحويله المضاد».

من هذه الحادثة تستنتج مارغريت ليتل ليس فقط أن التحويل المضاد حقيقة قائمة، بل أيضاً أن التحويل والتحويل والمضاد غير قابلين للفصل، وهو ما يوحي به كون ما يُكتب عن أحدهما ينطبق إلى حد بعيد على الآخر. وانطلاقاً من ذلك، لا تكتفي ليتل باقتراح تعريف للتحويل المضاد يمكن مقاربته من تعريف بولا هايمان، بل تؤكد أيضاً أن المحلل، تحت طائلة تعطيل مسار التحليل وتكرار نفاق الأهل والمربين، يجب عليه، عند الحاجة، أن يعترف بتحويله المضاد لمريضه. 

ونحن نعلم الآن، بفضل كتاب تحت عنوان: «حوار بين مارغريت ليتل وروبرت لانغز»، أن الحادثة المذكورة استقتها ليتل في الواقع من تحليلها التدريبي الخاص الذي استمر سبع سنوات تحت إشراف إيلا شارب، وهو تحليل، بحسب قول ليتل نفسها، لم يغيّر في شيء ما كانت تسميه «ميولها الذهانية»، الأمر الذي اضطرها لاحقاً إلى استئناف تحليلها هذه المرة مع وينيكوت. ولم تتوانَ، بعد انتهاء تحليلها مع إيلا شارب سنة ١٩٤٧، عن إبداء رأيها لها، وقد أجابتها هذه الأخيرة، معبّرة عن شكّها في آن، بحقيقة مزدوجة مفادها أنها هستيرية. ثم إن الأمر لم يكن يتعلق ببرنامج إذاعي، بل بِبَحث كانت ليتل ستقدمه في إطار ترشحها للجمعية البريطانية للتحليل النفسي، وكان مقرراً عرضه بعد أسبوع من وفاة أبيها وليس أمها. 

أما المقال عن التحويل المضاد الذي كتبته سنة ١٩٤٩، أي بعد سنتين من انتهاء التحليل، فقد عبّر في الواقع، كما قالت لروبرت لانغز، عن حِدادها على نهاية التحليل وعلى وفاة أبيها في آن واحد. وهكذا لم تبق إلا خطوة واحدة لافتراض أن إصرار مارغريت ليتل على وجوب اعتراف المحلل بتحويله المضاد يعكس، بخصوص محللها، مطالبَة لديها تكشف بلا شك عن عدم إنجاز الحداد من جانبها. غير أن المهم هو النظر إلى الأثر الذي تركه تحليلها التدريبي على كل من ممارستها ونظرياتها، إذ إن آراءها، لما لقيته من أصداء واسعة، ساهمت كثيراً في إرباك التصنيف المرضي التحليلي، نتيجة جهل مؤسَّس وممنهج بحقيقة أن التحويل المضاد، إذا فُهم بوصفه حادثة طارئة، ما هو إلا تحويلاً من نفس طبيعة تحويل المريض، كما ذكّر بذلك بالينت، ولغياب تحديد دقيق للموقع الذي يجيب منه المحلل على التحويل، جرى اختراع كيانات مرضية وهمية، بل وإنتاجها فعلياً، كما سيتضح في المقال التالي لليتل.

أشير هنا إلى مقال شهير آخر هو «R», The Analyst’s Total Response to His Patient’s Needs صدر عام ١٩٥٤. الحرف «R» هو الرمز الذي تستخدمه مارغريت ليتل، (لقد كان والدها رياضياتياً)، للإشارة إلى «استجابة المحلل الكاملة لاحتياجات مريضه». وR، أو Total Response، تعني «كل ما يقوله أو يفعله أو يفكر فيه أو يتخيله أو يحلم به أو يشعر به المحلل طيلة فترة التحليل، في علاقته بمريضه. فالمحلل مسؤول بنسبة 100% عن استجابته لاحتياج المريض. واستقرار التحليل يتوقف على ذلك». وتقول أيضا: «إن القدرة النهائية للمريض على تحمّل مسؤولياته الخاصة تعتمد على مواجهته لشخص مسؤول يمْكنه الاعتماد عليه، ويتماهى معه. إن تولّي المحلل لمسؤوليته يشكّل التزاماً منه (to commit oneself)، أي أن يمنح نفسه بلا تحفظ، لكن هذا العطاء لا يصدر هنا عن حاجة المحلل إلى العطاء، بل عن وضع: «يلتقي فيه شخص-يملك-شيئاً-يمكنه-الاستغناء-عنه، بشخص-محتاج-إليه».

ومع ذلك، فللمحلِّل أيضاً مناطقه الخاصة من الصعوبة. وتشدد ليتل على ذلك، مستعيدةً ذكرى اجتماع علمي في الجمعية البريطانية للتحليل النفسي، كرر فيه المشاركون كثيراً أن المحلل قابل للخطأ مثل أي إنسان، إلى درجة أن ميلاني كلاين سألتهم عمّا إذا كانوا يشكّون في ذلك أصلاً. هنا بالذات، تعتقد ليتل، يلزم البوح بالتحويل المضاد، بالمعنى الفرويدي الصارم: «كثيراً ما حصل لي مشاهدة أن البوح بالتحويل المضاد، يشكّل نقطة تحوّل في التحليل. فمن خلاله، يُكتشف إنسان، ويُدخل في المريض، ويُلتهم تخيلياً، ويُهضم ويُمتص، ويُبنى داخل الأنا، (لا أن يُستدخل بطريقة سحرية)، فيصبح شخصا يمكنه أن يتحمّل مسؤوليته، ويلتزم، ويشعر ويعبّر عن مشاعره بحرية، ويستطيع تحمل التوتر والحدود والفشل، أو الرضا والنجاح».

ولتوضيح هذه المبادئ، تعرض ليتل تحليل حالة مريضة تُدعى فريدا، والتي اتسمت حياتها، إضافة إلى قصتها المأساوية بين فرنسا وألمانيا والهجرة، بكونها لم تتلقَ طوال حياتها أي إشارة حقيقية للعطف من والدها، وهو رجل شديد الذكاء، خبيث، أناني ومهووس بعظمته، ولا من والدتها، المتسلطة حتى أقصى حد، الدنيئة، المتزمتة، وغير الصادقة. إن السنوات السبع الأولى من تحليل هذه المريضة، التي ينطبق عليها وصف لاكان بأنها «افتقدت النقصان»، تمثلت، على حد تعبير ليتل، في «فشلي في جعل التحويل حقيقياً بالنسبة لها بأي وجه من الوجوه، وفي مساعدتها على اكتشافه. لقد سارت الجلسات وفق النهج المعتاد، ضمن حدود التقنية التحليلية المتعارف عليها. قُدّمت خلالها عدة تأويلات للتحويل، لكنها لم تكن ذات أي معنى بالنسبة لها».

ثم، فجأة وبطريقة درامية، تَغيّر المشهد كلياً. جاءت فريدا في أحد الأيام غارقة في اليأس، ترتدي السواد، ووجهها منتفخ بالدموع، في حالة عذاب حقيقي. لقد ماتت إيلسو في ألمانيا. كانت المحللة قد سمعت عن تلك الصديقة من دون ملاحظة ما يميزها عن الآخرين. أثناءها «حدثتُها عن شعورها بالذنب بخصوص وفاة إيلسو، وعن غضبها منها، وعن خوفها منها. قلتُ لها إنها تشعر بأنني سرقتُ منها إيلسو». لكن بدون جدوى: «بعد خمسة أسابيع، أصبحت حياتها مهددة بالخطر، إما بسبب احتمال انتحارها أو بسبب الإنهاك التام. كان عليّ، بطريقة أو بأخرى، أن أحقق اختراقاً. وفي النهاية، قلتُ لها كم كانت معاناتها مؤلمة، ليس فقط لها ولأسرتها، بل لي أيضاً…كان الأثر فورياً وكبيراً جداً. خلال الساعة نفسها من الجلسة، هدأت، وتمددت على الأريكة، ثم بدأت تبكي بحزن هادئ وعادي». 

فما هي الاستنتاجات التي تستخلصها ليتل من هذا المقطع السريري؟ أولاً، نفس الاستنتاج الذي سيقوم به عدد من المحللين استناداً إلى تجارب مشابهة، وهو أن الأمر يتعلق بمرضى (سيتوزعون لاحقاً تحت تسميات مثل البنيات الحدِّية  والبنية النرجسية، إلخ) لا تجدي معهم التقنية القائمة على تأويل التحويل، لأن إحساسهم بالواقع متضرر بشدة. «فما يتم تفعيله في تحليلهم يعود إلى مرحلة من التطور تسبق حتى التحويل بالمعنى المتعلق بتكوّن الموضوع. ومع ذلك، فيما بعد، يتم تفعيل التحويل المضاد». 

غير أن هذا الاستنتاج يطرح إشكالاً. فإذا كان المحلل «الكلاسيكي» غير موجود بالنسبة للمرضى المعنيين هنا، وإذا كان تدخله، منطقياً، يبقى بلا أثر عليهم، فكيف يُمَكن البوح بعجزه أن يحدث مثل هذا الصدى الكبير لديهم؟ لا تستطيع ليتل الإجابة، ليس فقط لأنها لا دراية لها بوظيفة النقص في تكوين الذات، بل أيضاً لأنها تكشف، من حيث لا تدري، أنها لا تدركها في الموقع الذي تتكلم منه كمحللة، أي من موقع «الشخص-الذي-يملك-شيئاً-يمكنه-الاستغناء-عنه». وهي هكذا لا تخفي هنا هوامها، لأنها لا تراه أصلاً.

في هذه الحالة، لا يتعلق الأمر، كما كانت تعتقد، بعدم تواجدها بالنسبة لمريضتها، بل بعدم وجودها كلية. فمن خلال لجوئها إلى ما هو «مرورا الى الفعل» من جانبها، ظلت مارغريت ليتل عمياء عن كون المعضلة الأساسية، بالنسبة لكل من المحلل والمتحلِّل، لا تكمن فقط في مسألة معرفة أن الشخص المثالي غير موجود، بل في أن الليبيدو قد يظل متشبثاً بهذا المثال رغم المعرفة المفترضة، كما يظهر بوضوح في الوصف شبه الهذياني الذي تقدمه ليتل لما يجب أن يكون عليه المحلل حتى يواجه مرضاه «غير العاديين». 

أطروحات بولا هايمان، ستقود تأملات محللين آخرين إلى إضفاء مضمون نفسي على التحويل المضاد، كما لاحظت ذلك آني رايش أيضاً. موني كيرل، معتبراً أن التعريف الجديد للتحويل المضاد الذي قدمته هايمان يمثل إثراءً ملحوظاً لمفهوم تحليلي قديم، يقترح دراسة النتائج المترتبة عنه على مستوى ثلاث أسئلة: ما هو التحويل المضاد المرضي؟ كيف وبأي شروط يمكن أن يضطرب؟ كيف يمكن تصحيح هذه الاضطرابات وربما استغلالها لدفع سير التحليل إلى الأمام؟

لا بد أولاً من إدراك أين وصل إليه الأمر. فالتحويل المضاد في أصوله الفرويدية أصبح الآن التحويل المضاد المرضي، أي ذاك الذي يجعل المحلل يبتعد عن حياده المتعاطف. أما التحويل المضاد «السوي»، فلا يمكن أن يكون سوى هذا الحياد المتعاطف نفسه. ومن هنا يبرز السؤال: ما الذي يجعل المحلل يحتمل أو يقبل أن يحتمل هذا الموقف؟ أو، بصيغة أخرى، لماذا يعمل المحلل كمحلل؟ بالنسبة لموني كيرل، «الحياد المتعاطف يعني أن المحلل معنيّ برعاية (Wellfare) مريضه دون أن يكون منخرطاً عاطفياً في صراعاته. وهو يعني أيضاً، على ما أظن، أن المحلل، بفضل فهمه للحتمية النفسية، يتمتع بقدر من التسامح الذي هو نقيض الإدانة، دون أن يكون مع ذلك مماثلاً للتساهل أو اللامبالاة». ويضيف أن الاهتمام برعاية المريض ينشأ من امتزاج نزوتين: نزوة الإصلاح التي تعاكس نزعة التدمير الكامنة في كل واحد منا، والنزوة الأبوية. «وبطبيعة الحال، إذا كانت هذه النزوات شديدة، فإنها تكشف عن شعور بالذنب ناجم عن عدوانية لم تُقمَع أو تُهذّب بالشكل الكافي، ما قد يولد قلقاً مزعجاً للغاية. لكن ما دامت لا تتجاوز حداً معيناً، فهي بالتأكيد نزوات سوية. إن الإشباعات الإصلاحية التي يقدمها المحلل أمر واضح وغالباً ما يُشار إليها، وبالتالي، إلى حد ما، يجب أن يمثل المريض بالنسبة للمحلل تلك الموضوعات المتضررة في خياله اللاواعي، والتي لا تزال مهدَّدة بالعدوانية ولا تزال بحاجة إلى رعاية وإصلاح.

أما النزوة الأبوية، فهي تعني أن المحلل يهتم قبل كل شيء بالطفل الذي يسكن لاشعور المريض. فالطفل، بالنسبة للوالد، يمثل على الأقل جزءاً أو جانباً مبكراً من الذات. «ويبدو لي ذلك مُهماً، يكتب موني كيرل، لأنه، من خلال قدرة المحلل على التعرف لدى المريض على ذاته المبكرة التي كانت قد خضعت للتحليل سابقاً، يمكنه أن يحلل المريض. إن تعاطفه وبصيرته، على خلاف معرفته النظرية، يعتمدان على هذا النوع من التماهي الجزئي». 

ويمكن أن نلاحظ هنا أنه، تحت غطاء التساؤل حول التحويل المضاد «السوي»، فإن موني كيرل يتساءل في الواقع عن رغبة المحلل. وهذا ما قد يعيدنا إلى فرويد، لو أن موني كيرل لم يُقدم  لنا عن هذا السؤال أجوبة تنتمي إلى السجل التخيلي، (الذي هو بالتأكيد غير غريب عن أي طلب لتحليل تدريبي). انطلاقاً من هنا نجدنا ملزمين تأكيدا بطرح هذا السؤال على موني كيرل: بأي معنى يكون سلوك المريض، الذي يتصور مثلاً أن المحلل هو والده، غير ملائم أو غير واقعي، إذا كانت رغبة المحلل تضعه فعلياً في موقع الطفل؟ 

ومن السهل تخيل ما ستكون عليه، انطلاقاً من هذه المقدمة، إجابته عن السؤال الثاني: كيف وبأي شروط يصبح التحويل المضاد «السوي» مضطربا ؟ إن فهم المحلل، الذي يُعيده هذا المحلل إلى التماهي الاستدخالي، يفشل حتماً إذا كان المريض يشبه الى حد بعيد جانباً من ذات المحلل، لم يكن قد تعلم بعدُ هذا الأخير فهمه أو لم يُحلَّل أثناء تحليله التدريبي. ويفشل أيضاً أمام المرضى «قليلي التعاون»، الذين يجد حتى أفضل المحللين صعوبة كبيرة في الحفاظ على التواصل معهم. في مثل هذه الحالات، فإن تأويلات المحلل، التي يوازيها المؤلف مع المرحلة الإسقاطية من التماهي، يتواصل فيها الحديث الى ما لا نهاية.

أما بخصوص الإجابة عن السؤال الثالث، وهو كيفية تصحيح انحراف عن تحويل مضاد سوي، فيكفي أن نشير إلى أنه، أمام مريض ارتيابي، لكونه يرفض جميع تأويلاته، أدرك في نهاية الجلسة أنه كان في الحالة نفسها من العجز التي كان عليها والد المريض الحقيقي، حين كان يوجه لابنه أسئلة لا نهاية لها، (إنها ملاحظة منحت المحلل حالة ما يشبه «راحة إعادة الإسقاط»). وهذا الإدراك سمح له أن يقدم للمريض في الجلسة التالية تأويلا لم يُخفِ فيه حالة العجز التي كان يعيشها. ولدهشته، أصبح المريض لأول مرة منذ يومين هادئاً ومتفكراً، ثم صرّح بأن ذلك يفسر غضبه السابق الذي كان ناتجاً عن شعوره بأن جميع تأويلات المحلل كانت تتعلق بمرض المحلل نفسه لا بمرضه هو. 

وخلاصة القول، إن موني كيرل هو أول من حدّد الموقع الخاص الذي يُصدر أقواله منه، لكنه يعترف، من حيث لا يدري، بأن هذا الموقع هو موقع هوامي بالكامل. فهو إما تعويضي أو والدي.

حالما يُنظر إلى التحويل المضاد باعتباره سويا، فإنه لا يلبث أن يتحوّل إلى عامل معياري، يخلق إلزاماً بالاعتراف. ففي مقال يعود إلى عام ١٩٥٨، يوضح هاينريش راكر أن استعارة المرآة لا تعني أن على المحلل أن «يكفّ عن كونه من لحم ودم ويتحوّل إلى لوح زجاجي مغطّى بالفضة». ويستنتج من ذلك أن المحلل، قبالة مريضه، لا ينبغي أن ينكر أو حتى يكبح الاهتمام والمودّة اللذين يحملهما له. فالتحويل المضاد الإيجابي له أهمية أساسية للعمل التحليلي، تماماً كما حال التحويل الإيجابي. «إن علاقة المحلل بمريضه هي علاقة ليبيدية». وهنا تُستبدل استعارة المرآة باستعارة الجماع. «تماماً كما أن المرأة، في العلاقة الجنسية، هي من ناحية متلقية، وبالتالي سالبة، لكنها في الوقت نفسه فاعلة تماماً ضمن دورها السالب إذا كانت سليمة وتحب الرجل، وكذلك المحلل بالنسبة لمريضه. فالسلبية المفرطة من جانبه تشبه سلوك المرأة الباردة جنسياً التي لا تستجيب، ولا تتحد فعلياً. في هذه الحالة، نؤدي التزامات عقدنا التحليلي-الزوجي، ولكن من دون أن نشعر بها نفسياً أو نستجيب لها أو نستمتع بها».

مطوراً هذا النموذج الجنسي للمعرفة، يرى راكر أن المحلل، باعتباره القطب الأنثوي في العلاقة التحليلية، منقسم: جزء منه سلبي يتلقى المادة، وجزء آخر نشط يسعى إلى فهمها. وفهمه هذا، كما يوضح في مقال آخر نُشر عام ١٩٥٧ وأعيد نشره في الكتاب نفسه، يعتمد على تماهيه مع مريضه وعلى قدرته على الوعي بهذا التماهي. وهذه القدرة بدورها تعتمد على تقبّله لتحويلاته المضادة. هنا ينتقد راكر بشدّة الحلقة المفرغة التي نُلقي فيها قصورنا على عاتق تحويلنا المضاد، ونضع تحويلنا المضاد على عاتق المشكلات المرتبطة بالتحويل المضاد التي لم تُحلّ بشكل كافٍ لدى محللينا المدرِّبين. والطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي التراجع عن إنكار التحويل المضاد الذي يُورَّث من جيل إلى جيل، تماماً كما تُورَّث المثاليّات والإنكارات المتعلقة بالصور الأبوية. علينا أن نقطع مع أول تشويه للحقيقة تمثله «أسطورة الوضعية التحليلية» التي ترى أن التحليل هو تفاعل بين شخص مريض وآخر سليم. «الحقيقة هي أنه تفاعل بين شخصيتين، حيث يكون الأنا في كل منهما تحت ضغط الهو، والأنا الأعلى، والعالم الخارجي. لكل شخصية شروطها الخاصة من التبعية الخارجية والداخلية، وقلقها، ودفاعاتها المرَضية. وكل منهما أيضاً طفل مع والديه الداخليين. وكل شخصية كاملة، سواء كانت شخصية المريض أو شخصية المحلل، تستجيب لكل حدث يطرأ في الوضعية التحليلية».

بعد هذا يضيف راكر هذه الملاحظة: «من المهم أن نعي هذه «المساواة»، إذ لولا ذلك لكان هناك خطر كبير في أن تقوم بعض بقايا النظام الأبوي بالتأثير في الوضعية التحليلية. إن بؤس الدراسة العلمية للتحويل المضاد هو تعبير عن «لا مساواة اجتماعية»، حيث يشير المجتمع المكوَّن من المحلل والشخص في التحليل إلى ضرورة «إصلاح اجتماعي» لا يمكن أن يتحقق إلا عبر وعي أكبر بالتحويل المضاد. فطالما نكبت، على سبيل المثال، رغبتنا في السيطرة العصابية على الشخص في التحليل، (وهو ما نرغب فيه في جانب من شخصيتنا)، فلن نتمكن من تحريره من تبعيته العصابية. وطالما نكبت تبعيتنا العصابية تجاهه، بينما نحن في جزء منا نعتمد عليه، فلن نتمكن من تحريره من حاجته إلى السيطرة علينا عصابياً. يقارن مايكل بالينت أجواء التدريب التحليلي بحفل الالتحاق أو الطقوس الافتتاحية لدى الشعوب البدائية، ويؤكد وجود ضغط داخلي من الأنا الأعلى (فيرنزي) لا يستطيع أي مرشح احتماله بسهولة». 

والمشكلة أن أقوال راكر، ما لم يُعاد إدخال فارق داخل المساواة التي يعلنها - سواء بحماسة أو بيأس - تُذكّر، لا بإصلاح التدريب، بل بإلغائه. ويأمل راكر أن يجد هذا الفارق في أن العصابي، إمّا أن ينحاز - كما في حالة الوسواسي خصوصاً - إلى مثال الموضوعية، مما يقوده إلى كبت أو شلّ الذاتية، وينتهي به إلى «أسطورة المحلل الخالي من القلق أو الغضب»، أو أن يقع في الطرف الآخر، حيث «يغرق عاطفياً في التحويل المضاد». أما الموضوعية الحقيقية، أي موضوعية المحلل، فهي قائمة على نوع من الانقسام الداخلي الذي يسمح له بجعل نفسه وتحويله المضاد وذاتيته موضوعاً للملاحظة والتحليل المستمرين. هذه الوضعية هي التي تمكنه من أن يكون موضوعياً نسبياً تجاه ما يتلقاه في التحليل.

لكن قصور هذا الحل يبقى واضحا. بما أن الوضعية التحليلية هي تفاعل بين تحويلين مضادين متناظرين ومن طبيعة واحدة، فلا نرى كيف تختلف هذه الوضعية عن أي وضعية اجتماعية أخرى. لذلك، ومن أجل إيجاد خصوصية الوضعية التحليلية، يضطر راكر إلى إعادة إدخال فارق من جهة المحلل بين تحويل مضاد «متوافق» حيث يتماهى المحلل كلية (أنا، هو، وأنا أعلى) مع كل المريض، مما يتيح له فهمه، (وهو ما يقابل نوعاً ما التماهي الاستدخالي عند موني كيرل)، وتحويل مضاد مكمل، حيث يتماهى المحلل مع الموضوع الداخلي الوحيد للمريض، وعندها تتدهور ممارسته إلى فعلنة (acting out) وتزول الفوارق بين الوضعية التحليلية والوضعيات «الواقعية».

إذا، ما الذي يسمح للمحلل بالبقاء في التحويل المضاد «المتوافق»، وهو الوحيد الذي يجب وصفه بالصحيح، في حين أن طرق التدريب الراهنة تُدان من قبل راكر باعتبارها نقلًا للكذب؟ وإن لم يعط لهذه المشكلة صيغتها، فيجب على الأقل الاعتراف لراكر بأنه لم يحاول إخفاءها خلف ستار «المواصفات» التي يجب أن يمتلكها المحلل. 


أما التاريخ اللاحق لنظريات التحويل المضاد فيمكن تلخيصها بكلمات قليلة. من جهة معينة، تُعد كتابات راكر عرَضًا لنظام تدريب لم يشكك فيه أحد بجدية، باستثناء جاك لاكان في فرنسا. بدلاً من التعرف على هذا العرَض، عندما توفي راكر عام 1971 عن عمر يناهز 51 عامًا، تم إدخاله في التاريخ الذي يُكتب في الأدبيات النفسية التحليلية عن التحويل المضاد كمؤسس للتحليل النفسي الجديد المصمم كعملية تفاعلية بين شخصين. واستؤنفت الخطابات حول ما يجب أن يكون عليه المحلل لاداء دوره في العلاقة التحليلية بقوة أكبر، دون التخلي عن الافتراض بأنه أصبح محللًا بفضل تحليله التدريبي الذي كان لابد من إنقاذ صناعته. 

ومن الواجب أن يُنسب إلى توماس سزاز التعريف الأكثر إيجازًا للتحليل النفسي الجديد: «في إطار الإشارة إلى عصاب التحويل، إن العامل العلاجي الحاسم في التحليل النفسي يكمن في «التأويل الذي يحدث نقلة» بحسب تعبير ستراتشي، بينما في إطار الإشارة إلى الوضعية التحليلية، يكمن نجاح علاج المريض في قدرة المحلل على القيام، أثناء التحليل، بقسط من تحليله الذاتي محفّزا من قبل المريض». هكذا في نظر سزاز، يصبح وجود المحلل محل شك كبير، لأنه لم يعد يعرف ما الذي يؤهله لاداء وظيفته.

في الواقع، الادعاء بتعريف التجربة التحليلية كعلاقة بين شخصين، (بينما  كانت ليتل وهاكر يطاردهما فكرة الوحدة في التعددية)، لا يفعل سوى توضيح خطأ الانطلاقة البديهية، نظرا لقبولها صراحة كأمر مسلم به، التي أعاقت أي حل مُرضٍ لمشاكل التحويل. من الصحيح أن لا شيء أكثر طبيعية للإنسان من أن يحدد نفسه كأنا في حركة يحدَّد فيها الآخر بنفس الطريقة كأنا أخر. لكن، بالتعرف على هذه الهوية التي هي بطريقة ما متساوية والاعتقاد بأنه يتعامل مع أنا آخر، سواء كحليف أو مقاومة منظمة أو متساوٍ أو غير متساوٍ، يجهل المحلل ما يشكل في الحقيقة الدليل الأولي لتجاربه، وهو أن الأنا بنية تتغير باستمرار وتتأسس من خلال فعل الخطاب. 

«لقد مضت أسابيع لم يرجع عرَضي». واحدة من أوائل الملاحظات السريرية لفرويد عند سماع تعبير كهذا، تفيد التأكد من أن العرض المعني لن يتأخر في العودة. ماذا يعني هذا سوى أن الأنا الذي تخلى عنه العرَض لأسابيع قليلة، كان موجودا - وأعني في الخطاب وليس على الأريكة - فقط على نمط تجاهل بما يتم تحضيره في مكان آخر والذي كان يعلنه المريض في نفس الجملة أو في نفس الجزء من خطابه. 

أما ما كان يعلِن عنه بهذه الطريقة فهي الذات وقد تم التعرف عليها أخيرًا. بإشارته إلى أن التحليل النفسي هو تجربة خطاب، شرع لاكان في تجديد حقيقي للنظرية والممارسة التحليلية.